قواعد وضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين، الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجاهد في الله حق جهاده حتى لحق بالرفيق الأعلى، وعلى أصحابه الكرام الذين اهتدوا بهديه، وتمسكوا بسنته، وجاهدوا في الله كما جاهد حتى وصل إلينا هذا الدين، فنحمد الله تبارك وتعالى على نعمة الإيمان، ونسأله عز وجل أن يجعلنا من التابعين لأولئك السلف الكرام، إنه سميع مجيب، وبعد:

فإن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهو من أولى وأوجب ما ينبغي أن يتحدث عنه الدعاة والوعاظ والخطباء، فهو واجب من الواجبات التي شرعها الله تبارك وتعالى، بل هو واجب يترتب على تحقيقه واجبات كثيرة، بل كل الواجبات إذا تأملنا نجد أنها لا تتحقق، وكل المنهيات لا يُنتهى عنها إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى هذه الأمة المباركة فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] ثم عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد هذه الآية فوصف حال هذه الأمة، وأفضليتها وخيريتها فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدم على الإيمان بالله.

وكل المسلمين يعلمون أنه لا شيء يتقدم على الإيمان بالله، فلماذا قُدِّم في هذه الآية؟

ذلك لأن الآية تتحدث عن الخيرية والأفضلية، وعن الميزة والخاصية التي تتميز بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم، فقدم فيها الخاص، ثم ذكر بعد ذلك الأمر الأساس الذي لا يقبل بدونه أي عمل، ولهذا عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بوصف حال أهل الكتاب الذين كان من طبعهم أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78-79] فعقب على هؤلاء القوم بعد ذلك فقال: لَيْسُوا سَوَاءً [آل عمران:113].

فبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم ليسوا كلهم بهذه المثابة، وإنما فيهم من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون، ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأولئك وصفوا بالإيمان ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه هي الحالة الطبيعية، وهذا هو الوصف العادي الذي توصف به الأمم جميعاً، لكن هذه الأمة لأنها أُخرجت للناس لتخرجهم من الظلمات إلى النور، ولأن رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسالة للعالمين فهي أولاً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فهذا ما يميزها، وهذا ما تختص به دون غيرها من الأمم التي قَصَّرت في ذلك أو كانت دونها.

علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقيقة الدين

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما تعرف أهميته من معرفة حقيقة هذا الدين، ومعرفة حقيقة دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أي شيء دعا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فإذا عرفنا أن هذا الدين يقوم على أساس لا إله إلا الله، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكل نبي قبله- إنما جاء ليدعو الناس إلى هذه الكلمة، وإنما جاهد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل تحقيق التوحيد الذي هو لا إله إلا الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

فلا إله: هذا النفي نبذ للشرك ولكل ما يتبعه من المعاصي والمنكرات.

وإلا الله: هذا الإثبات تحقيق للتوحيد.

والتوحيد هو المعروف الأكبر، والشرك هو المنكر الأكبر، ثم بعد ذلك تكون البدعة هي المنكر الذي يلي الشرك ثم المعاصي المعروفة.

فإذا علمنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاش حياته كلها ومعه صحبه الكرام يدعون إلى توحيد الله، ويأمرون بالسنة، وينهون عن البدعة، ويأمرون بالطاعة وينهون عن المعصية، عرفنا أن حياتهم كلها إنما كانت أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وهكذا من سار بعدهم واقتفى منهجهم.

من آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ولما وقعت غربة الإسلام، واندرست معالمه، وأصبح المسلم يعيش كالقابض على الجمر، وتفشت المنكرات نتيجة تقصير الأمة وإخلالها بهذا الشأن، وكأن ما حل ببني إسرائيل قد وقع بها -ونعوذ بالله أن تنزل بها اللعنة كما نزلت بأولئك- فلقد نسينا أن الله تبارك وتعالى قد خصنا وميزنا بذلك، ونسينا أن الجهاد الذي هو أعلى درجات التضحية والفداء إنما هو من أجل أن يعبد الله وحده، ومن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا لما قال عز وجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] وصفهم بعد ذلك بآية، فقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].

فالإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حال الضعف وفي حال بداية الدعوة، وهو -أيضاً- يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في حال التمكين وفي حال القوة، وحسبنا أن نعلم أنك -أيها المسلم-!

