تفسير آيات الأحكام [55]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أحوال المنافقين الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد

فنتكلم في هذا المجلس على ما تبقى من الآيات المتعلقة بالأحكام من سورة آل عمران، وأول هذه الآيات هي قول الله جل وعلا: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167] ، هذه الآية نزلت في غزوة أحد لما استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من أهل المدينة وذلك بالخروج معهم للقاء المشركين، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة على اختلاف أحوالهم، وأيضاً خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقون, وكان المنافقون في حالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد على حالين:

الحالة الأولى: خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا من نصف الطريق، وهذا كحال عبد الله بن أبي ومن معه، فإنهم خرجوا ابتداءً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولما كانوا في طريقهم إلى أحد رجعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحالة الثانية: الذين لم يخرجوا أصلاً من المدينة وتعذروا بشيء من الأعذار، وأولئك أيضاً منافقون، والنفاق يظهره الله عز وجل بأحوال وبأسباب, وهذه الأسباب ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وأظهر مواضع النفاق هي في سورة التوبة, ويأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل في مواضعها.

أكثر الأمور التي من خلالها يظهر النفاق

وأكثر ما يظهر الله عز وجل به النفاق هو بأمرين:

الأمر الأول: الاستهزاء.

الأمر الثاني: الإكثار من الأعذار لترك الحق.

ولهذا نجد أن المنافقين حينما يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر لا يعترضون على ذات الأمر, وإنما يعتذرون بشيء من الأعذار التي تسوغ لهم عند من أمرهم أن يتخلفوا عن الامتثال، ولهذا نجد أن المنافقين يتخذون الأعذار للخروج عن الحق، لا يعارضونه صراحة كحال الكفار وإنما يعتذرون.

ولهذا لما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد أن يخرجوا معه: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لما استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81]. ومعنى ذلك: أنه لو كان في غير حر كبرد لخرجنا.

وكذلك أيضاً قال الجد بن قيس لما استحثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال في غزوة تبوك قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ائذن لي ولا تفتني، أي: أني إذا لم يكن ثمة فتنة فإني خارج معك، فهذه أعذار لترك الحق لا لرده ظاهراً.

ولهذا الله سبحانه وتعالى ما بيَّن لرسوله صلى الله عليه وسلم كفراً ظاهراً، ولكن بين نفاقاً باطناً، ولهذا حكم الله عز وجل عليهم أنهم هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] وقربهم من ذلك، يعني: لا يتمحض الكفر في الظاهر، والنفاق في ذلك ظاهر، لأنهم يظهرون ما لا يبطنون، فيبطنون الرد كحال المشركين، ويظهرون الأعذار نفاقاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاملهم في الظاهر كمعاملة المسلمين.

أنواع القتال وما يشترط لكل نوع

وفي هذه الآية في قول الله سبحانه وتعالى: وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167] ، هنا ذكر القتال في سبيل الله وذكر الدفع, فجعل القتال في سبيل الله وما أضاف الدفع إلى سبيل الله، في هذا معان، منها: ما يذكره بعض الفقهاء من السلف والخلف إلى أن الدفع لا يشترط له نية، وأما قتال الطلب فهو الذي يشترط له النية، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح لما سئل قيل له: ( الرجل يقاتل للمغنم, والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ).

فهذا دليل على أن القتال في الطلب يجب فيه توفر النية، ومن قاتل بغير نية كمن يقاتل حمية أو شجاعة أو ليرى مكانه فميتته جاهلية، وهو من أول من تسعر بهم النار، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة.

وأما قتال الدفع وهو أن يدفع الإنسان عن عرضه وماله ودمه ودينه عند إرادة أحد منه، فإنه لا يشترط من ذلك نية، فبمجرد وجود النية في الدفع عن حقه ذلك موجب لشرعية عمله، وهذا يتحقق فيه الشهادة ولو لم ينو، ولهذا أضاف الله عز وجل إلى القتال أن يكون في سبيل الله، وما أضاف الدفع إلى سبيله، باعتبار أن مجرد الدفع هو دفع عن حرمات يتحقق فيه أمر الله سبحانه وتعالى, ويعضد ذلك ويؤيده ما جاء في حديث سعيد بن زيد عند أبي داود وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه أو نفسه فهو شهيد ) . وأصل هذا الحديث في الصحيح من غير ذكر أهله.

وفي هذا أن الإنسان إذا قصد الدفع ولو لم يستحضر النية فإن أجره على الله عز وجل وقع، ولو لم يستحضر إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، وإنما استحضار إعلاء كلمة الله عز وجل يكون في جهاد الطلب لا في جهاد الدفع، ويؤيد هذا حديث قابوس بن أبي المخارق عن أبيه وهو في المسند والسنن وغيرها، وقد أشرنا إليه في عدة مواضع.

وقول الله سبحانه وتعالى: قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167]، الدفع هنا حمله المفسرون من السلف على أنه تكثير سواد المسلمين ولو لم يقاتل الإنسان ويحمل السلاح بيده، وهذا جاء تفسيره عن عبد الله بن عباس فيما رواه ابن المنذر في التفسير، وكذلك ابن جرير عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس قال: ( كثروا المسلمين بسوادكم ).

وجاء ذلك عن ابن جريج و الضحاك و السدي وعن غيرهم إلى أن المراد بهذا كثروا المسلمين إذا لم تقاتلوا معهم، وهذا يدل على أن قتال الطلب أعظم عند الله سبحانه وتعالى من جهة لحوق الأجر لصاحبه من جهة الدفع؛ لأن جهاد الدفع النية فيه مشوبة، وذلك أن الإنسان يدفع عن ماله، ويدفع عن عرضه، ويدفع عن نفسه، ثمة حظ في هذا عاجل.

وأما جهاد الطلب فهو أمحض وأخلص في باب النية، وذلك أن الإنسان قد حميت نفسه ودمه وماله وعرضه وهو يطلب إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى لما أمر المنافقين بالقتال في سبيل الله خيرهم بين أمرين: بين الكمال وبين ما دونه، والكمال في ذلك هو أن يقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفه، وبين أن يكثروا المسلمين في سوادهم, ويدفعوا دفعاً عند ورود صولة على حريم المدينة.

فدل هذا على أن جهاد الطلب أزكى وأعظم للنفوس وأعلى لصاحبه من جهاد الدفع, وإن كان جهاد الدفع في ذلك أوجب من جهة وجوبه على الأعيان بخلاف جهاد الطلب فله شروطه ومسائله، ويأتي الكلام عليه.

وتكثير السواد هنا يؤتي الله عز وجل صاحبه الأجر، وقيل: إن الله سبحانه وتعالى يؤتي أجر من كثر سواد المسلمين بنفسه ولو لم يحمل سلاحاً فإن الله يؤتيه أجر المقاتل؛ ولهذا استحث رسول الله صلى الله عليه وسلم من تأخر ممن خرج معه من أهل المدينة إلى أن يكثروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه بسوادهم، لأن تكثير السواد يورث قوة وشداً في العزيمة في المسلمين، ويثخن في نفوس عدوهم ويهزمهم، وأكثر هزائم الحروب معنوية أكثر من كونها حسية ومادية، وهذا ظاهر.

ولهذا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في جهادهم في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ما انتصروا على المشركين بما لديهم من قوة عتاد وعدد، وإنما بقوة عزيمة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم نصره الله عز وجل بالرعب مسيرة شهر كامل، وهذا من الهزائم المعنوية لا الهزائم الحسية المادية، ولهذا تكثير سواد المسلمين في الجهاد يؤتي الله عز وجل من كثر سوادهم ولو لم يشارك معهم، وهذا فيه دليل على استحباب تكثير سواد المجاهدين في سبيل الله تقوية لهم وشداً من عزائهم، وكسراً لنفوس العدو.

وعلى هذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى العاجزين منهم، وقد جاء في حديث أنس بن مالك وغيره أنه قال: رأيت ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى ومعه درع يجره, فقيل له في ذلك قال: إني أكثر سواد المسلمين، وكان ذلك في القادسية.

وجاء نحو ذلك عن سهل بن سعد فيما رواه ابن جرير الطبري في المعجم، وكذلك البخاري في كتابه التاريخ من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد أنه نفر وقيل له: وفيك قتال؟ وذلك لما كبر، فقال: لأكثر سواد المسلمين.

وهذا فيه إشارة إلى أن من كثر سواد المسلمين وكان معذوراً يؤتيه الله عز وجل أجر المجاهد القادر.

تقسيم الجهاد إلى طلب ومدافعة

وهنا في قول الله سبحانه وتعالى: قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167]، يأخذ منه بعضهم تقسيم الجهاد إلى نوعين: جهاد دفع، وجهاد طلب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جعل حال الصحابة الذين كانوا معه في الصفوف الأولى، هؤلاء يطلبون المشركين ويطلبون الالتحام والمواجهة، وأن من تأخروا عنهم جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في حال دفاع عند استحلال حريمهم أو تعدي المشركين للصفوف التي وراءهم، هكذا يكون مقامهم حينئذ مقام الدفع، ولا خلاف عند العلماء أن النوعين من الجهاد قد دل عليهم الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجهاد الدفع هو فطرة حيوانية فطر الله سبحانه وتعالى جنس الحيوان عليها، سواءً خالطه عقل أو لم يخالطه عقل، فيدفع الحيوان عن نفسه، وماله، وهذا أمر معلوم مشاهد حتى عند الحيوان البهيم، ويعظم ذلك ويدق, وتفاصيله في الحيوان الذي يؤتيه الله عز وجل عقلاً وذلك من الثقلين من الإنس والجن مما جعل الله عز وجل فيه حياة.

