أومن بالإنسان!
مدة
قراءة المادة :
22 دقائق
.
5 - أومن بالإنسان!
رد وتعليق
للأستاذ عبد المنعم خلاف
من الدفتر القديم - في حدود البداهة - فليكن قرداً نهض على
قدميه، ثم ماذا؟ - وارث الحياة - الشر يلد والعلم يدفن -
الأشقياء الهالكون - نتائج الإيمان بالإنسان ونتائج الكفر به -
أخلاق العلماء - الألمان والإنجليز والعرب - الهنادكة وعبادة
الأبقار والثعابين - صوفية شاردة تتخيل وصوفية مادية تتحقق
- استعلان سر الوجود على تفاوت - برغوث أبي العلاء -
مذهب هدامة - فترات التمهيد لظهور الإنسان - لا نقص في
غرائز الإنسان - العلم أضاف حياة للحياة - ما أشدت بأخلاق
الإنسان - الدولة كائن عضوي واحد - تقدم العلم وتخلف
الخلق - لو آمن بنفسه - يوم قريب - لغير المؤمنين
قرأت المقال الطريف لصديقي الأستاذ زكي نجيب محمود الذي أخرجه مخرج الإنكار لما ذهبت إليه من رأي في القيمة السامية لحياة الإنسان وتفرده بالسيادة بين الكائنات، وبتوجه منافع ما في الأرض كله إليه، وبتفرده بالتغلب على كثير من قوى الطبيعة الأرضية وتسخيره إياها، وببساطة الحياة في الأرض بدونه، وبقدرته على إيجاد عوالم ومعادن وصناعات ومدن وآثار ورسالات لم يكن في الحياة شئ منها، وبقيامه وسط دورات الأرض الأبدية المحدودة المكررة، بحياة حرة تذهب في أي اتجاه وتكاد تكون منفصلة عن حياة الطبيعة وكنت أود أن أعيد في صدد الرد على صديقي ما سبق أن ذكرته في العددين 353، 356 من هذه المجلة رداً على سائل بيروتي سألني عن مسائل تدور حول الإنسان، وآخر مصري رأى أن يذكرني بحياة النظام والدقة التي تحياها أمم النمل والنحل وغيرهما حين رأى إشادتي بالقيمة السامية لحياة الإنسان، ولكن إعادة ذلك الحديث على قرب العهد به مما يضيق به صدري ويضيق عنه نطاق (الرسالة) ومنهاجها؛ فأحيل صديقي والذين قرءوا مقاله فأثر فيهم على هاتين المقالتين السالفتين فإن ما فيهما كفيل - فيما أرى - أن يلقي ضوءاً عريضاً غزيراً كاشفاً على الفروق بين أمم الحيوان وأمة الإنسان أبي العجائب. غير أني أود أن أزيد هنا بعض أفكار أقدم قبلها أسئلة بديهية ألقيها على صديق خليفة (سليمان بن داود) (مفهم الطير والبهائم والمردة) والفراش المبثوث والبعوض والبرغوث: هل رأى أو سمع أن أمة من أمم الحيوان والحشرات اصطادت إنساناً ووضعته في قفص وعرضته أمام الأنظار؟ وهل رأى أو سمع أن فرساً أو حماراً ألجم إنساناً وركبه أو حرث عليه حقله أو وضع على ظهره حمله؟ وهل رأى أو سمع ان جملاً أو فيلاً أو ديكاً أو خروفاً قدم لإنسان حفنة من شعير أو أعواد برسيم أو قدح ماء؟ وهل رأى أو سمع أن برغوثاً أو بعوضة أو فراشة صنعت دواء ووضعته في مضخة ماصة كابسة ثم أطلقته على الإنسان لتخدره أو تدفع أذاه أو تقتله؟ وهل رأى أو سمع أن حيواناً ما قطف زهرة ووضعها في أصيص يتأمل جمالها ويزين بها مسكنه، أو أقام معرضاً أو متحفاً للبذور والثمار أو منتجات الحيوان والإنسان؟ هل رأى أو سمع أن جماعة من الأبقار أو الأغنام ثارت على جزار وأمسكت به وذبحته وسلخته، وأخذت من لحمه وشعره وجلده وظفره منافع؟ أو على الأقل أدركت لماذا تساق هي إلى المذابح؟ هل اصطنع ذئب أو سبع من سباع الأرض سلاحاً يدفع به غائلة الإنسان ومكايده وحبائله؟ أترك لصديقي زكي أن يدرك سير الحياة بالإنسان، ووضعه بين الأحياء من خلال الأجوبة على هذه الأسئلة ثم لنفرض ما يقوله بعض شراح نظرية النشوء والترقي صحيحاً من أن الإنسان أصله قرد نهض على قدميه.
ثم ماذا؟ لقد سبق هو وتخلفت سائر الأنواع.
إذا هو وحده كان محقوفاً بعناية الذي خلق الأنواع كلها حتى جعله في قمة الحياة العضوية الحيوانية، ثم بثق في رأسه بثقاً صار منبع عالم جديد عريض مخالف لسائر أساليب الحياة المعهودة، إذ جعله يصنع موجودات تفوق قدرة الحيوان، وقدرته هو على السرعة والاحتمال والنقل والسمع والبصر والتكبير والتجهير والتقريب، ولم نر غيره حيواناً يخترع آلة لصيد فريسته.
ولم نر أمة من أمم النمل تخترع عجلة تحمل عليها الأثقال التي تعاني نقلها من مكان إلى مكان، ولم نر أمة من أمم النحل تفكر في دفع عدوان الإنسان على عسلها الذي تتعب وتدأب في جنيه واشتياره من رحيق الأزهار ونوار الثمار على كثرة ما جربت من غزواته لها، وكل حيوان يعيش في نطاق ضرورات حياته لا يتجاوزه.
فلئن كان قانونا (الانتخاب الطبيعي) و (بقاء الأصلح) أقنومين عظيمين من أقانيم نظرية النشوء والترقي كما يعترف بذلك أنصارها - صديقي زكي منهم - فهما اللذان وضعا الإنسان هذا الموضع الممتاز.
موضع القمة في سلسلة الأنواع.
وما دام الإنسان استطاع أن يتغلب على سائر حيوان الأرض يستبقي منه ما له فيه نفع ويبيد منه ما يشاء ويجد من الطبيعة إقبالاً عليه وكرماً في إمداده بوسائل التغلب على ما يريد إبادته ولا يصده صاد عن اقتحام الغابات والأجمات والبحار والمناقع للصيد والتلهي بالقتل.
ما دام الإنسان استطاع أن يفعل كل هذا والطبيعة تساعده على فعله فهو إذا الابن البكر للحياة في الأرض، وهو المقصود بها بحكم قانون (انتخاب الأصلح)، وهو وارثها لأنه الأقوى.
سيقول صديقي زكي: (وماذا أنت قائل في الجراثيم التي تفتك ببدن الإنسان لتعيش؟ تلك التي إن أفلح في نزع واحدة منها مما يسكن جوفه باضت له ألوف الألوف من صغارها؟) وأقول: إن مصير هذه الجراثيم مصير غيرها من قطعان الوحش وسائر أعداء الإنسان التي تغلب عليها وتحصن منها وأوشك أن ينظف الأرض من غوائلها.
وإن تاريخ كشفه لها قريب جداً، ومع ذلك استطاع أن يقيم أسباب المناعة منها في المسكن والملبس والمطعم والمستنشق.
وما دام قد رصد حياتها وعرف أوكارها، وسلط عليها حرساً من المجاهر والمخايير والعقاقير، فهو لا شك واصل إلى التغلب عليها في سائر البقاع ما دام قد تغلب عليها في مناطق المستشفيات ودور النقاهة وكثير من المنازل والمدن التي لا تهمل وسائل الوقاية العلمية.
وإنه لجهاد مشكور وأمر عظيم أن يقتحم الإنسان بعلمه وأدواته هذه المناطق التي عاشت دهوراً وراء نظره وفوق وهمه وتخيله.
وإنها لعناية من بارئ الطبيعة بهذا النوع أن يعرفه أعداءه واحداً واحداً ويمكن له في الأسباب حتى يتغلب عليها جميعاً.
وإنه لبدء حياة جديدة لهذا الإنسان في الأرض أن يعلم ما ظهر وما بطن وما خفي وما استعلن من هؤلاء الأعداء.
وأظن يا صديقي أن من السهل على الذي تغلب على أعداءه من الجراثيم الخفية أن يتغلب على غيرها من البراغيث الظاهرة.
تلك التي حسبت واحداً منها جديراً أن يقض مضجعي فأشفقت عليَّ.
فلتلد بطون الشر والألم ما تستطيع من أطفالها.
فستلد قوانين العلم مقامع ومهالك لهذه الأطفال.
وإن الأشقياء الهالكين في الحياة الدنيا هم الكافرون بالعلم وبالإنسان الذي أنتج هذا العلم.
أولئك الذين يعيشون بأساليب القرون الجاهلة العاجزة، وينظرون إلى الحياة نظر العجز وضعف الثقة بروح الإنسان وعقله، ونظر القاصرين الذين لم يدركوا ذلك النمو السريع للحياة الإنسانية في مدى قصير جداً من الزمن وهو أربعة آلاف سنة وهي عمر التاريخ الذي نعرفه.
أولئك الذين لم يدركوا بعد كيف قفز الإنسان في السنوات الخمسين الأخيرة من عمره قفزات حققت كثيراً من أحلامه في الانطلاق والسيطرة والإنتاج والاستغلال والتوليد والتقارب بين أجناسه وأقطاره واختزال المسافات والأبعاد وإقامة الأرصاد لحوادث الحياة وظواهر الطبيعة أولئك الذين لا يزالون يعيشون كما كان يعيش آباؤهم الأولون الذين لم يكونوا يعرفون من الدنيا إلا حدود البقعة التي ولدوا فيها أو القطر الذي ينتمون إليه.
ولم يكونوا يعرفون أن في الأرض محيطات هائلة وقارات مجهولة وعوالم مستورة، وأن الأرض ما هي إلا كرة صغيرة جداً كذرة رمل في صحراء.
الذين كانوا يبيتون في الظلام والبرد، وأنهارُ النور والنار على بعد ضربة معول منهم في منابع النفط والبترول.
ويعيشون تحت رحمة غيض الماء وفيضه بدون أن يقيموا سداً أو خزاناً يحفظ الماء ويحفظهم من طغيان الماء.
والذين كانوا يأكلون الموت ويشربونه في المطاعم والمشارب الملوثة بالجراثيم.
أولئك الذين كان كفرهم بالإنسان وعدم إدراكهم لسموه وتفرده بين سائر الأنواع السبب الأكبر فيما نراه يسود حياته من اصطناع أساليب الحيوان الفاتك الضاري المتشهي الغافل الذاهل عما يدور في السماء ويجري في الأرض من العجائب والمعجزات وأفانين الحياة.
وما يجر الشر والإثم والسفالة على النفس الإنسانية إلا غفلتها من مقامها الممتاز في الحياة، وإلا أخذها بظاهر الحياة الجسمية الآلية التي تجعلها والحيوان في حظيرة واحدة.
وما كان جهاد أنبيائها وحكمائها الذين خطوا بها خطوات واسعة إلى الأمام إلا نتيجة لإدراكهم امتيازها وما فيها من قوى زائدة عما في غيرها من سكان الأرض.
وأخلاق العلماء شئ عظيم عميق لأنها أخلاق بنيت على العلم بأعماق النفس الإنسانية.
وقد قال سقراط (الفضيلة معرفة، والرذيلة جهل) والفرق بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد هو مبدأ الفلسفة الألمانية الحديثة التي سنها (نيتشه) للألمان فكان إدراكهم معنى السيادة وحديثهم حولها أكبر باعث لهم على نهضتهم الجبارة التي جعلتهم يفهمون في أنفسهم أنهم فوق مستوى سائر الأجناس وأخلاق الإنجليز المبنية على ثقتهم بأنفسهم وتفردهم من بين سائر البشر بطبيعة ممتازة وروح ممتازة هي التي جعلتهم فوق المستوى الإنساني الحالي في الصبر والاحتمال والثبات وسعة الحيلة والوقار والسكينة في السلم والحرب فهم يؤدون لهذا الاعتقاد تلك الثقة بالنفس مهرهما من الفعال الكريمة والصبر الجميل والدم العزيز والمال المبذول ولامساكن المترفة وقديماً كانت العرب أمة ضائعة المكانة لما كانت مفقودة الإحساس بسمو نفوسها ومواهبها، مغمورة فيما يحيط بها من الطبيعة، مدمجة فيها، عابدة للحقير والجليل منها حتى تسمى أفرادها بأسماء الجماد والحيوان السافل والنبات الحقير: فقالوا حجر وصخر وكلب ويربوع وحنظلة، إلى آخر أسماء ما يحيط بهم، وطافوا بالأحجار والأشجار عابدين عاكفين.
فلما أيقظهم موقظهم العظيم لأنفسهم وما فيها من امتياز على سائر ما يحيط بها فلا يليق بها أن تلتمس لشيء من هذا المحيط عبادة، ولا أن تبتغي إليه زلفى أو وسيلة، ولا أن تقدم إليه قرباناً من دمائها ودموعها وسائر قرباتها؛ بل يجب أن تبتغي بذلك كله وجهاً أسمى وقدرة أعظم لا تدركها الأبصار ولا تستوعبها الأفكار.
حين هذا بدا السر الخفي في هذه النفوس الضائعة واستعلن كما يستعلن نور الصباح عريضاً في الآفاق، ومضى أفرادها إلى فجاج الأرض حاملين رسالة وموطدين دولة ومقيمين حضارة وهانحن أولاء نرى (الهندوكيين) يأتون في عبادتهم للأبقار والحيات وكثير من الحيوان مخازي وسخافات تلطخ وجه الإنسانية بالحياء والخجل والعار.
كل هذا لأنهم توهموا أن في البقر والثعابين سراً وروحاً مقدساً يعبد، فتركوها تعيش وتسرح وتهيم في الشوارع والبيوت والطرقات وهاموا وراءها وأكلوا روثها وشربوا بولها وتقربوا للثعابين ورحبوا بلدغاتها وموتهم بأنيابها وتركوا بلادهم تصاب بطواعين الأبقار التي تترك حتى تشيخ وتصير عشاً للجراثيم التي تنتقل منها إلى عابديها وساكني بلادها.
والأبقار المسكينة في ذهول وغفلة عن قربات هذا الإنسان الضال وتقديسه إياها.
فهي تبول عليه وتنطحه ولا تنفعه.
وهكذا كان الإنسان فريسة للأوهام وعبادة الأحجار والأبقار والجعلان والقطط والحيات وغيرها حين لم يكن مؤمناً بنفسه وطيد الثقة بها، فاهماً أن جميع ما في الأرض مخلوق له ومسخر لمنفعته.
ولست أدري من منا الذي أوغل في لفائف الصوفية وشرودها أنا أم صديقي زكي؟ إن صوفيتي مادية تؤمن بالعلم وتعترف بدولة الأجسام ولا تشرد وراء الأوهام، فلا تتخيل أن الإنسان العظيم الخصيم المبين الفكر المبتكر مخلوق ليكون طعاماً للبراغيث والبعوض والقمل.
وإنما تعلم أن هذه الحشرات مخلوقة لحمل الإنسان على تنظيف جسده وثيابه ومسكنه وبيئته من القاذورات والعرق والأتربة والمناقع الراكدة الآسنة.
فلولاها لأصابه الكسل عن كثير من أعمال النظافة والتطهير والتجميل وقد كانت هذه الحشرات تعيش في الأصل على النبات والحيوان، ثم لصقت بجسم الإنسان وتطورت بلصوقها به.
فلا يصح أن يقال إن الإنسان خلق لأجلها.
وصوفيتي لا تخيل إلي (أن سر الوجود يستعلن في الجرثومة الضئيلة كما يستعلن في الإنسان والقرد والأفعى!) كلا.
هناك فروق هائلة بين استعلان قدرة الله في الجرثومة ذات الخلية الواحدة ذات الوظيفة الواحدة، وبين استعلانها في الإنسان ذي الخلايا التي لا عدد لأنواعها وأشكالها وصورها وأوضاعها ووظائفها منفردة وموضوعة في مجاميع ومنتجة حياة كلية.
هو كالفرق بين جزئ صغير في قالب حجر موضوع في عمارة من ناطحات السحاب، وبين العمارة نفسها بما فيها من زخرف وزينة.
وفي هذا التشبيه تجاوز كبير وقياس مع الفارق الهائل.
نعم إن الجرثومة شئ ثمين عظيم كأول خطوة في سبيل الحياة.
ولكنها لن تبلغ مبلغ الإنسان الذي هو آخر خطوات الحياة وحلقتها النهائية كما تقول نظرية النشوء وما أعتقد أن خالقاً عظيما حكيما يخلق كرة أرضية هائلة، ويجعل فيها رواسي من فوقها، ويجري فيها بحارها وأنهارها، ويقدر فيها أقواتها ليعيش عليها عالم من البراغيث أو النمال أو الثعابين أو الأبقار أو السباع عيشة أبدية بدون خليفة فائق عليها يستطيع أن يضع الحمل بجوار الذئب، والأسد بجوار الغزال، وكل عدو بجوار عدوه كما هو الحال في حدائق الحيوان.
إن الحياة حينئذ تكون عبثاً وفيضاً لا يتلقاه أحد يعي ويفكر ويعمل في الأرض عملاً جيداً وإن الصوفية التي تقول بهذا ما هي إلا شرود وراء الأوهام وعدم الإدراك لغايات الحياة والتمييز بين آفاقها إنها صوفية كصوفية أبي العلاء المعري المريض شاذ الطبيعة الذي يقول: تسريح كفك برغوثاً ظفرت به ...
أبر من درهم تعطيه محتاجا! كلاهما يتوقى، والحياة له ...
عزيزة ويروم العيش مهتاجا ولنتصور الناس جميعاً على مذهب أبي العلاء وبعض متصوفة الهند.
لا يأكلون اللحوم والألبان ولا العسل ولا سائر منافع الحيوان.
ويتركون البراغيث والقمل والضفادع والعقارب والثعابين وسائر الحشرات، والسباع والبهائم حرة طليقة في الحياة ما دامت الأرض ميراثاً مشتركاً بيننا وبينهم، وما دامت جميعها مقصودة بالحياة، وما دام (سر الوجود) قد استعلن فيها استعلانه في الإنسان.
فماذا تكون النتيجة؟ هي فناء الإنسان بفناء أقواته التي تأكلها قطعان الأنعام والسباع وعراجل الحمير وأسراب الطير والحشرات وغيرها.
هذا إن عاشت وعمرت دهراً، فإن فنيت فالأرض خراب.
تساءل صديقي على لسان أحد حشراته: من ذا كان يستمتع بكائنات الله في الأرض قبل ظهور الإنسان؟ وأجيب: كان يستمتع بعضها ببعض ويعيش بعضها على بعض كما هو الحال الآن.
فالسباع تأكل الأنعام، والأنعام تأكل النبات، والحشرات يعيش بعضها على النبات وبعضها على الحيوان.
ولكن ينبغي أن نعلم ما يقوله العلم من أن الحياة الحيوانية على الأرض لم تكن غزيرة ولا كثيرة الأنواع قبل عصر ظهور الإنسان.
نظراً لقسوة عوامل الطبيعة من الأمطار والثلوج والبراكين والزلازل التي لم تكن تسمح بحياة كائن ضعيف؛ فلما استقرت القشرة الأرضية قليلاً وهدأت عوامل الغليان والتشقق، وصارت الأرض صالحة للحياة، خلق الله فيها الحيوانات الضخمة الزاحفة، ثم انقرضت بفعل الزلازل والفيضانات واختلافات الطقس.
وهكذا الأرض مرت بأدوار وراء أدوار حتى صلحت لحياة هذه الأنواع التي نراها تعمر الأرض.
وكان كل هذا تمهيداً لإخراج ذلك النوع الذي صار خليفة الأرض وفاتح إغلاقها ومخرج أسرارها.
وفترات التمهيد لهذه الحياة الصالحة المعمرة لا يصح أن يعترض عليها معترض بأنها ضاعت هباء.
فإن أيام الله ليست كأيامنا تقاس بالسنين الشمسية والقمرية، بل هي دهور بالنسبة لنا، ولكنها لحظات بالنسبة للذي خلق الأزمان ويدير الأفلاك دورات هو أعلم بمقدارها.
والله أعلم متى ينضج الثمار! زعمت فراشة الأستاذ أن علم الإنسان وأخلاقه هما سر تبجحه ودعواه الامتياز، مع أن علمه يكمل النقص الذي في غريزته وفطرته، ومع أن أخلاقه في مثلها الأعلى الذي تحلم به هي دون ما يسود من ممالك النمل والنحل من أخلاق.
وأنا أنكر إنكاراً باتاً أن يكون في غرائز الإنسان نقص يحتاج إلى تكميل، وأن يكون العلم هو هذا المكمل.
وإنما أرى أن غرائزه التي تضمن له حياة آلية رتيبة كحياة أنواع الحيوان، غرائز كاملة يستطيع أن يعيش بها مفتتح حياته وتكفيه.
فإذا نظرنا للعلم على أنه نتيجة لغريزة حب الاستطلاع فهو إذا أثر من آثار هذه الغريزة، ولكن لا يقال إنه تكميل لها إذ لا نقص فيها.
فالعلم نتيجة لهذه الغريزة كما أن الولد نتيجة للغريزة الجنسية.
وحب الاستطلاع غريزة مشتركة في جميع أنواع الحيوان، ولكنها فيما عدا الإنسان محدودة بحدود ضرورات حياة الأنواع وفي الإنسان لا حد لها.
ولذلك أنتجت للإنسان علماً زائداً عما يحتاجه وعما يمكن أن يدركه أي حيوان.
وهذه القابلية الطبيعية الدائمة في هذه الغريزة هي التي أنتجت نمو علم الإنسان وفكره ونمو الحياة به دائماً.
والإنسان الفطري المحدود الذكاء يكاد يعيش بالغريزة وحدها فهو لا ينوع ما ورثه من الحياة ولا يزيد عليه ولا ينقص منه.
وهو مع هذا يحيا وينمو وسط الأهوال.
فغرائز الإنسان التي تكفل له حياة كحياة الحيوان غرائز كاملة يحيا بها حياته الضرورية أما العلم فيفتح له أبواب حياة خاصة منفصلة عن حياة الطبيعة.
فالقول بأن علم الإنسان يكمل النقص الذي في غريزته وفطرته قول غير مفهوم.
وأما الأخلاق الإنسانية الحالية فلم أدافع عنها بل نعيت عليها واعترفت بفسادها وقصورها إلا في قليل من الأمم وهي التي أدركت أن للحياة الإنسانية قوانين تشبه قوانين الطبيعة في صرامة عقابها لمن يخالفها.
واعتقادي أن الدولة كائن عضوي يسري عليه ما يسري على أي جسم ذي أعضاء من وحدة المنفعة والضر.
الدولة كالجسم الواحد لا يصح أن يترك فيه شئ فاسد ولو كان ظفراً وإلا فسد كله.
ولا يليق أن يكون فيه عضو مريض وآخر صحيح بل يجب أن يصح كله.
والقلب في الجسم يقذف الدم إلى كل خلية لتحيا، وكذلك يجب أن يقذف قلب الدولة إلى كل فرد فيها غذاء الجسم والفكر والروح ليحيا الحياة الكاملة والفكر في الجسم الواحد حارس يقظ أمين يتلقى الرغبات ويصدر الأوامر، وكذلك يجب أن يكون قادة الأمم والمسيطرون عليها.
فأنا لم أشد بأخلاق الإنسان الحالية وإنما أشد بعلومه وفتوحه في مجاهل الكون، وأريد من وراء هذه الإشادة يقظة النفس المادية الدائرة مع الحديد البليد القاسي في غير وعي وإحساس إلى آثارها وتفردها بين الكائنات حتى تعلم وضعها الصحيح.
والواقع أن أخلاق الإنسان لم تتطور كما تطور علمه وفكره، بل لا يزال يعيش بمواريث التاريخ السيئة المغلوطة، ولم يجد له زعماء انقلاب في روحياته، كما وجد زعماء انقلاب في مادياته.
فالانقلاب الجسمي والآلي والصناعي في حياة الإنسان لم يصحبه انقلاب نفسي يجعله يصفي تركات الماضي في الأخلاق ويتحرر من مواريث التاريخ السيئة ويقيم حضارة روحية تناسب هذه الحضارة المادية التي أقامها في مدى السنوات الخمسين الأخيرة. ولو آمن الإنسان بالإنسان وأدرك مدى الرحلة التي رحلها في الحياة والخطوات التي سارها في التاريخ ومركزه بين الكائنات كخليفة في الأرض خلف الله على جميع مقدراتها، وصنع فيها موجودات فاقت نماذج الحيوان في الدقة والاحتمال والسرعة والخدمة آلاف الأضعاف، وعرف أن الله ما كان ليعطيه هذه القدرة العظيمة على الصنع والإنشاء والافتنان إلا وهو به حَفيٌ، وعليه متفضل، وله مكرم، وإياه مسدود وموفق، ولتطوراته مرتقب ومنتظر بلوغه رشده؛ لو آمن بهذا كله لأسرع إلى إقامة الحياة على ما أقام الله الطبيعة عليه من العدل الموزون والرحمة السابغة والتوزيع الكريم، فإذا لم يذهب الإنسان إلى هذا طائعاً مختاراً كما فعلت أمم الشمال في أوربا، فسوف يذهب إليه مكرها بالحديد والنار في يوم أحسبه قريباً.
ملء يدي الاثنتين نصوص من القرآن تثبت أن جميع ما في الأرض خلقه الله للإنسان وخوله إياه واستخلفه عليه وجعله متاعاً وتذكرة له، ولكني آثرت أن أقدم حججاً من الفكر الطليق والنظر الحر والعلم العصري حتى لا يقول قائل من المنكرين المفتونين: أساطير الأولين.
عبد المنعم خلاف