فهرس الكتاب
الصفحة 25 من 33

المطلب الرابع

الجن وعلم الغيب

شاع لدى كثير من الناس أن الجنّ يعلمون الغيب ، ومردة الجن يحاولون أن يؤكدوا هذا الفهم الخاطئ عند البشر ، وقد أبان الله للناس كذب هذه الدعوى ، عندما قبض روح نبيه سليمان ، وكان قد سخر له الجن يعملون بين يديه بأمره ، وأبقى جسده منتصباً ، واستمر الجنّ يعملون ، وهم لا يدرون بأمر وفاته ، حتى أكلت دابة الأرض عصاه المتكئ عليها ، فسقط ، فتبين للناس كذبهم في دعواهم ، أنهم يعلمون الغيب: ( فلمَّا قضينا عليه الموت ما دَلَّهُمْ على موته إلاَّ دابَّة الأرض تأكل منسأته فلمَّا خرَّ تبيَّنت الجنُّ أن لَّو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) [ سبأ: 14 ] .

وقد سبق القول كيف أنهم كانوا يسترقون خبر السماء ، وكيف زيد في حراسة السماء بعد البعثة ، فقلما يستطيع الجن استراق السمع بعد ذلك .

العرّافون والكهان:

وبذلك يعلم عظم الخطأ الذي يقع فيه عوام الناس باعتقادهم أن بعض البشر كالعرافين والكهان يعلمون الغيب ، فتراهم يذهبون إليه يسألونهم عن أمور حدثت من سرقات وجنايات ، وأمور لم تحدث مما سيكون لهم ولأبنائهم ، ولق خاب السائل والمسؤول ، فالغيب علمه عند الله ، لا يظهر الله عليه إلا من شاء من رسله: ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً - إلاَّ من ارتضى من رَّسولٍ فإنَّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً - ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيءٍ عددا ) [ الجن: 28 ] .

والاعتقاد بأن فلاناً يعلم الغيب اعتقد آثم ضال ، يخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تجعل علم الغيب لله وحده .

إما إذا تعدى الأمر إلى استفتاء أدعياء الغيب ، فإن الجريمة تصبح من العظم بمكان ، ففي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أتى عرافاً فسأله عن شيءٍ ، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) (1) .

وتصديق هؤلاء كفر ، ففي السنن ومسند أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: ( من أتى كاهناً ، فصدقه بما يقول ، فقد برئ مما أنزل على محمد ) (2) .

قال شارح العقيدة الطحاوية:"والمنجم يدخل في اسم ( العراف ) عند بعض العلماء ، وعند بعضهم هو في معناه"، ثم قال: فإذا كانت هذه حال السائل ، فكيف بالمسؤول ؟"ومراده إذا كان السائل لا تقبل له صلاة أربعين يوماً ، وإذا كان الذي يصدق الكاهن والعراف يكفر بالمنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكيف يكون حكم الكاهن والعراف ؟"

سؤال العرافين والكهنة على وجه الامتحان:

يرى ابن تيمية أن سؤال الكهنة ، بقصد امتحان حالهم ، واختبار باطنهم ، ليميز صدقهم من كذبهم ، جائز ، واستدل بحديث الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن صياد ، فقال: ( ما ترى ؟ ) فقال: يأتيني صادق وكاذب ، قال: خلط الأمر عليك . قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني قد خبأت لك خبيئاً ) ، قال: هو الدخ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اخسأ ، فلن تعدو قدرك ) (3) . فأنت ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل هذا المدّعي ، ليكشف أمره ، ويبين للناس حاله .

المنجمون:

وصناعة التنجيم التي مضمونها: الأحكام والتأثير ، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية ، أو التمزيج بين القوى الفلكية والقوابل الأرضية: صناعة محرمة بالكتاب والسنة ؛ بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين ، قال تعالى: ( ولا يفلح السَّاحر حيث أتى ) [ طه: 69 ] . وقال تعالى: ( ألم تر إلى الَّذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطَّاغوت ) [ النساء: 51 ] . قال عمر بن الخطاب: الجبت السحر (4) .

تعليل صدق المنجمين والعرافين في بعض الأحيان:

قد يزعم قائل أن العرافين والكهنة والمنجمين يصدقون أحياناً ، والجواب: أن صدقهم في كثير من الأحيان يكون من باب التلبيس على الناس ، فإنهم يقولون للناس كلاماً عاماً يحتمل وجوهاً من التفسير ، فإذا حدث الأمر ، فإنه يفسره لهم تفسيراً يوافق ما قال .

وصدقهم في الأمور الجزئية إما أنه يرجع إلى الفراسة والتنبؤ ، وإما أن تكون هذه الكلمة الصادقة مما خطفه الجن من خبر السماء . ففي الصحيحين عن عائشة ، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان ؟ فقال: ( ليسوا بشيء ) . قالوا: يا رسول الله ، إنهم يحدثوننا بالشيء فيكون حقاً ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني ، فيقذفها في أذن وليه ، فيخلطون معها مائة كذبة ) (5) .

وإذا كانت القضية التي صدق فيها من الأمور التي حدثت كمعرفته بالسارق ، أو معرفته باسم الشخص الذي يقدم عليه لأول مرة وأسماء أبنائه وأسرته ، فهذا قد يكون بحيلة ما ، كالذي يضع شخصاً ليسأل الناس ، وتكون عنده وسيلة لاستماع أقوالهم قبل أن يمثلوا بين يديه ، أو يكون هذا من فعل الشياطين ، وعلم الشياطين بالأمور التي حدثت ووقعت ليس بالأمر المستغرب .

الكهنة رسل الشياطين:

يقول ابن القيم (6) :"الكهنة رسل الشيطان ؛ لأن المشركين يهرعون إليهم ، ويفزعون إليهم في أمورهم العظام ، ويصدقونهم ، ويتحاكمون إليهم ، ويرضون بحكمهم ، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل ، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب ، ويخبرون عن المغيبات التي لا يعرفها غيرهم ، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل ، فالكهنة رسل الشيطان حقيقة ، أرسلهم إلى حزبه من المشركين ، وشبههم بالرسل الصادقين ، حتى استجاب لهم حزبه ، ومثل رسل الله بهم لينفر عنهم ، ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب ، ولما كان بين النوعين أعظم التضاد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى عرافاً أو كاهناً ، فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد ) (7) ."

فإن الناس قسمان: أتباع الكهنة ، وأتباع الرسل ، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء ، بل يبعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر قربه من الكاهن ، ويُكَذّبُ الرسول بقدر تصديقه للكاهن .

أقول: ومن يدرس تواريخ الأمم يعلم أن الكهان والسحرة كانوا يقومون مقام الرسل ، ولكنهم رسل الشياطين ، فالسحرة والكهنة كانت لهم الكلمة المسموعة في أقوامهم ، يحلون ويحرّمون ، ويأخذون المال ، ويأمرون بأنواع من العبادة والطقوس ترضي الشياطين ، ويأمرون بقطيعة الأرحام ، وانتهاك الأعراض ، وقد بين العقاد شيئاً من ذلك في كتابه المسمى بـ ( إبليس ) .

واجب الأمة نحو هؤلاء:

ما يدعيه المنجمون ، والعرافون ، والسحرة ، ضلال كبير ومنكر لا يستهان به ، وعلى الذين أعطاهم الله دينه ، وعلمهم كتابه وسنة نبيه أن ينكروا هذا الضلال بالقول ، ويوضحوا هذا الباطل بالحجة والبرهان ، وعلى الذين في أيديهم السلطة أن يأخذوا على أيدي هؤلاء الذين يدّعون الغيب من العرافين والكهنة وضاربي الرمل والحصى ، والناظرين في اليد ( والفنجان ) ، وعليهم أن يمنعوا نشر خزعبلاتهم في الصحف والمجلات ، ويعاقبوا من يتظاهر ببضاعته وضلالاته في الطرقات ، وقد ذمّ الله بني إسرائيل لتركهم التناهي عن المنكر: ( كانوا لا يتناهون عن مُّنكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) [ المائدة: 79 ] .

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: ( إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه ) . رواه ابن ماجة والترمذي وصححه (8) .

(1) رواه مسلم: 4/1751 . ورقمه: 2230 .

(2) مشكاة المصابيح: 2/525 . ورقمه: 4599 .

(3) رواه البخاري: 6/172 . ورقمه: 3055 . ورواه مسلم: 4/2244 . ورقمه: 2930 .

(4) شرح العقيدة الطحاوية: 568 . وراجع في علم النجوم ، أبجد العلوم لصديق حسن القنوجي: ص 542 .

(5) جامع الأصول لابن الأثير: 5/63 .

(6) إغاثة اللهفان: 1/271 .

(7) رواه بهذا اللفظ أحمد: 2/429 والطبراني في الأوسط: (1453) ورواه أبو داود: 4/225 رقم: (3904) ، والترمذي: 1/164 رقم: (135) ، وابن ماجة: 1/209 رقم: (639) ، والدارمي: 1/207 رقم (1136) بلفظ: ( من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد )

(8) مشكاة المصابيح: 2/643 . ورقمه: 5412 .

.ــــــــــــ

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام