تفسير سورة النور - الآية [31] الرابع


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فقد تقدم أن تكلمنا أن بعض الصحابيات رضوان الله عليهن كن على الأقل يكشفن وجوههن، والعلماء في مسألة تغطية وجه المرأة بين طرفين: طرف يرى وجوب تغطية الوجه، ولهم في ذلك أدلة من ظواهر الآيات، ومن بعض نصوص السنة، ويقابله طرف آخر يقول: لا، النقاب بدعة تركية، أو ربما يقولون: هذه موروثة من عصر الحريم، ويطلقون في ذلك ألسنتهم، والذي نقول: بل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النساء يغطين وجوههن، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم عن الإحرام في النسك قال: ( لا يلبس المحرم العمائم، ولا السراويلات، ولا القمص.. )، إلى أن قال: ( ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين )، ومعناه: أنه كان معروفاً بأن المرأة تنتقب وتلبس القفازين، فليس هذا الزي وليد هذا العصر، أو أنه بدعة تركية كما يقولون، وإنما كان معروفاً منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: هذه المسألة من مسائل الخلاف بين علمائنا من قديم، وقد ذكرنا قول ابن مسعود و الحسن البصري و محمد بن سيرين و إبراهيم النخعي في قوله تعالى: إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، يعني: ظاهر الثياب، ويقابله قول ابن عباس ، و مجاهد بن جبر ، و عبد الله بن عمر ، و أبي الشعثاء جابر بن يزيد ، و عكرمة ، و إبراهيم النخعي في الرواية الأخرى: بأن (ما ظهر منها) يعني: الوجه والكفين، ولذلك هذه المسألة ينبغي أن تتسع لها صدورنا، ولا ينكر بعضنا على بعض، فالمرأة التي تغطي وجهها قد أخذت بما هو أحوط، وسلكت السبيل الأرشد، وكفت الفتنة عن نفسها وعن غيرها، والمرأة التي لا تغطي وجهها لا يحق لنا أن نصفها بأنها سافرة، وأنها مضيعة، وأنها مفرطة، وإنما لكل وجهة هو موليها، ونسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وكنا بدأنا بذكر الشرط الأول لحجاب المرأة المسلمة: أن يكون ساتراً للبدن كله، إلا ما استثني، والاستثناء يرجع إلى الوجه والكفين فقط، وليس من حق المرأة أن تكشف قدميها، بل يجب عليها أن تستر قدميها، وبعض النساء تقول: الشربات لازم، نقول: ليس بلازم، بل إذا شاءت سترت قدميها بالحذاء الساتر، وإذا شاءت سترت قدميها بالثوب السابغ، يعني بأن يكون الثوب طويلاً حتى يغطي ظهور قدميها.

الشرط الثاني: ألا يكون زينة في نفسه

الشرط الثاني: ألا يكون زينةً في نفسه، يعني ما ينبغي للمرأة أن تلبس تلك الثياب المشكلة الألوان، الفاقعة واللامعة؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، والمرأة منهية عن كل ما يلفت إليها الأنظار، لذلك قال: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ [النور:31]، ومثله أيضاً وسوسة الحلي ونحو ذلك، فما جرت عليه عادة بعض البنات الشابات أن الواحدة منهن تلبس مثلاً ما يسمى بالإسكيرت يكون أخضر، ثم بعد ذلك تلبس ما يسمى بالبلوزة وتكون صفراء، ثم تضع خماراً أحمر يعني كأنها إشارة مرور، أخضر وأصفر وأحمر، وربما زادت على ذلك شريطاً أزرق، وربما وضعت وردة ونحو ذلك، فهذا ليس حجاباً.

وبالمقابل أيضاً: المرأة ليست مأمورةً بأن تلبس سواداً، لأن بعض النساء أو بعض من يكلم النساء يقول: لا بد أن تلبس المرأة الأسود، نقول: الشريعة ما ألزمتها بسواد ولا بياض، ويدل على ذلك أن النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يلبسن المعصفر، وكن يلبسن الأخضر، ومنه حديث أمنا عائشة ، قالت: ( يا رسول الله! والذي نفسي بيده لخدها أشد اخضراراً من خمارها )، يعني: امرأة ضربها زوجها وجاءت تشكو للرسول صلى الله عليه وسلم، فما وجدت الرسول صلى الله عليه وسلم، فبثت شكواها لـعائشة ، فـعائشة تنقل للنبي صلى الله عليه وسلم وتقول له: هذه المرأة خدها أشد اخضراراً من خمارها، ومعنى ذلك أن خمارها كان لونه أخضر، فأقول: لا مانع أن المرأة تلبس ألواناً لكن لا تلبس الألوان الفاقعة اللامعة المشكلة المختلفة، التي تزيدها زينةً على زينتها.

