المبحث الرابع
أساليب الشيطان في إضلال الإنسان ( الجزء الأول )
لا يأتي الشيطان إلى الإنسان ويقول له: اترك هذه الأمور الخيرة ، وافعل هذه الأمور السيئة ؛ كي تشقى في دنياك وأخراك ؛ لأنه لو فعل ذلك فلن يطيعه أحد ، ولكنه يسلك سبلاً كثيرة ، يغرر بها بعباد الله .
1-تزيين الباطل:
هذا هو السبيل الذي كان الشيطان ، ولا يزال ، يسلكه لإضلال العباد ، فهو يظهر الباطل في صورة الحق ، والحق في صورة الباطل ، ولا يزال بالإنسان يحسن له الباطل ، ويكرهه بالحق ، حتى يندفع إلى فعل المنكرات ، ويعرض عن الحق ، كما قال اللعين لربّ العزة: ( قال رب بما أغويتني لأزيننَّ لهم في الأرض ولأغوينَّهم أجمعين - إلاَّ عبادك منهم المخلصين ) [ الحجر: 39-40 ] .
يقول ابن القيم في هذا الصدد:"ومن مكايده أنه يسحر العقل دائماً حتى يكيده ، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله ، فيزين له الفعل الذي يضره ، حتى يخيل إليه أنّه أنفع الأشياء ، وينفره من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له ، حتى يخيل له أنّه يضره ، فلا إله إلا الله ، كم فتن بهذا السحر من إنسان ! وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان ! وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة ، وشنع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة ! وكم بهرج من الزيوف على الناقدين ، وكم روج من الزغل على العارفين !"
فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة ، وسلك بهم من سبل الضلال كل مسلك ، وألقاهم من المهالك في مهلك بعد مهلك ، وزين لهم عبادة الأصنام ، وقطيعة الأرحام ، ووأد البنات ، ونكاح الأمهات ، ووعدهم بالفوز بالجنات ، مع الكفر بصفات الرب تعالى وعلوه وتكلمه بكتبه ووضعهم ذلك في قالب التنزيه ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس ، وحسن الخلق معهم ، والعمل بقوله: ( عليكم أنفسكم ) [ المائدة: 105 ] ، والإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في قالب التقليد ، والاكتفاء بقول من هو أعلم منهم ، والنفاق والإدهان في دين الله في قالب العقل المعيشي الذي يندرج به العبد بني الناس" (1) ."
وبهذا السبيل كاد إبليس اللعين آدم عليه السلام ؛ إذ زين له الأكل من الشجرة التي حرمها الله عليه ، فما زال به يزعم له أن هذه هي شجرة الخلد ، وأن الأكل منها يجعله خالداً في الجنة ، أو ملكاً من الملائكة ، حتى أطاعه ، فخرج من الجنة .
وانظر إلى أولياء الشيطان اليوم كيف يستخدمون هذا السبيل في إضلال العباد .
فهذه الدعوات إلى الشيوعية والاشتراكية .... ، يزعمون أنها هي المذاهب التي تخلص البشرية من الحيرة والقلق والضياع والجوع ، ... وهذه الدعوات التي تدعو إلى خروج المرأة كاسية عارية باسم الحرية ، وتدعو إلى هذا التمثيل السخيف الذي تداس فيه الأعراض والأخلاق ، وتنتهك فيه الحرمات باسم الفن .
وتلك الأفكار المسمومة التي تدعو إلى إيداع المال في البنوك بالربا ؛ لتحقيق الأرباح باسم التنمية والربح الوفير .
وتلك الدعوات التي تزعم أن التمسك بالدين رجعية وجمود وتأخر ، والتي تسم دعاة الإسلام بالجنون والعمالة لدول الشرق والغرب ... إلخ .
كل ذلك امتداد لسبيل الشيطان الذي كاد به آدم منذ عهد بعيد ، وهو تزيين الباطل وتحسينه ، وتقبيح الحق وتكريه الناس به: ( تالله لقد أرسلنا إلى أممٍ من قبلك فزيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم ) [ النحل: 63 ] .
وهو - والله - سبيل خطر ؛ لأن الإنسان إذا زين له الباطل فرآه اندفع بكل قواه ؛ لتحقيق ما يراه حقاً ، وإن كان فيه هلاكه: ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً - الَّذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدُّنيا وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعاً ) [الكهف:103-104] .
وهؤلاء يندفعون لصدّ الناس عن دين الله ومحاربة أولياء الله ، وهم يظنون أنفسهم على الحقّ والهدى ، ( وإنَّهم ليصدٌّونهم عن السَّبيل ويحسبون أنَّهم مهتدون ) [ الزخرف: 37 ] .
وهذا هو السبب الذي من أجله آثر الكفار الدنيا ، وأعرضوا عن الآخرة ، كما قال تعالى: ( وقيَّضنا لهم قرناء فزيَّنوا لهم مَّا بين أيديهم وما خلفهم ) [ فصلت: 25 ] . فالقرناء هم الشياطين ، زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروها ، ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة ، وزينوا لهم ذلك حتى أنكروا البعث والحساب والجنّة والنار .
تسمية الأمور المحرمة بأسماء محببة:
ومن تغرير الشيطان بالإنسان وتزيينه الباطل أن يسمّي الأمور المحرمة ، التي هي معصية لله ، بأسماء محببة للنفوس خداعاً للإنسان وتزويراً للحقيقة ، كما سمّى الشجرة المحرمة بشجرة الخلد ، كي يزين لآدم الأكل منها: ( قال يا آدم هل أدلُّك على شجرةٍ الخلد ومُلكٍ لا يَبْلَى) [ طه: 120 ] .
يقول ابن القيم:"ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها ، فسموا الخمر: أم الأفراح ، وسموا أخاها بلقمة الراحة ، وسموا الربا بالمعاملة ، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية ...".
واليوم يسمون الربا الفائدة ، والرقص والغناء والتمثيل وصناعة التماثيل فناً .
2-الإفراط والتفريط:
يقول ابن القيم في هذه المسألة:"وما أمر الله - عزّ وجلّ - بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما تقصير وتفريط ، وإما إفراط وغلوّ ، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين ، فإنّه يأتي إلى قلب العبد فيشامّه ، فإن وجد فيه فتوراً وتوانياً وترخيصاً أخذه من هذه الخطة ، فثبطه وأقعده ، وضربه بالكسل والتواني والفتور ، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك ، حتى ربما ترك العبد المأمورَ جملة"
وإن وجد عنده حذراً وجِدّاً ، وتمشيراً ونهضة ، وأيس أن يأخذه من هذا الباب ، أمره بالاجتهاد الزائد ، وسوّل له أن هذا لا يكفيك ، وهمتك فوق هذا ، وينبغي لك أن تزيد على العاملين ، وأن لا ترقد إذا رقدوا ، وأن لا تفطر إذا أفطروا ، وأن لا تفتر إذا فتروا ، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات ،فاغسل أنت سبعاً ، وإذا توضأ للصلاة ، فاغتسل أنت لها ، ونحو ذلك من الإفراط والتعدي ، فيحمله على الغلو والمجاوزة ، وتعدي الصراط المستقيم ، كما يَحْمِلُ الأول على التقصير دونه وألا يقربه .
ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم: هذا بألا يقربه ولا يدنو منه ، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه ، وقد فتن بهذا أكثر الخلق ، ولا يُنْجي من ذلك إلا علم راسخ ، وإيمان وقوة على محاربته ، ولزوم الوسط . والله المستعان" (2) ."
3-تثبيطه العباد عن العمل ورميهم بالتسويف والكسل:
وله في ذلك أساليب وطرق ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم( القافية: مؤخر الرأس ) ، إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب مكان كل عقدة ، عليك ليل طويل فارقد ، فإن استيقظ فذكر الله ، انحلت عقدة ، فإن توضأ ، انحلت عقدة ، فإن صلى ، انحلت عقدة ، فأصبح نشيطاً طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) (3) .
وفي البخاري ومسلم: ( إذا استقظ أحدكم من منامه فتوضأ ، فليستثر ثلاثاً ، فإن الشيطان يبيت على خيشومه ) (4) .
وفي صحيح البخاري: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر عنده رجل نام ليلة حتى أصبح ، فقال: ( ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ) (5) .
وهذا الذي ذكرناه تكسيل وتثبيط من الشيطان بفعله ، وقد يثبط الإنسان بالوسوسة ، وسبيله في ذلك أن يحبب للإنسان الكسل ، ويسوّف العمل ، ويسند الأمر إلى طول الأمل ، يقول ابن الجوزي في هذا: ( كم قد خطر على قلب يهودي ونصراني حبّ الإسلام ، فلا يزال إبليس يثبطه ، ويقول: لا تعجل وتمهل النظر ، فيسوفه حتى يموت على كفره ، وكذلك يسوف العاصي بالتوبة ، فيعجل له غرضه من الشهوات ، ويمنيه الإنابة ، كما قال الشاعر:
لا تعجل الذنب لما تشتهي ××× وتأمل التوبة من قابل
وكم من عازم على الجدّ سوفه ! وكم ساع إلى مقام فضيلة ثَبّطه ! فلربما عزم الفقيه على إعادة درسه ، فقال: استرح ساعة ، أو انتبه العابد في الليل يصلي ، فقال له: عليك وقت ، ولا يزال يحبب الكسل ، ويسوف العمل ، ويسند الأمر إلى طول الأمل .
فينبغي للحازم أن يعمل على الحزم ، والحزم تدارك الوقت ، وترك التسويف ، والإعراض عن الأمل ، فإنّ المخوف لا يؤمن ، والفوات لا يبعث ، وسبب كل تقصير ، أو ميل إلى شرّ طول الأمل ، فإن الإنسان لا يزال يحدّث نفسه بالنزوع عن الشر ، والإقبال على الخير ، إلا أنه يَعِدُ نفسه بذلك ، ولا ريب أنه من أمّل أن يمشي بالنهار سار سيراً فاتراً . ومن أمل أن يصبح عمل في الليل عملاً ضعيفاً ، ومن صوّر الموت عاجلاً جدّ ...
وقال بعض السلف: أنذركم ( سوف ) ، فإنها أكبر جنود إبليس ، ومثل العامل على الحزم والساكن لطول الأمل ، كمثل قوم في سفر ، فدخلوا قرية ، فمضى الحازم ، فاشترى ما يصلح لتمام سفره ، وجلس متأهباً للرحيل ، وقال المفرط: سأتأهب فربما أقمنا شهراً ، فضرب بوق الرحيل في الحال ، فاغتبط المحترز ( المتوقي الحازم ) ، وتحير الأَسِفُ المفرط .
فهذا مثل الناس في الدنيا ، منهم المستعد المستيقظ ، فإذا جاء ملك الموت لم يندم ، ومنهم المغرور المسوّف يتجرع مرير الندم وقت الرحلة . فإذا كان في الطبع حب التواني وطول الأمل ، ثم جاء إبليس يحث على العمل بمقتضى ما في الطبع ، صعبت المجاهدة ، إلا أنه من انتبه لنفسه علم أنه في صف حرب ، وأن عدوّه لا يفتر عنه ، فإن فتر في الظاهر ، بطّن له مكيدة ، وأقام له كميناً" (6) ."
4-الوعد والتمنية:
وهو يعد الناس بالمواعيد الكاذبة ، ويعللهم بالأماني المعسولة ؛ كي يوقعهم في وهدة الضلال: ( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشَّيطان إلاَّ غروراً ) [ النساء: 120 ]
يعد الكفرة في قتالهم المؤمنين بالنصر والتمكين والعزة والغلبة ، ثم يتخلى عنهم ، ويولي هاربا: ( وإذ زيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من النَّاس وَإِنِّي جارٌ لكم فلمَّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إِنِّي برئٌ منكم ) [ الأنفال: 48 ] .
ويعد الأغنياء الكفرة بالثروة والمال في الآخرة بعد الدنيا ، فيقول قائلهم: ( ولئِن رُّددتُّ إلى رَبِّي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً ) [ الكهف: 36 ] ، فيدمر الله جنته في الدنيا ، فيعلم أنّه كان مغروراً مخدوعاً .
ويشغل الإنسان بالأماني المعسولة ، التي لا وجود لها في واقع الحياة ، فيصده عن العمل الجاد المثمر ، ويرضى بالتخيل والتمني ، وهو لا يفعل شيئاً .
5-إظهار النصح للإنسان:
يدعو الشيطان المرء إلى المعصية ، يزعم أنه ينصح له ويريد خيره ، وقد أقسم لأبينا على أنه ناصح له: ( وقاسمهما إِنِّي لكما لمن النَّاصحين ) [ الأعراف: 21 ]
وقد روى وهب بن منبه هذه القصة الطريفة عن أهل الكتاب (7) ، نسوقها لنعلم أسلوباً من أساليب الشيطان في إضلاله العباد ، وكي نحذر نصحه ، ونخالفه فيما يدعونا إليه .
يقول وهب:"إن عابداً كان في بني إسرائيل ، وكان من أعبد أهل زمانه ، وكان في زمانه ثلاثة إخوة ، لهم أخت ، وكانت بكراً ، ليس لهم أخت غيرها ، فخرج البعث على ثلاثتهم ، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم ، ولا من يأمنونه عليها ، ولا عند من يضعونها ."
قال: فأجمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل ، وكان ثقة في أنفسهم ، فأتوه فسألوه عن أن يخلفوها عنده ، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يرجعوا من غزاتهم ، فأبى ذلك عليهم ، وتعوذ بالله منهم ومن أختهم ، قال: فلم يزالوا به حتى أطاعهم . فقال: أنزلوها في بيت حذاء صومعتي . فأنزلوها في ذلك البيت ، ثم انطلقوا وتركوها .
فمكثت في جوار ذلك العابد زمناً ينزل إليها بالطعام من صومعته ، فيضعه عند باب الصومعة ، ثم يغلق بابه ويصعد إلى الصومعة ، ثم يأمرها فتخرج من بيتها ، فتأخذ ما وضع لها من الطعام ، قال: فتلطف له الشيطان ، فلم يزل يرغبه في الخير ، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهاراً ، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها ، فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها كان أعظم أجراً . قال: فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها ، ووضعه على باب بيتها ، ولم يكلمها .
قال: فلبث على هذه الحال زماناً ، ثم جاءَه إبليس فرغّبه في الخير والأجر وحضه عليه ، وقال: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك ، فلم يزل به حتى مشى إليها بالطعام ، ثم وضعه في بيتها ، فلبث على ذلك زماناً .
ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وحضّه عليه ، فقال: لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك ، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة ، فلم يزل به حتى حدثها زماناً يطّلع إليها من فوق صومعته .
ثم أتاه إبليس بعد ذلك ، فقال: لو كنت تتنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها ، وتقعد هي على باب بيتها ، فتحدثك كان آنس لها . فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها وتحدثه ، وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها ، فلبثا زماناً يتحدثان .
ثم جاءَه إبليس فرغبه في الأجر والثواب فيما يصنع بها ، وقال: لو خرجت من باب صومعتك ، ثم جلست قريباً من بيتها ، فحدثتها كان آنس لها ، فلم يزل به حتى فعل . فلبثا زمناً على ذلك .
ثم جاءه إبليس ، فقال: لو دخلت البيت معها فحدثتها ، ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك ، فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدثها ، نهارها كله ، فإذا مضى النهار صعد صومعته .
ثم أتاه إبليس بعد ذلك ، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها ، فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ، ويسول له حتى وقع عليها ، فأحبلها فولدت له غلاماً ، فجاء إبليس فقال: أرأيت إن جاء إخوة الجارية ، وقد ولدت منك فكيف تصنع ؟ لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك ، فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه ، فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها ، ففعل .
فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها ، خذها واذبحها ، وادفنها مع ابنها ، فلم يزل به حتى ذبحها ، وألقاها في الحفرة مع ابنها ، وأطبق عليهما صخرة عظيمة ، وسوّى عليهما ، وصعد إلى صومعته يتعبد فيها ، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ، حتى أقبل إخوتها من الغزو ، فجاؤوا فسألوه عنها ، فنعاها لهم ، وترحم عليها وبكاها . وقال: كانت خير امرأة ، وهذا قبرها ، فانظروا إليه . فأتى إخوتها القبر فبكوا أختهم ، وترحموا عليها ، فأقاموا على قبرها أياماً ، ثمّ انصرفوا إلى أهاليهم .
فلما جنّ عليهم الليل ، وأخذوا مضاجعهم ، جاءَهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر ، فبدأ بأكبرهم ، فسأله عن أختهم ، فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها ، وكيف أراهم موضع قبرها فأكذبه الشيطان . وقال: لم يصدقكم أمر أختكم إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاماً ، فذبحه وذبحها معه فزعاً منكم ، وألقاهما في حفيرة احتفرها خلف باب البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله ، فإنكم ستجدونها كما أخبرتكم هناك جميعاً . وأتى الأوسط في منامه ، فقال له مثل ذلك . ثم أتى أصغرهم ، فقال له مثل ذلك .
فلما استيقظ القوم ، أصبحوا متعجبين مما رأى كل واحد منهم ، فأقبل بعضهم على بعض يقول كل واحد منهم: لقد رأيت الليلة عجباً ، فأخبر بعضهم بعضاً بما رأى .
فقال كبيرهم: هذا حلم ليس بشيء ، فامضوا بنا ودعوا هذا عنكم ، قال أصغرهم: والله لا أمضي حتى آتي هذا المكان ، فأنظر فيه . قال: فانطلقوا حتى أتوا البيت الذي كانت فيه أختهم ، ففتحوا الباب ، وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم ، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة ، كما قيل لهم ، فسألوا عنها العابد فصدّق قول إبليس فيما صنع بهما ، فاستَعْدَوْا عليه ملكهم ، فأنزل من صومعته ، وقدّم ليصلب .
فلما أوثقوه على الخشبة ، أتاه الشيطان ، فقال له: قد علمت أني أنا صاحبك الذي فتنتك بالمرأة ، حتى أحبلتها ، وذبحتها وابنها ، فإن أنت أطعتني اليوم ، وكفرت بالله الذي خلقك وصوّرك ، خلصتك مما أنت فيه ، فكفر العابد ، فلما كفر بالله تعالى ، خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه" (8) ."
وهذه القصة يذكرها المفسرون عند قوله تعالى: ( كمثل الشَّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمَّا كفر قال إنَّي بريءٌ منك ) [ الحشر: 16 ] ، ويذكرون أن المعنيّ بالإنسان هذا العابد وأمثاله . والله أعلم .
6-التدرج في الإضلال:
ومن القصة السابقة نعلم أسلوباً من أساليب الشيطان في الإضلال ، وهو أن يسير بالإنسان خطوة خطوة ، لا يكل ولا يملّ ، كلما روّضه على معصية ما ، قاده إلى معصية أكبر منها ، حتى يوصله إلى المعصية الكبرى ، فيوبقه ويهلكه ، وتلك سنة الله في عباده ، أنهم إذا زاغوا سلط عليم الشيطان ، وأزاغ قلوبهم: ( فلمَّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) [الصف: 5] .
7-إنساؤه العبد ما فيه خيره وصلاحه:
ومن ذلك ما فعله بآدم ، فما زال يوسوس له حتى أنساه ما أمره به ربّه: ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فَنَسِيَ ولم نجد له عزماً ) [ طه: 115 ] ، وقال صاحب موسى لموسى: ( فإني نسيت الحوت وما أَنسَانِيهُ إلاَّ الشَّيطان أن أذكره ) [ الكهف: 63 ] .
ونهى الله رسوله أن يجلس هو أو واحد من أصحابه في المجالس التي يستهزأ فيها بآيات الله ، ولكن الشيطان قد ينسي الإنسان أمر ربه ، فيجالس هؤلاء المستهزئين: ( وإذا رأيت الَّذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتَّى يخوضوا في حديثٍ غيره وإمَّا ينسينَّك الشَّيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظَّالمين ) [ الأنعام: 68 ] .
وطلب نبي الله يوسف إلى السجين الذي ظنّ بأنه سينجو من القتل ، ويعود لخدمة الملك أن يذكره عند مليكه ، فأنسى الشيطان هذا الإنسان أن يذكر لملكه نبي الله يوسف ، فمكث يوسف في السجن بضع سنين: ( وقال للَّذي ظنَّ أنَّه ناجٍ منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشَّيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ) [يوسف: 42] .
وإذا تمكن الشيطان من الإنسان تمكناً كلياً ، فإنه ينسيه الله بالكلية: ( استحوذ عليهم الشَّيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشَّيطان ألا إنَّ حزب الشَّيطان هم الخاسرون ) [ المجادلة: 19 ] . وهؤلاء هم المنافقون ، كما دلت عليه الآية السابقة لهذه الآية . وسبيل التذكر هو ذكر الله ؛ لأنه يطرد الشيطان: ( واذكر ربَّك إذا نسيت ) [الكهف: 24] .
8-تخويف المؤمنين أولياءَه:
ومن وسائله أن يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه ، فلا يجاهدونهم ، ولا يأمرونهم بالمعروف ، ولا ينهونهم عن المنكر ، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان ، وقد أخبرنا سبحانه عن هذا فقال: ( إنَّما ذلكم الشَّيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مُّؤمنين ) [ آل عمران: 175 ] .
والمعنى: يخوفكم بأوليائه ، قال قتادة:"يعظمهم في صدوركم ، ولهذا قال: ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مُّؤمنين ) ، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان ، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم".
9-دخوله إلى النفس من الباب الذي تحبه وتهواه:
يقول ابن القيم في هذا الموضوع:"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، حتى يصادف نفسه ويخالطها ، ويسألها عمّا تحبه وتؤثره ، فإذا عرفه استعان بها على العبد ، ودخل عليه من هذا الباب ، وكذلك عَلّم إخوانه وأولياءَه من الإنس ، إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضاً أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوونه ، فإنّه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه ، ومن رام الدخول من غيره ، فالباب عليه مسدود ، وهو عن طريق مقصده مصدود" (9) .
ومن هاهنا دخل الشيطان على آدم وحواء كما قال تعالى: ( وقال ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشَّجرة إلاَّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) [ الأعراف: 20 ] . يقول ابن القيم:"فشام عدو الله الأبوين ، فأحس منهما إيناساً وركوناً إلى الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم ، فعلم أنّه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب ، فقاسمهما بالله إنّه لهما لمن الناصحين ، وقال: ( ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشَّجرة إلاَّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) [ الأعراف: 20 ] ".
10-لقاء الشبهات:
ومن أساليبه في إضلال العباد زعزعة العقيدة بما يلقيه من شكوك وشبهات ، وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض هذه الشبهات التي يلقيها ، ففي حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول: من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله وليْنتهِ ) (10) .
ولم يسلم الصحابة - رضوان الله عليهم - من شبهاته وشكوكه ، وجاء بعضهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكون ما يعانونه من شكوكه ووساوسه ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ! قال: ( أو قد وجدتموه ؟ ) قالوا: نعم . قال: ( ذلك صريح الإيمان ) (11) .
وصريح الإيمان دفعهم وسوسة الشيطان وكراهيتهم واستعظامهم لها ، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال: ( تلك محض الإيمان ) (12) .
وانظر إلى شدّة ما كان يعانيه الصحابة من شكوكه ، روى أبو داود في سننه عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، إن أحدنا يجد في نفسه - يعرض بالشيء - لأن يكون حممة أحبّ إليه من أن يتكلم به ، فقال: ( الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ) (13) .
ومن جملة ما يلقيه في النفوس مشككاً ما حدثنا الله عنه في قوله: ( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نَبِيٍّ إلاَّ تمنَّى ألقى الشَّيطان في أمنيَّته فينسخ الله ما يلقي الشَّيطان ثمَّ يحكم الله آياته والله عليم حكيم - ليجعل ما يلقي الشَّيطان فتنةً للَّذين في قلوبهم مرضٌ والقاسية قلوبهم وإنَّ الظَّالمين لفي شقاق بعيدٍ - وليعلم الَّذين أوتوا العلم أنَّه الحقُّ من ربك فيؤمنوا به فَتُخْبِتَ له قلوبهم وإنَّ الله لهاد الَّذين آمنوا إلى صراطٍ مستقيمٍ ) [ الحج:52-54] .