سلسلة منهاج المسلم - (8)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب: منهاج المسلم.

والمنهاج معناه: الطريق الواضح المستقيم، وهو منهاج المسلم؛ لأن الدين الإسلامي عقائد وآداب وأخلاق وعبادات وأحكام، هذا منهاج المسلم، سالكه بإذن الله من أهل الجنة، وأما المعرض عنه والخارج عنه بالمرة فهو من أهل النار، ومن كان يدخل يوماً ويخرج آخر فحكمه إلى الله عز وجل.

والحمد لله! هذا الكتاب -منهاج المسلم- ألِّف من سنين، وما درسناه، والآن -والحمد لله- أفاقت أمة الإسلام من سكرتها، وصحت من نومها، وأصبحت تدرس هذا الكتاب.

قبل هذه الفترة كان الحنفي يقول: هذا الكتاب ليس على مذهبنا، لا يفتحه ولا يقرأ ما فيه. والشافعي يقول مثل الحنفي، والحنبلي يقول مثل الشافعي، والمالكي يقول مثل ما قالوا، ويبقى الكتاب على الطاولة؛ لما أصاب أمة الإسلام من الضلال، والكتاب -والحمد لله- منهاج حق في العقائد، في الآداب، في الأخلاق، في العبادات، في الأحكام الشرعية كافة، وبشرت بأنه يدرس اليوم في الرياض مدينة العلم، ثم الكتاب ترجم إلى لغتين -فيما أعلم- الفرنسية والإنجليزية، ونفع الله بالفرنسية خلقاً كثيرين، فلهذا نشجع على قراءة هذا الكتاب؛ للعلم الذي حواه هذا الكتاب، وانتهى بنا الدرس إلى الفصل السادس: الإيمان بكتب الله تعالى.

أقول: الإيمان أركانه ستة، عبارة عن بناية ذات سقف، والسقف محمول بالعمود، والصلاة عمود هذا الدين.

الإيمان: أركانه ستة، أربعة جدران، والسقف، والعمود، إذا سقط ركن ينهار البناء ويسقط، سقط السقف خرب الدار، سقط العمود سقط السقف.

أركان الإيمان ستة مبينة في كتاب الله القرآن العظيم، ومبينة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعليها إجماع أهل السنة والجماعة.

هذه الأركان الستة هي:

أولاً: الإيمان بالله تعالى، كيف الإيمان بالله تعالى؟ الإيمان بوجود الله رباً لا رب غيره، وإلهاً -أي: معبوداً- لا معبود بحق سواه، مع صفات الجلال والكمال.

ثانياً: الإيمان بالملائكة، وقد عرفنا الكثير عنهم. الملائكة: عالم نوراني، مادة خلقهم من النور، والقرآن يبين أحوال الملائكة وصفاتهم وما هم عليه، فاقرءوا القرآن!

ومما هو مشاهد ملموس: ملك الموت وأعوانه. من يقبض أرواح موتانا؟ نحن نقبضها؟ الملائكة.

الملك الموكل بنفخ الروح في الرحم. في تلك المضغة لما تتأهل للحياة. من ينفخ الروح؟ أنت تستطيع أن تنفخ فيه الروح؟ لو تجتمع البشرية كلها لنفخ الروح في جسد لا تستطيع؛ فإن هذا مستحيل: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

أيضاً: الحفظة الذين معنا، لولاهم لتخطفتنا الشياطين، وعاث بنا الجنون، معقبات من بين أيدينا ومن خلفنا.

أيضاً: الملائكة كتبة الأعمال، الكرام الكاتبون، مع كل منا أربعة ملائكة اثنان بالليل واثنان بالنهار.

ماذا نعرف عن الملائكة؟ ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما يوجد فيها موضع أربعة أصابع إلا وعليه ملك ساجد أو راكع ).

وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، حملة العرش ثمانية ملائكة يوم القيامة ، والآن أربعة فيضاعف العدد إلى ثمانية، أخبر بهذا الله عز وجل.

الزبانية الذين وكلوا بتعذيب البشر والجن في عالم الشقاء في النار، تسعة عشر ملكاً، كما أخبر بهذا خالقهم.

أما ملائكة الجنة فلا عد لهم ولا حصر، ولا يعرف ذلك إلا الله.

إذاً: بعد الإيمان بالملائكة، الإيمان بالكتب، وها نحن معه.

قال المؤلف غفر الله لنا وله ورحمه وإياكم: [ الإيمان بكتب الله ] الكتب: جمع كتاب، منسوب إلى الله، لا الذي كتبه، بل أنزله الله وحياً، وكتبه أهل العلم.

قال: [ يؤمن المسلم ] أي: الحق حسن الإسلام، وليس مجرد من يقول: أسلمت. فالمسلم من أسلم قلبه ووجهه لله، فقلبه لا يتقلب طول حياته إلا في طلب رضا الله، ووجهه لا يقبل به إلا على الله عز وجل، هذا المسلم الحق [ يؤمن بجميع ما أنزل الله من كتاب ] لا يفرق بين كتاب وكتاب، فهو مؤمن مصدق بأي كتاب أنزله الله عز وجل على أي رسول من رسله، فلا يقول: أنا مع الأسف أؤمن بالتوراة ولا أؤمن بالإنجيل، أو أؤمن بالإنجيل ولكن لا أصدق التوراة، أو يقول: لا أؤمن بالقرآن، فهو كافر، كافر، كافر [ وما آتى بعض رسله من صحف ] هناك كتب وهناك صحف آتاها الله من شاء من أنبيائه ورسله [ وأنها ] أي: الكتب والصحف [ كلام الله أوحاه إلى رسله؛ ليبلغوا عنه شرعه ودينه ] (كلام الله) أي: تكلم الله به كلاماً يليق بذاته، فلا تفهم من كلام الله أنه ككلامك فتكفر، وقد بينا هذا، فالنملة تنطق فهل كلامها ككلام النعجة؟ هل هناك من يقول نعم؟ البقرة تنطق بحسب وضعها، فهل هناك من يقول: كلامها ككلام البعير؟ هل يقول هذا عاقل؟

إذاً: كلام الله تكلم به، وكلامه ليس ككلام البشر؛ لأن ذاته ليست كذوات البشر: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، لكن يجب أن تؤمن بأن الله تكلم وهذا كلامه.

(والرسل): جمع رسول. كم علمنا من رسول؟ ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً.

من خاتمهم؟ محمد صلى الله عليه وسلم.

[ وأن ] أي: ويؤمن أن [أعظم هذه الكتب: الكتب الأربعة ] أعظم هذه الكتب التي آمنا بها أربعة كتب، هي [ القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ] الكريم: الذي لا يتأذى به كائن، فلا يؤذي أحداً، فالقرآن من كرمه أن البنت تقرؤه على أبيها فلا تخاف ولا تستحي؛ لكرمه وكماله [ والتوراة المنزلة على نبي الله موسى عليه السلام ] موسى نبي بني إسرائيل، امتاز موسى بفضيلة ما هي؟ أنه كلمه الله عز وجل في جبل الطور، وسمع كلامه.

من تكلم مع الله سوى موسى؟

خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، ولكن في الملكوت الأعلى.

قال: [ والزبور ] من الزبر التي هي الكتابة [ المنزل على نبي الله داود عليه السلام ] والد سليمان، هؤلاء أنبياء بني إسرائيل ورسلهم [ والإنجيل المنزل على عبد الله ورسوله عيسى عليه السلام [ و] يؤمن العبد المسلم [ أن القرآن الكريم أعظم هذه الكتب ] إي والله! القرآن الكريم أعظم هذه الكتب التي علمناها كالتوراة والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، وما لم نعلم، أعلمنا الله ورسوله أن هذا الكتاب أعظم تلك الكتب [ والمهيمن عليها، والناسخ لجميع شرائعها وأحكامها ] كل ما في تلك الكتب من شرائع وأحكام وقوانين أوقفها، وجعل في القرآن ما يقوم مقامها، فلا يحل لمؤمن أن يأخذ بالتوراة ويحتج بما فيها على المسلمين أبداً، فقد نسخها الله عز وجل، فلم يبق مجال للعمل بما فيها، فقد أغنى الله البشرية عن تلك الكتب بعد ما وقع فيها الزيد والنقص والتقديم والتأخير بالقرآن الكريم.

وأبسط دليل عرفتموه: كم يوجد إنجيل اليوم؟ خمسة: برنابا، ولوقا، يوحنا.. الإنجيل كتاب يقسم على خمسة أناجيل! وأفظع من هذا من قسموه إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً، فلما ظهرت فضيحتهم اجتمعوا في روما وجمعوه في هذه الخمسة الأناجيل.

والقرآن الكريم -والله- ما سقطت منه كلمة، ولا استطاع أحد أن يضيف كلمة، أو يسقط كلمة، حفظه الله بنفسه؛ لأنه علم أن هذه الدنيا أوشكت على النهاية، يكفيها رسالة محمد وكتاب الله القرآن الكريم لبقية عمرها.

لا تقل: المسلمون يتمدحون بكتابهم، فالقرآن كتاب كل إنسان في الأرض، ومحمد رسول كل إنسان وجان في الأرض، فليست عصبية لقبيلة أو جيل أو أمة [ وذلك للأدلة النقلية السمعية، والأدلة العقلية الآتية ] فهيا نبرهن على صحة هذه العقيدة!

[الأدلة النقلية:].

أولاً: أمر الله تعالى بالإيمان بها

[ أولاً: أمر الله تعالى بالإيمان بها ] أي: بتلك الكتب، فنحن مأمورون بالإيمان بكل كتاب [ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:136] ] لبيك اللهم لبيك. [ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] ] أي: محمد صلى الله عليه وسلم.[ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136] ] أي: القرآن الكريم [ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] ] الكتاب: اسم جنس، أي: الكتب التي أنزلها قبل القرآن. هذه آية من سورة النساء فيها الأمر بالإيمان بالقرآن وبالكتب السماوية الأخرى.

ثانياً: إخبار الله تعالى عن الكتب في كتابه الكريم

[ ثانياً: إخباره تعالى في قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:2-3] ] يخاطب محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3] من الكتب.

هل رفض القرآن الكتب قبله؟ هل أنكرها؟ هل قال: لا تؤمنوا بها؟ لا. أبداً بل مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3] من الكتب السابقة [ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ [آل عمران:3-4] ] أنزلهما [ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:4] ] أبيضهم وأسودهم وليس اليهود والنصارى فحسب، بل للعالمين كلهم [ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4] ] لك أن تفهم من قوله: الْفُرْقَانَ [آل عمران:4] أنه القرآن، إذ ورد في القرآن قول الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، والقرآن حمال وجوه؛ كما قال علي رضي الله عنه: الفرقان الذي فرق فيه بين الحق والباطل، والخير والشر، والصحيح والفاسد، والنافع والضار. كل هذا في القرآن الكريم: الكفر.. الإيمان.. ، القرآن فرق بين هذه، وفصلها وبينها، فلهذا سمي بالفرقان.

[ وفي قوله سبحانه وتعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48] ] و(الكتاب) بمعنى الكتب هنا، وأنزل عليك يا رسولنا الكتاب. ما المراد به؟ القرآن.

(بالحق): الثابت اليقيني الصحيح.

(مصدقاً لما بين يديه) أي: لما تقدمه من الكتب: التوراة، والإنجيل، والزبور، وما قبلها.

(ومهيمناً عليه) أي: مسيطراً عليها، فما بقي لها شيء، انتهى أمرها، نسخها الله.

[ وفي قوله جلت قدرته: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163] ] إخبار بأن الله أعطى داود زبوراً، فنؤمن به.

[ وفي قوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:192-196] ] فما في القرآن يوجد في الكتب السابقة من عقائد سليمة، وعبادات، وطاعات وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:196] معروف عندهم، ينتظرون نزوله، ومجيء رسوله، ومن نزل عليه [ وفي قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18-19] ] الصحف الأولى لا يعلم عددها إلا الله، فشيث عليه السلام له ستون صحيفة، نؤمن بها إجمالاً، ولسنا مأمورين بتفصيلها، إلا هذه الأربعة فيقينية موجودة بين أيدي الناس: الزبور، والتوراة، الإنجيل، القرآن، هذه أخبار الله، فهل يقع عليها كذب أو يقع فيها شك؟ مستحيل!

ثالثاً: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في أحاديث كثيرة

قال: [ ثالثاً: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك] أي: بهذه الكتب الأربعة وغيرها [في أحاديث كثيرة، منها] أي: من تلك الأحاديث [قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بقاؤكم فيمن سلف)] أيها المسلمون! إنما بقاؤكم فيمن مضى [(كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)] والآن ألف وأربعمائة وسبع عشرة، انزعها من هذه البقية الباقية من صلاة العصر إلى المغرب، عمر هذه الأمة كان من صلاة العصر إلى غروب الشمس، كم ساعة اليوم؟ ساعتان ونصف الساعة تقريباً، مضت الأمة كلها قبلنا (إنما بقاؤكم فيمن سلف كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس) عرفتم المدة القليلة التي نحن فيها أم لا؟ نحن نزحف إلى الدار الآخرة، والله العظيم! أحببتم أم كرهتم، كل يوم نتقدم [(أوتي أهل التوراة التوراة)] أعطي أهل التوراة التوراة [(فعملوا بها حتى انتصف النهار)] من الصبح إلى نصف النهار، ولهذا زمنها كان طويلاً إلى نصف النهار [(ثم عجزوا)] عجزوا وما استطاعوا أن يواصلوا [ (فأعطوا قيراطاً قيراطاً )] يا من استعملتنا يكفينا نصف النهار، أعطنا الثمن والسلام، فأعطوا قيراطاً قيراطاً؛ لأنه نصف يوم. هذا تشبيه عجيب [ (ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا به حتى صليت العصر)] (عملوا به) الصلحاء منهم، وليس الفساق ، عمل به الموفقون -كما في التوراة أيضاً- فليسوا كلهم الذين عملوا [ ( ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً )] وذهبوا، يكفي [(ثم أوتيتم القرآن، فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين)] الوقت قصير ومع هذا أعطينا قيراطين قيراطين؛ لأننا كأننا عملنا من أول النهار، إذ لو زاد الوقت لزدنا، أما الآخرون ففشلوا في نصف النهار فيأخذون قيراطاً قيراطاً، والآخرون اشتغلوا أربع ساعات وفشلوا، قيراط قيراط، والذين كملوا العمل يأخذون الأجر كاملاً كالعمال عند الناس. بيان عجب هذا [( فقال أهل الكتاب: )] يحتجون [(أقل منا عملاً، وأكثر أجراً)] أهل الكتاب الحاسدون لكم قالوا: كيف أقل منا عملاً يأخذ أكثر منا أجراً؟ [(قال الله تعالى: هل ظلمتكم من حقكم من شيء؟ قالوا: لا. قال: هو فضلي أوتيه من أشاء)] فأسكتهم.

أهل الكتاب من اليهود والنصارى قالوا: كيف اشتغلوا أقل وقت منا ويأخذون الأجرة كاملة ونحن نأخذ قيراطاً قيراطاً، فقال لهم: (هذا فضلي أوتيه من أشاء) فهل ظلمتكم؟ أخذتم أجركم بحسب عملكم.

[ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( خفف على داود عليه السلام القرآن (القراءة) ) ] أي: القراءة للزبور أو التوراة [ ( فكان يأمر بدوابه لتسرج)] خيوله، ليعد للرحلة أو الجهاد [ ( فيقرأ القرآن -أي: التوراة أو الزبور- قبل أن تسرج دوابه)] أوتي لساناً وسرعة في القراءة عجباً، يأمر رجاله بأن يعدوا العدة للسفر أو الجهاد فلا يكملون حتى يكون هو قد قرأ الزبور كاملاً [(ولا يأكل إلا من عمل يديه ) ]. فضيلتان لـ(داود عليه السلام):

الأولى: يقرأ القرآن عن ظهر قلب بأسرع ما يكون.

والثانية: لا يأكل إلا من عمل يديه، وهو حاكم عام، ولا يأخذ من بيت المال شيئاً، شغال بيديه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً طول الدهر أيضاً.

[ وفي قوله عليه السلام: ( لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ) ] (رجل آتاه القرآن): هذا إخبار عن أن القرآن منزل من الله، وأنه كتابه. (فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار) أي: ساعات الليل وساعات النهار.

[ وفي قوله: ( تركت فيكم ) ] يا أمة الإسلام! [ (ما) ] شيئاً عظيماً [ ( إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي ) ] سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم، والله! ما يضل من تمسك بالكتاب والسنة.

ماذا قال؟ (تركت فيكم ما إن تمسكتم به) أي: شيئاً عظيماً لو تمسكتم به (لن تضلوا بعدي) وبينه بقوله: (كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم).

[ وقال عليه السلام: ( لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم ) ] اسمعوا! خذوا بهذا، يا أيها المسلمون! لا تصدقوا أهل الكتاب فيما يقولون لكم، ولا تكذبوهم [ ( وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وما أنزل إليكم ) ] ولا تدخلوا في صراع ولا جدال، فقد تصيبون وقد تخطئون [ ( وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون ) ] هذه أدلة سمعية.

رابعاً: إيمان الملايين من العلماء والحكماء وأهل الإيمان بأن الله تعالى قد أنزل كتباً أوحاها إلى رسله

[رابعاً:] وهو آخر دليل سمعي [ إيمان الملايين من العلماء والحكماء وأهل الإيمان في كل زمان ومكان، واعتقادهم الجازم بأن الله تعالى قد أنزل كتباً، أوحاها إلى رسله، وخيرة الناس من خلقه، وضمنها ما أراد من صفاته، وأخبار غيبه، وبيان شرائعه ودينه ووعده ووعيده ] بلايين الناس علموا بهذا وآمنوا به، وأنت تقول: كيف هذا؟! دائماً نبين:

يجيء واحد فيخبرنا بحادثة في بلاد فنصدق. أليس كذلك؟ وتخبرنا بلايين العلماء ونقول: كيف؟ إذاً: جننا أو فقدنا عقولنا.

لو كان ما آمن هذا العدد، ممكن تقول: لا كتب ولا نؤمن، ولكن هذه البلايين منا والرسل والأنبياء منا.

هذه هي الأدلة النقلية: المنقولة عن كتاب الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم. أي: من الكتاب والسنة.

[ أولاً: أمر الله تعالى بالإيمان بها ] أي: بتلك الكتب، فنحن مأمورون بالإيمان بكل كتاب [ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:136] ] لبيك اللهم لبيك. [ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] ] أي: محمد صلى الله عليه وسلم.[ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136] ] أي: القرآن الكريم [ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] ] الكتاب: اسم جنس، أي: الكتب التي أنزلها قبل القرآن. هذه آية من سورة النساء فيها الأمر بالإيمان بالقرآن وبالكتب السماوية الأخرى.

[ ثانياً: إخباره تعالى في قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:2-3] ] يخاطب محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3] من الكتب.

هل رفض القرآن الكتب قبله؟ هل أنكرها؟ هل قال: لا تؤمنوا بها؟ لا. أبداً بل مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3] من الكتب السابقة [ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ [آل عمران:3-4] ] أنزلهما [ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:4] ] أبيضهم وأسودهم وليس اليهود والنصارى فحسب، بل للعالمين كلهم [ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4] ] لك أن تفهم من قوله: الْفُرْقَانَ [آل عمران:4] أنه القرآن، إذ ورد في القرآن قول الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، والقرآن حمال وجوه؛ كما قال علي رضي الله عنه: الفرقان الذي فرق فيه بين الحق والباطل، والخير والشر، والصحيح والفاسد، والنافع والضار. كل هذا في القرآن الكريم: الكفر.. الإيمان.. ، القرآن فرق بين هذه، وفصلها وبينها، فلهذا سمي بالفرقان.

[ وفي قوله سبحانه وتعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48] ] و(الكتاب) بمعنى الكتب هنا، وأنزل عليك يا رسولنا الكتاب. ما المراد به؟ القرآن.

(بالحق): الثابت اليقيني الصحيح.

(مصدقاً لما بين يديه) أي: لما تقدمه من الكتب: التوراة، والإنجيل، والزبور، وما قبلها.

(ومهيمناً عليه) أي: مسيطراً عليها، فما بقي لها شيء، انتهى أمرها، نسخها الله.

[ وفي قوله جلت قدرته: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163] ] إخبار بأن الله أعطى داود زبوراً، فنؤمن به.

[ وفي قوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:192-196] ] فما في القرآن يوجد في الكتب السابقة من عقائد سليمة، وعبادات، وطاعات وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:196] معروف عندهم، ينتظرون نزوله، ومجيء رسوله، ومن نزل عليه [ وفي قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18-19] ] الصحف الأولى لا يعلم عددها إلا الله، فشيث عليه السلام له ستون صحيفة، نؤمن بها إجمالاً، ولسنا مأمورين بتفصيلها، إلا هذه الأربعة فيقينية موجودة بين أيدي الناس: الزبور، والتوراة، الإنجيل، القرآن، هذه أخبار الله، فهل يقع عليها كذب أو يقع فيها شك؟ مستحيل!