المطلب الأول
ما أعطاه الله للجن من قدرات
أعطى الله الجنّ قدرة لم يعطها للبشر ، وقد حدثنا الله عن بعض قدراتهم ، فمن ذلك:
أولاً: سرعة الحركة والانتقال:
فقد تعهد عفريت من الجن لنبي الله سليمان بإحضار عرش ملكة اليمن إلى بيت المقدس في مدة لا تتجاوز قيام الرجل من جلوسه ، فقال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك: ( قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وَإِنِّي عليه لقويٌّ أمينٌ - قال الَّذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلمَّا رآه مستقرّاً عنده قال هذا من فضل ربي ...) [ النمل: 39-40 ] .
ثانياً: سبقهم الإنسان في مجالات الفضاء:
ومنذ القدم كانوا يصعدون إلى أماكن متقدمة في السماء ، فيسترقون أخبار السماء ، ليعلموا بالحَدَث قبل أن يكون ، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم زيدت الحراسة في السماء: ( وأنَّا لمسنا السَّماء فوجدناها مُلِئَتْ حرساً شديداً وشهباً - وأنَّا كنَّا نقعد منها مقاعد للسَّمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَّصداً ) [ الجن: 8-9 ] .
وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية استراقهم السمع ، فعن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم:( إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم ، قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال: الحق ، وهو العلي الكبير .
فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بكفه ، فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة . فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا ؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سمع من السماء ) (1) .
خرافة جاهلية:
ومعرفة السبب الذي من أجله يرمي بشهب السماء قضى على خرافة كان يتناقلها أهل الجاهلية ، فعن عبد الله بن عباس قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار: أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا ) ؟
قالوا: الله ورسوله أعلم ، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم ، ومات رجل عظيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ؛ ولكنّ ربنا - تبارك وتعالى اسمه - إذا قضى أمراً سبّح حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ، ثمّ قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ماذا قال ، قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً ؛ حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا ، فتخطف الجنّ السمع ، فيقذفون إلى أوليائهم ، ويرمون به ، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يَقْرِفون فيه ويزيدون ) (2) .
وقد يكون استراقهم السمع بطريق أهون عليهم من الطريق الأولى ، وذلك بأن تستمع الشياطين إلى الملائكة الذين يهبطون إلى العنان بما يكون من أحداث قدرها الله ، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الملائكة تتحدث في العنان - والعنان الغمام - بالأمر يكون في الأرض ، فتستمع الشياطين الكلمة ، فتقرها في أذن الكاهن كما تقرّ القارورة ، فيزيدون معها مائة كذبة ) (3)
ثالثاً: علمهم بالإعمار والتصنيع:
أخبرنا الله أنه سخر لنبيّه سليمان ، فكانوا يقومون له بأعمال كثيرة تحتاج إلى قدرات ، وذكاء ، ومهارات: ( ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السَّعير - يعملون له ما يشاء من مَّحاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدورٍ رَّاسِيَاتٍ) [ سبأ: 12-13 ] .
ولعلهم قد توصلوا منذ القدم إلى اكتشاف مثل ( الراديو والتلفزيون ) ، فقد ذكر ابن تيمية أن بعض الشيوخ الذين كان لهم اتصال بالجن أخبره وقال له:"إن الجن يرونه شيئاً براقاً مثل الماء والزجاج ، ويمثلون له فيه ما يطلب منه من الأخبار به ، قال فأخبر الناس به ، ويوصلون إليّ كلام من استغاث بي من أصحابي ، فأجيبه ، فيوصلون جوابي إليه" (4) .
رابعاً: قدرتهم على التشكل:
للجن قدرة على التشكل بأشكال الإنسان والحيوان ، فقد جاء الشيطان المشركين يوم بدر في صورة سراقة بن مالك ، ووعد المشركين بالنصر ، وفيه أنزل: ( وإذ زيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من النَّاس وَإِنِّي جارٌ لكم ) [الأنفال: 48] .
ولكن عندما التقى الجيشان ، وعاين الملائكة تتنزل من السماء ، ولى هارباً: ( فلمَّا تَرَاءتِ الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريءٌ منكم إِنِّي أرى ما لا ترون إني أخاف الله ) [ الأنفال: 48 ] .
وقد جرى مع أبي هريرة قصة طريفة رواها البخاري وغيره ؛ قال أبو هريرة: ( وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: إني محتاج ، وعليّ عيال ، ولي حاجة شديدة ، قال: فخليت عنه ، فأصبحت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ،( ما فعل أسيرك البارحة ؟ )
قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً ، فرحمته ، فخليت سبيله ، قال: ( أما إنه كذبك وسيعود ) ، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود ، فرصدته ، فجاءَ يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال: دعني فإني محتاج ، وعليّ عيال ، لا أعود ، فرحمته ، فخليت سبيله ، فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا هريرة ، ما فعل أسيرك ؟ ) قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً ، فرحمته ، فخليت سبيله .
قال: ( أما إنه كذبك وسيعود ) ، فرصدته الثالثة ، فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا آخر ثلاث مرات ، إنك تزعم لا تعود ، ثمّ تعود ! قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قال: قلت: ما هنّ ؟
قال: إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم ) [البقرة: 255] حتى تختم الآية ؛ فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربنّك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما فعل أسيرك البارحة ؟ ) قلت: يا رسول الله زعم أنّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخليت سبيله ، قال: ما هي ؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم ) [ البقرة: 255 ] وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، وكانوا أحرص شيء على الخير .
قال النبي: ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ ) قال: لا ، قال: ( ذاك شيطان ) (5) .
فقد تشكل هذا الشيطان في صورة إنسان .
وقد يتشكل في صورة حيوان: جمل ، أو حمار ، أو بقرة ، أو كلب ، أو قط ، وأكثر ما تتشكل بالأسود من الكلاب والقطط . وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة ، وعلل ذلك بأن ( الكلب الأسود شيطان ) (6) . يقول ابن تيمية:"الكلب الأسود شيطان الكلاب ، والجن تتصور بصورته كثيراً ، وكذلك بصورة القط الأسود ؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره ، وفيه قوة الحرارة".
جنان البيوت:
تتشكل الجان بشكل الحيات وتظهر للناس ، ولذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيات البيوت ، خشية أن يكون هذا المقتول جنياً قد أسلم ، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنّ بالمدينة جنّاً قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ، فإنما هو شيطان ) (7) .
وقد قتل أحد الصحابة حيّة من حيات البيوت ، فكان في ذلك هلاكه ، روى مسلم في صحيحه: أن أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، فوجده يصلي ، قال: ( فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكاً في عراجين في ناحية البيت ، فالتفت ، فإذا حيّة ، فوثبت لأقتلها فأشار إليّ ؛ أن اجلس ، فجلست .
فما انصرف أشار إلى بيت في الدار ، فقال: أترى هذا البيت ؟ فقلت: نعم . قال: كان فيه فتى منّا حديث عهد بعرس ، قال: فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ، فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذ عليك سلاحك ، فإني أخشى عليك قريظة ) .
فأخذ الرجل سلاحه ، ثمّ رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به ، وأصابته غيرة ، فقالت له: اكفف رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني .
فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج ، فركزه في الدار ، فاضطربت عليه ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتاً: الحية أم الفتى !
قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، وقلنا: ادع الله يحييه لنا فقال: ( استغفروا لصاحبكم ) ، ثم قال: ( إنّ بالمدينة جنّاً قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ، فإنّما هو شيطان ) (8) .تنبيهات مهمة حول قتل حيات البيوت:
1-هذا الحكم ، وهو النهي عن قتل الحيوانات خاص بالحيات دون غيرها .
2-وليس كل الحيات ؛ بل الحيات التي نراها في البيوت دون غيرها ، أمّا التي نشاهدها خارج البيوت فنحن مأمورون بقتلها .
3-إذا رأينا حيات البيوت فنؤذنها ؛ أي نأمرها بالخروج ، كأن نقول: أقسم عليك بالله أن تخرجي من هذا المنزل ، وأن تبعدي عنّا شرّك وإلا قتلناك . فإن رؤيت بعد ثلاثة أيام قتلت .
4-والسبب في قتلها بعد ثلاثة أيام أننا تأكدنا أنها ليست جنّاً مسلماً ، لأنها لو كانت كذلك ، لغادرت المنزل ، فإن كانت أفعى حقيقية فهي تستحق القتل ، وإن كانت جنّاً كافراً متمرداً فهو يستحق القتل ؛ لأذاه وإخافته لأهل المنزل .
5-يستثنى من جنان البيوت نوع يقتل بدون استئذان ، ففي صحيح البخاري عن أبي لبابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقتلوا الجِنَّان ، إلا كلّ أبتر ذي طُفْيَتَيْن ؛ فإنه يسقط الولد ، ويذهب البصر ، فاقتلوه ) (9) .
وهل كل الحيات من الجنّ أم بعضها ؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الحيّات مسخ الجنّ صورة ، كما مسخت القردة والخنازير من بني إسرائيل ) (10) .
خامساً: الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق:
في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) (11) ، وفي الصحيحين عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً ، فأتيته أزوره ليلاً ، فحدثته ، ثمّ قمت فانقلبت ، فقام معي ليقبلني ( يردني ) وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمرّ رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( على رسلكما ، إنها صفية بنت حيي ) ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله !! قال: ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءاً ) ، أو قال: ( شيئاً ) (12) ."
(1) رواه البخاري في صحيحه: 8/538 . ورقمه: 4800 .
(2) رواه مسلم: 4/1750 . ورقمه: 2229 . ومعنى يقرفون فيه أي الصدق بالكذب: يقذفون .
(3) رواه البخاري: 6/338 .ورقمه: 3288 .
(4) مجموع الفتاوى: 11/309 .
(5) صحيح البخاري: 4/486 . ورقمه: 2311 . ويرى بعض العلماء أن الحديث منقطع ؛ لأنه لم يصرح بالسماع من شيخه عثمان بن الهيثم ، والحديث وصله النسائي وغيره . انظر: فتح الباري: 4/488 .
(6) رواه مسلم: 1/365 . ورقمه: 510 .
(7) رواه مسلم: 4/1756 . ورقمه: 2236 .
(8) رواه مسلم: 4/1756 . ورقمه: 2236 .
(9) رواه البخاري: 6/351 . ورقمه: 3311 .
(10) رواه الطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، بإسناد صحيح ، راجع الأحاديث الصحيحة: 104 .
(11) صحيح البخاري: 13/159 . ورقمه: 7171 . ورواه مسلم: 4/1712 . ورقمه: 2175 .
(12) رواه البخاري: 6/336 . ورقمه: 3281 .
ــــــــــــ