أرشيف المقالات

قيمة المؤمن تكمن في قلبه

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
قيمة المؤمن تكمن في قلبه
 
ليس أَرْوَحَ للمرءِ ولا أَطْرَدَ لهمومِه مِن أنْ يعيشَ سليمَ الصَّدْر؛ فقيمة المؤمن إنما تَكْمُنُ في قَلْبه، وما يَحْمله هذا القلبُ مِن سُمُوٍّ وطُهْر، فهذا مِن أعظم نِعَم الله عليه؛ أنْ يَحْملَ صدرُه قلبًا سليمًا مِن الشحْناء والبغْضاء، نقيًّا مِن الغِلِّ والحسَد، صافيًا مِن الغدْر والخيانة، معافًى مِن الضغينة والحقْد، لا يَطْوي قلبُه إلا المحبَّة والإشفاق على المسلمين، إذا رأى نعمة تَنْساق إلى أحدٍ رَضِي بها، وأحسَّ فضْل الله فيها، وفَقْر عبادِه إليها، وإذا رأى أذًى يَلحق أحدًا مِن خَلْق الله رَثَى لحاله، ودعا الله أنْ يُفَرِّج هَمَّه؛ وذلك لأن الأصل في الصدور أن تكونَ مملوءة بالمحبَّة وإرادةِ الخير للآخرين.
وقد يَنال المؤمنَ مِن أخيه أذًى، وقد يَكْرهه لذلك، أو يُعاديه انتصارًا لنفسه، لكن هذه العوارض لا تستمرُّ في القلب، ولا تتحوَّل إلى حِقْدٍ وضغينة، بل يظهر مِن نفسِه الطيِّبةِ التسامح والعفو[1]، وهذه مِن صفات أهل الجَنَّة - حين يدخلونها - صدُورُهم خالية مِن الأحقاد والأضغان؛ كما قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47].
 
وهذا الخُلُق الجليل والمنْقبَة العظيمة مِن الجوانب الأخلاقيَّة الهامَّة التي يَهْتَمُّ بها الداعي في مخالطته للمدعوين، ويحثُّهم عليه، ويذكِّرهم بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 9، 10].
 
"ذَكَرَ اللهُ في هذا الدعاء نفْي الغلِّ عن القلب، الشامل لقليلِه وكثيرِه، الذي إذا انتَفَى ثبت ضدُّه، وهو المحبَّة والموالاة والنُّصْح"[2].
 
وبالنظر إلى مخالطة الرسول صلى الله عليه وسلم: نجده يَغرسُ مِن خلالها هذه الفضيلة، ويُعايش ما قد يُصاب به المدعوُّ مِن أذًى وضِيق ممَّن حوْله، يكُون سببًا في أن يُضْرمَ في نفسه الكُرْه والجفاء، فيفسد عليه قلبه، ويُلهيه عن معالي الأمور؛ فعن أبي هريرة؛ أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أَصِلُهم ويَقْطعوني، وأُحسِن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحْلُم عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: ((لئن كنتَ كما قلتَ، فكأنَّما تُسِفهم الملَّ[3]، ولا يزال معك مِن اللهِ ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك))[4].
 
"وهذا مشهدٌ شريف جدًّا لِمَن عَرَفَه وذَاقَ حلاوتَه، وهو ألَّا يَشتَغلَ قلبُه وسِرُّه بما ناله مِن الأذى، وطَلَبِ الوصول إلى إدراك ثأرِه، وشفاء نفْسه؛ بل يُفَرِّغ قلبَه مِن ذلك، ويرى أنَّ سلامته وبَرْده وخلوَّه منه أنفعُ له، وألذُّ وأطْيَب وأعوَنُ على مصالحه؛ فإنَّ القلب إذا اشتَغَل بشيءٍ فاتَهُ ما هو أهمُّ عنده وخير له منه، فيكُون بذلك مغبونًا، والرشيد لا يرضَى بذلك، ويرى أنه مِن تصرُّفات السفيه؛ فأين سلامة القلب مِن امتلائه بالغلِّ والوساوسِ، وإعمالِ الفكر في إدراك الانتقام؟!"[5].
 
فكم يَعْلو قَدْرُ الإنسان، وتَشْرُف منزلتُه حينما يَصِل إلى هذه المنقبة العظيمة، التي وَصَل إليها صحابتُه صلى الله عليه وسلم، ولو تأمَّلنا ما ذكره لهم صلى الله عليه وسلم مِن أنه سيَطْلُع عليهم رجُل مِن أهلِ الجَنَّة، قالها ثلاثًا، فلمَّا ذَهَبَ إليه ابنُ عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وباتَ عنده ثلاثَ ليالٍ، فلم يَرَهُ فعَلَ كبيرَ عملٍ، فتعجَّب عبد الله رضي الله عنه مِن حاله وسأله: ما الذي بلغ بك ما قال صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: (ما هو إلَّا ما رأيْتَ، غيْر أنِّي لا أجِدُ فِي نفْسِي لأحدٍ مِنَ المسلمين غِشًّا، ولا أحسُد أحدًا على خيْرٍ أعْطاهُ اللهُ إيَّاه)، فقال عبد الله: (هذه التي بلغتْ بِك، وهي التي لا نُطِيقُ)[6].
 
وسلامة الصدْر فضيلة تجعل المدعوَّ لا يَرْبط بين حظِّه مِن الحياة ومشاعِرِه مع الناس، ذلك أنَّه ربَّما فَشِل حيث نجح غيرُه، وربما تخلَّفَ حيث نجَح الآخرون، فمِن الدَّركات القبيحة أنْ تلتوي الأَثَرَة[7] بالمرء، فتجعله يتمنَّى الخسارَ لكلِّ إنسان، لا لشيءٍ إلا لأنه هو لم يَنْجَحْ، فتتولَّد هذه الدَّركة: اقتران الحسَد بالطَّمَع، حتى يتمنَّى الحاسد انتقالَ النعمة مِن المحسود إليه، وقد يَتَضمَّن هذا التمنِّي القبيحُ شعورًا نحو الآخرين بالكراهة والحِقْد، وهذا يمثِّل انحرافًا خُلُقِيًّا أنانيًّا يُفْسِد القلب، ويعمي البصيرة، ويجعلُ الحاسد كالهائم يمشي على غير هدًى[8].
 
فحَرِيٌّ بالدُّعاة اليوم في دعوتهم اعتبارُ الحسَدِ والحِقْد والغِلِّ مِن موضوعات الدَّعوة التي يجبُ التأكيد عليها؛ في الخطب، والدروس، والمواعظ، وأنَّ الحسد يُناقض معاني الأخوَّة الإسلاميَّة، التي تقُوم على المحبَّة وإرادة الخير للمتآخين بأخوَّة الإيمان، ويكُون ذلك بتذكيرهم بتحريمه؛ فهو مِن المحرَّمات القلبيَّة التي لا يَفْطن إليها أكثرُ المدعوِّين، ويُرشدهم إلى أهمِّ الأسباب التي تُعِينهم على التحلِّي بسلامة الصدْر، والتي منها: حُسْن الصِّلة بالله تعالى، وحُسْن التعامل مع الآخرين، وإحسان الظنِّ بالمسلمين، والعفْو والصفْح عن الناس، والدُّعاء، وتعاهُد القلبِ، وإصلاحه مِن الآفات المهلِكة[9].



[1] "خُلُق المسلم"؛ محمد الغزالي، ص (92)، و"في البناء الدعوي"؛ أحمد الصويان، ص (95)، و"الأخلاق الإسلامية وأسُسُها"؛ د.
عبد الرحمن الميداني، (1/ 787)، و"الطهر العائلي"؛ د.عبد الرحمن الزنيدي، ص (120).


[2] " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"؛ السعدي، ص (790).


[3] الرماد الحار؛ "النهاية في غريب الأثر"؛ لابن الأثير، ص (359)، مادة (رضف).


[4] سُنن مسلم، كتاب البرِّ والصِّلة والآداب، باب صِلة الرَّحم وتحريم قطيعتها، رقم (2558)، ص (1126).


[5] "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"؛ ابن القَيِّم، (2/ 320).


[6] أحمد في المسند، رقم (12720)، (3/ 166)، وقال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.


[7] الأَثَرَة: بفتح الهمزة والثاء، هي أنْ يَخُصَّ المرءُ نفسَه بشيءٍ دون غيره؛ لسان العرب؛ ابن منظور، (4/ 5)، مادة: (أثر).


[8] "خُلُق المسلم"؛ محمد الغزالي، ص (100)، و"الأخلاق الإسلامية وأُسُسها"؛ د.
عبد الرحمن الميداني، (1/ 796)، (797).


[9] "سلامة الصدر"؛ د.سليمان الحبس؛ مجلة الدراسات الدعوية علمية محكمة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد الأول، محرم 1429 هـ ، ص (39 - 70).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