فهرس الكتاب
الصفحة 31 من 33

تحدثنا في ما مضى أن الشيطان قد يصيب الإنسان ، وهو ما نسميه الصرع أو مس الجن ، وسنحاول أن نبين أسباب الصرع وعلاجه:

أسباب الصرع:

بيّن ابن تيمية (1) :"أن الصرع للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق ، كما يتفق للإنس مع الإنس ... ، وقد يكون - وهو الأكثر - عن بغض ومجازاة ، مثل أن يؤذيهم بعض الإنس ، أو يظنوا أنهم يتعمدون أذاهم إما ببول على بعضهم ، وإمّا بصب ماء حار ، وإما بقتل بعضهم ، وإن كان الإنس لا يعرف ذلك ، وفي الجن جهل وظلم ، فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه ، وقد يكون عن عبث منهم وشرّ بمثل سفهاء الإنس".

واجبنا تجاه هؤلاء:

ذكرنا أن الجن عباد مأمورون متعبدون بالشريعة ، فإذا استطاع المسلم أن يصل إلى مخاطبتهم ، كما يحدث مع الجني الذي يصرع الإنسان ، وجب القيام بذلك .

فإذا كان صرع الجني للإنسي من الباب الأول ( عن شهوة وهوى ) ، فهو من الفواحش التي حرمها الله تعلى على الإنس والجن ، ولو كانت برضا الطرف الآخر ، فكيف مع كراهته ، فإنّه فاحشة وظلم . فيخاطب الجن بذلك ، ويعرفون أن هذا فاحشة محرمة ، أو فاحشة وعدوان ؛ لتقوم الحجة عليهم بذلك ، ويعلموا أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله الذي أرسله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن .

وما كان من الثاني ( إيذاء بعض الإنس لهم ) ، فإن كان الإنسي لم يَعْلَمْ ، فيخاطبون بأن هذا لم يعلم ، ومن لم يتعمد الأذى لا يستحق العقوبة ، وإن كان قد فعل ذلك في داره وملكه عرفوا بأنها ملكه ، فله أن يتصرف فيها بما يجوز ، وأنتم ليس لكم أن تمكثوا في ملك الإنس بغير إذنهم ، بل لكم ما ليس من مساكن الإنس كالخراب والفلوات ...

ويقول ابن تيمية (2) :"والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس ، أخبروا بحكم الله ورسوله ، وأقيمت عليهم الحجة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، كما يفعل بالإنس ؛ لأن الله يقول: ( وما كنَّا معذبين حتَّى نبعث رسولاً ) [ الإسراء: 15 ] ، وقال: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصُّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) [ الأنعام: 130 ] ؟"

النهي عن قتل حيَّات البيوت:

يقول ابن تيمية:"ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل حيّات البيوت حتى تؤذن ثلاثاً"، وقد سبق ذكر النصوص المبينة لذلك ، وقد ساق ابن تيمية تلك النصوص ، ثمّ بين السبب الذي من أجله نهى عن قتل جنان البيوت فقال:"وذلك أن قتل الجن بغير حق لا يجوز ، كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق ، والظلم محرم في كل حال ، فلا يحلّ لأحد أن يظلم أحداً ، ولو كان كافراً ، بل قال تعالى: ( ولا يجر منَّكم شَنَآنُ قومٍ على ألاَّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتَّقوى ) [ المائدة: 8 ] ."

فإذا كانت حيات البيوت قد تكون جنّاً فتؤذن ثلاثاً ، فإن ذهبت وإلا قتلت ، فإنها إن كانت حية قتلت ، وإن كانت جنية ، فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حيّة تفزعهم بذلك ، والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلاً ، وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك ، فلا يجوز"."

