المبحث الأول
الغاية من خلقهم
خلق الله الجن للغاية نفسها التي خلق الإنس من أجلها: ( وما خلقت الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدون ) [ الذاريات: 56 ] .
فالجن على ذلك مكلفون بأوامر ونواهٍ ، فمن أطاع رضي الله عنه ، وأدخله الجنة ، ومن عصى وتمرد ، فله النار ، يدلّ على ذلك نصوص كثيرة .
ففي يوم القيامة يقول الله مخاطباً كفرة الجن والإنس موبخاً مبكتاً: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصُّون عليكم آيَاتِي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرَّتهم الحياة الدُّنيا وشهدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا كافرين ) [الأنعام: 130] .
ففي هذه الآيات دليل على بلوغ شرع الله الجن ، وأنه قد جاءهم من ينذرهم ويبلغهم .
والدليل على أنهم سيعذبون في النار قوله تعالى: ( قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النَّار ) [ الأعراف: 38 ] ، وقال: ( ولقد ذرأنا لجهنَّم كثيراً من الجن والإنس ) [ الأعراف: 179 ] ، وقال: ( لأملأنَّ جهنَّم من الجنَّة والنَّاس أجمعين ) [ السجدة: 13 ] . والدليل على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة قوله تعالى: ( ولمن خاف مقام ربه جنَّتان - فَبِأَيِّ آلاء ربكما تكذبان ) [ الرحمن: 46-47 ] .
والخطاب هنا للجن والإنس ؛ لأن الحديث في مطلع السورة معهما ، وفي الآية السابقة امتنان من الله على مؤمني الجن بأنهم سيدخلون الجنة ، ولولا أنهم ينالون ذلك لما امتن عليهم به .
يقول ابن مفلح في كتابه الفروع:"الجن مكلفون في الجملة إجماعاً ، يدخل كافرهم النار إجماعاً ، ويدخل مؤمنهم الجنة وفاقاً لمالك والشافعي رضي الله عنهما - لا أنهم يصيرون تراباً كالبهائم ، وإن ثواب مؤمنهم النجاة من النار ، خلافاً لأبي حنيفة ، والليث بن سعد ومن وافقهم".
قال:"وظاهر الأول أنهم في الجنة كغيرهم بقدر ثوابهم ، خلافاً لمن قال لا يأكلون ولا يشربون كمجاهد ، أو أنهم في ربض الجنّة ، حول الجنة كعمر بن عبد العزيز ، قال ابن حامد في كتابه:"الجن كالإنس في التكليف والعبادات" (1) ."
وقد عقد الشبلي باباً قال فيه:"باب في أن الجن مكلفون بإجماع أهل النظر". نقل فيه عن أبي عمر بن عبد البر: أن الجن عند الجماعة مكلفون مخاطبون لقوله تعالى: ( فَبِأَيِّ آلاء ربكما تكذبان ) [ الرحمن: 13 ] . وقال الرازي في تفسيره:"أطبق الكل على أن الجن كلهم مكلفون".
ونقل الشبلي عن القاضي عبد الجبار قوله:"لا نعلم خلافاً بين أهل النظر في أنّ الجن مكلفون ، وقد حكى عن بعض المؤلفين في المقالات أن الحشوية قالوا: إنهم مضطرون إلى أفعالهم ، وأنهم ليسوا مكلفين".
قال:"والدليل على أنهم مكلفون ما في القرآن من ذمّ الشياطين ولعنهم ، والتحرز من غوائلهم وشرهم ، وذكر ما أعد الله لهم من العذاب ، وهذه الخصال لا يفعلها الله تعالى إلا لمن خالف الأمر والنهي ، وارتكب الكبائر ، وهتك المحارم ، مع تمكنه من أن لا يفعل ذلك ، وقدرته على فعل خلافه ، ويدل على ذلك أيضاً أنه كان من دين النبي صلى الله عليه وسلم لعن الشياطين ، والبيان عن حالهم ، وأنهم يدعون إلى الشر والمعاصي ، ويوسوسون بذلك . وهذا كله يدل على أنهم مكلفون ، وقوله تعالى: ( قل أوحي إليَّ أنَّه استمع نفرٌ من الجن ) [ الجن: 1 ] إلى قوله: ( فَآمَنَّا به ولن نشرك بربنا أحداً ) [ الجن: 2 ] (2) ."
تكليفهم بحسبهم:
يقول ابن تيمية:"الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم ، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحدّ والحقيقة ؛ فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساوياً لما على الإنس في الحدّ ، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي ، والتحليل والتحريم ، وهذا ما لم أعلم فيه نزاعاً بين المسلمين" (3) .
(1) لوامع الأنوار البهية: 2/222-223 .
(2) غرائب وعجائب الجن ، للشبلي: ص49 .
(3) مجموع الفتاوى: 4/233 .
.ــــــــــــ