تفسير سورة يس [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

سبب تكذيب أصحاب القرية لرسلهم

تقدم معنا الكلام في أن ربنا جل جلاله أرسل رسولين كريمين إلى أهل قرية ظلموا أنفسهم، وعتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد، كانوا متلبسين بالشرك وواقعين في الكفر؛ فأرسل الله إليهم رسولين فكذبوهما، ما صدقوهما ولا اتبعوهما، وإنما واجهوهما بالتكذيب والعناد؛ فأرسل الله رسولاً ثالثاً يعزز هذين الرسولين، يقويهما ويشد أزرهما.

هؤلاء الثلاثة قالوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ[يس:14]؛ لكن القوم واجهوهم بالمانع الذي منع سائر الأمم وهو أنهم بشر، فقالوا لهم: مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا[يس:15]، قال الله عز وجل: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:94]، وكما قال كفار قريش: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان:7]، ومثل ما قال قوم فرعون : أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، ومثل ما قال غيرهم: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:6].

وهكذا هؤلاء الناس قالوا لرسلهم: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ[يس:15]، وهذا كما قال اليهود بعد ذلك: مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ[الأنعام:91]، وقال هؤلاء لرسلهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ [يس:15]، اتهموا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بأنهم كذابون مفترون.

فرد الرسل وقالوا: قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس:16]، وهذا يجري مجرى اليمين، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ[يس:16]، كأنهم قالوا: والله إنا إليكم لمرسلون، ثم قالوا: وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس:17]، أي: لا نستطيع أن نقهركم ولا أن نكرهكم ولا أن نجبركم، وإنما مهمتنا البلاغ.

حرمة التطير وسبيل النجاة منه

فما كان من المشركين إلا أن قالوا: إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ[يس:18]، تشاءمنا بكم، والطيرة التشاؤم بمسموع أو مرئي أو معلوم، وهي من المحرمات الكبار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له )، والإنسان المسلم لو شعر بشيء من التشاؤم إذا رأى شيئاً أو سمع شيئاً فينبغي أن يدعو بالدعاء النبوي: ( اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك )، أو فليقل: ( اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يصرف السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ).

قال الله: لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ[يس:18]، كما قال قوم نوح: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء:116]، وكما قال فرعون لـموسى: لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، وكما قال آزر لإبراهيم: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46].

وهنا قالوا: لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ[يس:18]، والرجم معناه الطرد، كما نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: المطرود من رحمة الله عز وجل، وكذلك الرجم يطلق على المعنى المحسوس وهو الرمي بالحجارة.

قال الله تعالى: لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [يس:18]، قولهم: لَنَرْجُمَنَّكُمْ))، اللام واقعة في جواب قسم مقدر، أقسموا بالمعظم عندهم من صنم أو حجر أو شجر.. الآلهة التي كانوا يعبدونها.

تقدم معنا الكلام في أن ربنا جل جلاله أرسل رسولين كريمين إلى أهل قرية ظلموا أنفسهم، وعتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد، كانوا متلبسين بالشرك وواقعين في الكفر؛ فأرسل الله إليهم رسولين فكذبوهما، ما صدقوهما ولا اتبعوهما، وإنما واجهوهما بالتكذيب والعناد؛ فأرسل الله رسولاً ثالثاً يعزز هذين الرسولين، يقويهما ويشد أزرهما.

هؤلاء الثلاثة قالوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ[يس:14]؛ لكن القوم واجهوهم بالمانع الذي منع سائر الأمم وهو أنهم بشر، فقالوا لهم: مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا[يس:15]، قال الله عز وجل: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:94]، وكما قال كفار قريش: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان:7]، ومثل ما قال قوم فرعون : أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، ومثل ما قال غيرهم: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:6].

وهكذا هؤلاء الناس قالوا لرسلهم: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ[يس:15]، وهذا كما قال اليهود بعد ذلك: مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ[الأنعام:91]، وقال هؤلاء لرسلهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ [يس:15]، اتهموا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بأنهم كذابون مفترون.

فرد الرسل وقالوا: قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس:16]، وهذا يجري مجرى اليمين، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ[يس:16]، كأنهم قالوا: والله إنا إليكم لمرسلون، ثم قالوا: وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس:17]، أي: لا نستطيع أن نقهركم ولا أن نكرهكم ولا أن نجبركم، وإنما مهمتنا البلاغ.

فما كان من المشركين إلا أن قالوا: إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ[يس:18]، تشاءمنا بكم، والطيرة التشاؤم بمسموع أو مرئي أو معلوم، وهي من المحرمات الكبار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له )، والإنسان المسلم لو شعر بشيء من التشاؤم إذا رأى شيئاً أو سمع شيئاً فينبغي أن يدعو بالدعاء النبوي: ( اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك )، أو فليقل: ( اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يصرف السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ).

قال الله: لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ[يس:18]، كما قال قوم نوح: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء:116]، وكما قال فرعون لـموسى: لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، وكما قال آزر لإبراهيم: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46].

وهنا قالوا: لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ[يس:18]، والرجم معناه الطرد، كما نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: المطرود من رحمة الله عز وجل، وكذلك الرجم يطلق على المعنى المحسوس وهو الرمي بالحجارة.

قال الله تعالى: لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [يس:18]، قولهم: لَنَرْجُمَنَّكُمْ))، اللام واقعة في جواب قسم مقدر، أقسموا بالمعظم عندهم من صنم أو حجر أو شجر.. الآلهة التي كانوا يعبدونها.

ثم قال الرسل: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ[يس:19]، طَائِرُكُمْ))، أي: قدركم وحظكم، مَعَكُمْ))، أي: ملازم لكم، كما قال صالح لقومه لما قالوا: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ[النمل:47]، أي: قدركم مكتوب في علم الله الأزلي، وكما قال كفار قريش متشائمين برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عنهم: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ[النساء:78]، قال الله عز وجل: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ[النساء:78]، أي: كله مقدر مكتوب عنده جل جلاله، ثم قال تعالى: فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء:78].

قال تعالى هنا: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ[يس:19]، هنا تم الكلام، أي: تقف هاهنا، ثم تبدأ: أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ[يس:19]، (إن) شرطية وفعل الشرط: ذُكِّرْتُمْ))، وجوابه دل عليه ما قبله: (أئن ذكرتم تطيرتم)؟! يعني كلما نقول لكم: قولوا :لا إله إلا الله تتشاءمون! كلما نقول لكم: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره تتطيرون!

وفي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع : (أئن ذكرتم)، على أنها مصدرية، أي: تذكيرنا إياكم يجعلكم تتطيرون.

قال الله عز وجل على لسان الرسل مخاطبين أقوامهم: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [يس:19]، أي: أسرفتم على أنفسكم حين أعرضتم عن عبادة ربكم واتخذتم من دونه آلهة.

يقول الله عز وجل: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى[يس:20]، الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يعينهم الله عز وجل برجال مؤمنين ونساء مؤمنات، كما قال ربنا لنبيه عليه الصلاة والسلام: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ[الأنفال:62-63]، فهاهنا هؤلاء المرسلون أيدهم الله عز وجل برجل يقال له: حبيب ، قيل: كان نجاراً، وقيل: بل كان إسكافياً، والإسكافي هو الذي يصلح النعال، يعني: كان رجلاً عنده مهنة، كان نجاراً، كان إسكافياً، والله أعلم بالصواب.

وهذا الرجل اتبع المرسلين، آمن بهم وصدق برسالتهم، وكان بعدما دخل الإيمان في قلبه، وفي آخر يومه كان ينفق على أهله وعياله نصف ما وجد ويتصدق بالنصف، وهذا لما سمع التهديد من أولئك الكفار لهؤلاء المرسلين الكرام، يقولون لهم: لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [يس:18]، جاء محذراً قومه كما قال تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ [يس:20]، أي: من مكان بعيد، يَسْعَى[يس:20]، أي: ما جاء يمشي، وإنما جاء يسعى، جاء مستعجلاً! ووقف في قومه نذيراً، قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20]، يا قوم! أنا منكم وإليكم! أنا من جنسكم! أنا من أهلكم! يا قوم، ما قال لهم: يا أيها الناس، وإنما يتحبب إليهم ويحلم عليهم، يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20]، آمنوا بهم وعزروهم وانصروهم، واتبعوا النور الذي أنزل معهم.

ثم قال: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً [يس:21]، الأجر: العوض الذي يناله المرء في مقابل ما يقوم به من عمل، يقول لهم: يا قوم! هؤلاء الرسل لا يطلبون شيئاً لأنفسهم، لا يرومون حظاً من حظوظ الدنيا، ما سألوكم أجراً: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً[يس:21]، وهكذا كل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ ولذلك نقرأ في سورة الشعراء بأن نوحاً قال لقومه: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109]، و هوداً قال الكلمة نفسها و صالحاً قالها ولوطاً قالها وشعيباً قالها، قال تعالى: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109]، وفي سورة هود نقرأ بأن نوحاً عليه السلام قال: وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ[هود:29]، ونقرأ بأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، وقال أيضاً: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ:47]، وقال الله عنه: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [يوسف:104]، وسليمان عليه السلام لما أرسلت إليه بلقيس بالهدية قال: أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ[النمل:36].

الأنبياء لا يطلبون من الناس أجراً، ولا يقبلون من الناس أجراً؛ ولذلك كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الصدقة ولا يأكلها ولا يطعمها أهل بيته، وقد يمر عليهم الهلال والهلال ولا يوقد في بيوته نار، قال: ( إنما هي أوساخ الناس لا تحل لمحمد ولا لآل محمد )، وكان يقبل الهدية صلوات ربي وسلامه عليه ويكافئ عليها، يعني: من أهدى إليه أهدى إليه.

هنا نذكر مسألة فقهية، يذكرها العلماء ويقولون: ينبغي لأتباع الأنبياء من الأئمة والمؤذنين والعلماء والمذكرين ومن ينشرون القرآن ألا يأخذوا أجراً، وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد ، وأيضاً كره الأجرة على تعليم القرآن والإمامة: ابن شهاب الزهري ، و إسحاق بن راهويه ، و عبد الله بن شقيق وغيرهم، قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلم، ولا على إقراء القرآن، ولا على إمامة الناس.. ونحو ذلك من القربات، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ( علمت رجلاً القرآن فأهدى إلي قوساً، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو قوس من نار، قال: فرددته ).

وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: ( علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن.. ) الكتاب بمعنى الكتابة ( علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً، فقلت: ليس مالاً، أرمي به في سبيل الله.. )، يعني: القوس هذا ليس مالاً وإنما هو سلاح، أرمي به في سبيل الله، ( ثم قلت: لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقال لي: إن سرك أن تطوق بطوق من نار فاقبله، قال: فرددته ).

والحديث الثالث: حديث عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اقرءوا القرآن وسلوا الله به، فإنه سيأتي أقوام يقرءون القرآن ويسألون به الناس ).

الحديث الرابع: حديث أبي بن كعب أيضاً، بأنه قال: ( كنت أختلف إلى رجل مسن به علة فأقرئه القرآن، وكان يطعمني طعاماً لا أجده بالمدينة.. )، يعني: كما لو أنك ذهبت إلى واحد من الناس، وأطعمك بعض الأطعمة التي ما جرت بها عادة الناس هاهنا، فهو قد يكون موجوداً في السوق، لكنه ما جرت به عادة الناس، وهذا ما كان أبي يقصد، قال: ( كنت أختلف إلى رجل مسن به علة، قد ألزمته داره، فكان يطعمني طعاماً لا أجده بالمدينة، قال: فحاك في نفسي.. )، هذا الأمر أبي ضاق منه صدره، ( قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان مما يطعم هو وأهل بيته فكل، وإن كان شيئاً يتحفك به فلا تأكل )، أي: إذا كان شيئاً من طعام أهل البيت كل، أنت على اعتبارك ضيف، أما إذا كان شيئاً مخصوصاً فلا تأكل.

هذه جملة الأحاديث التي استدل بها الإمام أبو حنيفة ، والإمام أحمد ، ومن قبلهما كـابن شهاب الزهري على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلم وإقراء القرآن.

وبالمقابل ذهب الإمام مالك ، والإمام الشافعي ، والإمام أحمد في رواية أخرى إلى أنه يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلم وإقراء القرآن، وإمامة الناس والأذان وما إلى ذلك، واستدلوا بدليلين كلاهما في الصحيح:

الدليل الأول: حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة المرأة التي جاءته في المسجد وقالت: ( يا رسول الله! وهبت لك نفسي، فنظر إليها صلى الله عليه وسلم طويلاً ثم سكت، فقال رجل: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أصدقها شيئاً، فقال: يا رسول الله! ما عندي شيء، قال: التمس ولو خاتماً من حديد، فالرجل ذهب ورجع قال: ما عندي شيء، فقال له: ما معك من القرآن؟ كذا وكذا وكذا حتى عد عشرين سورة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن ).

الدليل الثاني: حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة اللديغ وفي آخره قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ).

قال الإمام الشوكاني رحمه الله: وأعدل الأقوال أن يقال: وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ[النساء:6]، ومعنى هذا الكلام: أن الأجرة ليست على ذات القربة، وإنما الأجرة على الاحتباس، فالإمام إذا أخذ مقابل فليس لأنه صلى؛ لأنه سيصلي أصلاً، فأي مسلم لا بد أن يصلي، وإنما هو أخذ الأجرة لأنه محتبس على هذه المهمة، وكذلك المؤذن وكذلك من يقرئ القرآن ومن يعلم العلم، إنما هو محتبس على هذه الوظيفة؛ ولو قلنا له: يحرم عليك أن تأخذ الأجرة سيقول: خيراً إن شاء الله، وسيبدأ يصلي بالناس، لكنه يضرب في مناكب الأرض يلتمس من فضل الله، مرة سيصلي ومرة سيغيب، وكذلك معلم القرآن وكذلك المؤذن، فتضيع هذه الوظائف، ولا يجد الناس من يقوم بها.