تفسير آيات الأحكام [58]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ففي هذا المجلس في الحادي عشر من ربيع الآخر من عام خمس وثلاثين بعد الأربعمائة والألف نكمل ما توقفنا عنده مما يتعلق بآيات الأيتام، وسورة النساء يتفق السلف والخلف على تسميتها بالنساء، ولو كان لها اسم ثانٍ لكان سورة اليتامى؛ وذلك لاستقلالها بجملة من الأحكام الخاصة بهم مما لا يوجد في غيرها.

اختبار اليتيم قبل دفع ماله إليه

يقول الله سبحانه وتعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] ، الله سبحانه وتعالى بعدما ذكر حرمة مال اليتيم, وشدد في ذلك, ونهى عن تبديل الخبيث بالطيب، ونهى الله سبحانه وتعالى عن حبس مال اليتيم عنه، فأمر الله عز وجل بدفعه إليه عند حاجته إليه واستقلاله بالتصرف فيه مع الرشاد، ولما حذر الله عز وجل من إعطاء السفهاء الأموال, ويدخل في السفهاء القاصر عن التصرف وحسن التدبير كالأيتام، لما ذكر الله عز وجل ذلك جعل حداً لحبس مال اليتيم عنه، وأن حبسه في ذلك إنما هو لصالحه لا لصالح الولي ولا لصالح الوصي، ولما كان كذلك وجب على الولي والوصي أن يختبر ويتتبع حال اليتيم: هل بلغ أو لم يبلغ؟ وإذا بلغ هل رشد أو لم يرشد؟

وهذا ظاهر في قول الله عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6] ، والمراد بالابتلاء هنا في هذه الآية: هو الامتحان والاختبار، أي: اختبروا أحوالهم لتميزوا البالغ من غيره، والراشد من غيره، فإذا بلغ ورشد وجب عليكم أن تدفعوا إليه ماله؛ لأنه أحق به من غيره فلا يجوز حينئذ أن يحبس ماله عنه.

تحريم حبس مال اليتيم بعد بلوغه الرشد

وفي هذه الآية دليل على تحريم حبس مال اليتيم من الولي والوصي، فحبسه إضرار به وهو محرم، إذا كان قادراً على التصرف محسناً له, وهذا ظاهر في جملة من القرائن في هذه الآية، وصريحاً في قول الله عز وجل: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] ، وفي القرائن في قوله: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6] ، وذلك أن الابتلاء هو الاختبار والامتحان وتتبع الحال فيها من الكلفة والمشقة بمعرفة تمييز الصبي من الخير والشر، واليتيم بعد بلوغه من إدراك حقه عن حق غيره، ومعرفة مواضع الخير والشر، والنفع والضر عند تصرفه، ومعرفة مآلات الأمور ومعرفة الحال, فإن ذلك مما يشق على الولي والوصي أن يدركه من أول مرة أو ربما مرات، فيحتاج إلى شيء من التفحص؛ ولهذا يتفق العلماء على أن المراد بقول الله جل وعلا: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]، يعني: اختبروهم مرةً بعد مرة وكرة بعد كرة حتى تدركوا أنهم رشدوا وبلغوا النكاح.

وهنا في قول الله سبحانه وتعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]، اليتم على ما تقدم معنا هو من فقد أباه وكان سنه دون البلوغ ودون الاحتلام، وأنه إذا بلغ لا يسمى يتيماً، وذلك لما روى أبو داود في سننه من حديث علي بن أبي طالب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يتم بعد احتلام )، فإذا احتلم فإنه يرتفع عنه اسم اليتم، ويكون حينئذٍ رجلاً أو امرأة، فيستقل بوصف غير وصف اليتم.

العلامات التي يعرف بها أن اليتيم قد بلغ النكاح

واختلف العلماء في الحد المقصود من قول الله جل وعلا: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6]، وما الفاصل في ذلك؟

الفاصل في هذا هي علامات البلوغ التي يتكلم عليها الفقهاء, والمستند في ذلك جملة من النصوص من ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة.

وبلوغ النكاح هو ميل الرجل للمرأة, فإذا مال إليها وأدرك التمييز بين الجنسين وظهرت الغريزة فيه فإنه قد بلغ النكاح، إلا أن دفع ماله إليه بمجرد البلوغ لم يأمر الشارع به حتى يكون راشداً.

وآكد علامات البلوغ وهي بلوغ النكاح وهو الاحتلام، لظواهر الأدلة من الكتاب والسنة، وذلك بتقييد الحجاب والاستئذان، وكذلك في هذه الآية (بلغوا النكاح) يعني: تأهلوا للتزويج عادة، وهو من جهة السنين بسن الخامسة عشرة، وجاء في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبد الله بن عمر وهو في الصحيحين، قال: ( عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ويوم بدر وأنا ابن ثلاث عشرة وأربع عشرة فلم يجزني، وعرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة، فأجازني رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، وهذا حد للبلوغ عند جمهور العلماء خلافاً لـأبي حنيفة، وهو قول الإمام مالك و الشافعي والإمام أحمد عليهم رحمة الله على أن البلوغ يكون بهذه السن؛ لحديث عبد الله بن عمر , وهو الحد الفاصل في ذلك، وهو الذي كان يقضي فيه الخلفاء.

فقد جاء عن نافع أنه قال: قلت لــعمر بن عبد العزيز: حديث عبد الله بن عمر : ( أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فقال عمر بن عبد العزيز : هذا هو الحد بين الصغير والكبير، فجعله في ذلك قضاءً للتمييز بين الصغير والكبير.

وبعض العلماء يجعل بعض العلامات من أمارات البلوغ، كخشونة الصوت فإن ذلك قد نص عليه بعض الأئمة كالإمام مالك رحمه الله, قال: هو أمارة ظاهرة مسموعة على خلاف قول جمهور العلماء, فإنهم لا يجعلون خشونة الصوت مجردة علامة أو دليلاً على البلوغ وهو الأظهر، ولكنه قرينة وليست دليلاً.

ومن أماراتها: الإنبات على قول جمهور العلماء، وذلك لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في يهود بني قريظة حينما فرق بين من أنبت فيقتل، ومن لم ينبت أنه لا يقتل، يعني: أنه لا يجري عليه الحكم، ولا تنزل عليه الحدود، وهذا قول جمهور العلماء عليهم رحمة الله.

والمرأة تزيد في ذلك بأمارتين: بنزول الحيض, فإذا حاضت فهي امرأة، وقد جاء عند البيهقي من حديث عائشة أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.

ومرادها بذلك: أنها غالباً أنها تحيض في مثل هذا، ولكن النساء يتفاوتن في ذلك، وهذا معلوم بالتجربة، وذلك باختلاف طبائع الناس وأعراقهم، وبلدانهم، فإن النساء يتفاوتن في ذلك.

ومن أمارته: ما تختص به المرأة عن الرجل في البلوغ هو نتوء الثديين, فإذا نتأ الثديان فهذا من أمارات وعلامات بلوغ الجارية.

المراد بالإيناس في قوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشداً)

وفي قول الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، الإيناس هنا هو العلم، يعني: فإن علمتم أو عرفتم منهم رشداً بعد الابتلاء والاختبار، وقد نص على أن هذا المعنى جماعة من المفسرين كــعبد الله بن عباس وعائشة ومجاهد بن جبر وغيرهم من المفسرين، على أن المراد بذلك هو العلم، فلا يدفع المال إليه بظن أو شبهة، فلا بد من معرفة يقينية، وهذا يظهر في هذا النص، وكذلك في قرينة الابتلاء في قوله: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]، وذلك أن الابتلاء يدفع الإنسان ويحوله من نتيجة ظنية إلى نتيجة يقينية: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] .

وهنا الرشد المراد به هو حسن التصرف والتدبير، وحسن التصرف والتدبير المراد به في المال، فقد يحسن الصبي التصرف والتدبير في غير المال، فقد يحسن في مأكله ومشربه، وفي إعداد طعامه، وفي طبخه وغسيل أمره، ولكنه لا يحسن في التصرف في ماله، فلا يميز بين الحرام والحلال، ولا يميز بين السرف والاقتصاد ولا القبض ولا يعرف التوسط في ذلك فإنه لا يكون من أهل الرشاد.

وإذا كان من أهل الرشاد وحسن التدبير في المال، فيعرف التصرف في ذلك ويحسنه ويعرف الخير والشر منه، ويعرف الضر والنفع منه، فإنه يدفع إليه ماله ولو كان غير راشد في غير ماله, وذلك في أسفاره أو في نكاحه أو ربما لديه ضعف في عبادته ولكنه في ماله يحسن، وذلك ممن يظهر فيه أمارات الفسق والتقصير في الدين، ولكنه يحسن تدبير ماله وقبضه، فالمراد بذلك هو صلاح التدبير في المال، وقد نص على ذلك جماعة من السلف كـعبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى فيما رواه عنه سعيد بن جبير وغيره. قال: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6]، قالا: إصلاحه في ماله، يعني: إذا كان يعرف الإصلاح من الإفساد في المال والسرف من غيره فإنه يكون راشداً, وهذا لا يكون إلا بالتجربة.

كيفية ابتلاء اليتيم وعلامات بلوغه الرشد

وهنا في قول الله جل وعلا: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6]، هنا الابتلاء هل يكون بإعطائه شيئاً من المال حتى ينفقه ليعرف اليتيم هل أحسن أو لم يحسن؟ هل أصاب أو لم يصب؟ وإذا أعطي من المال هل يعطى من ماله ليختبر أو يعطى من مال وليه ووصيه؟

يقال: إنه يعطى من المال من ماله هو من غير سرف، فلا يعطى مالاً كثيراً فإذا أفسده أضر بماله، فيكون ابتلاؤه بذلك إذا لم يكن الإنسان يعرف تمييزه وإحسانه من غير مال، فإذا احتاج إلى إعطائه المال ليعرف رشاده في ذلك فيعطيه من ماله هو.

