أنزله اللّه إليهم من التعاليم - كما أنزلها اللّه بدون تحريف ولا تبديل - لصلحت حياتهم الدنيا،ونمت وفاضت عليهم الأرزاق،ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق،ووفرة النتاج وحسن التوزيع،وصلاح أمر الحياة ..ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا يقيمون منهج اللّه - إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ» .
وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج اللّه في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا،لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده - وإن كان هو المقدّم وهو الأدوم - ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا،ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة ..وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية ..يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله: «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» ..
وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا.إنما هو طريق واحد،تصلح به الدنيا والآخرة،فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة ..هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا ..
وهذا المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب،ولكنه كذلك - وتبعا لذلك - منهج حياة إنسانية واقعية،يقام،وتقام عليه الحياة ..وإقامته - مع الإيمان والتقوى - هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية،وفيض الرزق،ووفرة النتاج،وحسن التوزيع،حتى يأكل الناس جميعا - في ظل هذا المنهج - من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا من الدنيا ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا من سعادة الدنيا،ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا ..وهذه هي الحقيقة الغائمة اليوم في أفكار الناس وعقولهم وضمائرهم وأوضاعهم الواقعية.
لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير الناس وضميرهم وواقعهم.بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة - لا يرى أن هنالك سبيلا للالتقاء بين الطريقين.ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه