أولاً: الحذر والحيطة:
هذا العدو الخبيث الماكر حريص على إضلال بني آدم ، وقد علمنا أهدافه ووسائله في الإضلال ، فبمقدار علمك بهذا العدو: أهدافه ووسائله والسبل التي يضلنا بها تكون نجاتنا منه ، أما إذا كان الإنسان غافلاً عن هذه الأمور فإن عدوه يأسره ويوجهه الوجهة التي يريد .
وقد صور ابن الجوزي هذا الصراع بين الإنسان والشيطان تصويراً بديعاً حيث يقول:"واعلم أن القلب كالحصن ، وعلى ذلك الحصن سور ، وللسور أبواب وفيه ثلم (1) ، وساكنه العقل ، والملائكة تتردد على ذلك الحصن ، وإلى جانبه ربض (2) فيه الهوى ، والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع ، والحرب قائمة بين أهل الحصن وأهل الربض ، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم ."
فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه وجميع الثلم ، وألا يفتر عن الحراسة لحظة ، فإن العدو لا يفتر . قال رجل للحسن البصري: أينام إبليس ؟ قال: لو نام لوجدنا راحة .
وهذا الحصن مستنير بالذكر مشرق بالإيمان ، وفيه مرآة صقيلة يتراءى فيها صورة كل ما يمرّ به ، فأول ما يفعل الشيطان في الربض إكثار الدخان ، فتسودّ حيطان الحصن ، وتصدأ المرآة ، وكمال الفكر يرد الدخان ، وصقل الذكر يجلو المرآة ، وللعدو حملات ، فتارة يحمل فيدخل الحصن ، فيكر عليه الحارس فيخرج ، وربما دخل فعاث ، وربما أقام لغفلة الحراس ، وربما ركدت الريح الطاردة للدخان ، فتسود حيطان الحصن ، وتصدأ المرآة فيمر الشيطان ولا يدري به ، وربما جرح الحارس لغفلته ، وأسر واستخدم ، وأقيم يستنبط الحيل في موافقة الهوى ومساعدته" (3) ."
ثانياً: الالتزام بالكتاب والسنّة:
أعظم سبيل للحماية من الشيطان هو الالتزام بالكتاب والسنة علماً وعملاً ، فالكتاب والسنة جاءا بالصراط المستقيم ، والشيطان يجاهد كي يخرجنا عن هذا الصراط قال تعالى: ( وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السُّبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لعلَّكم تتَّقون ) [ الأنعام: 153 ] .
وقد شرح الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية فعن عبد الله بن مسعود قال:"خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ، ثمّ قال: ( هذا سبيل الله ) ثمّ خط خطوطاً عن يمينه وشماله وقال: ( هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) وقرأ: ( وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ) [ الأنعام: 153 ] . رواه الإمام أحمد والنسائي والدارمي (4) ."
فاتباع ما جاءنا من عند الله من عقائد وأعمال وأقوال وعبادات وتشريعات ، وترك كل ما نهى عنه ، يجعل العبد في حرز من الشيطان ، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ( يا أيَّها الَّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافَّةً ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه لكم عدوٌّ مُّبينٌ ) [البقرة: 208] .
والسلم: هو الإسلام . وقيل طاعة الله ، وفسره مقاتل بأنه العمل بجميع الأعمال ووجوه البر ، وعلى ذلك فقد أمرهم بالعمل بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ما استطاعوا ، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان ، فالذي يدخل في الإسلام مبتعد عن الشيطان وخطواته ، والذي يترك شيئاً من الإسلام فقد اتبع بعض خطوات الشيطان ، ولذلك كان تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله ، أو الأكل من المحرمات والخبائث ، كل ذلك من اتباع خطوات الشيطان التي نهينا عنها: ( يا أيَّها النَّاس كلوا ممَّا في الأرض حلالاً طيباً ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه لكم عدوٌّ مُّبين ) [ البقرة: 168 ] .
إن الالتزام بالكتاب والسنة قولاً وعملاً يطرد الشيطان ويغيظه أعظم إغاظة ، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا قرأ ابنُ آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول: يا ويله ،( وفي رواية أبي كريب: يا ويلي ) أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنّة وأُمرتُ بالسجود فأبيت ، في النار ) (5) .
ثالثاً: الالتجاء إلى الله والاحتماء به:
خير سبيل للاحتماء من الشيطان وجنده هو الالتجاء إلى الله والاحتماء بجنابه ، والاستعاذة به من الشيطان ، فإنه عليه قادر . فإذا أجار عبده فأنى يخلص الشيطان إليه ، قال تعالى: ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين - وإمَّا ينزغنَّك من الشَّيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنَّه سميع عليم ) [ الأعراف: 199-200 ] .
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من همزات الشياطين وحضورهم: ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشَّياطين - وأعوذ بك رب أن يحضرون ) [المؤمنون: 97-98] .
وهمزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم ، فالله يأمرنا بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة ؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً ، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم ، لشدة العداوة بينه وبين آدم .
يقول ابن كثير في تفسيره:"والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى ، والالتصاق بجنابه من شرّ كل ذي شرّ ... ، ومعنى ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ؛ أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم ، أن يضرني في ديني ودنياي ، أو يصدني عن فعل ما أمرت به ، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه ، فإن الشيطان لا يكفّه عن الإنسان إلا الله ؛ ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى ، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجنّ ؛ لأنه لا يقبل رشوة ، ولا يؤثر فيه جميل ؛ لأنه شرير بالطبع ، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه" (6) .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستعاذة بربه من الشيطان بصيغ مختلفة ، فكان يقول بعد دعاء الاستفتاح في الصلاة: ( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه ) ، روى ذلك أصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن أبي سعيد (7) .
مواضع الاستعاذة:
1-الاستعاذة عند دخول الخلاء:
وكان إذا دخل الخلاء يستعيذ من الشياطين ذكورهم وإناثهم ، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء ، قال: ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) (8) .
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن هذه الحشوش محتضرة ، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث ) (9) .
2-الاستعاذة عند الغضب:
عن سليمان بن صُرَد قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس ، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً ، قد احمرّ وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) . رواه البخاري ومسلم (10) .
وقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر إذا أصبح وإذا أمسى أن يقول: ( اللهم فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، لا إله إلا أنت ، ربّ كل شيء ومليكه ، أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شرّ الشيطان وشركه ، وأن أقترف على نفسي سوءاً ، أو أجره إلى مسلم ) (11) . رواه الترمذي .
3-الاستعاذة عند الجماع:
وحثنا على الاستعاذة حين يأتي الرجل أهله ، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً ) . متفق عليه (12) .
4-الاستعاذة عند نزول وادٍ أو منزل:
وإذا نزل المرء وادياً أو منزلاً ، فعليه أن يستعيذ بالله ، لا كما كان يفعل أهل الجاهلية يستعيذون بالجن والشياطين ، فيقول قائلهم: أعوذ بزعيم هذا الوادي من سفهاء قومه ، فكانت العاقبة أن استكبرت الجن وآذتهم ، كما حكى الله عنهم ذلك في سورة الجن: ( وأنَّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجن فزادوهم رهقاً ) [الجن: 6] ؛ أي الجن زادت الإنس رهقاً .
وقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نستعيذ بالله عندما ننزل منزلاً فعن خولة بنت حكيم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أن أحدكم إذا نزل منزلاً قال: أعوذ بكلمات الله التامة من شرّ ما خلق ، لم يضره في ذلك المنزل شيء ، حتى يرتحل منه ) . رواه ابن ماجة بإسناد صحيح (13) .
5-التعوذ بالله من الشيطان عند سماع نهيق الحمار:
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا نهق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم ) . رواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد صحيح (14) ، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحمار إذا نهق فإنه يكون قد رأى شيطاناً (15) .
6-التعوذ حين قراءَة القرآن:
قال تعالى: ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم - إنَّه ليس له سلطان على الَّذين آمنوا وعلى ربهم يتوكَّلون ) [ النحل: 98-99 ] .
وقد بين ابن القيم الحكمة في الاستعاذة بالله من الشيطان حين قراءَة القرآن ، فقال:
1-"إن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة ، فهو دواء لما أمره الشيطان فيها ، فأمر أن يطرد مادة الداء ، ويخلي منه القلب ، ليصادف الداء محلاً خالياً ، فيتمكن منه ، ويؤثر فيه ، كما قيل:"
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ××× فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب ، وقد خلا من مزاحم ومضاد له ، فينجع فيه
2-ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب ، كما أنّ الماء مادة النبات ، والشيطان نار يحرق النبات أولاً فأولاً ، فكلما أحسّ بنبات الخير من القلب ، سعى في إفساده وإحراقه ، فأمر أن يستعيذ بالله - عزّ وجلّ - منه ، لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن .
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن ، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها .
3-ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن ، وتستمع لقراءته ، كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها المصابيح ، فقال عليه الصلاة والسلام: ( تلك الملائكة ) ، والشيطان ضد الملك وعدوه ، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه ، حتى يحضره خاص ملائكته ، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين .
4-ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله ، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن ، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به سبحانه ، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن ، فلا يكمل انتفاع القارئ به ، فأمر عند الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .
5-ومنها: أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه ، والله أشد أذناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ، والشيطان إنما قراءَته الشعر والغناء ، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى واستماع الربّ قراءَته .
6-ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنّه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته ، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته ... ، فإذا كان هذا مع الرسل عليهم الصلاة والسلام فكيف بغيرهم . ولهذا يغلط الشيطان القارئ تارة ، ويخلط عليه القراءَة ، ويشوشها عليه ، فيخبط عليه لسانه ، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه ، فإذا حضر عند القراءَة ، لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا ، وربما جمعها له .
7-ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير ، أو يدخل فيه ، فهو يشتد عليه حينئذ ؛ ليقطعه عنه" (16) ."
7-تعويذ الأبناء والأهل:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: ( أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ) . ويقول: ( إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق ) . رواه البخاري (17) .
قال أبو بكر ابن الأنباري:"الهامة: واحد الهوام ، ويقال: هي كل نسمة تهم بسوء ، واللامة: الملمة ، وإنما قال: لامة ليوافقه لفظ هامة ، فيكون أخف على اللسان" (18) .
خير ما يتعوذ به المتعوذون:
وخير ما يتعوذ به المتعوذون سورتا الفلق والناس ، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن خبيب أن يقرأ: ( قل هو الله أحد ) ، والمعوذتين حين يمسي ، وحين يصبح ، ثلاثاً . وقال له: ( يكفيك الله كل شيء ) .
وفي رواية أخرى أمره بقراءَة المعوذتين ، ثم قال له: ( ما تعوذ الناس بأفضل منهما ) .
وفي بعض الروايات: أن هذه القصة كانت مع عقبة بن عامر . وفي رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لابن عابس الجهني: ( إن أفضل ما تعوذ به المتعوذون المعوذتان ) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث عقبة: ( ما سأل سائل بمثلهما ، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما ) (19) .
كيف تصنع بالشيطان إذ سوّل لك الخطايا ؟
حكي عن أحد علماء السلف أنه قال لتلميذه:"ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك الخطايا ؟ قال: أجاهده . قال: فإن عاد ؟ قال: أجاهده . قال: فإن عاد ؟ قال: أجاهده ."
قال هذا يطول ، أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها ، أو منعك من العبور ما تصنع ؟ قال: أكابده جهدي وأرده . قال: هذا أمر يطول ، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفّه عنك" (20) ."
وهذا فقه عظيم من هذا العالم الجليل ، فإن الاحتماء بالله ، والالتجاء إليه ، هو السبيل القوي الذي يطرد الشيطان ويبعده ، وهذا ما فعلته أم مريم إذ قالت: ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشَّيطان الرَّجيم ) [ آل عمران: 36 ] .
لماذا لا يذهب الشيطان عندما يستعيذ منه الإنسان ؟
يقول بعض الناس: إننا نستعيذ بالله ، ومع ذلك فإننا نحس بالشيطان يوسوس لنا ، ويحرضنا على الشر ، ويشغلنا في صلاتنا .
والجواب: أن الاستعاذة كالسيف في يد المقاتل ، فإن كانت يده قوية ، أصاب من عدوه مقتلاً ، وإلا فإنه قد لا يؤثر فيه ، ولو كان السيف صقيلاً حديداً .
وكذلك الاستعاذة إذا كانت من تقيّ ورع كانت ناراً تحرق الشيطان ، وإذا كانت من مخلط ضعيف الإيمان فلا تؤثر في العدو تأثيراً قوياً .
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله:"واعلم أن مثل إبليس مع المتقي والمخلط ، كرجل جالس بين يديه طعام ولحم ، فمرّ به كلب ، فقال له: اخسأ ، فذهب . فمرّ بآخر بين يديه طعام ولحم فكلّما أخسأه (طرده) لم يبرح . فالأول مثل المتقي يمر به الشيطان ، فيكفيه في طرده الذكر ، والثاني مثل المخلط لا يفارقه الشيطان لمكان تخليطه ، نعوذ بالله من الشيطان" (21) .
فعلى المسلم الذي يريد النجاة من الشيطان وأحابيله أن يشتغل بتقوية إيمانه ، والاحتماء بالله ربه ، والالتجاء إليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
رابعاً: الاشتغال بذكر الله:
ذكر الله من أعظم ما ينجي العبد من الشيطان ، وفي الحديث: أن الله أمر نبي الله يحي أن يأمر بني إسرائيل بخمس خصال ، ومن هذه: ( وآمركم أن تذكروا الله تعالى ، فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدّو في أثره سراعاً ، حتى إذا أتى إلى حصن حصين ، فأحرز نفسه منهم ، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله ) .
يقول ابن القيم (22) :"فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى ، وأن لا يزال لهجاً بذكره ، فإنّه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر ، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة ، فهو يرصده ، فإذا غفل ، وثب عليه وافترسه ، وإذا ذكر الله تعالى ، انخنس عدو الله وتصاغر ، وانقمع ، حتى يكون كالوَصع [ طائر أصغر من العصفور ] ، وكالذباب ، ولهذا سمي ( الوسواس الخناس ) ؛ لأنه يوسوس في صدور الناس ، فإذا ذكر الله خنس ، أي كف وانقبض . وقال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، فإذا ذكر الله تعالى خنس".
ويقول ابن القيم:"الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه ، فما ظنك برجل قد احتوشه أعداؤه المحنقون عليه غيظاً ، وأحاطوا به ، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشرّ والأذى ، ولا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله عزّ وجلّ".
ثم ساق - رحمه الله - حديث عبد الرحمن بن سمرة ، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ، وكنا في صفّةٍ بالمدينة ، فقام علينا وقال: ( إنّي رأيت البارحة عجباً: رأيت رجلاً من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءه برّه بوالديه ، فرد ملك الموت عنه .
ورأيت رجلاً قد بسط عليه عذاب القبر ، فجاءه وضوؤه ، فاستنقذه من ذلك .
ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين ، فجاءه ذكر الله عزّ وجلّ ، فطرد الشياطين عنه .
ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب ، فجاءته صلاته ، فاستنقذته من أيديهم .
ورأيت رجلاً من أمتي يلتهب - وفي رواية: يلهث - عطشاً ، كلما دنا من حوض منع وطرد ، فجاءه صيام شهر رمضان ، فأسقاه وأرواه .
ورأيت رجلاًَ من أمتي ورأيت النبيين جلوساً حِلَقاً حِلَقاً ، كلما دنا إلى حلقة طرد ، فجاءه غسلُهُ من الجنابة ، فأخذ بيده ، فأقعده إلى جنبي .
ورأيتُ رجلاً من أمتي ، بين يديه ظلمة ، ومن خلفه ظلمة ، وعن يمينه ظلمة ، وعن يساره ظلمة ، ومن فوقه ظلمة ، ومن تحته ظلمة ، وهو متحيّر فيها ، فجاءه حجة وعمرته ، فاستخرجاه من الظلمة ، وأدخلاه في النور .
ورأيت رجلاً من أمتي يتقي بيده وهج النار وشرره ، فجاءته صدقته ، فصارت سترة بينه وبين النار ، وظللت على رأسه .
ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه ، فجاءته صلته لرحمه فقالت: يا معشر المسلمين ، إنه كان وصولاً لرحمه فكلموه ، فكلمه المؤمنون ، وصافحوه وصافحهم .
ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الزبانية ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، فاستنقذه من أيديهم ، وأدخله في ملائكة الرحمة .
ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه ، وبينه وبين الله عزّ وجلّ حجاب ، فجاءه حُسن خلقه ، فأخذ بيده ، فأدخله على الله عزّ وجلّ .
ورأيت رجلاً من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله ، فجاءه خوفه من الله عزّ وجلّ ، فأخذ صحيفته ، فوضعها في يمينه .
ورأيت رجلاً من أمتي خفّ ميزانه فجاء أفراطه (23) ، فثقلوا ميزانه .
ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم ، فجاءه رجاؤه في الله عزّ وجلّ ، فاستنقذه من ذلك ومضى .
ورأيت رجلاً من أمتي قد أقوى في النار ، فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عزّ وجلّ فاستنقذته من ذلك .
ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السّعَفة في ريح عاصف ، فجاءه حُسْنُ ظنهِ بالله عزّ وجلّ ، فسَكن رعدَتَهُ ومضى .
ورأيت رجلاً من أمتي يزحفُ على الصراط ، ويحبوا أحياناً ، ويتعلق أحياناً ، فجاءته صلاته ، فأقامته على قدميه ، وأنقذته .
ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة ، فغلقت الأبواب دونه ، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ، ففتحت له الأبواب ، وأدخلته الجنة ) .
رواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب ( الترغيب في الخصال المنجية ، والترهيب من الخلال المردية ) ، وبنى كتابه عليه وجعله شرحاً له ، وقال: هذا حديث حسن جداً ، رواه عن سعيد بن المسيب: عمرو بن آزر ، وعلي بن زيد بن جدعان ، وهلال أبو جبلة . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ، قدس الله روحه ، يعظم شأن هذا الحديث ، وبلغني عنه أنه كان يقول: شواهد الصحة عليه .
والمقصود منه قوله صلى الله عليه وسلم: ( ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين ، فجاءه ذكر الله عزّ وجلّ ، فطرد الشيطان عنه ) فهذا مطابق لحديث الحارث الأشعري (24) .
وقوله فيه: ( وآمركم بذكر الله عزّ وجلّ ، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو ، فانطلقوا في طلبه سِراعاً ، وانطلق حتى أتى حصناً حَصيناً ، فأحرز نفسه فيه ) .
فكذلك الشيطان لا يحرز العباد أنفسهم منه إلا بذكر الله عزّ وجلّ ، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا خرج من بيته فقال: بسم الله ، توكلتُ على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له حينئذ: هُدِيت وكفُيتَ ووُقِيتَ ، فيتَنَحّى له الشيطان ، ويقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدِي وكُفي ووُقي ؟ ) . رواه أبو داود ، وروى الترمذي إلى قوله: ( له الشيطان ) (25) .
وصح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، في يوم مائة مرة ، كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك ، حتى يمسي ) . متفق عليه (26)
وقال أبو خلاد المصري: من دخل في الإسلام ، دخل في حصن ، ومن دخل المسجد ، فقد دخل في حصنين ، ومن جلس في حلقة يذكر الله عزّ وجلّ فيها ، فقد دخل في ثلاثة حصون .
وفي صحيح البخاري ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال:"ولاّني رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة رمضانَ أن احتفظ بها ، فأتاني آتٍ ، فجعل يَحْثُوا الطعام ، فأخذته ، فقال: دعني فإني لا أعود ....". فذكر الحديث ، وقال: فقال في الثالثة:"أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ، إذا أويتَ إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها ، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح"فخلى سبيله ، فأصبح ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، فقال: ( صَدَقَكَ ، وهو كذوب ) .
وذكر الحافظ أبو موسى من حديث أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إذا أوى الإنسانُ إلى فراشه ، ابتدرهُ ملكٌ وشيطانٌ ، فيقول الملكُ: اختم بخير ، ويقول الشيطان: اختم بشر ، فإذا ذكر الله ، ثم نام ، بات الملك يكلؤه .
وإذا استيقظ ، قال الملك: افتح بخير ، وقال الشيطان: افتح بشر ، فإن قال: الحمد لله الذي ردَّ علي نفسي ، ولم يمتها في منامها ، الحمد لله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، فإن وقع عن سريره فمات دخل الجنة ).
رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن الحجاج الشامي وهو ثقة" (27) ."