وفي الأحاديث أن بعض الجن كان له دور في هداية الإنس ، ففي صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب سأل رجلاً كان كاهناً في الجاهلية عن أعجب ما جاءته به جنيته . قال: ( بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع ، فقالت:
ألم تر الجنّ وإبْلاسها ××× ويأسها بعد إنْكاسها
ولحوقها بالقلاص وأحْلاسها (1)
قال عمر: صدق ، بينما أنا نائم عند آلهتهم ، إذ جاء رجل بعجل فذبحه ، فصرخ به صارخ ، لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه ، يقول: يا جليح ، أمر نجيح ، رجل فصيح ، يقول: لا إله إلا الله ، قال: فوثب القوم ، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ، ثم نادى: يا جليح ، أمر نجيح ، رجل فصيح ، يقول: لا إله إلا الله ، فقمت ، فما نَشِبنْا أن قيل: هذا نبي" (2) ."
قال ابن كثير في تفسير سورة الأحقاف بعد أن ساق هذا الحديث: ( هذا سياق البخاري ، وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه ، ثم قال: وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر - رضي الله عنه - بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح ، وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه ، وسائر الروايات تدل على أن الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه ، والله أعلم ، ثم قال: وهذا الرجل( الكاهن) هو سواد بن قارب ) .
وسيأتي الحديث الذي يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قرينه من الجن أسلم ، فلا يأمره إلا بخير .
وقد قال أبو سعيد الخدري لأبي صعصعة: ( إني أراك تحب الغنم والبادية ، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة ، فارفع صوتك بالنداء ، فإنّه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنّ ولا إنس ، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) ، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) . فقد أخبر أن الجن يشهدون يوم القيامة لمن يسمعون صوت أذانه .
وهم في الصلاح والفساد مراتب:
فمنهم الكامل في الاستقامة والطيبة وعمل الخير ، ومنهم من هو دون ذلك ، ومنهم البله المغفلون ، ومنهم الكفرة ، وهم الكثرة الكاثرة .
يقول الله سبحانه في حكايته عن الجن الذين استمعوا إلى القرآن: ( وأنَّا منَّا الصَّالحون ومنَّا دون ذلك كنَّا طرائِق قدداً ) [ الجن: 11 ] ؛ أي منهم الكاملون في الصلاح ، ومنهم أقل صلاحاً ، فهم مذاهب مختلفة ، كما هو حال البشر .
ويقول الله عنهم: ( وأنَّا منَّا المسلمون ومنَّا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحرَّوا رشداً - وأمَّا القاسطون فكانوا لجهنَّم حطباً ) [ الجن: 14-15 ] ؛ أي: أنّ منهم المسلمين ، والظالمين أنفسهم بالكفر ، فمن أسلم منهم ، فقد قصد الهدى بعمله ، ومن ظلم نفسه ، فهو حطب جهنم .
(1) الإبلاس: اليأس ، والحزن ، والانكسار . والإنكاس: الضعف ، والهوان ، والقلاص: جمع قلوص ، وهي الناقة الشابة ، والحلس: ما يوضع فوق ظهر الدابة كالسرج .
(2) صحيح البخاري: 7/177 . ورقمه: 3866 .
(3) رواه البخاري: 2/88 . ورقمه: 609 .
ــــــــــــ