ومن العلماء من قال: إن ثمة أمارات لرشاد اليتيم وقرائن تعرف به، منهم من يقول: هو صلاحه في دينه, إذا صلح في دينه فإنه يعرف مواضع الحرام، يعرف بذل المال في الحرام، وبذل المال في الحرام هو ضرب من ضروب السفه، ويوجب على صاحبه إذا كان يتقصد ذلك الحجر، فإذا كان صاحب ديانة فإنه يميز ويتوقى الحرام، فلا يضع ماله في خمر ولا في ميسر ولا في قمار ولا في رشوة ولا في ربا ولا في غير ذلك من أمور الحرام، فلا يشتري منه شيئاً حراماً، ولا يبذله في حرام، ويعرف مواضع الإسراف والتقتير والتوسط في ذلك، فإذا عرف ذلك فإن هذا أمارة على رشاد.

ومنهم من قال: من أمارات الرشاد: إقامة الصلاة، وقد رواه ابن جرير الطبري عن عبيدة بن عمرو أنه قال: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6]، قال: فإن أقاموا الصلاة يعني: رشدوا، عرفوا وميزوا الخير من الشر، ولا شك أن إقام الصلاة تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، فتنهاه عن بذله في حرام، وإن بذله مرة توقاه في المرة الأخرى, وربما كان أكثر رجوعاً وإنابةً مما يقع فيه من حرام.

دفع المال إلى اليتيم عند بلوغه الرشد

وقوله جل وعلا: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، في هذا دليل على أنه يحرم حبس مال اليتيم، وهذا نص صريح في ذلك، فليس للولي والوصي إذا أدرك اليتيم الخير من الشر وميز ذلك أن يحبس ماله عنه، ولهذا ظاهر الأمر الوجوب في قوله: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، يعني: لا تحبسوها عنهم بعد يقينكم أنهم رشدوا وميزوا الخير من الشر وأحسنوا التصرف في ذلك.

ويعضد ذلك ويؤيده في قوله: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]، أي: أنه يجب عليكم أن تبتلوا اليتامى مرة بعد مرة حتى تعرفوا حقيقة تصرفهم في ذلك، فإذا اتضح لكم وتيقنتم من ذلك، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] .

دلالة نسبة المال إلى الأيتام في قوله تعالى: (فادفعوا إليهم أموالهم)

وأيضاً في قول الله جل وعلا: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، هنا بإضافة المال إليهم بيان لحقهم في ذلك، وتملكهم للتصرف في مالهم, وأن حبس مالهم عنهم يحرم، وهذا مما لا خلاف فيه كحبس سائر الأموال، أن يحبس الإنسان ماله عن أخيه، أو يحبس مال جاره عنه، أو يحبس مثلاً مال زوجته عنها، فهذا مما يحرم، فإذا طلبه الراشد من الناس ذكراً كان أو أنثى فيجب أن يعطى المال، وإذا منع ذلك للسفه وعدم الرشاد فيحسن إليه في القول على ما تقدم في قول الله جل وعلا: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:6] ، يعني: حتى لا يظنوا أن حبسكم لمالهم إضرار بهم، فلا يغلب على ظنهم أنكم حبستم المال لحظ أنفسكم لتأكلوه وتستمتعوا به فيغلب على ظنهم لإساءة القول أو الجفوة معهم أنكم أردتم بهم ضراً، بل الإحسان إليهم بالمعروف وبذل الانبساط لهم حتى يدفع في ذلك سوء وقالة الشيطان فيه بين اليتيم ووليه ووصيه.

المقارنة بين أكل مال اليتيم وأكل الربا في الحرمة

وقوله جل وعلا: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] ، أمر الله عز وجل بدفع الأموال والمسارعة في ذلك، ثم حذر الله عز وجل وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] ، نهى الله سبحانه وتعالى عن أكل مال اليتيم.

وتقدم معنا الإشارة في هذا, وذكرنا جملة من القرائن التي تدل على أن أكل مال اليتيم من جنسه أنه أعظم عند الله عز وجل من جنس أكل مال الربا، وأن الله عز وجل إنما عظم مال الربا؛ لأنه أكثر تقنيناً, والنفوس تتشوف إليه، بخلاف مال اليتيم، النفوس تتعفف عنه وتحتاط، حتى النفوس الدنيئة بخلاف الربا.

وكذلك فإن الربا يدخله التقنين والانتشار ويشيع, وهو من المظالم العامة التي تدخل في أمور الناس، بخلاف مال اليتيم فإن الأيتام في الناس قليل وأحوالهم قليلة، ومن يلي اليتيم أو يكون وصياً له فيكون من قرابته غالباً فيحتاطون في ذلك, ويترفعون عن أكل مال اليتيم، ولهذا شدد في مال الربا لأنه أسرع انتشاراً وتقنيناً فعظم ذلك الجرم.

وقرينة ذلك أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى حرم أكل مال اليتيم قبل أكل الربا، ومن القرائن في الشريعة أن أعظم المحرمات أقدمها، ولهذا أول محرم حرمه الله عز وجل الشرك، وأول أمر أمر الله عز وجل به هو التوحيد، ثم تليه بقية الشرائع، وقد يؤخر الله عز وجل أمراً ويؤخر نهياً لعلة من العلل، وهذه العلة إما أن يكون الأمر لتمكن هذا الشر في الناس وشيوعه وذيوعه فيهم حتى لا ينفروا من الحق، ويؤجل أمره، وهذا كما في الربا، ولهذا عمر بن الخطاب يقول كما في الصحيح قال: إن آخر ما أنزل الله عز وجل على نبيه آية الربا فدعوا الربا والريبة، وقال: ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبين، فهل تأخير الربا دليل على عدم تعظيمه؟

لا، وإنما أخر الله عز وجل الربا؛ لأن الربا من المعاملات ومنتشر بين الناس في أسواقهم، فتحريم ذلك قبل توطين الإيمان في قلوبهم وترويضهم على طاعة الله عز وجل بأوامر أخرى، فإن ذلك ربما ينفر خاصة ضعيف الإيمان أو من في قلبه نفاق، فكانت الحكمة في تأخير ذلك، ولم يترك جانب الربا فأخر, وإنما جعل الله عز وجل ثمة محرمات قبله توطن له من النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، ونهي الله عز وجل عن الغش، والنهي عن الرشوة باعتبار أنها أنواع أيسر, أو أضعف انتشاراً من الربا تمهيداً له.

وكذلك تحذيراً من شح الأنفس، حذر الله عز وجل من شح النفس والحث على البذل كسراً لشوكة الشح والطمع الذي هو أصل الربا، ثم لما ضعفت النفوس تشوفاً للمال وقوي الإيمان جاء ما يتعلق بالنهي عن الربا فنهى الله جل وعلا عنه، وهذا من حكم التدرج, وهذا قرين ما يتعلق بالخمر، إنما أخر ما جاء من تحريم الخمر وجاء على التدرج لانتشاره.

تفصيل مسألة التدرج في التشريع

ولهذا في مسألة التدرج ما يمكن فيه التدرج من جهة تطبيقه أنه ينظر إليه من جهة الانتشار والتمكن في الناس خاصة في البلدان التي يشيع فيها المنكرات أو الشرور والكفر ويفتحها المسلمون، أو كان الناس فيها على إسلام مبدل ككثير من البلدان التي يخيم عليها الإلحاد من العلمانية أو غير ذلك, ثم يأتيها أهل الإسلام مبينين أو مقيمين لشرع الله عز وجل فيها، فعليهم أن يتدرجوا من وجهين: بمقدار منزلة المحرم في الشريعة، وبمقدار شيوع المنكر فيهم.

وهناك ما لا يقبل فيه التدرج وهو ما يتعلق بالتوحيد، وما يتعلق بالشرك فهو أمر واحد، فلا يقال: إن عبادة صنم واحد تختلف عن عبادة عشرة، الصنم الواحد والعشرة واحد وهي محرمة، وكذلك توحيد الله سبحانه وتعالى كل ناقض له ينهى عنه جملة، وما يتعلق فيما دون ذلك من المنهيات من الشرك ينظر فيه بحسب انتشاره، فإذا كان السفور ينتشر في ذلك البلد والتعري يقتصد في الأمر على ما وصلوا إليه، فيؤمرون بالستر العام وعدم إبداء ظواهر العورات، ويوطنون على ما بعد ذلك، ولا ينهون عن الاختلاط وهم يقعون في الزنا والخلوة، ثم يحرم عليهم ابتداء الزنا ثم ذرائعه من الخلوة، ثم بعد ذلك الاختلاط، لأن الخلوة أعظم من الاختلاط، والاختلاط مقدمة للخلوة.

ثم بعد ذلك ما يتعلق بما جاء من أحكام وتشريعات في هذا الباب من خروج المرأة بلا محرم، وما يتعلق بتطيب المرأة في الأسواق ولبسها في الزينة ونحو ذلك فلا تؤخذ هذا حتى تؤخذ مقدماتها، ولهذا لكل وسيلة شرعية أمر الشارع بها تؤدي إلى الحق، وكل وسيلة تؤدي إلى الباطل لا بد من تحقيق الحق الأصل قبل النهي والأمر بوسائله، ولهذا إذا أمرت بالتوحيد والناس على شرك لا تنه عن وسائل الشرك وهم يقعون في الأصل من جهة الشرك، فانه عن الشرك ابتداء وخفف في وسائله باعتبار أنها لا تخرج الإنسان من الإسلام وتدخله في الكفر، ثم انه عن ما يتعلق بتلك الوسائل على سبيل التدرج, وهذا ليس على الاطراد، فهذا بحسب بعد البلد عن الحق. فبلد يتحقق فيهم التوحيد ولكن فيهم المنكرات تفشو فيهم، فينظر إلى أعظمها يبدأ فيه، ثم يتدرج بجذبهم إلى الحق التام في ذلك، والناس في حكمتهم في هذا يتباينون من جهة إدراك التدرج في الشريعة.

قد روى أبو نعيم في الحلية وابن سعد في كتاب الطبقات وغيرهم عن عمر بن عبد العزيز بسند صحيح: أنه لما ولي الخلافة, وهو في ذلك الزمن جاءه ابنه، فقال: إن الناس على ما هم عليه, فلو أمرتهم بما يقوموا به دينهم، ثم قال ابن عمر بن عبد العزيز: ولوددت وإني معك أن تغلى بي القدور وتقيم الناس على الحق، فقال عمر بن عبد العزيز قال: إني أرى فيك حداثة السن، يعني: الشره بإقامة الشريعة بكاملها، وإني إن حملت الناس على الحق جملة تركوه جملة. وجاء في رواية عنه قال: إني لا أستطيع أن أقيم المرة من الدين إلا مع الحلوة من الدنيا، يعني: أتربص فيهم حتى أتألفهم, وهذا في وهذا الزمن فكيف في أزمنة متأخرة, وهذا من الفقه، فإن النص مجرداً لا يغني عن سياسة وضعه وتطبيقه، لو كانت النصوص مجردة لأنزل الله عز وجل كتابه على الأمة بلا رسول، وأعطاه الناس ليبلغوا الحق، ولكن يحتاج إلى سياسة في التطبيق يقوم بها خير الخلق في زمانه وهم الأنبياء، يقومون بتطبيق شريعة الله عز وجل حتى يأخذوا إحكام التنزيل من أولئك الأنبياء، ولهذا نقول: لا بد من النظر في أمرين: فقه النصوص وهذا مطلب وهو الأصل.

الأمر الثاني: فقه تنزيلها ووضعها، وهذا مطلب, وفقه تنزيلها ووضعها يؤخذ من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في وضعه وتطبيقه.

المراد بأكل مال اليتيم

وفي قول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] ، يعني: لا تأكلوا أموال اليتامى، وهذا إشارة إلى نهي تقدم الكلام عليه, وهذا يؤكد حرمة مال اليتيم، وتعظيم الإثم في ذلك.

والمراد بالأكل هو الإفساد والإتلاف وسواء كان ذلك من مطعوم، أو كان ذلك من ملبوس، أو كان ذلك من مركوب، يعني: لا تتلفوا أموالهم إسرافاً من عند أنفسكم وبغياً وشرهاً: وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] ، يعني: تسابقوهم قبل أن يكبروا ويميزوا ما لهم وما عليهم، فتبادر بأخذ ماله والأكل منه حتى لا يكبر الصغير فيميز حينئذ ما نقص من ماله وما لم ينقص, فحرم الله عز وجل ذلك, وأن يجعل الله عز وجل عليهم رقيباً.

ولهذا الله سبحانه وتعالى قال في ختام هذه الآية: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء:6]، يعني: رقيباً عليكم وشهيداً يشهد أحوالكم وأكلكم، وما تتورعون عنه.

الحالة التي يجوز فيها الأكل من مال اليتيم بالمعروف

ثم هنا في قول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] ، حينما ذكر الله عز وجل الإسراف وقيد النهي عن الأكل به؛ إشارة إلى جواز الأكل من غير سرف، وهل الأكل من غير سرف على إطلاقه؟ لا، وإنما يأتي تقييده في ذلك في حال الفقير إذا كان الولي والوصي فقيراً فإنه يأكل بالمعروف، ويأتي بيان ذلك بإذن الله عز وجل.

مراقبة الله عز وجل معينة على التحرز من أكل مال اليتيم

وقوله: وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6]، رقابة الخلق إذا وجدت في القلب دفعت الإنسان إلى أكل الحرام والوقيعة فيه، ولهذا قال الله جل وعلا: وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6]، يعني: تبادروهم قبل أن تنشأ الرقابة فيهم فيميز ما لهم وما عليهم, فتتوقون من الأكل خشية منهم لا خشية من الله.

وفي هذا إشارة إلى وجوب حضور الرقابة القلبية في قلب الإنسان، وأن يكون الله جل وعلا أكبر في قلب الإنسان من كبر اليتيم الذي يهابه الإنسان إذا كان كبيراً، وأن يكون الله جل وعلا أعظم في قلب العبد من غيره.

الأخذ من مال اليتيم لمن يقوم عليه وكان مستغنياً

وهنا: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6]، الغنى المراد بذلك هو الكفاية، إذا كان الإنسان مكتفياً فهو غني.

في قوله: (( فَلْيَسْتَعْفِفْ ))، يعني: عن مال اليتيم، ليستعفف ويحترز ولا يأكل منه شيئاً.

وهنا مسألة: وهي إذا كان الإنسان غنياً ولديه ما يكفيه وولده وزوجه, وهو يقوم على يتيم, فهل يقوم على اليتيم متبرعاً، أم يجوز له أن يأخذ مقابل ذلك قياماً بشأنه وعنايةً بأمره ونحو ذلك، فهل يجوز له ذلك أم لا؟

كأن يقول قائل: إني ألي أمر اليتيم ويأخذ من وقتي وجهدي شأناً، فلو قضيته في مال أو تجارة لربحت من ذلك مالاً، فهل لي أن آخذ من ماله بمقدار ما أفقد من وقت وجهد وما يفوت علي من دنياي؟

نقول: إن الأصل في كفالة مال اليتيم والقيام بشأنه أنها تبرع وإحسان، والنفوس التي تتشوف إلى ذلك من جهة الأصل ليست كافلةً لليتيم، والله سبحانه وتعالى هنا ذكر كفالة اليتيم الذي يقوم على اليتيم أجيراً، فإنه لا يقوم لا يأخذ ولا يستحق كفالة اليتيم، كالذي يأتي يقول: أريد مرتباً لأقوم برعاية فلان، فيأخذ ويتقاضى راتباً على كذا، كالذين يقومون في بعض الجهات الخيرية أو نحو ذلك ويتقاضون رواتب للعمل، هل يأخذون أجر كفالة اليتيم؟

هؤلاء أجراء، وأما إذا قاموا بكفالة اليتيم ثم ضرب لهم الرزق فهؤلاء يأخذون أجر مال اليتيم، ومن احتسب فإن فضل الله عز وجل واسع، إلا أن كفالة اليتيم المقصودة أن يقوم الإنسان بالتبرع بذلك، وهل يجوز للإنسان أن يأخذ من مال اليتيم ما فاته من وقت وما بذله من جهد؟

نقول في ذلك: إن هذا جائز، ولكنه إذا كان غنياً ينقص من أجر كفالته بمقدار أخذه؛ لأنه يكون كسائر الأجراء، وكسائر الناس الذين يأخذون مالاً على ما يفعلون.

حكم كفالة اليتيم

وقوله هنا: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [النساء:6] ، مع أن أصل الكفالة ليست واجبةً عليه، قد يضع الكفالة إلى غيره من الناس، ولكن إذا أراد الأجر، مَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6] ، وهذا يفيده القيد في قول الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] ، يعني: إذا كان فقيراً فله أن يأكل بالمعروف.

والمراد بالمعروف بقدر الحاجة, فلا يسرف في ذلك, ولهذا يشدد بعض السلف في هذا حتى في الطعام، وقد جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( يأكل بثلاثة أصابع )، يعني: لا يكثر، ويقول إبراهيم النخعي رحمه الله: ليس التعفف لبس التبان والكسوة بها والشبع من الطعام، وإنما ستر العورة ورد النفس، يعني: ما يرد الإنسان بذلك نفسه.

أهمية الوازع الفطري في الالتزام بأحكام الله

وفي قول الله جل وعلا: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6] ، يعني: من غير شره ولا قصد الإفساد، ولهذا شدد غير واحد من السلف في أكل الغني من مال اليتيم قصداً.

يقول عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله: أكل مال اليتيم سرفاً وقصداً مع غنى وكفاية كأكل الميتة والدم، وذلك لشدة حرمته وعظم منزلته ومقامه، لأن اليتيم لا رقيب على ماله إلا الولي والوصي, فإذا أكله وخانه من الذي يصونه حينئذ؟ ومن هو الرقيب عليه؟

ولهذا إذا ضعف رقيب الطبع في الإنسان قوي وازع الشرع، وهذا تلازم، إذا قوي وازع الشرع ضعف وازع الطبع, وإذا قوي وازع الطبع ضعف وازع الشرع، حتى يكون في ذلك توازن، ولهذا نجد النصوص الكثيرة في تحريم الزنا، والتحريم بحليلة الجار ونحو ذلك، لكن لا نجد ذلك التشديد بأسانيد مماثلة ما يتعلق بوقيعة الرجل بأمه، أو وقيعة الرجل ببنته، أو وقيعة الرجل بأخته، أليست أعظم عند الله؟ بلى لماذا النصوص ما تضافرت كما تضافرت في عموم الزنا؟

لأن وازع الطبع قوي ينفر من هذا حتى في الكافر، ولهذا الشريعة لا تحرم على الكافر أن يسافر ببنته وأخته وأن يخلو بها ولو كانت مسلمة، لقيام وازع الطبع فيه، ولو انعدم وازع الشرع، ولا يجوز للصالح مهما بلغ في الصلاح والولاية أن يخلو بامرأة أجنبية عنه؛ لضعف وازع الطبع, فقوي حينئذ وازع الشرع، حتى يكون في ذلك توازن.

وهذا له أثر في كثير من وفرة النصوص وكثرتها، وكثير من الناس ينظرون خاصة في الفطر المبدلة، الفطر إذا بدلت لا تحكم على الشريعة، لأن الفطرة مبدلة ومتغيرة حينئذ ولا حكم فيها.

وتغير الأزمنة على الحال الذي كان عليه الصدر الأول لا يحكم على نصوص الشريعة كثرة وقلة وقوة وضعفاً، وكيف يكون هذا؟

يعني: أحوال الناس في الصدر الأول كانوا على فطرة صحيحة، وكانوا على أحوال من المحرمات فجاءت الشريعة بسد ذلك التبديل الذي طرأ على الفطرة؛ ولهذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم آمراً الناس بالاستقامة على أمر الله، فجاءت النصوص كثرةً وقلة، وجاء الخطاب يوافق الفطرة، فإذا تغيرت الفطرة لا تتعرف على الشرع، ولهذا الرجل الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام، فيقول للنبي عليه الصلاة والسلام: ( ائذن لي في الزنا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أترضاه لأمك؟ قال: لا، قال: فكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم، قال: أترضاه لأختك؟ قال: لا، قال: كذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم، قال: أترضاه لخالتك؟ قال: لا، قال: كذلك الناس لا يرضونه لخالاتهم )، هذا خطاب لفطرة سليمة.

إذا أتيت إلى رجل منحل كبعض الليبراليين ونحو ذلك، تقول: أترضاه لخالتك؟ يقول: أمر طبيعي، الحق لها.

لكن هذه فطرة مبدلة غير سليمة.

وهل يصح لنا أن نقول: أترضاه لأمك؟ لا؛ لأن هذا فطرته ليست صحيحة بل هي مبدلة، والواجب علينا في مثل هذا أن نعدل الفطرة المبدلة لتتعرف على النص، ولهذا بعض الناس الذين تتبدل فطرهم يقول: أين الدليل على حرمة كذا لا أجده في النصوص؟

نقول: لا تجده في النصوص؛ لأن النصوص جاءت عن الفطر الصحيحة، ولهذا لا تجد النص.

هل لأحد أن يقول: أعطني دليلاً على حرمة شرب البول في نص؟ اكتفاءً بالفطرة، وعدم النص هل يدل على الجواز؟ إذا قال للإنسان: أعطني نصاً والأصل إباحة يعييك أو لا يعييك؟

تقول: فطرتك مبدلة، أنت أبعد ما تكون عن الشريعة، ولهذا عامر بن شراحيل الشعبي يحيل إلى جانب الفطرة، وقد سئل عن أكل الذباب، قال: إن اشتهيته فكله، يعني: الميزان الفطرة، فالشريعة جاءت على فطر صحيحة، ولهذا أحياناً أشبه الفطرة بالشفرة؛ فالنص يتعرف على الفطرة وأحياناً لا يتعرف عليها.

ولهذا بعض الناس يمكن أن يبتعد عن الفطرة قدماً، وبعضهم متراً، وبعضهم شبراً، وبعضهم ممسوخاً، لا يمانع حتى من الوقيعة في المحارم، وقد قرأت قريباً أن البرلمان الأوروبي في بروكسل طرح نكاح المحارم للتصويت، فبدءوا بالأخوات، يعني: الأم باقية ما عرضوها، هذا تبديل للفطرة, ولكنه إلى حد معين، يأتي ومسخ الفطرة في هذا لا حد له ولا نهاية، وكثير من الناس الذين يردون نصوص الشريعة هم أصحاب فطر مبدلة.

فيحتاج إلى إعادة الفطرة حتى يعرف الشرعة، وإذا كان صاحب فطرة مبدلة كيف تخاطبه بالنص؟ الفطرة إذا كانت في الإنسان تعني حياة الإنسان، فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30].

ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، هذا ما يتعلق بالتوحيد: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، أي: أوجدهم عليها، التمس فيه شيئاً ينقضه، التمس فيه شيئاً من الانقضاء, لابد أن يكون فيه جاذب من الفطرة، ولهذا الأعرابي الذي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أترضاه لأمك )، كأنه يضرب الأوتار، لأختك، لخالتك، ينظر إلى مدى الفطرة، قد تتبدل في الخالة، تتبدل في العمة، لكن لا تتبدل في الأم، وإذا تبدلت في الأم لا تتبدل في الزوجة، ولهذا الغرب تبدلوا شعورياً من جميع المحارم إلا الزوجة, لا يحب أن توطأ زوجته، بقيت هذه الشعرة، اضربه في هذا الأمر ودع المبدل، أترضاه لزوجتك؟ لا تذهب إلى أمك ولا أختك، اضرب الشريان الموجود المتبقي من الفطرة.

ولهذا نقول: إن الفطر في هذا معتبرة، إذا جاءت سليمة ارتفع النص، وإذا أصبحت بين بين جاء النص متوسطاً، وإذا أصبحت الفطرة ضعيفة جداً جاء النص في ذلك قوياً، وهذه سياسة العالم، بعض الناس يقول: لماذا يشدد فلان في نصوص وفي مسائل ما جاءت النصوص فيها كثيرة؟ لأنه فقه ميزان الشرعة وعرف الطبائع المبدلة، فعوض قلة النصوص ليعدل انحراف الفطر، فمثلاً: قد يأتي حكم في الشريعة لم يرد فيه إلا آية واحدة أو نص واحد, ثم تجد من التشديد بعض العلماء عليه، ليعوض النقص الموجود في الفطرة، وهذه سياسة يقوم بها العالم بحسب المنكرات التي تكون في الناس.

ولهذا نقول: إن جوانب الفطرة التي توجد في النفوس هي مطلب في معرفة التحريم، وميزانه، وثقله، وقوته، وضعفه، وله ميزان من جهة الشريعة أيضاً.

كثرة النصوص ليست دائماً في الشريعة تدل على أهمية الشيء لجميع الفطر، بل هو لأهمية الشيء في الفطرة الصحيحة، وقلة النص لا يدل على تيسير الأمر، وتيسير الأمر لصاحب الفطرة لأن في فطرته كفاية، وهذا أمر شبيه بالغلبة في كثير من الأوامر والنواهي، وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، التوسط في ذلك والاعتدال من غير سرف ومن غير تقصد في ذلك أيضاً.

وهنا قد يكون الفقير إذا أخذ من مال اليتيم أجراً على كفالته لليتيم، هل يسقط أجره كحال الغني، أو يضعف أجره كحال الغني؟

نقول: إن الفقير إذا ترك حظه من الدنيا من الضرب والمتاجرة بماله ففاته شيء من المال، فأراد أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف، فإن ذلك لا ينقص من أجره شيء؛ لأنه ليس لديه كفاية، وقد أذن الله عز وجل له في ذلك.

كون المال الذي يأكله الوالي على اليتيم إذا كان فقيراً قرضاً أم مباحاً

وهنا في قوله جل وعلا: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، إشارة إلى الإباحة، بعض السلف رحمهم الله قال: إنما هو أكل كالقرض يعيده إلى اليتيم إذا قدر عليه.

اختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الأكل من مال اليتيم للغني والفقير إنما هو قرض إذا قدر عليه أعاده الفقير، والغني يحرم عليه أن يأكل وهو يجد في ماله الكفاية, وإذا أخذ وجب عليه الوفاء.

وهذا ذهب إليه جماعة من الأئمة عليهم رحمة الله, وهو ظاهر قول الإمام الشافعي ، وقال به عطاء وجماعة من المفسرين، وصح ذلك عن عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر ، فقال عبد الله بن عباس فيما رواه علي بن أبي طلحة في قول الله جل وعلا: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، قال: هو القرض، يعني: الفقير يأكل اقتراضاً ثم يقوم بوفائه.

القول الثاني: قالوا: إنه ليس قرضاً ولكن يستحب إعادته متى ما قدر عليه، وإذا مات ولم يعده فلا يجب عليه ذلك، وهذا قول سعيد بن جبير كما رواه ابن أبي حاتم وغيره عنه.

القول الثالث: قالوا: إنه ليس بقرض, وذلك أن الله عز وجل ذكر الأكل هنا قال: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، والأكل إذا ذكر في الكتاب والسنة من جهة الترخيص، فالمراد بذلك هو الإباحة

يقول الله سبحانه وتعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] ، الله سبحانه وتعالى بعدما ذكر حرمة مال اليتيم, وشدد في ذلك, ونهى عن تبديل الخبيث بالطيب، ونهى الله سبحانه وتعالى عن حبس مال اليتيم عنه، فأمر الله عز وجل بدفعه إليه عند حاجته إليه واستقلاله بالتصرف فيه مع الرشاد، ولما حذر الله عز وجل من إعطاء السفهاء الأموال, ويدخل في السفهاء القاصر عن التصرف وحسن التدبير كالأيتام، لما ذكر الله عز وجل ذلك جعل حداً لحبس مال اليتيم عنه، وأن حبسه في ذلك إنما هو لصالحه لا لصالح الولي ولا لصالح الوصي، ولما كان كذلك وجب على الولي والوصي أن يختبر ويتتبع حال اليتيم: هل بلغ أو لم يبلغ؟ وإذا بلغ هل رشد أو لم يرشد؟

وهذا ظاهر في قول الله عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6] ، والمراد بالابتلاء هنا في هذه الآية: هو الامتحان والاختبار، أي: اختبروا أحوالهم لتميزوا البالغ من غيره، والراشد من غيره، فإذا بلغ ورشد وجب عليكم أن تدفعوا إليه ماله؛ لأنه أحق به من غيره فلا يجوز حينئذ أن يحبس ماله عنه.

وفي هذه الآية دليل على تحريم حبس مال اليتيم من الولي والوصي، فحبسه إضرار به وهو محرم، إذا كان قادراً على التصرف محسناً له, وهذا ظاهر في جملة من القرائن في هذه الآية، وصريحاً في قول الله عز وجل: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] ، وفي القرائن في قوله: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6] ، وذلك أن الابتلاء هو الاختبار والامتحان وتتبع الحال فيها من الكلفة والمشقة بمعرفة تمييز الصبي من الخير والشر، واليتيم بعد بلوغه من إدراك حقه عن حق غيره، ومعرفة مواضع الخير والشر، والنفع والضر عند تصرفه، ومعرفة مآلات الأمور ومعرفة الحال, فإن ذلك مما يشق على الولي والوصي أن يدركه من أول مرة أو ربما مرات، فيحتاج إلى شيء من التفحص؛ ولهذا يتفق العلماء على أن المراد بقول الله جل وعلا: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]، يعني: اختبروهم مرةً بعد مرة وكرة بعد كرة حتى تدركوا أنهم رشدوا وبلغوا النكاح.

وهنا في قول الله سبحانه وتعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]، اليتم على ما تقدم معنا هو من فقد أباه وكان سنه دون البلوغ ودون الاحتلام، وأنه إذا بلغ لا يسمى يتيماً، وذلك لما روى أبو داود في سننه من حديث علي بن أبي طالب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يتم بعد احتلام )، فإذا احتلم فإنه يرتفع عنه اسم اليتم، ويكون حينئذٍ رجلاً أو امرأة، فيستقل بوصف غير وصف اليتم.