الشرط الثالث: أن يكون صفيقاً لا يشف

الشرط الثالث: أن يكون صفيقاً لا يشف، ومعنى الصفيق أي: الذي لا يبدو لون البشرة من تحته، أي لا يكون شفافاً؛ لأن الحديث الذي في صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ظهور الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، على رءوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها )، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كاسيات عاريات ) معنى ذلك أنهن كاسيات ولابسات، لكن في حقيقة الأمر هن عاريات، إما لأن هذه الثياب قصيرة لا تستر ما أمر الله بستره، وإما لأنها شفافة يظهر من تحتها لون البشرة، فلا تلبس المرأة الثياب الرقيقة التي يبدو لون جلدها من تحتها، والدليل على أن ثوب المرأة لا بد أن يكون صفيقاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف نساء النار: ( كاسيات عاريات )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( مائلات ) أي: في مشيتهن يتبخترن.

وقوله: ( مميلات )، أي: لقلوب الرجال.

وقوله عليه الصلاة والسلام: ( على رءوسهن كأسنمة البخت )، هو ما يصنعه بعض النساء أنها تكور شعرها حتى يكون على رأسها كأنه سنام جمل، وهذا موجود في النساء.

الشرط الرابع: أن يكون فضفاضاً

الشرط الرابع: أن يكون فضفاضاً لا يصف، يعني لا تلبس المرأة تلك الثياب الضيقة التي تصف أعضاءها، ويدل على ذلك حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: ( أهداني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثياباً قبطيةً مما جاء به دحية بن خليفة الكلبي )، يعني الرسول صلى الله عليه وسلم كتب رسائل إلى الملوك والجبابرة يدعوهم إلى الإسلام، وبعث أصحابه بهذه الرسائل، فبعث إلى المقوقس حاكم مصر بـحاطب بن أبي بلتعة ، وبعث إلى هرقل عظيم الروم بـدحية بن خليفة الكلبي ، وبعث إلى كسرى ملك الفرس بـعبد الله بن حذافة السهمي ، وبعث إلى النجاشي بـعمرو بن أمية الضمري ، يدعوهم جميعاً إلى الإسلام عليه الصلاة والسلام، وكان يختم بقول الله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران:64]، فبعض هؤلاء الملوك قبل وأسلم، وبعض هؤلاء لم يقبل ولم يرفض، وإنما بعث بالهدايا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل المقوقس حاكم مصر، وكما فعل هرقل ملك الروم، وبعضهم كان أحمق غبياً شقياً فبصق على كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مزقه فمزق الله ملكه، وهو كسرى ملك الفرس، فالمقصود بأن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت إليه ثياب قبطية، فأهدى لـأسامة بن زيد ، فكسا ذلك الثوب امرأته، و أسامة رضي الله عنه من بره بزوجه وإحسانه إليها أهدى هدية الرسول صلى الله عليه وسلم لامرأته، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأله قال له: ( لم لم تلبس تلك الثياب القبطية؟ فقال: يا رسول الله! أهديتها لامرأتي، قال: مرها فلتجعل تحتها غلالةً، فإني أخشى أن تصف عظام جسدها )، يعني: كأن تلك الثياب كانت من النوع الناعم الذي ينثني على الأعضاء فيصفها، فعلم من هذا أن المرأة مطلوب منها أن يكون ثوبها فضفاضاً، ولذلك ما يلبسه بعض البنات مما يسمى بالبلوزة التي تكون مفصلةً على أعضاء الجسد، هذا ما ينبغي، بل لا بد أن يكون ثوبها فضفاضاً، وقد مر معنا أن فاطمة رضي الله عنها شكت أن المرأة الميتة إذا وضعت في نعشها؛ فإن الثوب الذي يطرح عليها يصف أعضاءها، لأنه من المعروف أن الميت يدرج في الكفن، ويشد عليه، فـفاطمة شكت لـأسماء ، فقالت لها أسماء : ألا أريك شيئاً رأيته في أرض الحبشة، فدعت بعيدان فثنتها ثم طرحت عليها ثوباً، يعني جاءت بأعواد من حصير فثنتها، ثم طرحت عليها ثوباً، فلا يعرف حجم العود، فقالت فاطمة : ما أحسن هذا وأطيبه، إن أنا مت فاغسليني مع علي ، ولا تدعي أحداً يدخل علي، ثم افعلي بي ذلك. يعني لما أنا أموت غسليني أنت وزوجي علي، ولا تدعي أحداً يدخل علي.

وبالمناسبة هذا الحديث مما يرد على خرافات الشيعة، فإن الشيعة يعتقدون بأنه كانت عداوة شديدة بين فاطمة و أبي بكر رضوان الله عليهما، ومعلوم أن أسماء بنت عميس هي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فلو كان بين فاطمة وبين أبي بكر عداوة، وهي على فراش الموت، ما طلبت فاطمة من زوجة أبي بكر أن تغسلها، فكلامهم لا يستقيم.

وأيضاً من خرافاتهم -والشيء بالشيء يذكر- أنهم يزعمون بأن فاطمة اغتسلت قبل موتها، ولبست ثياباً لها جدداً، ثم قالت لبعض النساء عندها: إني ميتة الساعة، وقد اغتسلت، فلا يكشفن أحد لي كفناً، قالوا: ولما ماتت حملت مباشرة إلى المقبرة، وهذا كلام لا يصح؛ لأن الغسل إنما شرع لمن مات وليس لمن كان غير نظيف، فلو أن أحداً اغتسل بأحسن شامبو، أو بأحسن صابون، ثم مات، فإننا لا نقول: الرجل هذا نظيف ولا يحتاج إلى غسل، بل نقول: نغسله بعد موته؛ لأن الغسل سببه الموت.

إذاً: الشرط الأول هو أن يكون ساتراً للبدن كله إلا ما استثني.

الشرط الثاني: ألا يكون زينةً في نفسه.

والشرط الثالث: أن يكون صفيقاً لا يشف.

والشرط الرابع: أن يكون فضفاضاً لا يصف.

الشرط الخامس: ألا يكون معطراً

الشرط الخامس: ألا يكون معطراً، فلا ينبغي للمرأة أن تعطر ثيابها ثم تخرج؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك حيث قال: ( أيما امرأة مست بخوراً فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة )، وقال: ( أيما امرأة استعطرت، ثم مرت على قوم فاشتموا ريحها فهي زانية ).

الشرط السادس: ألا يكون مشابهاً للباس الرجال

الشرط السادس: هو ألا يكون مشابهاً للباس الرجال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، والديوث، ورجلة النساء )، وفي بعض الألفاظ: ( والمرأة المترجلة )، و( لعن صلى الله عليه وسلم المرأة تلبس لبسة الرجل، والرجل يلبس لبسة المرأة )، وهذا مقيد في العرف، فالعرف جعل للنساء ثياباً وألواناً وطريقة معينة في التفصيل، وجعل للرجال ثياباً وألواناً وطريقةً معينةً في التفصيل، حتى في الألوان، لو أن أحداً لبس ثوباً وكان لونه أحمر مثلاً، أو مبرقعاً كما يقولون، فإن الناس يستغربون هذا؛ لأن هذا لا يشبه لباس الرجال مما جرت عليه عادة الرجال، وبالمقابل بعض إخواننا في البلاد الإفريقية قد يلبسون ثياباً فيها هذه الألوان، فقد يكون ثوباً أصفر وفيه دوائر سوداء أو حمراء، ولا يستنكر هذا، فالأمر راجع للعرف، فالعرف يقيد بأن هذا لباس الرجل، وهذا لباس المرأة. ‏

الشرط السابع: ألا يشابه لباس الكافرات

الشرط السابع: ألا يكون مشابهاً للباس الكافرات، فإذا علم بأن الكافرات قد اختصصن بثياب معينة، فلا يجوز تقليدهن، وكذلك الرجل المسلم لا يلبس ثياباً مشابهةً للباس الكفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بمخالفتهم حتى في العبادة، فنهانا صلى الله عليه وسلم أن نصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأن الكفار يسجدون لها، وحتى في الشكل والهيئة قال صلى الله عليه وسلم: ( حفوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المجوس )، فأمرنا بمخالفة المجوس؛ لأنهم كانوا يوفرون الشوارب، ويحلقون اللحى، وكذلك لما أمرنا أن نصلي في النعال، ولما أمرنا صلى الله عليه وسلم بأن ننظف أفنيتنا وغير ذلك من الأمور، وهذا أصل مطرد في السنة، وقد عني بذلك الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم.

الشرط الثامن: ألا يكون ثوب شهرة

الشرط الثامن: ألا يكون ثوب شهرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم أضرم فيه ناراً )، وثوب الشهرة هو الذي يكون نفيساً جداً، أو يكون مخالفاً لما عليه عادة الناس، يعني: إنسان إذا لبس ثياباً غريبة، فإن الناس سيشيرون إليه، وكما ذكرت لكم لو أن الإنسان لبس هذا الثوب ولونه أصفر، ثم وضع على رأسه عمامةً سوداء، ثم وضع على كتفه شالاً أزرق مثلاً، فهذا ثوب شهرة لا يجوز لبسه؛ لأنه ما جرت عادة أهل هذه البلاد بأن يلبسوا عمائم سوداً، بل العمائم السود معروفة الآن عن الآيات في دولة إيران.

هذه هي شروط الحجاب الثمانية.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين. والحمد لله رب العالمين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الثالث 2768 استماع
تفسير سورة نوح [3] 2765 استماع
تفسير سورة النور - الآية [3] الأول 2652 استماع
تفسير سورة النور - قصة الإفك [5] 2534 استماع
تفسير سورة يس [8] 2522 استماع
تفسير سورة يس [4] 2477 استماع
تفسير سورة يس [6] 2467 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [23-26] 2235 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الرابع 2224 استماع
مقدمة في تفسير القرآن الكريم [1] 2174 استماع