سب الجان وضربهم:

وذكر ابن تيمية أن واجب المؤمن نصرة أخيه المظلوم ، وهذا المصروع مظلوم ، ولكن النصرة يكون بالعدل كما أمر الله ، فإذا لم يرتدع الجني بالأمر والنهي والبيان ، فإنّه يجوز نهره وسبه وتهديده ولعنه ، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الشيطان عندما جاء بشهاب ليرميه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: ( أعوذ بالله منك ، ألعنك بلعنة الله ثلاثاً ) .

وذكر أنه قد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجني عنه إلى الضرب ، فيضرب ضرباً كثيراً جدّاً ، والضرب إنما يقع على الجني ، ولا يحسه المصروع ، حتى يفيق المصروع ، ويخبره أنه لم يحس شيئاً من ذلك ، ولا يؤثر في بدنه ، ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة أو أكثر أو أقل ، بحيث لو كان على الإنسي لقتله ، وإنما هو على الجني ، والجني يصيح ويصرخ ، ويحدث الحاضرين بأمور متعددة ، ويذكر ابن تيمية أنه فعل هذا وجربه مرات كثيرة ، يطول وصفها .

أقول: وقد يستغل الضرب فيمن يظن أن فيه صرع وهو ليس كذلك ، فيكون فيه هلاك المضروب ، ولذلك ينبغي تجنبِه .

الاستعانة على الجان بالذكر وقراءَة القرآن:

وخير ما يستعان به على الجني الذي يصرع الإنسان ذكر الله وقراءَة القرآن ، ومن أعظم ذلك قراءَة آية الكرسي ، ( فإن من قرأها لا يزال عليه من الله حافظ ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح ) . كما صح الحديث بذلك .

يقول ابن تيمية (3) :"ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته ، فإن لها تأثيراً عظيماً في دفع الشياطين عن نفس الإنسان وعن المصروع ، وعمن تعينه الشياطين ، مثل أهل الظلم والغضب ، وأهل الشهوة والطرب ، وأرباب سماع المكاء والتصدية ، إذا قرئت عليهم بصدق ، دفعت الشياطين ، إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء الله المتقين ، وإنما هي من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين".

طرد الرسول صلى الله عليه وسلم للجن من بدن المصروع:

فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة ، فعن أم أبان بنت الوازع بن زارع ابن عامر العبدي ، عن أبيها ، أن جدها الزارع انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق معه بابن له مجنون ، أو ابن أخت له .

قال جدي: فلما قدمنا على رسول الله قلت: إن معي ابناً لي ، أو ابن أخت لي مجنون ، أتيتك به فتدعو الله له ، قال: ( ائتني به ) فانطلقت إليه ، وهو في الركاب ، فأطلقت عنه ، وألقيت عنه ثياب السفر ، وألبسته ثوبين حسنين ، وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقال: ( أدنه مني ، واجعل ظهره مما يليني ) . قال: فأخذ بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله ، فجعل يضرب ظهره ، حتى رأيت بياض إبطيه ، ويقول: ( اخرج عدو الله ، اخرج عدو الله ) .

فأقبل ينظر نظر الصحيح ، ليس بنظره الأول . ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ، فدعا له ، فمسح وجهه ، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه . رواه الطبراني (4) .

وفي المسند أيضاً عن يعلى بن مرّة قال:"لقد رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ما رآها أحد قبلي ، ولا يراها أحد بعدي ."

لقد خرجت معه في سفر ، حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامراة جالسة معها صبي لها ، فقالت يا رسول الله: هذا الصبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء ، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة ، قال: ( ناولينيه ) ، فرفعته إليه ، فجعلته بينه وبين واسطة الرحل ، ثم فغر ( فاه ) ، فنفث فيه ثلاثاً ، وقال ( بسم الله ، أنا عبد الله ، اخسأ عدو الله ) ، ثم ناولها إياه ، فقال: ( القينا في الرجعة في هذا المكان ، فأخبرينا ما فعل ) قال: فذهبنا ، ورجعنا ، فوجدناها في ذلك المكان ، معها ثلاث شياه ، فقال: ( ما فعل صبيك ؟ ) ، فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئاً حتى الساعة ، فاجترر هذه الغنم ، قال: ( انزل خذ منها واحدة ، ورد البقية ) (5) .

وعن عثمان بن أبي العاص ؛ قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف ، جعل يعرض لي شيء في صلاتي ، حتى ما أدري ما أُصلي ، فلما رأيت ذلك ، رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال:

( ابْنُ أَبِي العاصِ ؟ ) قلت: نعم: يا رسول الله ! قال: ( ما جاء بك ؟ ) ، قلت: يا رسول الله ! عرض لي شيء في صلواتي ، حتى ما أدري ما أصلي . قال: ( ذلك الشيطانُ . فادْنُهْ ) فدنوت منه . فجلست على صدور قدمي . قال ، فضرب صدري بيده ، وتفل في فمي ، وقال: ( اخرُجْ . عَدُوّ الله ! ) ففعل ذلك ثلاث مرات . ثم قال: ( الحق بعَمَلكَ ) (6) .

وإذا ابتلي المصروع ، ولم يجد علاجاً فصبر على بلواه ، فإن له عند الله أجراً عظيماً ، ففي صحيح البخاري عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي عطاء بن أبي رباح: ( قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت: بلى . قال: هذه المرأة السوداء ، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف ، فادع الله لي . قال:( إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ) . فقالت: أصبر . فقالت: إني أتكشف ، فادع الله لي أن لا أتكشف ، فدعا لها"."

حدثنا محمدٌ أخبرنا مخلدٌ عن ابن جريج أخبرني عطاء: أنه رأى أم زفر ، تلك المرأة الطويلة السوداء ، على ستر الكعبة (7) . وذكر ابن حجر أن هذه المرأة قالت:"إني أخاف الخبيث أن يجردني" (8) .

فالرسول صلى الله عليه وسلم أخرج الجني بالأمر والنهر واللعن ، ولكن هذه لا تكفي وحدها ، فإنّ لقوة الإيمان وثبات اليقين وحسن الصلة بالله أثراً كبيراً في هذا ، يدلك على ذلك ما سنورده في الواقعة التالية .

الإمام أحمد يأمر الجني بالخروج فيستجيب:

روي أنّ الإمام أحمد كان جالساً في مسجده ، إذ جاءَه صاحب له من قبل الخليفة المتوكل ، فقال:

إن في بيت أمير المؤمنين جارية بها صرع ، وقد أرسلني إليك ، لتدعو الله لها بالعافية .

فأعطاه الإمام نعلين من الخشب ، وقال: اذهب إلى دار أمير المؤمنين ، واجلس عند رأس الجارية ، وقل للجني: قال لك أحمد: أيما أحب إليك: تخرج من هذه الجارية ، أو تصفع بهذا النعل سبعين ؟

فذهب الرجل ومعه النعل إلى الجارية ، وجلس عند رأسها ، وقال كما قال له الإمام أحمد .

فقال المارد على لسان الجارية: السمع والطاعة لأحمد ، لو أمرنا أن نخرج من العراق لخرجنا منه ، إنه أطاع الله ، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء ، ثم خرج من الجارية ، فهدأت ، ورزقت أولاداً .

فلما مات الإمام ، عاد لها المارد ، فاستدعى لها الأمير صاحباً من أصحاب أحمد ، فحضر ، ومعه ذلك النعل ، وقال للمارد: أخرج وإلا ضربتك بهذا النعل .

فقال المارد: لا أطيعك ولا أخرج ، أما أحمد بن حنبل ، فقد أطاع الله فأمرنا بطاعته .

ما ينبغي أن يكون عليه المعالج:

وينبغي للمعالج أن يكون قوي الإيمان بالله معتمداً عليه ، واثقاً بتأثير الذكر وقراءَة القرآن ، وكلما قوي إيمانه وتوكله قوي تأثيره ، فربما كان أقوى من الجني فأخرجه ، وربما كان الجني أقوى فلا يخرج ، وربما كان المخرج للجني ضعيفاً ، فتتقصد الجن إيذاءَه ، فعليه بكثرة الدعاء والاستعانة عليهم بالله ، وقراءَة القرآن ، خاصة آية الكرسي .

