لقاء الباب المفتوح [99]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الأسبوعي المسمى بلقاء الباب المفتوح، وهو اللقاء التاسع والتسعون، يتم هذا اللقاء يوم الخميس الرابع عشر من شهر ربيع الأول عام (1416هـ) نتكلم فيه بما شاء الله عز وجل من تفسير سورة العصر.

تفسير قوله تعالى: (والعصر)

يقول الله عز وجل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] فما المراد بالعصر؟

قيل: إن المراد بالعصر: آخر النهار؛ لأن آخر النهار أفضله، وصلاة العصر تسمى الصلاة الوسطى أي: الفضلى كما سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك.

وقيل: إن العصر هو الزمان، وهذا هو الأصح: أن العصر هو الزمان، أقسم الله به لما يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتقلبات الأمور، ومداولة الأيام بين الناس، وغير ذلك مما هو مشاهد في الحاضر ومتحدث عنه في الغالب، فالعصر هو الزمان الذي يعيشه الخلق، وتختلف أوقاته شدة ورخاءً، وحرباً وسلماً، وصحة ومرضاً، وعملاً صالحاً وعملاً سيئاً، إلى غير ذلك مما هو معروف للجميع.

تفسير قوله تعالى: (إن الإنسان لفي خسر)

أقسم الله بالزمان على أي شيء؟ على قوله: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2] والإنسان هنا عام؛ لأن المراد به الجنس، وعلامة الإنسان الذي يراد به العموم أن يحل محله، أي: محل (ألـ) كلمة كل، فهنا لو قيل: كل إنسان في خسر لكان هذا هو المعنى، ومعنى الآية الكريمة: أن الله أقسم قسماً على حال الإنسان أنه في خسر، أي: في خسران ونقصان في كل أحواله، في الدنيا والآخرة، إلا من استثنى الله عز وجل، وهذه الجملة كما ترون مؤكدة بثلاث مؤكدات: الأول: القسم، والثاني: إن، والثالث: اللام، وأتى بقوله: لَفِي خُسْرٍ ليكون أبلغ من قوله: لخاسر، وذلك أن (في) معناها الظرفية، فكأن الإنسان منغمس في الخسر، والخسران محيط به من كل جانب.

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا)

قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] استثنى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات الأربع:

وذلك كما بينه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) وشرح هذا الحديث يطول لو تكلمنا عليه الآن، لكن قد تكلمنا عليه في مواطن كثيرة، فالذين آمنوا بهذه الأصول الستة هم المؤمنون، ولكن يجب أن يكون إيماناً لا شك فيه ولا تردد معه، بمعنى: أنك تؤمن بهذه الأشياء وكأنك تراها رأي العين.

والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مؤمن إيماناً خالصاً لا شك فيه ولا تردد.

والقسم الثاني: كافر جاحد منكر.

والقسم الثالث: متردد.

فمن الناجي من هؤلاء الأقسام الثلاثة؟ الناجي القسم الأول، الذي يؤمن إيماناً لا تردد فيه، يؤمن بالله بوجوده بأسمائه بصفاته بألوهيته وربوبيته، وغير ذلك مما هو معلوم من صفات الرب جل وعلا، ويؤمن بالملائكة وهم عالم الغيب خلقهم الله تعالى من نور، وكلفهم بأعمال منها ما هو معلوم، ومنها ما ليس بمعلوم، فجبريل عليه الصلاة والسلام مكلف بالوحي ينزل به من عند الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل مكلف بالقطر والنبات، يعني: وكله الله على المطر وكل ما يتعلق بالمطر والنبات.

وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، ومالك موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة، ومن الملائكة من لا نعلم أسماءهم ولا نعلم أعمالهم أيضاً، لكن جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد).

كذلك: نؤمن بالكتب الذي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونؤمن بالرسل الذين قصهم الله علينا نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم يقصهم علينا نؤمن بهم إجمالاً؛ لأن الله لم يقص علينا جميع أنباء الرسل، قال الله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78].

وكذلك الإيمان باليوم الآخر وهو يوم البعث، يوم يخرج الناس من قبورهم للجزاء حفاة عراة غرلاً بهماً. فالحفاة، يعني: الذين ليس عليهم نعال ولا خفاف، أي: أن أقدامهم عارية، والعراة: الذين ليس عليهم ثياب، والغرل: الذين لم يختنوا، والبهم: الذين ليس معهم مال، يحشرون كذلك، ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم عراة قالت عائشة : (يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض، قال: الأمر أعظم من ذلك) أي: من أن ينظر بعضهم إلى بعض؛ لأن الناس كلٌ مشغول بنفسه.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، فيجب أن تؤمن بفتنة القبر، أي: بالاختبار الذي يكون للميت إذا دفن، وتولى أصحابه عنه، فإنه يأتيه ملكان يسألانه عن ربه ودينه ونبيه، وتؤمن كذلك بأن القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، أي: أن فيه العذاب أو الثواب، وتؤمن كذلك بالجنة والنار وكل ما يتعلق باليوم الآخر فإنه داخل في قولنا: أن تؤمن بالله واليوم الآخر.

القدر تقدير الله عز وجل، يعني: يجب أن تعلم بأن الله تعالى قدر كل شيء، وذلك (أن الله خلق القلم قال له: اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى بتلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة).

إذاً: الإيمان في قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا يشمل الإيمان بالأصول الستة التي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (وعملوا الصالحات)

أما قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3] فمعناه: أنهم قاموا بالأعمال الصالحة من صلاة وزكاة وصيام وحج وبر للوالدين وصلة للأرحام وغير ذلك، لم يقتصروا على مجرد ما في القلب بل عملوا وأنتجوا، والصالحات: هي التي اشتملت على شيئين:

الأول: الإخلاص لله.

والثاني: المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام.

وذلك أن العمل إذا لم يكن خالصاً لله فهو مردود، قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنه: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) فلو قمت تصلي مراءاة للناس، أو تصدقت مراءاة للناس، أو طلبت العلم مراءاة للناس، أو وصلت الرحم مراءاة للناس، أو غير ذلك، فالعمل مردود حتى وإن كان صالحاً؛ يعني: في ظاهره.

كذلك الاتباع، لو أنك عملت عملاً لم يعمله الرسول عليه الصلاة والسلام، وتقربت به إلى الله مع الإخلاص لله، فإنه لا يقبل منك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

تفسير قوله تعالى: (وتواصوا بالحق)

قال تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر:3] أي: صار بعضهم يوصي بعضاً بالحق، والحق هو الشرع، يعني: كل واحد منهم يوصي الآخر، إذا رآه مفرطاً في واجب أوصاه وقال: يا أخي! انفع نفسك، قم بالواجب، إذا رآه يفعل محرماً أوصاه، قال: يا أخي! اجتنب الحرام، فهم لم يقتصروا على نفع أنفسهم، بل نفعوا أنفسهم وغيرهم، تواصوا بالحق، والحق هنا بمعنى الشرع، يوصي بعضهم بعضاً به.

تفسير قوله تعالى: (وتواصوا بالصبر)

قال تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] والصبر: حبس النفس عما لا ينبغي فعله.

وقسمه أهل العلم إلى ثلاثة أقسام فقالوا:

إن الصبر صبرٌ على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله.

الصبر على الطاعة:

كثيرٌ من الناس يكون فيه كسل عن الصلاة مع الجماعة، مثلاً: لا يذهب إلى المسجد، يقول: أصلي في البيت وأديت الواجب، فيكسل نقول: يا أخي اصبر نفسك، احبسها وكلفها على أن تصلي مع الجماعة.

كثير من الناس إذا رأى زكاة ماله كثيرة شح وبخل، وصار يتردد: أخرج هذا المال الكثير أو أتركه؟ وما أشبه ذلك، نقول: يا أخي! اصبر نفسك، أكرهها على أداء الزكاة، وهكذا بقية العبادات، فإن العبادات كما قال الله تعالى في الصلاة: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] أكثر عباد الله تجد أن العبادات عليهم ثقيلة، فهم يتواسون بالصبر، اصبر على الطاعة ولا تمل ولا تكسل.

كذلك الصبر عن المعصية:

بعض الناس تجره نفسه إلى أكساب محرمة: إما بالربا، وإما بالغش والكذب، وإما بالتدليس، أو بغير ذلك من أنواع الحرام، فنقول: اصبر يا أخي! اصبر نفسك لا تتعامل على وجه محرم.

بعض الناس أيضاً يبتلى بالنظر إلى النساء، تجده ماشياً في السوق كلما مرت امرأة أتبعها بصره، نقول: يا أخي! اصبر واحبس نفسك عن هذا الشيء.

أيضاً الصبر على أقدار الله:

قد يصاب الإنسان بمرض في بدنه، يصاب الإنسان بفقد شيء من ماله، يصاب الإنسان بفقد أحبته، فيجزع ويتسخط ويتألم، فيتواصون فيما بينهم: اصبر يا أخي! هذا أمر مقدر، والجزع لا يفيد شيئاً، واستمرار الحزن لا يرفع الحزن، اصبر، قدر أن هذا الشيء لم يكن أصلاً، يعني مثلاً: إنسان فقد مليون ريال فحزن لذلك وتعذب منه، ماذا نقول له؟ نقول: اصبر يا أخي! قدر أن هذا المليون لم يوجد، ألست قد خرجت من بطن أمك ليس عليك ثياب، قدر أن هذا ما كان، كذلك أيضاً الأولاد مثلاً: إنسان امتحن بموت ابنه، نقول: يا أخي! اصبر، قدر أن هذا الابن لم يخلق، ثم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لإحدى بناته: (مرها فلتصبر ولتحتسب فإن لله ما أخذ وله ما أعطى) الأمر كله لله وليس لك، فإذا أخذ الله تعالى ملكه كيف تعتب على ربك؟! كيف تتسخط؟!

فهذه أنواع الصبر:

الأول: الصبر على طاعة الله.

والثاني: عن معصية الله.

والثالث: على أقدار الله.

أيها أشق على النفوس؟ هذا يختلف، بعض الناس يشق عليه القيام بالطاعة، وتكون عليه ثقيلة جداً، وبعض الناس بالعكس الطاعة هينة عليه، لكن ترك المعصية صعب شاق، يشق عليه مشقة كبيرة، وبعض الناس يسهل عليه الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية لكن لا يتحمل الصبر على المصائب، يعجز، حتى أنه قد تصل به الحال إلى أن يرتد والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

إذاً: نأخذ من هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى أكد بالقسم المؤكد بإن واللام، أن جميع بني آدم خاسرون، بل في خسر الخسر محيط بهم من كل جانب، إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.

قال الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل الله على عباده حجة إلا هذه السورة لكفتهم. يعني: كفتهم موعظة وليس كفتهم تشريعاً؛ لأن ليس فيها من التشريع شيء، ليس فيها طهارة ولا صلاة ولا زكاة ولا حج ولا صيام، لكن كفتهم موعظة، فالإنسان عاقل يعرف أنه في خسر، إلا إذا اتصف بهذه الصفات الأربع، فإنه سوف يحاول بقدر ما يستطيع أن يتصف بهذه الصفات الأربع. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الرابحين الموفقين.

يقول الله عز وجل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] فما المراد بالعصر؟

قيل: إن المراد بالعصر: آخر النهار؛ لأن آخر النهار أفضله، وصلاة العصر تسمى الصلاة الوسطى أي: الفضلى كما سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك.

وقيل: إن العصر هو الزمان، وهذا هو الأصح: أن العصر هو الزمان، أقسم الله به لما يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتقلبات الأمور، ومداولة الأيام بين الناس، وغير ذلك مما هو مشاهد في الحاضر ومتحدث عنه في الغالب، فالعصر هو الزمان الذي يعيشه الخلق، وتختلف أوقاته شدة ورخاءً، وحرباً وسلماً، وصحة ومرضاً، وعملاً صالحاً وعملاً سيئاً، إلى غير ذلك مما هو معروف للجميع.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
لقاء الباب المفتوح [63] 3400 استماع
لقاء الباب المفتوح [146] 3358 استماع
لقاء الباب المفتوح [85] 3321 استماع
لقاء الباب المفتوح [132] 3300 استماع
لقاء الباب المفتوح [8] 3283 استماع
لقاء الباب المفتوح [13] 3262 استماع
لقاء الباب المفتوح [127] 3121 استماع
لقاء الباب المفتوح [172] 3096 استماع
لقاء الباب المفتوح [150] 3044 استماع
لقاء الباب المفتوح [47] 3039 استماع