مقدمة في تفسير القرآن الكريم [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فأحمد الله الذي جمعنا في هذا المجلس المبارك، وأدعو الله سبحانه كما جمعنا فيه أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم، وأن يجعلنا إخواناً على سرر متقابلين.

هذا المجلس -إن شاء الله- نذكر فيه تفسير سورة النور، وقبل الشروع في تفسيرها، لا بد من مقدمة نذكر فيها: أن هذه المجالس فيها فوائد جمة، ومن هذه الفوائد:

أولاً: أن الجالسين -إن شاء الله- داخلون في من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

ثانياً: هذه المجالس يحصل فيها من الخير الشيء الكثير، ومن الخير الذي فيها: أن الإنسان يكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه عليه الصلاة والسلام كلما مر ذكره صلى الإنسان عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يصلي علي عبد صلاة إلا كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها ).

ثالثاً: أن الإنسان يستفيد علماً نافعاً، ويجتمع مع إخوانه على طاعة الله وذكره، والتعاون على البر والتقوى، ومن الخير العميم في هذه المجالس مغفرة الذنوب: ( فإن الله عز وجل يقول لأهلها: انطلقوا مغفوراً لكم، فتقول الملائكة: يا ربنا! إن فيهم فلاناً ليس منهم، ولكن مر بهم فجلس معهم، فيقول الله عز وجل: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

رابعاً: أن الإنسان يتفقد إخوانه، ويتبادل معهم المعارف، ولعل من رحمة الله عز وجل أن يكون مفتتح تفسير هذه السورة المباركة في هذا اليوم المبارك، يوم الإثنين، الذي تعرض فيه الأعمال على الله عز وجل، وهو اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيح: ( ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه )، وأيضاً هو يوم عاشوراء الذي عظم الله حرمته، وصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين بصيامه، وبعث منادياً ينادي: ( من أصبح صائماً فليتم صومه، ومن أصبح مفطراً فليمسك بقية يومه )، قالت الربيع بنت معوذ رضي الله عنها: ( فكنا نصومه ونصوم صبياننا، فإذا بكوا جعلنا لهم اللعبة من العهن حتى يكون عند الإفطار ).

أيها الإخوة! أيضاً هناك مقدمة أخرى تتعلق بتدبر القرآن، وهي أن الله عز وجل قد أنزل هذا القرآن ليتعبد الناس بتلاوته، وليجعلوه ذكرهم حال قيامهم في صلاتهم، وأنزله من أجل أن يستشفى به، ومن أجل أن يعمل بأحكامه، وأنزله من أجل أن يتدبر، قال الله عز وجل: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ[ص:29]، وذم الله أقواماً، فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وذم أقواماً فقال: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، ومدح بالمقابل المؤمنين الطيبين، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً[الأنفال:2]، وقال: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً [الفرقان:73]؛ ولذلك أقول: من العيب الكبير أن الإنسان يقرأ آيات القرآن مراراً ولا يعرف معانيها، ولا يهتم بأن يسأل عنها. وقد روى الإمام الطبراني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ليكونن أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن )، قال المناوي رحمه الله في فتح القدير: المعنى أنهم يسلقونه بألسنتهم، ويمرون على آياته سريعاً، دون تفهم لمعانيه، ولا نظر في أحكامه، يعني أن الواحد منهم يقرأ القرآن سريعاً، لكنه بعد ذلك لو سئل عن قوله تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً [العاديات:1] مثلاً، أو سئل عن قوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5]، أو سئل عن قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3]، فإنه لا يعرف، ولم يهتم يوماً من الأيام بأن يعرف، ولا أن يسأل! ووالله ما هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم، ففي الحديث الصحيح: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا استعاذ )، عليه الصلاة والسلام.

ولذلك نقول: تدبر القرآن مطلوب، وقد سأل أبو جحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من الوحي؟) يعني يقول له: أنتم يا آل البيت! هل عندكم شيء خاص من الوحي ما أعلنه الرسول للناس؟ ( فقال له علي رضي الله عنه: لا، والذي فلق الحبة! وبرأ النسمة! إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه، وما في هذه الصحيفة )، والصحيفة كان فيها شيء من الأحكام قد دونه علي، فيها: العقل، أي: الديات، وفكاك الأسير.

فقول علي رضي الله عنه: إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه، معناه: أن فهم القرآن ليس قاصراً على الأولين، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه )؛ ولذلك كل إنسان منا مطلوب منه أن يتدبر القرآن وأن يعرف معانيه.

والتدبر هو: تأمل أوائل الكلام وأواخره، والنظر في مآلاته: قال الله عز وجل: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ[المؤمنون:68]، والإنسان المتدبر هو الذي لا يخطف كلمة ويطير بها، وإنما ينظر في السباق واللحاق، وكلمة التدبر مشتقة من الدبر.

وأما تدبر القرآن فمعناه: تفهم معاني ألفاظه، وما تدل عليه مطابقة، وما حوته من التنبيهات والإشارات، وبالمثال يتضح الحال:

أنواع التدبر

نقول: كان تدبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه للقرآن يشمل عدة مظاهر، أول هذه المظاهر: امتثال الأمر، فإنهم من تفهمهم للقرآن كانوا إذا نزل أمر يسارعون إلى العمل به، ما كانوا يعتقدون أن القرآن للتبرك وللتلاوة فقط، وإنما يعملون به؛ ولذلك أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعدما نزلت عليه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، إلا قال: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي )؛ لأن الآية تقول: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ[النصر:3]، فكان يقول ذلك في ركوعه.

ومما يعين على الخشوع في الصلاة أن الإنسان ينوع الآيات، فيقرأ مرة من هنا، ومرة من هنا، وينوع أذكار الركوع والسجود، وأدعية الاستفتاح، ولا يلتزم شيئاً واحداً، فيظل الإنسان يكبر كالآلة، ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك كالآلة.. وإذا ركع يقول كالآلة: سبحان ربي العظيم.. وإذا سجد يقول كالآلة: سبحان ربي الأعلى.. ويقتصر على هذا، والمطلوب منه أن ينوع؛ من أجل أن يأتي بالسنة كلها، فتارة يقول: سبحان ربي العظيم، وتارة يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وتارة يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وتارة يقول: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وتارة يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.

فمن أنواع التدبر: المسارعة إلى امتثال الأمر.

أيضاً من أنواع التدبر: التأمل في موضوع السورة، ومثال ذلك:

سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم: ما تقولون في هذه السورة: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]؟، فقال بعضهم: أمرنا ربنا إذا نصرنا وفتح علينا أن نستغفره، وأن نسبح بحمده، وسكت آخرون، قال: فما تقول يا ابن عباس؟ قال: أقول: هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، يعني أن هذه السورة أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بدنو أجله، فقال عمر: ما أعلم منها إلا الذي تقول، قال ابن عباس : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً [النصر:1-2]، وتلك علامة أجلك: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3].

ومن تدبر القرآن: الاستدلال بآياته على صفات ربنا، من ذلك: ( أن أمنا عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت أوائل المجادلة: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ[المجادلة:1]، كانت تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، إني لفي كسر البيت، أسمع المرأة وهي تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخفى علي بعض كلامها، فسمع الله قولها من فوق سبع سموات)، فاستدلت رضي الله عنها بالآية على سعة سمع ربنا جل جلاله، وأنه لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه الهمسات جل جلاله.

ومن تدبر القرآن: السؤال عن معنى الآية، قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً قوله سبحانه: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ[البقرة:266]، فقال: ما أراد الله بهذه الآية؟ فقال بعض الصحابة: الله أعلم، فقال قد علمت أن الله أعلم، وإنما سألتكم فمن كان عنده علم فليقل به، يقول ابن عباس : فرآني أهمس -أي أن عمر بن الخطاب رأى ابن عباس يهمس إلى من بجواره- فقال عمر : قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك، فقال: يا أمير المؤمنين! أراد الله بها العمل، فقال عمر : الله أكبر! هذا الذي في نفسي، فإن ابن آدم أحوج ما يكون إلى عمله إذا وقف بين يدي ربه، كما أن الإنسان أحوج ما يكون إلى ماله عند انقطاع أجله وكبر سنه، يعني: الواحد منا لو كان عنده عقار، أو عنده بستان يدر عليه دخلاً في كل عام، فهو أحوج ما يكون إلى هذا المال بعدما يكبر في السن، ويخرج من المعاش كما يقولون؛ ولذلك ربنا جل جلاله يقول: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ[البقرة:266]، فأنت أحوج ما تكون إلى المال عند كبر السن، وأحوج ما تكون إلى العمل الصالح عند لقاء الله عز وجل، هكذا فهمها عمر وابن عباس رضوان الله على الجميع.

ومن أنواع تدبر القرآن: اتباع أحسن الحديث، ومثال ذلك: لما نزل قول الله عز وجل: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران:92]، ( جاء أبو طلحة الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! قد نزل قول ربنا: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران:92]، وإن أحب مالي إلي بيرحاء )، وهو بستان كان فيه ماء عذب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيشرب منها، وكان هذا أحب مال أبي طلحة إليه، فقال: ( هي لك يا رسول الله! اجعلها حيث أراك الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بخ بخ! ذاك مال رابح، اجعلها في قرابتك )، يعني: هذا البستان قسمه على أهلك، فأبو طلحة رضي الله عنه سارع إلى اتباع أحسن الحديث، قال الله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ[الزمر:23]، وقال: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18].

ومثله أيضاً: لما غضب أبو بكر على ابن خالته مسطح حين تكلم في عرض ابنته عائشة، وقال: والله لا أنفعه بخير ما حييت، وكان ينفق عليه؛ فنزل قول الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ[النور:22]، كما سيأتي معنا في سورة النور، ومعنى (ولا يأتل) أي: ولا يحلف، فالألية هي اليمين:

قليل الألايا حافظ ليمينه وإن بدرت منه الألية برت

قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ[النور:22]، فقال أبو بكر : بلى، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع يعطي مسطحاً ضعف ما كان يعطيه، فهاهنا أبو بكر أيضاً اتبع أحسن الحديث، رضي الله عنه وأرضاه.

الأسباب المعينة على تدبر القرآن

الكلمة الأخيرة في الأسباب التي تعين على تدبر القرآن، وهي:

أولاً: الإخلاص لله عز وجل، والإخلاص: أن يقرأ القرآن، لا رياء ولا سمعة ولا تكسباً، وإنما يقرأه مخلصاً، متعبداً لله عز وجل، فهذا أول الأسباب التي تعين على التدبر.

ثانياً: الإكثار من القراءة، فإن من أدام الطرق فتح له.

ثالثاً: الأخذ بآداب التلاوة، فإذا كنت تريد أن يفتح الله عليك بفهم القرآن؛ فخذ بآداب التلاوة، وهي كالآتي:

أولها: الطهارة.

ثانيها: استقبال القبلة.

ثالثها: أن يأخذ الإنسان زينته ما استطاع.

رابعها: أن يجلس متربعاً وعليه الوقار، كل هذه آداب لقراءة القرآن، وإلا فيجوز للإنسان أن يقرأ على غير طهارة، ويجوز للإنسان أن يقرأ وهو لابس لثيابه الداخلية، ويجوز أن يقرأ القرآن راقداً، كل هذا جائز لا مانع منه، والمطلوب: تحصيل أسباب الكمال بالحرص على آداب التلاوة.

خامسها: أن الإنسان يقرأ مترسلاً، لا يكن همه متى يصل إلى آخر السورة، وإنما يقرأ مترسلاً، ويحسن صوته بالقرآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن )، أي: عليه أن يحسن صوته ما استطاع، وفي الحديث: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالتين والزيتون، فما سمعت قراءة أحسن منها )؛ ولذلك لا تستغربوا إذا سمعتم ( أن رسول الله قرأ سورة النجم، فلما بلغ قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62]، سجد الناس كلهم مسلمهم ومشركهم)، حتى المشرك الذي يعاند سجد. لأن القرآن كلام الله، حتى الوليد بن المغيرة وكان شيخاً قد أسن، أخذ كفاً من تراب فوضع عليها جبهته.

رابعاً: من الأسباب المعينة على التدبر: معرفة أسباب النزول، وليس كل القرآن نازلاً بأسباب، لكن هناك آيات نزلت بأسبابها، وهذه الآيات لو أننا ما عرفنا هذه الأسباب لنزولها لن نفهمها، فمثلاً لو قرأت قول الله عز وجل: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى[البقرة:189]، هذه الآية لن تفهمها أبداً إلا إذا عرفت سبب نزولها، وكذلك أيضاً آيات تشكل على الناس، كقول الله عز وجل: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور:26]، هذه الآية يسهل فهمها إذا عرفت سبب نزولها، وكذلك قوله تعالى في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[النساء:94]، فمعرفة أسباب النزول تعين على التدبر.

خامساً: مما يعين على التدبر: معرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها الترجمة العملية للقرآن، ولذلك الإنسان يحرص على معرفة أحداث السيرة بتفاصيلها، فإن النبي عليه الصلاة والسلام (كان قرآناً يمشي على الأرض).

سادساً: مما يعين على التدبر: معرفة لغة العرب، لا تعتقدوا أن تعلم اللغة العربية فضلة، أو أنه علم هامشي، فالإنسان إذا لم يتعلم اللغة العربية لن يفهم قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، ولن يفهم قول الله عز وجل: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ[الإسراء:29]، فمعرفة اللغة العربية تعين على تدبر القرآن.

فهذه مقدمة يسيرة قبل الشروع في تفسير سورة النور، وسيكون من منهجنا في التفسير إن شاء الله ألا نعجل، والتقدير إن شاء الله أن يستغرق تفسير هذه السورة شهرين، نعرف معاني المفردات، ثم نعرف سبب النزول إن كان ثمة سبب، ثم نعرف أوجه الإعراب والبلاغة، ثم نعرف الأحكام التي تضمنتها الآية أو الآيات مع بيان المعنى الإجمالي، وهو ما يسميه علماؤنا بالتفسير التحليلي، فإن شاء الله نحاول أن نصل إلى ما يراد من الآية تفصيلاً، وتعرفون أن سورة النور فيها أحكام كثيرة جداً؛ ولذلك لا تستغربوا ولا تعجلوا ولا تملوا لو استغرقت الآية الثانية وحدها، وهي قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ[النور:2] ثلاثة أيام.

نقول: كان تدبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه للقرآن يشمل عدة مظاهر، أول هذه المظاهر: امتثال الأمر، فإنهم من تفهمهم للقرآن كانوا إذا نزل أمر يسارعون إلى العمل به، ما كانوا يعتقدون أن القرآن للتبرك وللتلاوة فقط، وإنما يعملون به؛ ولذلك أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعدما نزلت عليه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، إلا قال: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي )؛ لأن الآية تقول: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ[النصر:3]، فكان يقول ذلك في ركوعه.

ومما يعين على الخشوع في الصلاة أن الإنسان ينوع الآيات، فيقرأ مرة من هنا، ومرة من هنا، وينوع أذكار الركوع والسجود، وأدعية الاستفتاح، ولا يلتزم شيئاً واحداً، فيظل الإنسان يكبر كالآلة، ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك كالآلة.. وإذا ركع يقول كالآلة: سبحان ربي العظيم.. وإذا سجد يقول كالآلة: سبحان ربي الأعلى.. ويقتصر على هذا، والمطلوب منه أن ينوع؛ من أجل أن يأتي بالسنة كلها، فتارة يقول: سبحان ربي العظيم، وتارة يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وتارة يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وتارة يقول: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وتارة يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.

فمن أنواع التدبر: المسارعة إلى امتثال الأمر.

أيضاً من أنواع التدبر: التأمل في موضوع السورة، ومثال ذلك:

سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم: ما تقولون في هذه السورة: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]؟، فقال بعضهم: أمرنا ربنا إذا نصرنا وفتح علينا أن نستغفره، وأن نسبح بحمده، وسكت آخرون، قال: فما تقول يا ابن عباس؟ قال: أقول: هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، يعني أن هذه السورة أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بدنو أجله، فقال عمر: ما أعلم منها إلا الذي تقول، قال ابن عباس : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً [النصر:1-2]، وتلك علامة أجلك: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3].

ومن تدبر القرآن: الاستدلال بآياته على صفات ربنا، من ذلك: ( أن أمنا عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت أوائل المجادلة: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ[المجادلة:1]، كانت تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، إني لفي كسر البيت، أسمع المرأة وهي تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخفى علي بعض كلامها، فسمع الله قولها من فوق سبع سموات)، فاستدلت رضي الله عنها بالآية على سعة سمع ربنا جل جلاله، وأنه لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه الهمسات جل جلاله.

ومن تدبر القرآن: السؤال عن معنى الآية، قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً قوله سبحانه: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ[البقرة:266]، فقال: ما أراد الله بهذه الآية؟ فقال بعض الصحابة: الله أعلم، فقال قد علمت أن الله أعلم، وإنما سألتكم فمن كان عنده علم فليقل به، يقول ابن عباس : فرآني أهمس -أي أن عمر بن الخطاب رأى ابن عباس يهمس إلى من بجواره- فقال عمر : قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك، فقال: يا أمير المؤمنين! أراد الله بها العمل، فقال عمر : الله أكبر! هذا الذي في نفسي، فإن ابن آدم أحوج ما يكون إلى عمله إذا وقف بين يدي ربه، كما أن الإنسان أحوج ما يكون إلى ماله عند انقطاع أجله وكبر سنه، يعني: الواحد منا لو كان عنده عقار، أو عنده بستان يدر عليه دخلاً في كل عام، فهو أحوج ما يكون إلى هذا المال بعدما يكبر في السن، ويخرج من المعاش كما يقولون؛ ولذلك ربنا جل جلاله يقول: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ[البقرة:266]، فأنت أحوج ما تكون إلى المال عند كبر السن، وأحوج ما تكون إلى العمل الصالح عند لقاء الله عز وجل، هكذا فهمها عمر وابن عباس رضوان الله على الجميع.

ومن أنواع تدبر القرآن: اتباع أحسن الحديث، ومثال ذلك: لما نزل قول الله عز وجل: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران:92]، ( جاء أبو طلحة الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! قد نزل قول ربنا: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران:92]، وإن أحب مالي إلي بيرحاء )، وهو بستان كان فيه ماء عذب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيشرب منها، وكان هذا أحب مال أبي طلحة إليه، فقال: ( هي لك يا رسول الله! اجعلها حيث أراك الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بخ بخ! ذاك مال رابح، اجعلها في قرابتك )، يعني: هذا البستان قسمه على أهلك، فأبو طلحة رضي الله عنه سارع إلى اتباع أحسن الحديث، قال الله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ[الزمر:23]، وقال: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18].

ومثله أيضاً: لما غضب أبو بكر على ابن خالته مسطح حين تكلم في عرض ابنته عائشة، وقال: والله لا أنفعه بخير ما حييت، وكان ينفق عليه؛ فنزل قول الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ[النور:22]، كما سيأتي معنا في سورة النور، ومعنى (ولا يأتل) أي: ولا يحلف، فالألية هي اليمين:

قليل الألايا حافظ ليمينه وإن بدرت منه الألية برت

قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ[النور:22]، فقال أبو بكر : بلى، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع يعطي مسطحاً ضعف ما كان يعطيه، فهاهنا أبو بكر أيضاً اتبع أحسن الحديث، رضي الله عنه وأرضاه.