دائماً في حالة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأقل ما يجب -الواجب العيني- هو أن تأمر نفسك بالمعروف وأن تنهاها عن المنكر، فهذا فرض عين على كل مسلم.

ثم بعد ذلك كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه} ثم الدرجة الثالثة التي أصبحت هي ذاتها مفقودة إلا عند من رحم الله وهي الإنكار بالقلب.

ففرض عين على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر في نفسه وفيما تملك يده، في بيته وإدراته، ومدرسته، وفي كل ما له عليه سلطة وولاية ومقدرة على التغيير باليد، وفرض على الأمة جميعاً أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

أقول: لما غابت هذه الحقائق عن الأمة أصبح المؤمن يعيش في حال الغربة، وأصبحت السنة بدعة، والبدعة سنة، وأصبحت بعض المعاصي علامة على أن الإنسان حسن الأخلاق، أو مهذب الطباع، أو اجتماعي، أو غير متشدد أو متزمت، وأصبحت الدعوة إلى ترك بعض المنكرات الظاهرة علامة على أن هذا الإنسان فيه وفيه... من الصفات التي لا تليق، وليست بصفات مدح على أي حال.

فكيف وصلنا إلى هذه الحال؟ وما هو العلاج؟

أهمية توضيح قواعد وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ونحن في هذا الدرس لا نريد أن نتحدث عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذاته، وعن وجوب ذلك، وعن فرضيته، ولكن الحديث إنما هو عن شيء من القواعد أو الضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد تقولون: وهل يحسن أن نتحدث عن القواعد والضوابط مع قلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهل وصل الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى حد الانتشار والعموم الذي يحتاج إلى أن يوضع له قواعد وضوابط؟

فأقول: الحق أن الأمة ما تزال في غيبوبة عن هذا الأمر إلا من رحم الله تبارك وتعالى، ولكن ذلك لا يعني أن نغفل عن هذه القواعد والضوابط الشرعية، التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل من أسباب ذلك وجود توبة وعودة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من قبل الشباب ومن قبل الشيوخ -الذكور والإناث- فأصبحت الأمة الإسلامية على أبواب فجر جديد بإذن الله تبارك وتعالى، وأصبحنا نرى أن ما تعيشه الأمة من واقع مظلم، إنما هو ظلمة ما قبل بزوغ الفجر، وإنما هو مخاض تعقبه ولادة جيل لا تأخذه في الله لومة لائم.

هذا الذي نؤمله ونرجوه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحققه.

ومن أجل هذا الجيل الذي نترقب أن يوجد، ومن أجل هذه القلة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، نريد أن يكون الطريق أمامها واضح المعالم، حتى يكتب لها الأجر كاملاً بإذن الله، وحتى لا تخطأ أو تضل في هذا الأمر، فيكون منكراً آخراً وانحرافاً جديداً يحتاج إلى تصحيح، وإلى أمر بمعروف ونهي عن منكر.

والحق أقول لكم: إن هذه القواعد والضوابط تحتاج إلى أكثر من رأي وأكثر من اجتهاد، لأنها مسائل تتبع في الغالب المصالح التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمصالح متجددة بحسب العقول، الأزمان، والأحوال، ولهذا ينبغي لنا جميعاً أن نجتهد وأن نفكر، من كان مستطيعاً لذلك ليصل بإذن الله إلى ما يحقق المصالح، وإلى ما يدفع المفاسد في هذا الجانب، ولكن لا يمنع ذلك أن نبدأ بخطوة أو خطوات.

ولعل الله تبارك وتعالى -وهو على كل شيء قدير- أن يبارك في كل الإخوان العاملين في هذا الشأن بأن يتموا ذلك، وأن يستدركوا عليه، فهذا واجبنا جميعاً.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما تعرف أهميته من معرفة حقيقة هذا الدين، ومعرفة حقيقة دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أي شيء دعا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فإذا عرفنا أن هذا الدين يقوم على أساس لا إله إلا الله، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكل نبي قبله- إنما جاء ليدعو الناس إلى هذه الكلمة، وإنما جاهد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل تحقيق التوحيد الذي هو لا إله إلا الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

فلا إله: هذا النفي نبذ للشرك ولكل ما يتبعه من المعاصي والمنكرات.

وإلا الله: هذا الإثبات تحقيق للتوحيد.

والتوحيد هو المعروف الأكبر، والشرك هو المنكر الأكبر، ثم بعد ذلك تكون البدعة هي المنكر الذي يلي الشرك ثم المعاصي المعروفة.

فإذا علمنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاش حياته كلها ومعه صحبه الكرام يدعون إلى توحيد الله، ويأمرون بالسنة، وينهون عن البدعة، ويأمرون بالطاعة وينهون عن المعصية، عرفنا أن حياتهم كلها إنما كانت أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وهكذا من سار بعدهم واقتفى منهجهم.

ولما وقعت غربة الإسلام، واندرست معالمه، وأصبح المسلم يعيش كالقابض على الجمر، وتفشت المنكرات نتيجة تقصير الأمة وإخلالها بهذا الشأن، وكأن ما حل ببني إسرائيل قد وقع بها -ونعوذ بالله أن تنزل بها اللعنة كما نزلت بأولئك- فلقد نسينا أن الله تبارك وتعالى قد خصنا وميزنا بذلك، ونسينا أن الجهاد الذي هو أعلى درجات التضحية والفداء إنما هو من أجل أن يعبد الله وحده، ومن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا لما قال عز وجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] وصفهم بعد ذلك بآية، فقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].

فالإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حال الضعف وفي حال بداية الدعوة، وهو -أيضاً- يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في حال التمكين وفي حال القوة، وحسبنا أن نعلم أنك -أيها المسلم-!

دائماً في حالة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأقل ما يجب -الواجب العيني- هو أن تأمر نفسك بالمعروف وأن تنهاها عن المنكر، فهذا فرض عين على كل مسلم.

ثم بعد ذلك كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه} ثم الدرجة الثالثة التي أصبحت هي ذاتها مفقودة إلا عند من رحم الله وهي الإنكار بالقلب.

ففرض عين على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر في نفسه وفيما تملك يده، في بيته وإدراته، ومدرسته، وفي كل ما له عليه سلطة وولاية ومقدرة على التغيير باليد، وفرض على الأمة جميعاً أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

أقول: لما غابت هذه الحقائق عن الأمة أصبح المؤمن يعيش في حال الغربة، وأصبحت السنة بدعة، والبدعة سنة، وأصبحت بعض المعاصي علامة على أن الإنسان حسن الأخلاق، أو مهذب الطباع، أو اجتماعي، أو غير متشدد أو متزمت، وأصبحت الدعوة إلى ترك بعض المنكرات الظاهرة علامة على أن هذا الإنسان فيه وفيه... من الصفات التي لا تليق، وليست بصفات مدح على أي حال.

فكيف وصلنا إلى هذه الحال؟ وما هو العلاج؟

ونحن في هذا الدرس لا نريد أن نتحدث عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذاته، وعن وجوب ذلك، وعن فرضيته، ولكن الحديث إنما هو عن شيء من القواعد أو الضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد تقولون: وهل يحسن أن نتحدث عن القواعد والضوابط مع قلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهل وصل الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى حد الانتشار والعموم الذي يحتاج إلى أن يوضع له قواعد وضوابط؟

فأقول: الحق أن الأمة ما تزال في غيبوبة عن هذا الأمر إلا من رحم الله تبارك وتعالى، ولكن ذلك لا يعني أن نغفل عن هذه القواعد والضوابط الشرعية، التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل من أسباب ذلك وجود توبة وعودة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من قبل الشباب ومن قبل الشيوخ -الذكور والإناث- فأصبحت الأمة الإسلامية على أبواب فجر جديد بإذن الله تبارك وتعالى، وأصبحنا نرى أن ما تعيشه الأمة من واقع مظلم، إنما هو ظلمة ما قبل بزوغ الفجر، وإنما هو مخاض تعقبه ولادة جيل لا تأخذه في الله لومة لائم.

هذا الذي نؤمله ونرجوه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحققه.

ومن أجل هذا الجيل الذي نترقب أن يوجد، ومن أجل هذه القلة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، نريد أن يكون الطريق أمامها واضح المعالم، حتى يكتب لها الأجر كاملاً بإذن الله، وحتى لا تخطأ أو تضل في هذا الأمر، فيكون منكراً آخراً وانحرافاً جديداً يحتاج إلى تصحيح، وإلى أمر بمعروف ونهي عن منكر.

والحق أقول لكم: إن هذه القواعد والضوابط تحتاج إلى أكثر من رأي وأكثر من اجتهاد، لأنها مسائل تتبع في الغالب المصالح التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمصالح متجددة بحسب العقول، الأزمان، والأحوال، ولهذا ينبغي لنا جميعاً أن نجتهد وأن نفكر، من كان مستطيعاً لذلك ليصل بإذن الله إلى ما يحقق المصالح، وإلى ما يدفع المفاسد في هذا الجانب، ولكن لا يمنع ذلك أن نبدأ بخطوة أو خطوات.

ولعل الله تبارك وتعالى -وهو على كل شيء قدير- أن يبارك في كل الإخوان العاملين في هذا الشأن بأن يتموا ذلك، وأن يستدركوا عليه، فهذا واجبنا جميعاً.

وأول ما نضعه من هذه الضوابط والقواعد: أن نعلم أن الآمر بالمعروف وأن الناهي عن المنكر إنما هو داعية إلى الله تبارك وتعالى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جزء من الدعوة، وإن شئت فقل هو الدعوة كلها ولا غضاضة.

فليس المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: التشفي أو الثأر أو الانتقام من هذا الواقع المر، أو من هؤلاء العصاة وإن جاروا وإن بغوا على أهل الحق والخير، وإنما هو جزء من الدعوة إلى الله، فالصبر فيه صبر على الدعوة إلى الله.

وطلب العلم من أجل ذلك واجب.

والحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبة؛ لأن الدعوة إلى الله لا بد أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن كما بين الله ذلك.

أي أننا نستطيع أن نقول: إن كل ما ينضبط به منهج الدعوة إلى الله ويقوم عليه، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً يتقيد بتلك الضوابط، وينضبط بتلك القواعد.

فقه الأولويات

والأمر الثاني: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أولويات؛ فلا بد أن نقدم المنكر الأكبر في الإنكار، ثم المنكر الأصغر منه.

وحياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها شاهدة على ذلك، حيث بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يزنون، ويئدون البنات، ويشربون الخمر، ويقطعون الأرحام، ويأكلون الميتة، ويشركون بالله تبارك وتعالى ويعبدون غير الله.

فبماذا بدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوته وإنكاره على المشركين؟

لقد بدأ بالنهي عن الشرك أولاً.

فإذاً نبدأ بإنكار الشرك، لأن الشرك هو المنكر الأكبر، وهو الذنب الأعظم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ونحن دعاة وهداة نريد أن ندعو الناس إلى طريق الجنة.

فلنبدأ إذن بإنكار الذنب الذي لن يصلوا أبداً إلى طريق الجنة وهم مرتكبون له، ونوضح لهم ذلك، وإذا كان ذلك يستلزم منا العلم فلنتعلم.

فيجب أن نتعلم ما هو التوحيد وما هو الشرك، وما هي أنواعه، وما هو الشرك الأكبر وما هو الأصغر، وما هي أحكامه، وما هي ذرائعه، ووسائله التي تُوصل إليه.

وذلك لأن الذرائع والوسائل لها حكم المقاصد، فننكر المنكر الأكبر، وننكر ما يؤدي إلى المنكر الأكبر، وهذه هي الدرجة الأولى، فإذا كان الداعية في أمة فليبدأ بذلك، وإذا كان مع فرد فليبدأ بذلك.

فمثلاً: رجل يدعو غير الله عز وجل، ورجل يتحاكم إلى الطواغيت، ورجل يذبح لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ أول ما نهتم به بأن ندعوه إليه هو أن يتخلى عن هذا الشرك، وأن يسلم قلبه وروحه لله وحده لا شريك له، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

فيجب أن نهتم بأن ندعوه أولاً إلى تحقيق التوحيد.

أرأيتم لو أن أمة من الأمم تعبد الأضرحة والقبور، وتدعو غير الله، وتستغيث بغير الله، وتذبح لغير الله، وتتحاكم إلى غير شرع الله تبارك وتعالى، ومع ذلك نجد أنها تملأ المساجد للصلاة، ونجد أن وعاظها ينكرون الزنا، وشرب الخمر، ويجتهدون في ذلك، هل ترون هذه الأمة يمكن أن تصل إلى أن تكون من الأمة التي فضلها الله على العالمين؟ أو أن تلك الدعوات ستنجح في أن تصبح هذه الأمة كذلك؟

لا مهما دُعي ومهما تُكلم عن تلك الفروع فلا يمكن أبداً بأي حال من الأحوال أن تكون من الأمة التي لها الخيرية على العالمين.

فكل دعوة إصلاحية أخلاقية لم تقم على الأمر بالمعروف الأكبر وهو التوحيد، وعلى النهي عن المنكر الأكبر وهو الشرك، فإنها دعوة مخفقة لا تنجح بأي حال من الأحوال.

وكذلك الفرد: فلو دعوت إنساناً من هذا النوع فحافظ على الصلاة، وترك الخمر والزنا، ولكنه يدعو غير الله، ويحلف بغير الله، ويعدل بالله تبارك وتعالى غيره، ويعترض على قضاء الله، وما أشبه ذلك مما يخل بالإيمان والعقيدة، فنجده يصلي لله، ولكنه لا يدري أين الله -كما يقول بعض الناس إنه في كل مكان- وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخبرنا أنه على العرش: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فهو فوق المخلوقات على العرش، فإذا صلى هذا الرجل وتهجد وتعبد ولكنه يتعبد لإله يظنه في كل مكان، فإن هذا الإنسان لم يحقق حقيقة الإيمان.

إذاً نقول: إن البدء بالعقيدة، والتوحيد هو الأساس حتى نعبد الله تبارك وتعالى على بصيرة وبرهان، ومن هنا كانت هذه هي البداية التي لا تُتجاوز، وبعد ذلك ينطلق الإنسان.

فالإنسان العاق لوالديه -عافانا الله وإياكم من ذلك- وهو أيضاً قاطع لرحمه من الأقربين، نبدأ معه في الدعوة والإصلاح والإنكار بالحق الأعظم، لأنه ليس لأحد بعد الله تبارك وتعالى حق أعظم من حق الوالدين، وحقهم قبل بقية الأرحام، والجار، وسائر الحقوق.

فإذا أردت أن تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر، فرتب هذه الحقوق، ورتب أنواع المعروف، وكذلك رتب أنواع الشرك، وأبدأ بالأهم ثم الأهم.

ولا يمنع ذلك أن تبدأ دعوتك بالمحبة وبالحكمة وبالحسنى، ونحن نقول: إنها جزء من الدعوة إلى الله، لكن يكون الاهتمام هو أن أغير المنكر الأكبر عنده، وأن أزيل عنه هذا المنكر، حتى إذا بقيت عنده كبائر فهي أهون من المنكر الأكبر، وهي كبائر أسعى إلى تغييرها، ولكن بعد أن أكون قد اطمأننت إلى أن المنكر الأكبر قد قضي عليه، وأنه لا وجود له.

أهمية الدعوة إلى التوحيد في المجتمعات التي يقل فيها الشرك

والمجتمعات التي يقل أو يختفي فيها الشرك بوضوحه -الشرك الأكبر المخرج من الملة- يجب ألا تغفل هذه القضية، وأنا أنبه إلى هذا لأننا مغزوون، ولأن المجتمعات التي ورثت التوحيد وهي عليه بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بفضل الذين قاموا بدعوة التوحيد التجديدية مع ذلك هذه المجتمعات تغزى، والقلوب إذا طال عليها الأمد تقسو، والغفلة تعتري الناس، والشيطان يوسوس، وإلا فقد كانت الأمة كلها على التوحيد، حتى حدث الشرك في قوم نوح.

إذاً لا نطمئن ونقول: دعونا من هذا الكلام، والآن نتكلم في الربا والزنا والخمر، وما أشبه ذلك، ونترك التوحيد والشرك، فهذا الكلام خاطئ، لابد أن ندعو إلى ذلك حتى الذين لا شرك فيهم، ونذكرهم ونذكر أنفسنا بذلك، ولذلك قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136].

وهنا يلاحظ الثبات على الإيمان، والاستمرار عليه فهو الأساس، وبعد ذلك على هذه القاعدة تقوم جميع الطاعات، ولو أننا عرفنا حقيقة التوحيد، ولو أننا اجتنبا المنكر الأكبر الذي هو الشرك لما أكلنا الربا، ولا رضينا بالخمر، والزنا أبداً.

علاقة المعاصي بالشرك

ولننظر إلى الذي يأكل الربا لماذا يأكله أليس لأن قلبه قد غلب عليه حب الدنيا؟ فهو يأكل الربا، والرشوة وأمثال ذلك من المنكرات التي يرتكبها، وهو يعلم أنها حرام؛ لأن القلب في الحقيقة ضعيف الإيمان، أو فاقد الإيمان، ولهذا آثر الحياة الدنيا على الحياة الأخرى، وأتبع نفسه هواها.

فإذاً ابدأ معه وذكره بالأساس، وإن كان يقول أنا على التوحيد وعلى الإيمان ولا شرك عندي، فنقول له: هل نسيت شرك الإرادة؟ وهل نسيت شرك المحبة؟ فإن محبة الشيء محبة شيء إذا تغلغلت في القلب، حتى طمست على محبة الله ورسوله فإنه شرك، وإذا أريد عمل أمر ما يقدم على أمر الله ورسوله فهذا شرك خفي.

فإذاً لا بد أن نعرف أن كل منكر له أساس من الشرك، بل قد كان بعض السلف يطلق على كل الذنوب شرك، ولا يقصد أنها تخرج صاحبها من الملة كما فعلت الخوارج، وهذا معلوم ونحن لا نكفر من يشرب الخمر، أو يأكل الربا، أو يزني، فمذهب أهل السنة والجماعة أنه مسلم لكنه ليس لديه إيمان، فالإسلام فوقه درجة هي درجة الإيمان، والإيمان فوقه درجة هي درجة الإحسان، لكن بعض السلف سمى الذنوب جميعها شرك؛ لأن أصلها جميعاً هو اتباع الهوى، فمن اتخذ إلهه هواه فقد أشرك بهذا الشرك الخفي، وإن كان لا يأخذ حكم الشرك الظاهر الذي يخرج من الملة.

فهذه القاعدة يجب أن نتنبه لها ونحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وندعو إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى.

والقواعد والضوابط التي يجب الاهتمام بها في حال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي:

والأمر الثاني: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أولويات؛ فلا بد أن نقدم المنكر الأكبر في الإنكار، ثم المنكر الأصغر منه.

وحياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها شاهدة على ذلك، حيث بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يزنون، ويئدون البنات، ويشربون الخمر، ويقطعون الأرحام، ويأكلون الميتة، ويشركون بالله تبارك وتعالى ويعبدون غير الله.

فبماذا بدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوته وإنكاره على المشركين؟

لقد بدأ بالنهي عن الشرك أولاً.

فإذاً نبدأ بإنكار الشرك، لأن الشرك هو المنكر الأكبر، وهو الذنب الأعظم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ونحن دعاة وهداة نريد أن ندعو الناس إلى طريق الجنة.

فلنبدأ إذن بإنكار الذنب الذي لن يصلوا أبداً إلى طريق الجنة وهم مرتكبون له، ونوضح لهم ذلك، وإذا كان ذلك يستلزم منا العلم فلنتعلم.

فيجب أن نتعلم ما هو التوحيد وما هو الشرك، وما هي أنواعه، وما هو الشرك الأكبر وما هو الأصغر، وما هي أحكامه، وما هي ذرائعه، ووسائله التي تُوصل إليه.

وذلك لأن الذرائع والوسائل لها حكم المقاصد، فننكر المنكر الأكبر، وننكر ما يؤدي إلى المنكر الأكبر، وهذه هي الدرجة الأولى، فإذا كان الداعية في أمة فليبدأ بذلك، وإذا كان مع فرد فليبدأ بذلك.

فمثلاً: رجل يدعو غير الله عز وجل، ورجل يتحاكم إلى الطواغيت، ورجل يذبح لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ أول ما نهتم به بأن ندعوه إليه هو أن يتخلى عن هذا الشرك، وأن يسلم قلبه وروحه لله وحده لا شريك له، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

فيجب أن نهتم بأن ندعوه أولاً إلى تحقيق التوحيد.

أرأيتم لو أن أمة من الأمم تعبد الأضرحة والقبور، وتدعو غير الله، وتستغيث بغير الله، وتذبح لغير الله، وتتحاكم إلى غير شرع الله تبارك وتعالى، ومع ذلك نجد أنها تملأ المساجد للصلاة، ونجد أن وعاظها ينكرون الزنا، وشرب الخمر، ويجتهدون في ذلك، هل ترون هذه الأمة يمكن أن تصل إلى أن تكون من الأمة التي فضلها الله على العالمين؟ أو أن تلك الدعوات ستنجح في أن تصبح هذه الأمة كذلك؟

لا مهما دُعي ومهما تُكلم عن تلك الفروع فلا يمكن أبداً بأي حال من الأحوال أن تكون من الأمة التي لها الخيرية على العالمين.

فكل دعوة إصلاحية أخلاقية لم تقم على الأمر بالمعروف الأكبر وهو التوحيد، وعلى النهي عن المنكر الأكبر وهو الشرك، فإنها دعوة مخفقة لا تنجح بأي حال من الأحوال.

وكذلك الفرد: فلو دعوت إنساناً من هذا النوع فحافظ على الصلاة، وترك الخمر والزنا، ولكنه يدعو غير الله، ويحلف بغير الله، ويعدل بالله تبارك وتعالى غيره، ويعترض على قضاء الله، وما أشبه ذلك مما يخل بالإيمان والعقيدة، فنجده يصلي لله، ولكنه لا يدري أين الله -كما يقول بعض الناس إنه في كل مكان- وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخبرنا أنه على العرش: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فهو فوق المخلوقات على العرش، فإذا صلى هذا الرجل وتهجد وتعبد ولكنه يتعبد لإله يظنه في كل مكان، فإن هذا الإنسان لم يحقق حقيقة الإيمان.

إذاً نقول: إن البدء بالعقيدة، والتوحيد هو الأساس حتى نعبد الله تبارك وتعالى على بصيرة وبرهان، ومن هنا كانت هذه هي البداية التي لا تُتجاوز، وبعد ذلك ينطلق الإنسان.

فالإنسان العاق لوالديه -عافانا الله وإياكم من ذلك- وهو أيضاً قاطع لرحمه من الأقربين، نبدأ معه في الدعوة والإصلاح والإنكار بالحق الأعظم، لأنه ليس لأحد بعد الله تبارك وتعالى حق أعظم من حق الوالدين، وحقهم قبل بقية الأرحام، والجار، وسائر الحقوق.

فإذا أردت أن تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر، فرتب هذه الحقوق، ورتب أنواع المعروف، وكذلك رتب أنواع الشرك، وأبدأ بالأهم ثم الأهم.

ولا يمنع ذلك أن تبدأ دعوتك بالمحبة وبالحكمة وبالحسنى، ونحن نقول: إنها جزء من الدعوة إلى الله، لكن يكون الاهتمام هو أن أغير المنكر الأكبر عنده، وأن أزيل عنه هذا المنكر، حتى إذا بقيت عنده كبائر فهي أهون من المنكر الأكبر، وهي كبائر أسعى إلى تغييرها، ولكن بعد أن أكون قد اطمأننت إلى أن المنكر الأكبر قد قضي عليه، وأنه لا وجود له.

والمجتمعات التي يقل أو يختفي فيها الشرك بوضوحه -الشرك الأكبر المخرج من الملة- يجب ألا تغفل هذه القضية، وأنا أنبه إلى هذا لأننا مغزوون، ولأن المجتمعات التي ورثت التوحيد وهي عليه بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بفضل الذين قاموا بدعوة التوحيد التجديدية مع ذلك هذه المجتمعات تغزى، والقلوب إذا طال عليها الأمد تقسو، والغفلة تعتري الناس، والشيطان يوسوس، وإلا فقد كانت الأمة كلها على التوحيد، حتى حدث الشرك في قوم نوح.

إذاً لا نطمئن ونقول: دعونا من هذا الكلام، والآن نتكلم في الربا والزنا والخمر، وما أشبه ذلك، ونترك التوحيد والشرك، فهذا الكلام خاطئ، لابد أن ندعو إلى ذلك حتى الذين لا شرك فيهم، ونذكرهم ونذكر أنفسنا بذلك، ولذلك قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136].

وهنا يلاحظ الثبات على الإيمان، والاستمرار عليه فهو الأساس، وبعد ذلك على هذه القاعدة تقوم جميع الطاعات، ولو أننا عرفنا حقيقة التوحيد، ولو أننا اجتنبا المنكر الأكبر الذي هو الشرك لما أكلنا الربا، ولا رضينا بالخمر، والزنا أبداً.