الوقت وأهميته


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه الكلمة بمناسبة بداية العطلة الدراسية، وهي للطلبة خاصة، لكنها للناس عامة، فكل الناس في هذا الزمان يشكون من الفراغ، قال الله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:115-116]

ووقتك هو حياتك، وإذا ذهب وقتك فقد ذهبت حياتك، وكلما مر الوقت كلما ذهبت الحياة، قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس... وذكر منها: حياتك قبل موتك) أي: اغتنم هذه الحياة قبل أن تذهب، ويخلفها الموت، قال ابن هبيرة:

والوقت أنفسُ ما عنيتَ بِحفظهِ     وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ

فالوقت أغلى شيء وأسهل شيء في الضياع، ولهذا يُقال في المثل: الوقت من ذهب. وهذا المثل خاطئ، فالوقت لا يقدر بالثمن، ولهذا تجد بعض الناس يشكون من الفراغ، ويسمونه الفراغ القاتل، يكاد يقتله هذا الفراغ ولا يعرف ماذا يفعل به، بل إن بعضهم يقتل نفسه من ألم الفراغ، وبعضهم يتعاطى المخدرات ويفعل المنكرات ليتخلص من هذا الفراغ، فراغ قاتل، إن لم تشغله بالخير شغلك بالشر.

قالت رابعة لـسفيان: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل. فإنك تذهب مع الوقت، وأنت تعلم فاعمل.

عندما مات محمد بن جرير الطبري، شيخ المفسرين، حسبوا أوراقه التي صنفها، ثم قسموها على أيام حياته فوجدوا كأنه ألّف كل يوم أربع عشرة ورقة. في كل يوم من حياته، منذ أن بلغ الحلم إلى أن مات، كأنه ألّف أربع عشرة ورقة، تأليفاً لا قراءة.

وقال أبو جعفر لأصحابه: أتنشطون في كتابة تفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، تكتبون وأنا أمليكم. قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. سوف نموت وما انتهينا من ثلاثين ألف ورقة. فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال: هل تنشطون لكتابة تاريخ العالم منذ آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، أي: ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: تفنى الأعمار قبل أن تفنى هذه الأوراق. ثم اختصره إلى ثلاثة آلاف، ثم قال رحمه الله: إنا لله! ماتت الهمم في كتابة ثلاثة آلاف! ونحن في هذا الزمان لو أملى الشيخ على التلميذ ثلاث ورقات لملَّ الطالب، ووضع الورقة وتعب، وهؤلاء اختصر لهم الكتاب في ثلاثة آلاف ورقة!

مرور الأيام يفني الأعمار

كل يوم يمر يأخذ بعضي     يورث القلب حسرة ثم يمضي

يذهب يوم بعد يوم، وتذهب ساعة بعد ساعة، ويضيع العمر وأنت نائم لا تشعر.. في أيام المدرسة كنت تقضي ست ساعات في الدراسة، والآن لقد أتت العطلة فماذا تفعل في الست الساعات هذه؟

هل وضعتَ لك هدفاً؟ هل وضعتَ لك برنامجاً؟ وغير الست الساعات كنت تدرس وتحل الواجبات، وكنت تذهب إلى المدرسة وترجع من المدرسة، وكنت تذاكر للاختبارات .. هذه الأوقات كلها ذهبت، وأتى بعدها فراغ، ماذا سوف تفعل فيه؟ كنتَ تحضر دروساً، وكنتَ تطلب العلم، وإذا ظللت على حالك هذا فسوف تقضي سبع ساعات من الفراغ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربـع: ..... وذكر منها: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) سوف تُسأل عن كل دقيقة بعد الأخرى، فماذا ستجيب ربك؟ تقول: نمت ولعبتُ وجلست أمام التلفاز، أو تقلب الجريدة والمجلة، أو تتجول على هذا بعد هذا، أو تتكلم مع هذا بعد هذا، وضاعت الأوقات بالأحاديث التي لا طائل منها، وباللغو الذي لا فائدة فيه، وبالطعام والشراب وباللعب واللهو، وإن لم تكن بالمحرمات ضاعت فبالمباحات.

يقول أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي عن نفسه: لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري. ألَّف كتاباً يسمى الفنون، يقع في ثمانمائة مجلد، من غير كتبه الأخرى، ألَّف هذا الكتاب ومع ذلك يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري. أتظن أن هذا كانت تضيع أوقاتُه بالنوم، أو باللعب، أو بالأحاديث الفارغة، أو بالمشي، أو بالزيارات التي لا طائل منها ولا فائدة ولا هدف منها؟!

إذا كنتُ أعلم علماً يقيناً     بأن جميع حياتي كساعةْ

فلم لا أكون ظنيناً بها      وأجعلها في صلاح وطاعة

وإذا كنت متيقناً أن الحياة كلها كساعة واحدة، كأنك تغمض عينك فتفتحها وإذا العمر قد فات، فلماذا لا تغتنم وقتك؟! ولذلك يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة للمشركين: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون:112-113] لعله أقل من يوم، أو جزء من يوم، بكرةً أو عشية أو ضحاها .. قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113] اسأل أهل الحساب، اسأل الذين كانوا يعدون الأيام .. قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً [المؤمنون:114-115] أتحسب أنَّ الوقت -الذي هو نعمة من نعم الله- وأعطاك الله عزَّ وجلَّ إياه، أتحسب أنه عبث؟ أتظن أن الله لن يسألك عنه؟ أتظن أنك ستأتي يوم القيامة وتقول: يا رب، على الأقل أنا ما فعلتُ منكرات؟! بل إنك سوف تحاسب؛ لأنها نعمة ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8] وإذا كنت لا تشعر أنها نعمة فاعلم أن بعض الناس يتمنى قراءة المصحف فلا يجد وقتاً، يذهب إلى العمل منذ طلوع الفجر حتى تغيب الشمس، ثم يرجع إلى البيت فيأكل لقمة، ثم تغلبه عيناه فينام، ثم يستيقظ في الفجر ليذهب إلى العمل ويكدح ويتعب حتى تغرب الشمس، ثم يرجع إلى بيته، وهكذا ... طول حياته، لا إجازة ولا راحة، وأنت الآن مترف منعم بهذا الوقت، يأتيك الطعام والشراب والمال، وتنام في بيت بارد هنيء مريح، وعندك الكتب ما تشاء منها، بل عندك المشايخ، الأشرطة، ثم بعد هذا تتكاسل! وتظن أن الله لن يسألك عن هذا!!

ليكن لك هدف

لن تستغل وقتك حتى تجعل لك هدفاً، قبل أيام كانت هناك اختبارات، وكم كان الوقت ثميناً عند الطلبة؟ كان الطالب لا يضيع دقيقة، وإذا طلب منه أحدٌ شيئاً قال: أنا مشغول. يريد أن يقرأ ويذاكر، فقد عرف قيمة الوقت؛ لأن عنده هدفاً، وهو الاختبار، وهذا هو الذي جعله يستغل الوقت.

فليكن لك هدف، أما أن تحفظ القرآن في العطلة، على الأقل تحفظ عشرة أجزاء، وتنتهي من تفسير القرآن الكريم كله ولو مختصراً، وتنتهي من حفظ متن في الفقه، فتعرف أحكام الفقه كلها، وتحفظ بضعة أحاديث، أو تدعو إلى الله .. وإذا لم يكن لك هدف فاعلم أنك لن تستغل وقتك، ومِن الناس مَن يخطط مِن الآن لأهداف .. مثل النوادي الصيفية، أو المراكز، ولعب الكرة، أو يدخل نادياً يتقوى فيه، فهدفه أن تنتهي العطلة وقد قوي جسده..

يا خادم الجسم كم تتعب لراحته     أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها     فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ

فالمهم النفس.. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10] .

وما هي الفائدة التي يجنيها هؤلاء؟ يتعب سنوات من عمره وتضيع هباءً وهدراً، ثم بعد هذا يحصل على الكأس، ويصبح نجم الكرة، ثم بعد سنوات يُنسى ويُطوى في التاريخ، كما نُسي غيره، ثم يعقب هذا كله الندم والخسران والألم والحسرة! هذا إن أصبح نجماً، فما بالك إن لم يصل إلى هذه المنزلة أو إلى هذه الدرجة! ماذا سيكون حاله؟ سوف يُنسى كما نُسي غيره.

وبعض الناس هدفه في هذه العطلة أن يسافر إلى دول الفجور والخنا والزنا، يجمع المال من الآن، ويخطط مع أهله، فيذهبون إلى تايلاند، أو إلى بانكوك، أو إلى إنجلترا، أو إلى فرنسا أو إلى باريس، أو إلى غيرها من الدول، ويظن أنه سوف يتمتع .. وبعض الناس يخطط في هذه العطلة أن يستمع الموسيقى، ويصبح مغنياً مطرباً، فيدخل معهد الفنون والموسيقى.

ومنهم ذلك الشاب الذي ما إن انتهت الدراسة إلا وقد عزم وأصر أن يختم القرآن في هذه العطلة، فما إن تنتهي الدراسة وتبدأ العطلة، إلا ويبدأ يعكف على كتاب الله، يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، ويراجع ما فاته من الحفظ، ويبدأ في الحفظ ويتقن حفظه، حتى ينتهي من حفظ القرآن، ثم يبدأ في حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم .. فرق بين الثرى والثريا إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4].

قد هيئوك لأمر لو فطنتَ له     فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ

أيها الأحبة: كل الناس أغلبهم عنده هدف، وانظر إلى أهداف بعضهم الدنيئة والحقيرة:

منهم في هذه العطلة من يريد أن يجمع المال، وبعد جمع المال، ما الذي سوف يحصل؟ المال تتعب قبل جمعه وبعد جمعه، أما العلم فسوف يريحك، وسوف ينعمك في هذه الدنيا.

ومنهم من يحرص على متابعة برامج التلفاز، ويجمع الأموال ليشتري جهاز فيديو، بل يشتري جهازاً للبث المباشر؛ ليتابع البرامج الغربية الخلاعية وغيرها .. أهذا الهدف خير أم هدف ذلك الشاب الذي ينوي في هذه العطلة أن يطلب العلم، وأن يدعو إلى الله، فما أن تنتهي العطلة إلا وقد طرق كل بيت من بيوت الجيران، يعاهد ربه ما أن تنتهي العطلة إلا وقد ختم هذه الكتب كلها، فينتهي من الكتب المختصرة، ثم الموسعة، ثم المفصلة، فتنتهي العطلة وقد تعلم في ثلاثة أشهر ما لا يتعلمه غيره في سنوات.

ثبات يرفع القدر

أعرف بعض الشباب جدوله هو الجدول، كان في أيام الدراسة من الصباح إلى الظهر في المدرسة، ثم انتهت الدراسة وإذا هو ذلك الشاب، من الصباح إلى الظهر عاكفاً على الكتب.

أيها الإخوة: ما هو الفرق؟ كنت تذهب كل يوم إلى المدرسة من السابعة إلى الواحدة، فلماذا تكاسلت في العطلة؟ لأن الأمر ليس فيه جائزة مادية محسوسة، أما تلك ففيها شهادة .. المؤمن دائماً يفكر في أجور فضل طلب العلم، وفضل الدعوة، وفضل بر الوالدين، وفضل صلة الأرحام، وهكذا ... ولهذا إن جلس بعد الفجر إلى الظهر فلا يمل ولا يكل ولا يتعب ولا يسأم، ولو كان لوحده، ولو نام الشباب، ولو نام الناس، ولو ضاع الناس، ولو تركوا العلم والكتب فهو عاكف عليها.

دقات قلب المرء قائلة له     إن الحياة دقائق وثوانِ

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها     فالذكر للإنسان عمر ثانِ

تدارك نفسك، وتدارك عمرك، واعلم أن كل لحظة تمر يذهب شيء من عمرك، وكل دقيقة مرت سوف تسأل عنها يوم القيامة.

إن من الناس من لو سألته: ما هدفك في العطلة؟ لقال: ما أدري. سبحان الله! هذا أتعب الناس وأتعس الناس، كل من الناس جعل له هدفاً، أما هو فيقول: ما أدري. ما الذي سوف تفعل في العطلة؟ أوقات الفراغ كيف ستقضيها؟ يقول: ما أدري إما أن يقضيها في المزارع، أو في الصيد، أو في السيارة يتجول، أو يزور الناس فيضيع أوقاتهم، أو أن يسافر كل يوم إلى منطقة من المناطق، ويظن أنها صلة رحم، ويضحك على نفسه، ويضيع عمره ووقته من غير أن يشعر.

كل يوم يمر يأخذ بعضي     يورث القلب حسرة ثم يمضي

يذهب يوم بعد يوم، وتذهب ساعة بعد ساعة، ويضيع العمر وأنت نائم لا تشعر.. في أيام المدرسة كنت تقضي ست ساعات في الدراسة، والآن لقد أتت العطلة فماذا تفعل في الست الساعات هذه؟

هل وضعتَ لك هدفاً؟ هل وضعتَ لك برنامجاً؟ وغير الست الساعات كنت تدرس وتحل الواجبات، وكنت تذهب إلى المدرسة وترجع من المدرسة، وكنت تذاكر للاختبارات .. هذه الأوقات كلها ذهبت، وأتى بعدها فراغ، ماذا سوف تفعل فيه؟ كنتَ تحضر دروساً، وكنتَ تطلب العلم، وإذا ظللت على حالك هذا فسوف تقضي سبع ساعات من الفراغ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربـع: ..... وذكر منها: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) سوف تُسأل عن كل دقيقة بعد الأخرى، فماذا ستجيب ربك؟ تقول: نمت ولعبتُ وجلست أمام التلفاز، أو تقلب الجريدة والمجلة، أو تتجول على هذا بعد هذا، أو تتكلم مع هذا بعد هذا، وضاعت الأوقات بالأحاديث التي لا طائل منها، وباللغو الذي لا فائدة فيه، وبالطعام والشراب وباللعب واللهو، وإن لم تكن بالمحرمات ضاعت فبالمباحات.

يقول أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي عن نفسه: لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري. ألَّف كتاباً يسمى الفنون، يقع في ثمانمائة مجلد، من غير كتبه الأخرى، ألَّف هذا الكتاب ومع ذلك يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري. أتظن أن هذا كانت تضيع أوقاتُه بالنوم، أو باللعب، أو بالأحاديث الفارغة، أو بالمشي، أو بالزيارات التي لا طائل منها ولا فائدة ولا هدف منها؟!

إذا كنتُ أعلم علماً يقيناً     بأن جميع حياتي كساعةْ

فلم لا أكون ظنيناً بها      وأجعلها في صلاح وطاعة

وإذا كنت متيقناً أن الحياة كلها كساعة واحدة، كأنك تغمض عينك فتفتحها وإذا العمر قد فات، فلماذا لا تغتنم وقتك؟! ولذلك يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة للمشركين: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون:112-113] لعله أقل من يوم، أو جزء من يوم، بكرةً أو عشية أو ضحاها .. قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113] اسأل أهل الحساب، اسأل الذين كانوا يعدون الأيام .. قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً [المؤمنون:114-115] أتحسب أنَّ الوقت -الذي هو نعمة من نعم الله- وأعطاك الله عزَّ وجلَّ إياه، أتحسب أنه عبث؟ أتظن أن الله لن يسألك عنه؟ أتظن أنك ستأتي يوم القيامة وتقول: يا رب، على الأقل أنا ما فعلتُ منكرات؟! بل إنك سوف تحاسب؛ لأنها نعمة ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8] وإذا كنت لا تشعر أنها نعمة فاعلم أن بعض الناس يتمنى قراءة المصحف فلا يجد وقتاً، يذهب إلى العمل منذ طلوع الفجر حتى تغيب الشمس، ثم يرجع إلى البيت فيأكل لقمة، ثم تغلبه عيناه فينام، ثم يستيقظ في الفجر ليذهب إلى العمل ويكدح ويتعب حتى تغرب الشمس، ثم يرجع إلى بيته، وهكذا ... طول حياته، لا إجازة ولا راحة، وأنت الآن مترف منعم بهذا الوقت، يأتيك الطعام والشراب والمال، وتنام في بيت بارد هنيء مريح، وعندك الكتب ما تشاء منها، بل عندك المشايخ، الأشرطة، ثم بعد هذا تتكاسل! وتظن أن الله لن يسألك عن هذا!!

لن تستغل وقتك حتى تجعل لك هدفاً، قبل أيام كانت هناك اختبارات، وكم كان الوقت ثميناً عند الطلبة؟ كان الطالب لا يضيع دقيقة، وإذا طلب منه أحدٌ شيئاً قال: أنا مشغول. يريد أن يقرأ ويذاكر، فقد عرف قيمة الوقت؛ لأن عنده هدفاً، وهو الاختبار، وهذا هو الذي جعله يستغل الوقت.

فليكن لك هدف، أما أن تحفظ القرآن في العطلة، على الأقل تحفظ عشرة أجزاء، وتنتهي من تفسير القرآن الكريم كله ولو مختصراً، وتنتهي من حفظ متن في الفقه، فتعرف أحكام الفقه كلها، وتحفظ بضعة أحاديث، أو تدعو إلى الله .. وإذا لم يكن لك هدف فاعلم أنك لن تستغل وقتك، ومِن الناس مَن يخطط مِن الآن لأهداف .. مثل النوادي الصيفية، أو المراكز، ولعب الكرة، أو يدخل نادياً يتقوى فيه، فهدفه أن تنتهي العطلة وقد قوي جسده..

يا خادم الجسم كم تتعب لراحته     أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها     فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ

فالمهم النفس.. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10] .

وما هي الفائدة التي يجنيها هؤلاء؟ يتعب سنوات من عمره وتضيع هباءً وهدراً، ثم بعد هذا يحصل على الكأس، ويصبح نجم الكرة، ثم بعد سنوات يُنسى ويُطوى في التاريخ، كما نُسي غيره، ثم يعقب هذا كله الندم والخسران والألم والحسرة! هذا إن أصبح نجماً، فما بالك إن لم يصل إلى هذه المنزلة أو إلى هذه الدرجة! ماذا سيكون حاله؟ سوف يُنسى كما نُسي غيره.

وبعض الناس هدفه في هذه العطلة أن يسافر إلى دول الفجور والخنا والزنا، يجمع المال من الآن، ويخطط مع أهله، فيذهبون إلى تايلاند، أو إلى بانكوك، أو إلى إنجلترا، أو إلى فرنسا أو إلى باريس، أو إلى غيرها من الدول، ويظن أنه سوف يتمتع .. وبعض الناس يخطط في هذه العطلة أن يستمع الموسيقى، ويصبح مغنياً مطرباً، فيدخل معهد الفنون والموسيقى.

ومنهم ذلك الشاب الذي ما إن انتهت الدراسة إلا وقد عزم وأصر أن يختم القرآن في هذه العطلة، فما إن تنتهي الدراسة وتبدأ العطلة، إلا ويبدأ يعكف على كتاب الله، يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، ويراجع ما فاته من الحفظ، ويبدأ في الحفظ ويتقن حفظه، حتى ينتهي من حفظ القرآن، ثم يبدأ في حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم .. فرق بين الثرى والثريا إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4].

قد هيئوك لأمر لو فطنتَ له     فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ

أيها الأحبة: كل الناس أغلبهم عنده هدف، وانظر إلى أهداف بعضهم الدنيئة والحقيرة:

منهم في هذه العطلة من يريد أن يجمع المال، وبعد جمع المال، ما الذي سوف يحصل؟ المال تتعب قبل جمعه وبعد جمعه، أما العلم فسوف يريحك، وسوف ينعمك في هذه الدنيا.

ومنهم من يحرص على متابعة برامج التلفاز، ويجمع الأموال ليشتري جهاز فيديو، بل يشتري جهازاً للبث المباشر؛ ليتابع البرامج الغربية الخلاعية وغيرها .. أهذا الهدف خير أم هدف ذلك الشاب الذي ينوي في هذه العطلة أن يطلب العلم، وأن يدعو إلى الله، فما أن تنتهي العطلة إلا وقد طرق كل بيت من بيوت الجيران، يعاهد ربه ما أن تنتهي العطلة إلا وقد ختم هذه الكتب كلها، فينتهي من الكتب المختصرة، ثم الموسعة، ثم المفصلة، فتنتهي العطلة وقد تعلم في ثلاثة أشهر ما لا يتعلمه غيره في سنوات.

أعرف بعض الشباب جدوله هو الجدول، كان في أيام الدراسة من الصباح إلى الظهر في المدرسة، ثم انتهت الدراسة وإذا هو ذلك الشاب، من الصباح إلى الظهر عاكفاً على الكتب.

أيها الإخوة: ما هو الفرق؟ كنت تذهب كل يوم إلى المدرسة من السابعة إلى الواحدة، فلماذا تكاسلت في العطلة؟ لأن الأمر ليس فيه جائزة مادية محسوسة، أما تلك ففيها شهادة .. المؤمن دائماً يفكر في أجور فضل طلب العلم، وفضل الدعوة، وفضل بر الوالدين، وفضل صلة الأرحام، وهكذا ... ولهذا إن جلس بعد الفجر إلى الظهر فلا يمل ولا يكل ولا يتعب ولا يسأم، ولو كان لوحده، ولو نام الشباب، ولو نام الناس، ولو ضاع الناس، ولو تركوا العلم والكتب فهو عاكف عليها.

دقات قلب المرء قائلة له     إن الحياة دقائق وثوانِ

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها     فالذكر للإنسان عمر ثانِ

تدارك نفسك، وتدارك عمرك، واعلم أن كل لحظة تمر يذهب شيء من عمرك، وكل دقيقة مرت سوف تسأل عنها يوم القيامة.

إن من الناس من لو سألته: ما هدفك في العطلة؟ لقال: ما أدري. سبحان الله! هذا أتعب الناس وأتعس الناس، كل من الناس جعل له هدفاً، أما هو فيقول: ما أدري. ما الذي سوف تفعل في العطلة؟ أوقات الفراغ كيف ستقضيها؟ يقول: ما أدري إما أن يقضيها في المزارع، أو في الصيد، أو في السيارة يتجول، أو يزور الناس فيضيع أوقاتهم، أو أن يسافر كل يوم إلى منطقة من المناطق، ويظن أنها صلة رحم، ويضحك على نفسه، ويضيع عمره ووقته من غير أن يشعر.

بعد هذه المقدمة -ولعلنا أطلنا فيها- ندخل في صلب الموضوع، وهو: كيف نقضي الأوقات؟

بدأت العطلة وبدأ الفراغ، وبدأت الأوقات تمر، ومن قال: غداً أبدأ، فاعلموا أن فيه شيئاً من الضعف، ومن لم يستغل وقته من اليوم من بعد صلاة الظهر، ومن بعد انتهاء الدراسة؛ فاعلموا أنه قد بدأ في الضعف، وبدأ بالتسويف، وهذه خطوات الشيطان، كل يوم يقول له: اجلس اليوم، وغداً ابدأ في الدراسة، اجعل لنفسك راحةً قليلاً ثم ابدأ بعدها بطلب العلم والدعوة .. اعلم أن هذه من خطوات الشيطان.

أداء الصلوات الخمس

أول أمر تحرص عليه في هذه العطلة وفي غيرها من الأيام هو الصلوات الخمس، قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً [مريم:59] والله لن ينفعك هذا الكلام ولا هذا الدرس إذا لم تكن حريصاً على الصلوات الخمس، فإنك سوف تأتي يوم القيامة وأول ما تحاسب عليه الصلاة، فإن لم تصلح صلاتك فقد خبت وخسرت، وفسد سائر عملك .. ماذا ينفعك العلم والدعوة والنشاط والحركة والجهاد، إذا لم تكن حريصاً على الصلوات الخمس التي هي عمود الإسلام؟

وبعض الناس يحرص على طلب العلم وتفوته صلاة الفجر! واسمعوا إلى هذه الحادثة:

أخرج مالك في الموطأ: أن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح؛ فذهب عمر في ذلك اليوم إلى السوق -وكان مسكن سليمان بين المسجد والسوق- فمر عمر على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لَمْ أَرَ سليمان في الصبح. فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. كان يقوم الليل، فنام عن الفجر، فقال عمر:

[لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إليَّ من أن أقوم ليلة] صلاة الفجر في جماعة أفضل من أن أقوم الليل كله.

فيا من أضعت وقتك، تقوم الليل كله بقراءة كتاب، وتمضيه في سماع شريط، وتلخيصه، ثم تنام عن صلاة الفجر؟! ماذا نفعك العلم؟ ذاك رجل بال الشيطان في أذنه، وضحك الشيطان عليه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُه عليه) لا تقم ليلة فيفوتك الفجر، ولا تطلب العلم في الصباح، ثم تنام عن صلاة الظهر، ولا تطلب العلم بعد الظهر ثم تنام على الكتاب وقد فاتك العصر، أي علم هذا؟! لا تظن أنك سوف تستفيد من وقتك وأنت تضيع الصلوات .. فأول شيء تحافظ عليه الصلوات الخمس؛ لأنك إن حافظت عليها تَنَظَّمَ وقتُك، وتستطيع أن تستغله، وتحافظ عليه، بل أن الله عزَّ وجلَّ يبارك لك في الوقت، ويبارك لك في العلم، وحافظ على الصلاة في جـماعة، واحرص -أيها الأخ- في هذه الأوقات -أوقات الفراغ- ما إنْ يؤذن المؤذن إلا وأنت في المسجد فإنك في فراغ وليس هناك أي مانع.

أول أمر تحرص عليه في هذه العطلة وفي غيرها من الأيام هو الصلوات الخمس، قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً [مريم:59] والله لن ينفعك هذا الكلام ولا هذا الدرس إذا لم تكن حريصاً على الصلوات الخمس، فإنك سوف تأتي يوم القيامة وأول ما تحاسب عليه الصلاة، فإن لم تصلح صلاتك فقد خبت وخسرت، وفسد سائر عملك .. ماذا ينفعك العلم والدعوة والنشاط والحركة والجهاد، إذا لم تكن حريصاً على الصلوات الخمس التي هي عمود الإسلام؟

وبعض الناس يحرص على طلب العلم وتفوته صلاة الفجر! واسمعوا إلى هذه الحادثة:

أخرج مالك في الموطأ: أن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح؛ فذهب عمر في ذلك اليوم إلى السوق -وكان مسكن سليمان بين المسجد والسوق- فمر عمر على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لَمْ أَرَ سليمان في الصبح. فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. كان يقوم الليل، فنام عن الفجر، فقال عمر:

[لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إليَّ من أن أقوم ليلة] صلاة الفجر في جماعة أفضل من أن أقوم الليل كله.

فيا من أضعت وقتك، تقوم الليل كله بقراءة كتاب، وتمضيه في سماع شريط، وتلخيصه، ثم تنام عن صلاة الفجر؟! ماذا نفعك العلم؟ ذاك رجل بال الشيطان في أذنه، وضحك الشيطان عليه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُه عليه) لا تقم ليلة فيفوتك الفجر، ولا تطلب العلم في الصباح، ثم تنام عن صلاة الظهر، ولا تطلب العلم بعد الظهر ثم تنام على الكتاب وقد فاتك العصر، أي علم هذا؟! لا تظن أنك سوف تستفيد من وقتك وأنت تضيع الصلوات .. فأول شيء تحافظ عليه الصلوات الخمس؛ لأنك إن حافظت عليها تَنَظَّمَ وقتُك، وتستطيع أن تستغله، وتحافظ عليه، بل أن الله عزَّ وجلَّ يبارك لك في الوقت، ويبارك لك في العلم، وحافظ على الصلاة في جـماعة، واحرص -أيها الأخ- في هذه الأوقات -أوقات الفراغ- ما إنْ يؤذن المؤذن إلا وأنت في المسجد فإنك في فراغ وليس هناك أي مانع.

الأمر الثاني -ولعله هو أكثر ما سنتحدث عنه في هذه الليلة- هو طلب العلم .. واسمع إلى فضل طلب العلم:

إذا لم يكن عندك حماس، ولا همة في طلب العلم، ولم تتشجع لقراءة الكتب، واستماع الأشرطة، فاسمع الآية تلو الآية، والحديث تلو الحديث، والأثر تلو الأثر، والقصة تلو القصة، لعل الهمة فيك تقوم وتعلو.

أيها الإخوة: إنه والله مسكين من ترك العلم، كما قال بعض السلف: واسوأتاه! ما أقبح من شيخ جاهل! أي: (شيخ كبير في السن وجاهل) ما أقبح هذا! والله عيب ما بعده عيب، ولو كان الرجل مشلولاً أو مريضاً أو عاجزاً أو مقعداً، أو قبيحاً وجهه؛ لكن عنده علم، فإن الله عزَّ وجلَّ يرفع شأنه، ولو كان أجمل الرجال وأعلاهم قدراً ومنزلة ومالاً وما عنده علم فإن الله عزَّ وجلَّ يضعه بين الناس حقيراً ما يسأله أحد، ولا يلتفت إليه، ولا ينظر إلى كلامه؛ لأنه جاهل.

قـال الله تعالى في فضـل العلم: يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] قـال بعـض المفسـرين: أي العلماء. انظر مرتبتهم؛ بعد الله رسوله، وبعد رسوله هم العلماء، وقال الله تعالى: قل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] لا يستوون؛ هذا جالس طول الليل يقرأ كتاباً ويلخص، ويكتب في الهامش، ويرجع إلى الأحاديث صحيحها من ضعيفها، ويسمع الشريط ويلخص، وهذا جالس على التلفاز والجريدة .. هل يستوون؟! والله لا يستوون عند الله قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9] .

وقال عليه الصلاة والسلام: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى واحد من الصحابة، وقال (طالب العلم -ليس شرطاً أن يكون عالماً- يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر) حتى السمك في البحر يستغفر له! هل هناك أفضل من هذا؟! أأنت خير أم من يجلس وقته كله يقرأ الجريدة أو المجلة أو ينام على الفراش؟

هل سمعتمُ عن بعض الناس ينام من المغرب ولا يقوم إلا عصر اليوم الثاني؟ ينام في اليوم والليلة ثماني عشرة ساعة، كم سيستيقظ؟ ست ساعات، ربع العمر، وثلاثة أرباعه في النوم، هل يستوون؟

وقال عليه الصلاة والسلام: (خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت، وفقه في الدين) الله أكبر! خصلتان إن كانت فيك فحري بك أن يصرفك الله عزَّ وجلَّ عن النفاق: حسن سمت، وفقه في الدين .. وقال عليه الصلاة والسلام: (فضل في علم خير من فضل في عبادة) وقد سئل الإمام أحمد: أيهما أفضل: قيام الليل أم طلب العلم؟ فقال: طلب العلم . ولو خيرتَ بين أمرين: هل تصوم التطوع أم تطلب العلم؟ لأن بعض الناس يقول: لو صمتُ لما استطعت أن أقرأ، وإن أفطرت سوف تكون لي همة في القراءة، فأيها أفضل؟ إن فضل صوم التطوع عظيم! يباعد الله عزَّ وجلَّ بينك وبين النار مسافات عديدة، لكن طلب العلم أفضل، وإن استطعت أن تجمع بين الأمرين فهو خير على خير.

وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم...) هذا هوا الفضل، وهذا هو الشرف، وليس هذا الفضل للملك وللأمير وللوزير ولا للشريف ولا للغني، إنما هذا الشرف وهذا الفضل لرجل ولو كانت ثيابه ممزقة نتنة، ولو كان الناس يستقبحونه، خرج ليطلب العلم (ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع حتى يرجع) منذ أن يخرج من البيت ذاهباً إلى درس في مسجد إلى أن يرجع .. يا إخوان: تحسسوا هذا الأمر، ومن استشعر هذا الأمر لا يمل، فمن حين يخرج والملائكة تضع أجنحتها له، والملائكة لها أجنحة عظيمة، تتواضع لهذا الرجل ولهذا الشاب ولو كان طفلاً صغيراً.

وقال عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) أي: واجب، وهناك واجب عيني وواجب كفائي.

العلم رفعة وتشريف لصاحبه

قال أبو الأسود الدؤلي:

العلم زَين وتشريف لصاحبه     فاطلب هُدِيتَ فنون العلم والأدبا

العلم كنز وذخر لا نفاد له     نعم القرين إذا ما صاحباً صحبا

قد يجمع المرء مالاً ثم يُحْرَمُه     عما قليل فيلقى الذل والنصب

وجامع العلم مغبوط به أبداً     ولا يُحاذر منه الفوت والسَّلَبا

يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه     لا تعدلن به دراً ولا ذهبا

والله لو يعدلون به الذهب، ولو تُعطى ما تُعطى فإياك أن تفوت العلم، خصوصاً في هذا العمر، وفي هذا الزمان، وفي هذا الوقت الذي لا يشغلك فيه شاغل، ولا يصرفك صارف .. لا أبناء، ولا بيت، حتى الذي عنده الأبناء والبيت معاشه يأتيه آخر الشهر وهو لا يتعب، بل إن بعض الناس يشتكي من الفراغ في دوامه، يقول: أذهب إلى الدوام وأجلس. سبحان الله! إنها نِعْمَة والله (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ) نِعْمَة ما يشعر بها كثير من الناس، وليس شرطاً في طلب العلم وفي فضله أن تصبح عالماً، يكفيك أن تتعلم مسألة فتعلمها غيرك، قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) انظر إلى هذا الفضل العظيم، تتعلم المسألة ثم تعلمها أحد الناس، سنة تعلمتها ثم ذهبت وعلمتها بعض الناس، يكون لك مثل أجور من علمتهم، ثم ذلك يعلمها غيره، ثم يعلمها رجلٌُ ثالث، ثم رابع، ثم خامس، ثم سادس، ثم عاشر، ثم بعد هذا ينتشر العلم بين الناس، وأنت لم تشعر بهذا الأجر .. قلتَ كلمة في مجلس أوفي مسجد، أو ذهبتَ ونصحتَ إنساناً، وبعد هذا انتشر العلم بين الناس، ويأتيك الأجر ولو كنت في قبرك.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).

طلاب العلم هم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم

أتعرف أن طلبة العلم وصى بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وصى أصحابه بطلبة العلم من بعده، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عندما جاءه طلبة الحديث: [مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم] فقد وصى قبل موته بهؤلاء الطلبة؛ طلبة العلم، طلبة الحديث، ما هم بطلبة نوم، ولا طلبة الأكل والفراغ واللعب واللهو والضَّياع، إنما وصى بطلبة العلم وطلبة الحديث .. قال: [مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصينا بكم] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بطلبة العلم.

أيها الأخ: اطلب العلم فسوف يأتي عليك يوم يرفعك العلم إلى أعلى عليين، ولا تطلب هذا العلم لأجل هذه المنزلة، ولكن اعلم أن العلم سوف يرفعك بين الناس، قال أبو معاوية الضرير .. وهو أحد العلماء، وكان ضريراً، أي: أعمى البصر؛ لكن الله عزَّ وجلَّ أنار قلبه .. يقول: أكلتُ مع الرشيد يوماً -وهو خليفة المسلمين، وكان الخلفاء في السابق يحترمون العلماء، ويُعطونهم قدرهم- يقول: أكلتُ مع الرشيد يوماً، ثم صب على يدي رجل لا أعرفه -ليغسل يده- يقول: ما أعرف من هو هذا الرجل، ثم قال الرشيد: أتدري من يصب عليك؟ قلتُ: لا. قال: إنه أنا، وذلك إجلالاً للعلم. يقول الخليفة: أنا أصب على يديك الماء ليس لأجلك، ولكن لأجل العلم الذي تحمله. فانظروا إلى العلم كيف يرفع صاحبه!

أتعرفون من هو الأعمش؟ ما هناك طالب علم إلا وسمع به، وقد مر على وفاته إلى الآن قرون عديدة، وإلى الآن يُذكر على الألسنة، ويُترحم عليه، ويُستفاد من علمه .. يقول الأعمش: لولا القرآن لكنت بقالاً يقذرني الناس أن يشتروا مني. ولكن العلم رفعه!

وهذا عطاء بن أبي رباح، كان عبداً لإحدى نساء مكة، عبد يباع ويشترى، أنفه أفطس، شكله إن نظرتَ إليه تستقبحه، ثم أصبح مولى لـابن عباس .. يذكر عنه أنه رجع إليه أهل مكة كلهم في الفتوى، لا يستفتون أحداً في مكة إلا عطاء بن أبي رباح، حتى إن أبا حنيفة كان يستفيد منه .. يقال عنه: أنه كان يجلس في المجلس، فيأتيه الطلبة ويجلسون عنده، ويقولون: كنا نهاب أن نسأله حتى يتنحنح، فإذا تنحنح بدأنا نسأله. وذلك من هيبته، واحترامه .. هذا الذي كان عبداً يباع ويشترى، ثم تعلم العلم فرفعه الله عزَّ وجلَّ.

وانظروا إلى العلماء في هذا الزمان كيف يُترحم عليهم، ويُدعى لهم، وإذا مات أحدهم انظروا كيف تقوم الدنيا ولا تقعد!

قدم هارون الرشيد الرقة -إحدى المناطق- فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتركوه وقد تقطعت النعال وارتفعت الغبرة .. تخيلوا هذا الموقف، قدم هارون فاجتمعوا حوله، فلما ظهر عبد الله بن المبارك ذهبوا كلهم خلفه، والغبار يعلو، والنعال تتقطع، ما الذي حصل؟ ما الذي جرى؟ قالوا: فأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج الخشب -وهي زوجة هارون الرشيد - فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: هذا عالم خراسان قدم الرقة، يقال له: عبد الله بن المبارك، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان.

إي والله، لا ملك الوزراء والأمراء والملوك والأغنياء، الذين يمشون بحرس وبعسس، بل إن بعضهم لا يسَلَّم عليه إلا لمصلحة ولا يصافَح إلا طلباً للمصلحة، ويتمنى من حوله زواله، أما أهل العلم فقد كان بعضهم تُقَبَّل يدُه وكان الإمام البخاري، أثناء الحلقة يقوم ويجلس، ثم يقوم ويجلس، ثم يقوم ويجلس، فسئل: ما بالك؟ قال: نظرت إلى باب المسجد -وكان الصبيان يلعبون- وكلما مر صبي قمت وجلست. قالوا: من هذا الصبي؟ قال: هذا ابن شيخ كان يدرسني. فكان كلما مر الابن قام احتراماً لأبيه، الله أكبر!

انظروا كيف رفع الله شأنهم! إذاً: العلم يرفع شأنك ولو كان الناس يستقبحونك.

قال الإمام الشافعي -وهي حكمة عظيمة لعلك تستشعرها- قال: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.

فكل علم له فائدة وثمرة، حتى الحساب، فإنه يجزل رأيك به، وتكون صاحب رأي.

أيها الإخوة: إن العلم -كما قلنا- أفضل من العبادة، فهو أفضل من صلاة النافلة، وأفضل من صوم النافلة، وأفضل حتى من جهاد التطوع .. قال الحسن رحمه الله: لأن أتعلم باباً من العلم فأُعلِّمه مسلماً أحب إلي من أن تكون لي الدنيا كلها في سبيل الله. أي: لأن أقرأ باباً وأُعلِّمه مسلماً أحب إلي من أن أنفق جميع الدنيا في سبيل الله.

مراتب العلم

يقول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث فيه كما يقول ابن القيم مراتب العلم الأربع-: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فبلغها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) أي: حسَّن الله صورته، وجمَّل الله وجهه، بعض الناس شكله ليس بحسن، لكن الناس تحب منظره، وتحب الجلوس معه، وتحب مخالطته. قال: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي) هذه أول مراتب العلم: السماع.

المرتبة الثانية قوله: فوعاها، والوعي هو الفهم، فبعد السماع لابد من الفهم.

المرتبة الثالثة: المراجعة والحفظ والتكرار، فما يكفي أنك تسمع وتفهم، فإن بعض الناس تسأله: ما هو طلب العلم عندك؟ فيقول: أحضر درس الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني والحلقة الفلانية، وألخص الأشرطة، وأقرأ الكتب. فإذا سألته لم يعرف شيئاً، وكلما سألته سؤالاً يقول: لحظة، فيذهب ويفتح كتاباً ويقرؤه، ويقول: هذه الإجابة .. لا ينفعك العلم إذا كان هكذا، بل لا بد من الحفظ، تقضي ساعة في الدرس، ثم ساعات في الحفظ، أما أن تسمع وتسمع وتسمع فلا. لابد من سماع، ثم فهم، ثم حفظ .. (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فبلَّغها...) المرتبة الرابعة: التبليغ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) كم من رجل يحفظ حديثاً، ثم يبلغ رجلاً آخر فيفهم أكثر منه، وهذا في الناس كثير، فإنك تجد رجلاً حافظاً للقرآن لكنه لا يفقه منه شيئاً، ورجلاً حافظاً أحاديث كثيرة ولا يعرف يطبق منها حديثاً واحداً.

قال أبو الأسود الدؤلي:

العلم زَين وتشريف لصاحبه     فاطلب هُدِيتَ فنون العلم والأدبا

العلم كنز وذخر لا نفاد له     نعم القرين إذا ما صاحباً صحبا

قد يجمع المرء مالاً ثم يُحْرَمُه     عما قليل فيلقى الذل والنصب

وجامع العلم مغبوط به أبداً     ولا يُحاذر منه الفوت والسَّلَبا

يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه     لا تعدلن به دراً ولا ذهبا

والله لو يعدلون به الذهب، ولو تُعطى ما تُعطى فإياك أن تفوت العلم، خصوصاً في هذا العمر، وفي هذا الزمان، وفي هذا الوقت الذي لا يشغلك فيه شاغل، ولا يصرفك صارف .. لا أبناء، ولا بيت، حتى الذي عنده الأبناء والبيت معاشه يأتيه آخر الشهر وهو لا يتعب، بل إن بعض الناس يشتكي من الفراغ في دوامه، يقول: أذهب إلى الدوام وأجلس. سبحان الله! إنها نِعْمَة والله (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ) نِعْمَة ما يشعر بها كثير من الناس، وليس شرطاً في طلب العلم وفي فضله أن تصبح عالماً، يكفيك أن تتعلم مسألة فتعلمها غيرك، قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) انظر إلى هذا الفضل العظيم، تتعلم المسألة ثم تعلمها أحد الناس، سنة تعلمتها ثم ذهبت وعلمتها بعض الناس، يكون لك مثل أجور من علمتهم، ثم ذلك يعلمها غيره، ثم يعلمها رجلٌُ ثالث، ثم رابع، ثم خامس، ثم سادس، ثم عاشر، ثم بعد هذا ينتشر العلم بين الناس، وأنت لم تشعر بهذا الأجر .. قلتَ كلمة في مجلس أوفي مسجد، أو ذهبتَ ونصحتَ إنساناً، وبعد هذا انتشر العلم بين الناس، ويأتيك الأجر ولو كنت في قبرك.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).

أتعرف أن طلبة العلم وصى بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وصى أصحابه بطلبة العلم من بعده، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عندما جاءه طلبة الحديث: [مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم] فقد وصى قبل موته بهؤلاء الطلبة؛ طلبة العلم، طلبة الحديث، ما هم بطلبة نوم، ولا طلبة الأكل والفراغ واللعب واللهو والضَّياع، إنما وصى بطلبة العلم وطلبة الحديث .. قال: [مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصينا بكم] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بطلبة العلم.

أيها الأخ: اطلب العلم فسوف يأتي عليك يوم يرفعك العلم إلى أعلى عليين، ولا تطلب هذا العلم لأجل هذه المنزلة، ولكن اعلم أن العلم سوف يرفعك بين الناس، قال أبو معاوية الضرير .. وهو أحد العلماء، وكان ضريراً، أي: أعمى البصر؛ لكن الله عزَّ وجلَّ أنار قلبه .. يقول: أكلتُ مع الرشيد يوماً -وهو خليفة المسلمين، وكان الخلفاء في السابق يحترمون العلماء، ويُعطونهم قدرهم- يقول: أكلتُ مع الرشيد يوماً، ثم صب على يدي رجل لا أعرفه -ليغسل يده- يقول: ما أعرف من هو هذا الرجل، ثم قال الرشيد: أتدري من يصب عليك؟ قلتُ: لا. قال: إنه أنا، وذلك إجلالاً للعلم. يقول الخليفة: أنا أصب على يديك الماء ليس لأجلك، ولكن لأجل العلم الذي تحمله. فانظروا إلى العلم كيف يرفع صاحبه!

أتعرفون من هو الأعمش؟ ما هناك طالب علم إلا وسمع به، وقد مر على وفاته إلى الآن قرون عديدة، وإلى الآن يُذكر على الألسنة، ويُترحم عليه، ويُستفاد من علمه .. يقول الأعمش: لولا القرآن لكنت بقالاً يقذرني الناس أن يشتروا مني. ولكن العلم رفعه!

وهذا عطاء بن أبي رباح، كان عبداً لإحدى نساء مكة، عبد يباع ويشترى، أنفه أفطس، شكله إن نظرتَ إليه تستقبحه، ثم أصبح مولى لـابن عباس .. يذكر عنه أنه رجع إليه أهل مكة كلهم في الفتوى، لا يستفتون أحداً في مكة إلا عطاء بن أبي رباح، حتى إن أبا حنيفة كان يستفيد منه .. يقال عنه: أنه كان يجلس في المجلس، فيأتيه الطلبة ويجلسون عنده، ويقولون: كنا نهاب أن نسأله حتى يتنحنح، فإذا تنحنح بدأنا نسأله. وذلك من هيبته، واحترامه .. هذا الذي كان عبداً يباع ويشترى، ثم تعلم العلم فرفعه الله عزَّ وجلَّ.

وانظروا إلى العلماء في هذا الزمان كيف يُترحم عليهم، ويُدعى لهم، وإذا مات أحدهم انظروا كيف تقوم الدنيا ولا تقعد!

قدم هارون الرشيد الرقة -إحدى المناطق- فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتركوه وقد تقطعت النعال وارتفعت الغبرة .. تخيلوا هذا الموقف، قدم هارون فاجتمعوا حوله، فلما ظهر عبد الله بن المبارك ذهبوا كلهم خلفه، والغبار يعلو، والنعال تتقطع، ما الذي حصل؟ ما الذي جرى؟ قالوا: فأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج الخشب -وهي زوجة هارون الرشيد - فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: هذا عالم خراسان قدم الرقة، يقال له: عبد الله بن المبارك، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان.

إي والله، لا ملك الوزراء والأمراء والملوك والأغنياء، الذين يمشون بحرس وبعسس، بل إن بعضهم لا يسَلَّم عليه إلا لمصلحة ولا يصافَح إلا طلباً للمصلحة، ويتمنى من حوله زواله، أما أهل العلم فقد كان بعضهم تُقَبَّل يدُه وكان الإمام البخاري، أثناء الحلقة يقوم ويجلس، ثم يقوم ويجلس، ثم يقوم ويجلس، فسئل: ما بالك؟ قال: نظرت إلى باب المسجد -وكان الصبيان يلعبون- وكلما مر صبي قمت وجلست. قالوا: من هذا الصبي؟ قال: هذا ابن شيخ كان يدرسني. فكان كلما مر الابن قام احتراماً لأبيه، الله أكبر!

انظروا كيف رفع الله شأنهم! إذاً: العلم يرفع شأنك ولو كان الناس يستقبحونك.

قال الإمام الشافعي -وهي حكمة عظيمة لعلك تستشعرها- قال: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.

فكل علم له فائدة وثمرة، حتى الحساب، فإنه يجزل رأيك به، وتكون صاحب رأي.

أيها الإخوة: إن العلم -كما قلنا- أفضل من العبادة، فهو أفضل من صلاة النافلة، وأفضل من صوم النافلة، وأفضل حتى من جهاد التطوع .. قال الحسن رحمه الله: لأن أتعلم باباً من العلم فأُعلِّمه مسلماً أحب إلي من أن تكون لي الدنيا كلها في سبيل الله. أي: لأن أقرأ باباً وأُعلِّمه مسلماً أحب إلي من أن أنفق جميع الدنيا في سبيل الله.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث فيه كما يقول ابن القيم مراتب العلم الأربع-: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فبلغها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) أي: حسَّن الله صورته، وجمَّل الله وجهه، بعض الناس شكله ليس بحسن، لكن الناس تحب منظره، وتحب الجلوس معه، وتحب مخالطته. قال: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي) هذه أول مراتب العلم: السماع.

المرتبة الثانية قوله: فوعاها، والوعي هو الفهم، فبعد السماع لابد من الفهم.

المرتبة الثالثة: المراجعة والحفظ والتكرار، فما يكفي أنك تسمع وتفهم، فإن بعض الناس تسأله: ما هو طلب العلم عندك؟ فيقول: أحضر درس الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني والحلقة الفلانية، وألخص الأشرطة، وأقرأ الكتب. فإذا سألته لم يعرف شيئاً، وكلما سألته سؤالاً يقول: لحظة، فيذهب ويفتح كتاباً ويقرؤه، ويقول: هذه الإجابة .. لا ينفعك العلم إذا كان هكذا، بل لا بد من الحفظ، تقضي ساعة في الدرس، ثم ساعات في الحفظ، أما أن تسمع وتسمع وتسمع فلا. لابد من سماع، ثم فهم، ثم حفظ .. (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فبلَّغها...) المرتبة الرابعة: التبليغ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) كم من رجل يحفظ حديثاً، ثم يبلغ رجلاً آخر فيفهم أكثر منه، وهذا في الناس كثير، فإنك تجد رجلاً حافظاً للقرآن لكنه لا يفقه منه شيئاً، ورجلاً حافظاً أحاديث كثيرة ولا يعرف يطبق منها حديثاً واحداً.