الرقى والتعاويذ:

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى (9) :"وأما معالجة الموضوع بالرقى ، والتعويذات فهذا من وجهين:"

فإن كانت الرقى والتعاويذ مما يعرف معناها ، ومما يجوز في دين الإسلام أن يتكلم به الرجل ، داعياً الله ، ذاكراً له ، ومخاطباً لخلقه ، ونحو ذلك ، فإنه يجوز أن يرقي بها المصروع ، ويعوذه ، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اعرضوا عليَّ رقاكم ، لا بأس بالرقى: ما لم يكن فيه شرك ) (10) ، وقال: ( من استطاع منكم أن ينفع أخيه فلينفعه ) (11) .

وإن كان في ذلك كلمات محرمة ، مثل أن يكون فيها شرك ، أو كانت مجهولة المعنى ، يحتمل أن يكون فيها كفر ، فليس لأحد أن يرقي بها ولا يعزم ، ولا يقسم ، وإن كان الجني قد ينصرف عن المصروع بها ، فإنّ ما حرمه الله ورسوله ضرره أكثر من نفعه .

وذكر في موضع آخر (12) :"أن أرباب العزائم الشركية كثيراً ما يعجزون عن دفع الجني ، وكثيراً ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنس أو حبسه ، فيخيلوا إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه ، ويكون ذلك تخييلاً وكذباًً ."

استرضاء الجن:

وبعض الناس يحاولون استرضاء الجني الذي يصرع الإنسان بالذبح له ، وهذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله ، وروي أنه نهى عن ذبائح الجن .

وقد يزعم بعض الناس أن هذا من باب التداوي بالحرام ، وهذا خطأ كبير ، فالصواب أن الله لم يجعل الشفاء في شيء من المحرمات ، وعلى القول بجواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخمر ، فلا يجوز أن يستدل بذلك على الذبح للجني ؛ لأن التداوي بالمحرمات فيه نزاع لبعض العلماء ، أمّا التداوي بالشرك والكفر ، فلا خلاف بين العلماء في تحريمه ، ولا يجوز التداوي به باتفاق .

وفي الختام أحب أن أنبه أن ليس كل صرع فهو من الجان ، فمنه ما هو أمراض عارضة لها أسبابها التي قد يعلمها الأطباء ، وقد لا يعلمونها ، وهذا لا ينفي معالجة أمثال هؤلاء بالقرآن والرقى ، فالقرآن والرقى لها أثر في الشفاء من جميع الأدواء .

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/39 .

(2) مجموع الفتاوى: 19/42 .

(3) مجموع الفتاوى: 19/55 .

(4) مجمع الزوائد: 9/2 . وقال الهيثمي فيه: وأم أبان لم يرو عنها غير مطر . وذكر الهيثمي الحديث من رواية أحمد في مسنده بأخصر مما ذكره الطبراني .وقال: فيه هند بنت الوازع لم أعرفها ، وبقية رجاله ثقات .

(5) رواه أحمد في مسنده: 4/170 ، وروى الدارمي ، (1/15 . ورقمه: 17) هذه القصة بلفظ مقارب عن جابر رضي الله عنه .

(6) صحيح سنن ابن ماجة: 2/273 . ورقمه: 2858 .

(7) صحيح البخاري: 10/114 . ورقمه: 5652 .

(8) فتح الباري: 10/115 .

(9) مجموع الفتاوى: 24/277 .

(10) صحيح مسلم: 4/1727 . ورقمه: 2200 .

(11) صحيح مسلم: 4/1727 . ورقمه: 2199 .

(12) مجموع الفتاوى: 19/46 .

.ــــــــــــ

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام