تفسير سورة المعارج [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فقد بين ربنا جل جلاله من بين صفات الضعف التي جبل عليها الإنسان أنه خلق مطبوعاً على الهلع والجزع والمنع، إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج:19-21].

ثم استثنى ربنا جل جلاله من هذه الأوصاف القبيحة ناساً اتصفوا بصفات تسع حسنة جميلة، فقال سبحانه: إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:22-23]، فهذه صفتهم الأولى: أنهم مداومون على صلاتهم، لا يخلّون بها ولا يضيعونها، وهم فيها خاشعون، ومداومتهم على الصلاة ليست الصلاة المفروضة وحدها بل حتى النوافل، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، وأخبرنا أن (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)؛ ولذلك كان يحافظ مثلاً على ركعتي الفجر -أي: الرغيبة- لا يتركها في سفر ولا حضر، وكان يحافظ على الوتر لا يتركه في سفر ولا حضر.. إلى غير ذلك من النوافل التي كان يواظب عليها صلوات ربي وسلامه عليه، فهذه هي صفتهم الأولى أنهم على صلاتهم دائمون.

الصفة الثانية: أنهم يعبدون الله بأموالهم: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، فهم يخرجون من أموالهم النصيب المفروض الذي جعله الله عز وجل للفقراء والمساكين، ويعطون هذا المال دون أن يتبعوه بمن ولا أذى، ويعطون هذا المال طيبة بذلك نفوسهم، وهم يثقون بالخلف من الله، كما قال سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، (وما من يوم يصبح إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً! ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً!).

الصفة الثالثة: أنهم يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26]، فهم موقنون بيوم القيامة، ليس عندهم فيه شك ولا ريب، يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن هناك يوماً سيقفون فيه بين يدي الله عز وجل ليحاسبهم على ما قدموا من خير أو شر.

الصفة الرابعة: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج:27]، فهؤلاء الطيبون كانوا من الله عز وجل خائفين، فهم داخلون فيمن قال الله فيهم: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، وفي من قال الله فيهم: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].

ثم قال: إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:28]، عذاب ربنا جل جلاله ينبغي أن يكون الكل خائفاً منه، لا يأمنه، وقد كان هذا حال الصالحين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الصفة الخامسة: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:29-30]، أي: يحفظون فروجهم من كل ما حرم الله عز وجل، ولا يستعملون هذه الشهوة إلا في ما أباحه الله من الأزواج وملك اليمين، كما قال الله: إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:30]، فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ[المعارج:31]، أي: فمن طلب قضاء الشهوة في غير هذين المصرفين، فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ [المعارج:31]، أي: المعتدون المجاوزون لحدود الله عز وجل.

الصفة السادسة، والسابعة: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المعارج:32]، أي: يرعون الأمانة سواء التي بينهم وبين الله عز وجل من العبادات التي ائتمنهم الله عز وجل عليها، أو التي بينهم وبين خلق الله عز وجل، وهم في ذلك ملتزمون قول ربنا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا[النساء:58]، وكذلك العهود يفون بها ولا يضيعونها، وهذا في مقابل صفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ).

بعد أن ذكر الله عز وجل صفات للمؤمنين، وهي: عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]، فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26]، مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج:27]، لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المعارج:29]، لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المعارج:32]، بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [المعارج:33]، عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:34]، فمن اتصف بهذه الصفات التسع، قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35]، غرس الله كرامتهم بيده، فلم تر عين ولم تسمع أذن، هم في جنات مكرمون بالنظر إلى وجه الله العظيم جل جلاله، هم في جنات مكرمون تتلقاهم الملائكة بالتحايا والسلام والإكرام، كما قال الله: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، وقال: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، وقال: لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48].

هم مكرمون باعتبار أن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]، هم مكرمون باعتبار أنهم: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً [الواقعة:25-26]، هم مكرمون باعتبار أنهم يجابون إلى كل ما طلبوا، فلا يطلبون في الجنة شيئاً قط، فيقال لهم: لا، أو يقال لهم: لا يوجد؛ بل، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ[الزخرف:71]، كل ما تشتهيه في الجنة تجاب إليه، يؤتى به إليك، ولا يقال لك: هو موجود في مكان كذا، أو اذهب إليه في مكان كذا، بل كما قال ربنا جل جلاله: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:23]، وقال: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54]، فالشيء الذي تشتهيه، والذي تريده قريب منك.

ثم كل من في الجنة يرحب بك ويثني عليك ويذكرك بالخير، وفي الجنة لا يعتريك فيها شيء من المنغصات، فليس في الجنة مرض، وليس في الجنة هرم، وليس في الجنة نوم، وليس في الجنة هم ولا غم ولا نصب ولا وصب، وليس في الجنة شيء مما يعكر، لا بصاق ولا مخاط ولا دمع ولا عرق ولا بول ولا غائظ.. ولا غير ذلك مما جعله في هذه الدنيا من الأقذار والأدناس التي تعكر على العبد صفوه.

قال الله عز وجل: (أُوْلَئِكَ) الموصوفون بهذه الصفات التسع، (فِي جَنَّاتٍ) وليست جنة واحدة، وإنما هي جنات، كما قال الله: فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35]، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

الله جل جلاله يعجب نيبه صلى الله عليه وسلم من الكفار، الذين ما كانوا يصلون لله عز وجل ولا يعرفونه ولا كانوا من عذابه مشفقين، ولا كانوا بيوم الدين موقنين، ولا كانوا لفروجهم حافظين، ولا كانوا لأمانتهم راعين، ولا كانوا بشهاداتهم قائمين.

هؤلاء الكفار يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ [المعارج:36]، (مهطعين)، قال الحسن البصري : منطلقين، وقال غيره: مهرولين، كما قال ربنا جل جلاله: فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ [المدثر:49-50]، أو مستنفَرة، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:51]، يعني: هؤلاء الكفار كانوا يهربون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يريدون أن يستمعوا إلى القرآن ولا أن يتأملوا هديه؛ بل لو رأى بعضهم بعضاً وهو يستمع إلى تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم وقد تأثر بها، فإنه يقرعه ويعنفه ويوبخه، ولا ينصرفان حتى يتعاهدا ألا يسمع أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ [المعارج:37]، عزين: جمع عزة، أي: متفرقين مختلفين، ومنه الحديث: ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلق، فقال: ما لي أراكم عزين؟! )، يعني: متفرقين.

وقد كان تفرقهم حسياً ومعنوياً: أما التفرق الحسي: فهم إذا سمعوا القرآن تفرقوا وهربوا، وأما التفرق المعنوي: فإنهم كما قال ربنا جل جلاله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:8-9]، فبعضهم يقول: إن محمداً شاعر، وبعضهم يقول: إن محمداً ساحر، وبعضهم يقول: إن محمداً كاهن، وبعضهم يقول: إن محمداً تتنزل عليه أساطير الأولين، وبعضهم يقول: إنما يعلمه بشر، فهم مختلفون، يخالف بعضهم بعضاً، ويكذب بعضهم قول بعض.

قال الله تعالى: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ [المعارج:38]، يعني: هؤلاء المحادون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، المكذبون لدينه، الصادون عن سبيله، بعد هذا كله يطمع الواحد منهم أن يصل إلى الجنة! كـالعاص بن وائل السهمي الذي قال: لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً [مريم:77]، وكغيره من المشركين الذين كان يقول الواحد منهم: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى[فصلت:50]، أو كما قال الأول: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً [الكهف:36]، كانوا يظنون أن لهم عند الله كرامة ومنزلة وحالاً.

فرد الله عليهم فقال الله عز وجل: كَلاَّ[المعارج:39]، أي: لا سبيل لهم إلى الجنة؛ لأنه سبحانه قال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وكذلك في يوم القيامة إذا قال أهل النار لأهل الجنة: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، كَلاَّ[المعارج:39]، أي: لا سبيل إلى الجنة.

ثم قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [المعارج:39]، فهؤلاء المتكبرون عليهم أن يفكروا في أصل خلقتهم ومبدأ أمرهم، فإنهم كما قال ربنا جل جلاله: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [المرسلات:20]، وكما قال: فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:5-6]، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى [القيامة:37]، يعني: الإنسان الذي يتكبر ويشعر في نفسه بالزهو، عليه أن يتذكر أمره الأول، خرج من مبال أبيه نطفة مذرة، ثم خرج من مبال أمه إلى هذه الدنيا، فخرج من مبال مرتين، فكان أوله نطفة مذرة، وسيكون آخره جيفة قذرة، وهو ما بين هذا وذاك يحمل في جوفه العذرة، كما قال القائل:

يا مظهر الكبر إعجاباً بصورته انظر خلاك فإن النتن تثريب

لو يعلم الناس فيما في بطونهم ما استشعر الكبر شبان ولا شيب

فلذلك ربنا جل جلاله يقول: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [المعارج:39]، وهنا يحيلهم إلى معهود ذهني لا ينبغي أن يغيب عنهم أبداً.

نقف عند هذا الحد، وأسأل الله أن ينفعنا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الفرق بين قراءة: (بشهاداتهم) بالجمع وقراءة: (بشهادتهم) بالإفراد

الصفة الثامنة: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [المعارج:33]، وفي قراءة: والذين هم بشهادتهم قائمون، وفي هاتين القراءتين تفسيران:

التفسير الأول: والذين هم بشهادتهم قائمون، على الإفراد، أي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذه الشهادة هم بها قائمون أي: بحقوقها، لا يضيعونها، فلا يعبدون مع الله غيره، لا يدعون مع الله غيره، لا يحكمون مع الله غيره، عباداتهم كلها لله عز وجل، وهم كذلك متبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يطيعونه فيما أمر، يجتنبون ما نهى عنه وزجر، ويصدقونه فيما أخبر، يطيعون أوامره، يجتنبون نواهيه، يصدقون أخباره صلوات ربي وسلامه عليه، فهم بالشهادة قائمون.

التفسير الثاني: على قراءة الجمع: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [المعارج:33]، فالشهادة المعروفة التي هي: إخبار بحق للغير على الغير، قائمون بها لله، كما قال سبحانه: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ[الطلاق:2]، وكما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ[النساء:135]، بمعنى: أنهم يؤدون الشهادة لا يطلبون من المشهود له أجراً، فلو أنهم شهدوا لفلان بحق فإنهم لا يرجون منه جزاءً ولا شكوراً، وإنما يؤدون الشهادة؛ لأن الله أمرهم بأدائها ونهاهم عن كتمانها، فقال سبحانه: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ[البقرة:283]، وقال سبحانه: وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ [المائدة:106]، فما عندهم كتمان للشهادة، يؤدونها يريدون بها وجه الله عز وجل.

ذم شهادة الزور

المؤمنون يجتنبون شهادة الزور؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر من صفاتهم فقال: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ[الفرقان:72]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الشرك بالله وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور، وما زال يرددها حتى قال الصحابة: ليته سكت )، فهم بشهاداتهم قائمون.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير الشهداء من يؤديها قبل أن يسألها )، أي: من يؤدي الشهادة قبل أن يسألها، وقبل أن تطلب منه.

أنواع الشهادات التي أمر الله ورسوله بها

الشهادات التي أمر بها ربنا في كتابه على أنواع:

منها: الشهادة على البيع، قال الله عز وجل: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ[البقرة:282].

ومنها: الشهادة على الدين: (المداينة) قال الله عز وجل: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ[البقرة:282].

ومنها: الشهادة على الطلاق والرجعة، قال الله عز وجل: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ))[الطلاق: 2]، يعني: أنه مطلوب منك أيها المسلم! إذا قدر الله وطلقت أن تشهد على الطلاق، وإذا راجعت أيضاً تشهد على الرجعة.

وأيضاً من الشهادات التي طلبها ربنا: الشهادة على الحدود: قال سبحانه: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

ومن الشهادات -أيضاً- التي ثبتت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهادة على العبادات: كالأهلة، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأن يستشرفوا هلال رمضان وهلال شوال، ومن رآه فإنه يدلي بشهادته.

الشهود الذين تقبل شهادتهم

الشرع قد دل على قبول شهادة الرجل، والرجلين، والثلاثة، والأربعة، والشاهد مع اليمين، والشاهد مع الامرأتين، ودل كذلك على قبول شهادة الصبيان، ودل على قبول شهادة النساء منفردات، وفي هذا كله تفصيل:

أما شهادة الرجل الواحد: فنجدها في قول ربنا جل جلاله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ [يوسف:26]، وهذا الشاهد يلفت النظر إلى قرينة يعضد بها شهادته، وهي النظر إلى القميص، هل قد من الأمام؟ أم قد من الخلف؟ فهذه شهادة شاهد واحد، وفي السنة: (أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه رأى الهلال؛ فأمر النبي عليه الصلاة والسلام الناس بأن يصوموا)، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام بشهادة ابن عمر وحده.

وأما شهادة الرجلين: فهي في قول الله عز وجل: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ[البقرة:282]، وكذلك في الوصية عند الموت؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ[المائدة:106]، يعني: من المسلمين أو من غير المسلمين.

وكذلك شهادة الرجل والامرأتين: في قوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ[البقرة:282].

وشهادة الثلاثة: في حديث قبيصة بن المخارق رضي الله عنه في قضية الإفلاس، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا في قومه فيقولون: أصابت فلاناً فاقة )، يعني: لو أن إنساناً ادعى أنه مفلس، وأنه ليس عنده مال، وقد وجبت عليه ديون، فهذه الدعوى لا تقبل إلا إذا قام ثلاثة من أصحاب العقول من قومه، فقالوا: بأن فلاناً هذا ليس عنده شيء.

وأما شهادة الأربعة: فهي في سورة النور: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[النور:4].

وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن: كقضية استهلال الصبي، يعني: الطفل إذا خرج من بطن أمه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود إلا ويستهل صارخاً من مس الشيطان ).

فلو أن رجلاً مات مثلاً وترك زوجته حاملاً، فإننا لا نقسم الميراث حتى نتبين هذا الحمل هل هو ذكر أم أنثى؟ لأنه سيختلف قسمة الميراث باختلاف المولود.

ويفرض لهذا المولود نصيب من الميراث إذا ثبت أنه خرج من بطن أمه حياً، وتثبت الحياة بالاستهلال صارخاً، والذي يشهد الصرخة هم النساء؛ لأنه في الغالب لا يوجد في لحظة الولادة رجال.

وكذلك القضايا التي لا يطلعها الرجال، كقضايا البكارة ونحوها، فهذه تقبل فيها شهادة النساء منفردات.

وأيضاً تقبل شهادة الصبيان في الجراحات التي تكون بينهم، وذلك قبل أن يتفرقوا أو يدخل بينهم كبير، فلو أن الصبيان يلعبون فاشتجروا ففقأ أحدهم عين الآخر، أو خلع سنه أو غيره؛ فإن هؤلاء الصبيان ليسوا مؤاخذين شرعاً، ولا تكتب عليهم السيئات، ولكن الضمان على أوليائهم، فإذا فقئت عين فإن العين هذه فيها دية، والدية هذه يدفعها وليه، يعني: كما لو أن الصبي كسر مثلاً زجاج سيارة جاره، نقول: من ناحية السيئات، ما كتبت عليه سيئة، لكن يلزم أبوه أن يضمن هذا الشيء الذي تلف.

وهذه العين التي فقئت، وليس هناك كبير حاضر بينهم، فتقبل شهادة بعضهم على بعض في الجراحات والشجاج التي تكون بينهم، لكن بهذين القيدين: القيد الأول: قبل أن يتفرقوا، والقيد الثاني: قبل أن يدخل بينهم كبير؛ لأنهم لو تفرقوا فهم مظنة التلقين، وكذلك لو دخل بينهم كبير، فالكبير قد يوجه الشهادة على الوجه الذي يريد.

فالله عز وجل أثنى على عباده المؤمنين الطيبين بأنهم بشهادتهم قائمون.

تحليف الشاهد

قضية تحليف الشاهد فيها خلاف؛ فالجمهور على أن الشاهد لا يحلف، وإنما الشاهد إذا كان عدلاً تقبل شهادته من غير يمين، من غير حلف، والأصل في المسلمين العدالة، أي أن المسلمين عدول، كما كتب عمر رضي الله عنه في كتابه المشهور لـأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، لما أتاه آت من العراق فقال لـعمر : يا أمير المؤمنين! أدرك الناس؛ فقد فشت بينهم شهادة الزور، فقضى عمر رضي الله عنه بألا تقبل شهادة شاهد إلا إذا كان عدلاً، بمعنى: أن يشهد أناس من الموثوقين العدول بأن فلاناً هذا عدل، يشهد معنا الجمعة والجماعة، وأنه رجل معروف بالخير وما عهد عنه سوء ولا شر.. ونحو ذلك.

والآن في قضية الحلف لا يكاد مسلم يؤدي شهادة في محكمة إلا ويطلب منه قبل أدائها أن يحلف، فلو ذهبت إلى قاض من القضاة فإنه أول ما يطلب منك أن تضع يدك على كتاب الله، ثم تقول: أقسم بالله العظيم وبكتابه الكريم أن أقول الحق ولا شيئاً غير الحق.

وقد لجأوا لذلك بسبب كثرة الفساد في زماننا، حتى لربما صار الحال عند القضاة أن الأصل في الناس الكذب، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا باليمين.

فالله عز وجل قال: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [المعارج:33].

ثم ختم ربنا جل جلاله تلك الصفات التسع بالعودة إلى الصلاة، فقال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:34].