أرشيف المقالات

العز والذل

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) . قالت السادة الصوفية إن الإنسان مجمع الحقائق ونسخة صغيرة تمثل العالم الكبير، فروحه من عالم الملكوت الأعلى، وجسمه من عالم الملك الأسفل، وقد خُلق في أحسن تقويم، فكان سيدًا لهذا العالم العظيم، وجعله الله في أرضه خليفة، وكفاك بها منقبة شريفة، استعد بها لتسخير الحيوان لخدمته، وجعل قوى الطبيعة تحت مشيئته بحيث يتصرف بجميع ما على وجه البر، ولا يتعاصى عليه شيء مما في قاع البحر، بل بلغت به قدرته أن طار في الهواء، واستنزل البرق من السماء: وتزعم أنك جرم صغير ...
وفيك انطوى العالم الأكبر إذا رُبي الإنسان على مبدأ كرامة النفس التي منحها إياه مُبدِعه وبارئه تظهر فيه استعداداته وتبرز عنها آثارها علمًا وعملاً؛ حتى يفوز بالسيادة والسلطان.
وتتم له الخلافة الإلهية في الأكوان.
ولكن اعترض الإنسان في سبيل هذه التربية النافعة التي تهديه إليها الفطرة القويمة استبداد الذين أداروا دولاب مجتمعه بسياسة تغلب العصبية.
أو باسم السلطة الروحية الدينية، ولا استغناء له عن هاتين السلطتين؛ لأنهما من لوازم الاجتماع المدني وهو مدني بالطبع. ولقد كان من رحمة الله تعالى بهذا النوع الشريف أن منحه الديانة الإسلامية، التي محت الامتيازات الجنسية، وقيدت بشريعتها السلطتين السياسية والروحية، (كما أوضحنا ذلك من قبل) ووضعت أصل المساواة بين الناس، حتى إن الخليفة الثاني لم يبالِ في سبيل المساواة بردة جبلة بن الأيهم ملك بني غسان وكان قد أسلم هو وقومه ولطم أعرابيًّا في المصاف فأراد عمر أن يقتص منه فأبى وفر مرتدًا إلى النصرانية، وقد علمت ما كان من مساواته بين الإمام علي وبعض آحاد اليهود، فأي عزة لمن يدخل في هذا الدين أعلى من مساواته بالأئمة والملوك؟ وأية نهضة وسيادة تكون أرقى من سيادة أمة يرى كل صعلوك من أهلها أنه يزاحم بالمناكب أصحاب العروش والمواكب؟ فإن قيل: إن هذا إذلال للملوك وإهانة للأئمة، نقول: نعم، إنه كذلك في شريعة الاستبداد وقانون الاستعباد أما في شريعة الحق وقانون العدل فإنه لا ذل ولا هوان في المساواة وإنما الذل في النقصان ولا عز ولا كرامة في الاستعلاء وإنما هو بغي وطغيان. عزة النفس تتبعها الشجاعة والمنعة وعلو الهمة وكلها من خلال الإيمان، ألم تر أن الإمام العادل عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص حين استجازه في انتفاع سلب الجالنوس من زهرة بن حوبة وكان زهرة قد قتله وأخذ سلبه يوم القادسية فانتزعه منه سعد، (تعمد إلي مثل زهرة وقد صَلَى بما صَلَى به [1] وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فُوقه [2] وتفسد قلبه) ، وأمضى له عمر سلبه.
وقد بيَّن الحكيم الإسلامي ابن خلدون أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم، ذاهبة بالمنعة منهم، ومما قال في هذا: (وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يُكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء (لمرباه) على المخافة والانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه؛ ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأسًا ممن تأخذه الأحكام ونجد أيضًا الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرًا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه.
وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجلس الوقار والهيبة فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس.
ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسًا؛ لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما يُتلى عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي، إنما هي أحكام الدين وآدابه الملقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم، قال عمر رضي الله عنه: (مَن لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله) ، حرصًا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينًا بأن الشارع أعلم بمصالح العباد.
ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام الوازعة ثم صار الشرع علمًا وصناعةً يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم، فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة البأس؛ لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشريعة فغير مفسدة؛ لأن الوازع فيها ذاتي)
اهـ. أقول: وقد اهتدى إلى هذا أهل الغرب فتلافوا بقدر استطاعتهم ضرر السيطرة والحكم وأقاموا جدار التربية والتعليم على أساس العزة والكرامة والحرية والمساواة وإذا كان هذا هو أثر التأديب والحكم بطبيعته أي وإنْ كان عادلاً فما بالك بمَن يحكمون بالظلم والاستبداد؟ ! لعمرك، إن تأخر الأمم على نسبة الظلم فيها شدةً وضعفًا.
ثم إن الديانة الإسلامية مع أن الوازع فيها ذاتي لا يذل النفس ولا يُذهب بالبأس، وقد جعلت عزة النفس وكرامتها من سجايا الدين بشهادة {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ومن أحكام شريعتها أنه لا يجب على مَن فقد ثوبًا يستر به عورته في مصلاه أن يستوهبه أو يستعيره لما في ذلك من المذلة للناس، بل يصلي عاريًا.
وليس وراء هذا غاية في حفظ كرامة النفس وعزتها. بهذا ساد الإسلام واستخلف أهله في الأرض، وبدلوا من خوفهم أمنًا، ومن بعد فقرهم وضعفهم غنًى وسلطانًا.
وبهذا كان المجتمع الإسلامي لا يحتمل الضيم، فهاج تلك الهيجة الشؤمى على الخليفة الثالث انفعالاً من ظلم عماله وسوء أعمالهم دون أعماله ولم تفتأ قدر الهيجان إلا بعد طل دم تأثرته سيوف مسلولة، ودماء مطلولة، ومن كان يعلم ما خُبئ لهذه الأمة في ضمير الغيب من تحريف التعاليم والانحراف عن الصراط المستقيم؟ انحراف الملوك عن هدي الدين فاستبدوا بالرعية وأذلوها حتى انتكث فتلها، وسحبت مرائرها.
وصارت طعمة لكل طاعم، وبلغت المهانة من الأمة التي قتلت عثمان في القرن الأول - خير القرون - أن صارت تقدس الملوك والأمراء الذين يمتصون دماءها ويهتكون أعراضها ويستلبون أموالها حتى من الجهة الدينية.
وقد بلغ من أمر بعض سلاطين المسلمين لهذا العهد أن أحد المارقين قال: إن حبي للسلطان أشد من حبي لله تعالى! فأمر له السلطان بخمسمائة جنيه جزاءَ هذا التهور، وسرق مصحف من المكتبة السلطانية ثم وجد وأرجع إليها فكتبت إحدى الجرائد أن المصحف قد رُفع إلى الأعتاب السلطانية، فاستكبر ذلك واستنكره بعض رجال الحاشية وأخبر به السلطان طالبًا منه أن ينهى عنه فانتهره وأهانه ... ولا أُسمي هذا السلطان فهو يعرف نفسه ويعرف له هذه الأعمال الألوف من رعيته، ومع ذلك كله ترمي جماهير المسلمين كل مَن ينسب له ولغيره من ملوكهم أدنى تقصير - بالمروق من الدين، ويعدونه عدوًّا للمسلمين، فأي انحراف عن الإسلام أشد من هذا الانحراف؟ ! وحرف بعض رجال الدين التعاليم، وأزاغوا الأمة عن صراطه فطفقوا ينفثون في أرواح المسلمين سم الذل والمهانة باسم الدين حتى أماتوا هممهم ومحوا من ألواح نفوسهم آيات العزة الإيمانية، والشهامة الإسلامية ولولا أولياء الشيطان وخطباء الفتنة لما قدر الملوك بظلمهم على كسر سورة الحمية الإسلامية؛ لأن المسلمين لا يذلون إلا لسلطان؛ ولذلك خلق علماء السوء الأحاديث الموضوعة في تعظيم السلاطين، وإعلاء شأنهم على جميع العالمين.
وسنبين فساد ذلك في وقت آخر. ولا شبهة لوعاظ السوء على أن الذل والمهانة من الدين إلا إدخال ذلك في مفهوم التواضع جهلاً وغباوةً وخداع الناس بحكايات عن بعض المتصوفة الذين لا يُحتَج بأقوالهم، ولا يُقتدَى بأعمالهم، وهذا من أعظم المفاسد التي دخلت على الأمة باسم التصوف وأهل التصوف الحقيقيون براء منها. امتازت طائفة الرفاعية على جميع فرق المتصوفة باللفظ في هذا وزعموا أن شيخ الطائفة الكبير أحمد بن الرفاعي قد يسبق جميع الأولياء إلى المقامات العليا بالعدل والانكسار وأنه طرق جميع الأبواب الموصلة إلى الله تعالى فوجدها مزدحمة بمريدي الحق وأهل قربه إلا باب الذل والانكسار فإنه وجده خاليًا فسبق القوم منه (وإذا صح هذا فما دخلوه إلا لكونه غير موصل إلى الله تعالى فالنتيجة باطلة) وينقلون عنه من ذلك أنه كان يتمرغ بتراب المقابر والطرق، وأنه كان ينام على الطريق ويُسجَّى بنحو حصير ليطأ عليه الناس وأنه كان يؤاكل كل الكلاب الجربَى ويسلم عليهم وعلى الخنازير ويحييهم وأنه كان يقبِّل الأرض والأحذية لأهل الجاه والمظاهر ويقبل الشتم والإهانة والرمي بالإلحاد من غير أدنى انفعال وتأثر بل مع التصديق ويزعمون أن هذا من مقامات الدين {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وإذا صح هذا كله فأحسن ما يقال فيه إنه عن جذب خرج به صاحبه عن التكليف فلا يُلتفت إلى عمله ويحذر الناس منه؛ لأن الدين والعقل والفطرة ترشد إلى السعادة البشرية ولا تنال إلا بعزة النفس وكرامتها ما لم ينتهِ إلى الكبر وفي الحديث: (غمط الحق واحتقار الناس) ، فكرم نفسك ما استطعت واجتنب هذين الأمرين، وأما التواضع فهو وسط بين الكبر الذي هو إفراط في العزة وبين الذل الذي هو تفريط فيها وسنتكلم على الكبر والتواضع في مقالة مخصوصة إن شاء الله تعالى. هذا، وإن بعض المؤرخين قد أثنى على الشيخ أحمد الرفاعي الكبير بالصلاح والتفقه وأرى من حسن الظن أن يؤخذ بقول هؤلاء ويرفض ما في كتب المناقب التي من شأنها تؤلف للإغراب والإعجاب؛ فإن شذوذ هؤلاء القوم هو الذي جعل الناس يتهمونهم بالخروج عن الشريعة [3] وقد أقمت الأدلة الكثيرة في كتاب (الحكمة الشرعية) ، على أن هذه الكتب التي نشرها الرفاعية في هذه السنين وفيها من التلاعب بالدين العجب العجاب - كلها مزورة لا تصح نسبتها للمتقدمين، على أنه يحتمل أن يكون ما نُسب لابن الرفاعي من ذلك كان في بدايته ثم رجع عنه وحسنت حاله وإن لم يقل ذلك الذين ينالون فيه بالإطراء حتى كادوا يفضلونه على الإنسان بل حتى إن أشهر شيوخهم يجعل حضرة الذكر أدوارًا - دور يذكر فيه الله ودور يذكر فيه الرفاعي - وهكذا شأن الجاهل يريد المدح فيذم، ويحاول النفع فيضر، وغرضنا من ذكر هذه الكتب أن لا يغتر بها الجهلاء الذين يتوهمون أن جميع ما في الكتب صحيح والله الهادي إلى سواء السبيل. (1) أي في الحرب يقال: صَلَى النار وبالنار: إذا قاسى حرها واحترق بها وصلى بالأمر: قاسى شدته. (2) الفوق بضم الفاء: مشق رأس السهم، حيث يقع الوتر ويأتي بمعنى النصيب. (3) راجع الصفحة 315 من كتاب لطائف المنن للشعراني المطبوع بالمطبعة الأميرية سنة 1288.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١