فهرس الكتاب
الصفحة 4 من 33

المطلب الأول

طعامهم وشرابهم

الجن - والشيطان منهم - يأكلون ويشربون ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صل الله عليه وسلم - أمره أن يأتيه بأحجار يستجمر بها وقال له: ( ولا تأتيني بعظم ولا روثة ) ، ولما سأل أبو هريرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن سرّ نهيه عن العظم والروثة ، قال: ( هما من طعام الجن ، وإنّه أتاني وفد جن نصيبين - ونعم الجن - فسألوني الزاد ، فدعوت الله لهم: أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعماً ) (1) .

وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تستنجوا بالروث ، ولا بالعظام ، فإنّه زاد إخوانكم من الجن ) (2) .

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني داعي الجن ، فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن ) ، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد فقال: ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم ، أوفر ما يكون لحماً ، وكل بعرة علفٌ لدوابكم ) . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم ) (3) .

وكون الروث طعاماً للجن أو لدوابهم ليس العلة الوحيدة للنهي عن الاستنجاء بالروث ، فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم علة أخرى ، فقد صرح بأن الروث رجس (4) .

وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الشيطان يأكل بشماله ، وأمرنا بمخالفته في ذلك ، روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أكل فليأكل بيمينه ، وإذا شرب فليشرب بيمينه ، فإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ) (5) .

وفي صحيح مسلم: ( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله ، قال الشيطان: أدركتم المبيت ، وإذا لم يذكر الله عند طعامه ، قال: أدركتم المبيت والعشاء ) (6) . ففي هذه النصوص دلالة قاطعة على أن الشياطين تأكل وتشرب

وكما أن الإنس منهيون عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من اللحوم ، فكذلك الجن المؤمنون جعل لهم الرسول صلى الله عليه وسلم طعاماً كل عظم ذكر اسم الله عليه ، فلم يبح لهم متروك التسمية ، ويبقى متروك التسمية لشياطين كفرة الجن ، فإن الشياطين يستحلون الطعام إذا لم يذكر عليه اسم الله ، ولأجل ذلك ذهب بعض العلماء إلى أن الميتة طعام الشياطين ؛ لأنه لم يذكر اسم الله عليها .

واستنتج ابن القيم من قوله تعالى: ( إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشَّيطان ) [ المائدة: 90 ] أن المسكر شراب الشيطان ، فهو يشرب من الشراب الذي عمله أولياؤه بأمره ، وشاركهم في عمله ، فيشاركهم في شربه ، وإثمه وعقوبته .

ويدل على صحة استنتاج ابن القيم ما رواه النسائي عن عبد الله بن يزيد قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"أما بعد: فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان ؛ فإن له اثنين ، ولكم واحد" (7) .

المطلب الثاني

تزاوج الجن وتكاثرهم

الذي يظهر أن الجن يقع منهم النكاح ، وقد استدل بعض العلماء على ذلك بقوله تعالى في أزواج أهل الجنة: ( لم يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ ) [ الرحمن: 56 ] . والطمث في لغة العرب: الجماع ، وقيل هو الجماع الذي يكون معه تدمية تنتج عن الجماع .

وذكر السفاريني حديثاً يحتاج إلى نظر في إسناده ، يقول: ( إن الجن يتوالدون ، كما يتوالد بنو آدم ، وهم أكثر عدداً ) (8) .

وسواء أصح هذا الحديث أم لم يصح ، فإن الآية صريحة في أن الجن يتأتى منهم الطمث ، وحسبنا هذا دليلاً .

وأخبرنا ربنا أن الشيطان له ذرية ، قال تعالى مبكتاً عباده الذين يتولون الشيطان وذريته: ( أفتتخذونه وذريَّته أولياء من دوني وهم لكم عدو ) [ الكهف: 50 ] ، وقال قتادة:"أولاد الشيطان يتوالدون كما يتوالد بنو آدم ، وهم أكثر عدداً" (9) .

المطلب الثالث

دعوى بعض أهل العلم أن الجن لا يأكلون

ولا يشربون ولا يتناكحون

وقد زعم قوم أن الجن لا يأكلون ولا يشربون ، ولا يتناكحون ، وهذا القول تبطله الأدلة التي سقناها من الكتاب والسنة .

وذكر بعض العلماء أن الجن أنواع: منهم من يأكل ويشرب ، ومنهم من ليس كذلك ؛ يقول وهب بن منبه:"الجنّ أجناس ، فأمّا خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا يموتون ، ولا يتوالدون ، ومنهم أجناس يأكلون ، ويشربون ، ويتوالدون ، ويتناكحون ، ويموتون ، قال: وهي هذه السعالي والغول وأشباه ذلك". أخرجه ابن جرير (10) .

وهذا الذي ذكره وهب يحتاج إلى دليل ، ولا دليل .

وقد حاول بعض العلماء الخوض في الكيفية التي يأكلون بها ، هل هو مضغ وبلع ، أو تشمم واسترواح ، والبحث في ذلك خطأ لا يجوز ؛ لأنّه لا علم لنا بالكيفية ، ولم يخبرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها .

المطلب الرابع

زواج الإنس من الجن (11)

لا زلنا نسمع أن فلاناً من الناس تزوج جنية ، أو أن امرأة من الإنس خطبها جني ، وقد ذكر السيوطي آثاراً وأخباراً عن السلف والعلماء تدل على وقوع التناكح بين الإنس والجن (12) . يقول ابن تيمية (13) :"وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد ، وهذا كثير معروف".

وعلى فرض إمكان وقوعه فقد كرهه جمع من العلماء كالحسن وقتادة والحكم وإسحاق . والإمام مالك - رحمه الله - لا يجد دليلاً ينهى عن مناكحة الجن ، غير أنّه لم يستحبه ، وعلل ذلك بقوله:"ولكني أكره إذا وجدت امرأة حاملاً فقيل من زوجك ؟ قالت: من الجن ، فيكثر الفساد" (14) .

وذهب قوم إلى المنع من ذلك ، واستدلوا على مذهبهم بأنّ الله امتنّ على عباده من الإنس بأنّه جعل لهم أزواجاً من جنسهم: ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مَّوَدَّةً ورحمة ً ) [ الروم: 21 ] .

فلو وقع فلا يمكن أن يحدث التآلف والانسجام بين الزوجين لاختلاف الجنس ، فتصبح الحكمة من الزواج لاغية ؛ إذ لا يتحقق السكن والمودة المشار إليهما في الآية الكريمة .

وعلى كلٍّ فهذه مسألة يزعم بعض الناس وقوعها في الحاضر والماضي ، فإذا حدثت فهي شذوذ ، قلما يسأل فاعلها عن حكم الشرع فيها ، وقد يكون فاعلها مغلوباً على أمره لا يمكنه أن يتخلص من ذلك .

ومما يدل على إمكان وقوع التناكح بين الإنس والجن قوله تعالى في حور الجنة: ( لم يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ ) [ الرحمن: 56 ] ، فدلت الآية على صلاحيتهن للإنس والجن على حد سواء .

(1) رواه البخاري: 7/171 . ورقمه: 3860 . والطعم: الطعام . قال ابن حجر ( فتح الباري: 7/73 ) :"في رواية السرخسي: ( إلا وجدوا عليها طعاماً ) "

(2) صحيح سنن الترمذي: 1/8 . ورقمه: 17 .

(3) رواه مسلم: 1/332 . ورقمه: 450 . صحيح سنن الترمذي: 3/104 . ورقمه:2595 . إذا كنّا نهينا عن إفساد طعام الجن فيحرم علينا من باب أولى إفساد طعام الإنس .

(4) هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه: 1/256 . ورقمه: 156 .

(5) رواه مسلم: 3/1598 . ورقمه: 2020 .

(6) صحيح مسلم: 3/1598 . ورقمه: 2018 .

(7) صحيح سنن النسائي: 3/1154 . ورقمه: 5275 .

(8) رواه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في: العظمة ، عن قتادة .

(9) لقط المرجان: ص51 .

(10) لوامع الأنوار: 2/222 .

(11) إن شئت التوسع في هذه المسألة فارجع إلى آكام المرجان: ص66 .

(12) لقط المرجان: ص53 .

(13) مجموع الفتاوى: 19/39 .

(14) آكام المرجان: ص67 .

.ــــــــــــ

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام