عقلية أصحاب السفينة
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
عقلية أصحاب السفينةكيف تُبنَى المجتمعات؟ وكيف تسقط المجتمعات؟
سؤالٌ شغَل عقلَ المفكِّرين على مدار العصور والدهور، وطُرِحت فيه النظريات والرؤى المختلفة،ويعزون تخلُّف الأمم وسقوطها إلى افتقادها للتفكير السليم المبنِيِّ على عقيدتها، أو المنبثق عنها، ولا ريبَ أن الأمةَ ليست على الحال المطلوبة فكرًا وثقافةً.
فنحتاج أن نعرض بعض أخطاء التفكير التي قد تؤدِّي إلى سقوطِ المجتمع؛ من خلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نعمل على معالجتها.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَثَلُ القائم في حدود الله والواقعِ فيها كمَثَل قومٍ استَهَموا على سفينة، فصار بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقَوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا! فإذا تركوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيدِيهم نجَوا ونجَوا جميعًا))؛ رواه البخاري.
أشار هذا الحديث إلى عدة أخطاء في التفكير مما يؤدي إلى سقوط المجتمع:
1- التفكير غير الواقعي: هو أن يعيش الإنسان على هامش الزمان، فيفكر وينفذ أمورًا تتنافى مع طبيعة الزمان والمكان، تأمل: ((لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقًا...))، لكن هذا ينافي طبيعة المكان، كأن أصحابنا لا يدركون طبيعة المكان الذي يسيرون فيه!
يقول د.
عبدالكريم بكار:
قد أكون أنا وقد تكون أنت مِن الذين يعيشون على هامش العصر، أو على أبوابه، أو داخل ساحاته، دون أن يَلِجُوا إلى قاعاته، ودون أن يدركوا طبيعة تحدِّياته وعطاءاته، ولذا فإن مِن المهم أن نستبين صفات الذين يعيشون خارج العصر:
أولًا: يشتركُ الذين يعيشون خارجَ العصر في أن فهمَهم للواقع ضعيفٌ، إنهم قليلو القراءةِ، وضعيفو الممارسة؛ ولذا فإنهم يستسلمون بسهولةٍ للأخيلة والأوهام، ويقَعُون في الأقيسة الفاسدة، ويُعلِّقون آمالًا كبيرة على أشياء صغيرة، هناك أشخاصٌ كثيرون يغلبُ عليهم حب الخير، يظنون أنه يمكن للتاريخ أن يُعِيد نفسه، ولذا فإنهم يعتقدون أن المسلمين في أي بلد إذا بذَلوا جهدهم في الدعوة والإصلاح، والتربية والتوجيه، فإنه يُمكِن أن يُمكَّن في ذلك البلد خلال ثلاثَ عشرةَ سنةً؛ كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث شرع في تشييد الكِيان الإسلاميِّ المستقل في المدينة بعد قيامه بالدعوة ثلاثَ عشرةَ سنةً في مكة المكرمة!
لا يستطيع الإنسان أن يدركه زمانه ما لم يدرك ذاته وصفاته ونقاط قوته ونقاط ضعفه، وأن يقبل ذلك ويطوره.
2- التفكير المبسط: إن قلة المعرفة ومحدودية الخبرات تجعلُ التصوُّرات مبسطة إلى حدِّ الترهل، وهناك مِن القضايا ما يعتبر تبسيطها خيانةً وهلاكًا للمجتمع!
تأمَّلْ في قولهم: ((خرقنا في نصيبنا خرقًا))، خرقًا نكرة للتحقير، واستصغار أثر وشأن ذلك الخرق؛ ليتحوَّلوا مِن أصغر ثقب إلى أكبر قبرٍ، بسبب ذلك التفكير المبسط!
لقد نجح صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء الأمور قدرَها وعدم استصغارها، تأمل قول أبي بكر عن مانعي الزكاة: "والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله لقاتلتُهم عليه"، أما في عصورنا وفي عقولنا فقد نرى تبسيطًا واستصغارًا لأمور عظَّمها المولى تعالى؛ مثل استصغار الذنوب والمعاصي وآثارها، أو استصغار شأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واستصغار مخالفة العلماء والطعن فيهم!
إن نجاة الأمم والمجتمعات مَرهونٌ بقدرتها على رؤية عظائم الأمور، بل والسعي إلى تحصيلها.
3- التفكير العَجول: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلا في أَمْرِ الآخِرَةِ)، التسرع في التفكير يظهر جليًّا في قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصف أحوالهم، وفي رواية: ((فأخذ فأسًا فجعل ينقر أسفلَ السفينة))، تأمَّل التعجُّل دون المشورة ولا الأناة، كم فِعل مُتعجِّل شقِيتْ به أفراد! كم مِن فعل متعجل غرقت به سفينة مجتمع ولم ترسُ إلا في أعماقه!
سمات صاحب التفكير العجول:
♦ صاحب التفكير العجول لا يناقش الكلام الذي يسمعه بعقلانية، بل تغلب عليه العاطفة.
♦ صاحب التفكير العجول لا يسمع ما يقال حقيقةً، لكنه يسمع ما يحب أن يسمعه؛ لذا فهو دائم التأويل.
♦ لا ينتبه صاحب التفكير العجول إلى الرسائل غير اللفظية التي يرسلها المتكلِّم من تعبير الوجه وحركه الرأس.
♦ صاحب التفكير العجول حينما يقع في مشكلة لا يفكر في نوعية المواجهة، ولا في البدائل الممكنة؛ حيث لا يوجد عنده وقتٌ كافٍ لذلك؛ لذا يظل مرتبكًا.
♦ صاحب التفكير العجول رجلٌ عملي لا يعطي التنظير وقتًا، يغلب عليه حب الحركة، تغلب عليه النمطية والقَوْلَبة.
وفي زماننا هذا صار كل شيء معقدًا، وصار اتخاذ القرار يحتاج إلى كثيرٍ من الاحتياط والحذر.
4- التفكير الانتقائي:
حينما لا يرى الإنسان إلا نصف الأدلة، حينما لا يسمع الإنسان إلا ممَّن يؤيِّده والأعظم أنه ويخادع نفسه بالشورى التي لم تخرج على أن تكون شورى المرأة في حقيقتها، تأمَّل قولهم: ((لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ مَن فوقنا))، يخاطبون بعضهم، هي شورى نعم، لكنها لا تمثل مجتمع السفينة، بل تمثل مَن يوافق أهواءهم!
نعم يهلِكُ المجتمع إذا ضاع بين أبنائه الحوارُ والتقارب، وصار لا يسمع كل واحد إلا لمن يوافق هواه، وإنما ينشأ التفكير الانتقائي من ضعف أمانة صاحبه، كما ينشأ بسبب سيطرة الأهواء والمصالح الذاتية، إن الواجب الشرعي والأخلاقي هو إدراك الصورة على ما هي عليه، ثم التعبير عنها على نحوٍ منصف، وإلا كانت الأعمال لا تزيد عن كونِها تشويهًا للواقع.
5- عقلية الأنا:
مَن يعيش بحثًا عن الربح تحت أي ثمن، وعن النفع تحت أي راية، ومع أي ضرر، المهم عنده نفسي نفسي!
تأمَّل في الحديث: ((فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء)).
لا يرى إلا نفسه في المجتمع، وإن هلكت السفينة وإن غرق المجتمع، لا بد لي من ماء، لا بد لي من ماء!
يهلِك المجتمع إذا لم يرعَ أبناؤه واجباتِهم كما يرعون حقوقهم!
لهذه يعالج القرآن العقول، ويُحوِّلهم من الفردية إلى الجماعية، ويكفيك أن تسمع في الصلاة: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، أصلِّي وحدي؛ حيث لا يراني أحد، نعم قل: اهدِنا، بالجمع؛ لتعلم أن لست وحدك، وتبني عقلية الأمة.
إن بِناء المجتمعات إنما يقوم أساسًا على عقول أبنائها، وكلما زادت قيمة الفِكْر السليم في مجتمع ما، وزاد مَن يَسعَون إلى تصحيح أفكارهم - كان المجتمع مُتقدِّمًا عن غيره، وإذا ما نظرنا إلى شريعتنا السَّمحة سنجد أن الله عز وجل قد حثَّ الناسَ على التفكُّر في كتابه العزيز، كما حثَّ كذلك الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابَه على التفكر والتدبر، وترك لنا سُنَّتَه التي تدعونا إلى ذلك.