والكمال في ذلك إنما هو في جهاد الطلب، الذي يتمايز فيه أهل الحق والباطل، والأدلة في جهاد الطلب في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة مستفيضة، ولا أعلم أحداً من السلف ولا من أئمة الخلف أنكر جهاد الطلب، وإنما هو في أقوال بعض المعاصرين، حينما استعمرت كثير من بلدان المسلمين دب الوهن فيهم والتعلق بالدنيا والماديات، والنبي صلى الله عليه وسلم في أمر جهاد الطلب دل على ذلك، وكذلك ظواهر القرآن أدلة كثيرة مستفيضة.

ومن ذلك ما جاء في الصحيح من حديث معاوية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى قيام الساعة ) ، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على ثبوت جهاد الطلب، وله ضوابطه وشروطه وقيوده وأحواله، التي يتكلم عليها العلماء في مواضيعه.

وكلا الحالين قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني: جهاد الدفع، وجهاد الطلب، فتنوعت أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام مدافعاً لما بلغه قدوم كفار قريش إليه، وذلك في غزوة أحد، وفي غزوة بدر، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم طالباً عير وقوافل المشركين وهذا في أحوال عديدة، وقصد النبي عليه الصلاة والسلام في مواضعهم كما في غزوة تبوك وغيرها، وكذلك أصحابه من بعده في كثير من الغزوات في غزوهم لفارس والروم، فكان ذلك من جهاد الطلب لا من جهاد الدفع، ويخشى على من أنكر جهاد الطلب الكفر، لأنه ينكر شيئاً معلوماً مستفيضاً ثبت به النص واستفاضت به وتواترت به النقول وأجمعت عليه الأمة.

معاملة الناس على ظواهرهم

وفي قوله سبحانه وتعالى: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] ، في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع عبد الله بن أبي من الطريق حين ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى غزوة أحد عامله بظاهره أخذاً بعذره ولو علم باطنه أنه يكتم ويسر خلاف ما يظهر.

والإنسان لا يأخذ بعلمه الباطن، وإنما يأخذ بالأمر الظاهر؛ ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين كمعاملة المسلمين، وهذا من الحكمة والسياسة، تقوية للمسلمين وكبتاً لباطن المنافقين أن يخرج, وكذلك أن يتزاحموا وأن يكثر بعضهم بعضاً، ولهذا لما رجع عبد الله بن أبي إلى المدينة ومعه ثلث القوم ما واجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، بل لما خرج النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في غزوات أخرى أخذ أولئك معه، والله سبحانه وتعالى هنا ما أبدى كفرهم الظاهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما أبدى نفاقهم الباطن حتى لا يؤاخذهم النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر، وإنما يعاملهم بالنفاق، فلا يصدرهم ولا يقدمهم في حال من تلك الأحوال في قضايا الأمة على السرايا والجيش ويستأمنهم على الأعراض والأموال، وإنما يأخذهم تكثيراً للسواد ودفعاً لشرهم ومكنون نفوسهم، حتى لا يخرجوا عن ما زاد من الشر الذي أظهروه.

وهذا في سياسة النبي عليه الصلاة والسلام في المنافقين واحتوائهم وعدم فصلهم عن صفوف المسلمين، من سياسته عليه الصلاة والسلام في تعامله في الغزو، وتعامله عليه الصلاة والسلام في المدينة في المجالسة والمخالطة والعطية وإجابة الدعوة، إنما يأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم بالظاهر، ولهذا هنا إنما ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك لنبيه ليعلم ما في باطنهم.

ولهذا ذكر الله عز وجل إشارةً إلى هذا المعنى في قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167] ، أي: أنهم يكتمون أمراً غير ما يظهرونه من الأعذار، فهم في غزوة أحد أظهروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يلتقي بالمشركين؛ لأنه لن يكون في ذلك قتال، فلا نريد أن نأخذ في الذهاب في قتال ربما لا يتحقق، وهم في حقيقتهم إنما يتعذرون، وأكثر الناس أعذاراً للخروج من الحق هم أكثرهم نفاقاً.

ولهذا المنافقون لا يواجهون الحق بعينه وإنما يعتذرون لتركه، وإذا كثرت الأعذار في ترك الحق فهذا أمارة على النفاق، كما في غزوات النبي عليه الصلاة والسلام لما أمرهم بالخروج إلى تبوك قالوا: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81]، ولما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالقتال فيها قالوا: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49] خشية فتنة النساء، يعتذرون بذلك، ولما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام في الخروج إلى أحد: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، يريدون من ذلك الخروج بأعذار، وكلما كانت الحجة ظاهرة والعذر في ذلك ضعيفاً فهذا أظهر في النفاق.

فنتكلم في هذا المجلس على ما تبقى من الآيات المتعلقة بالأحكام من سورة آل عمران، وأول هذه الآيات هي قول الله جل وعلا: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167] ، هذه الآية نزلت في غزوة أحد لما استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من أهل المدينة وذلك بالخروج معهم للقاء المشركين، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة على اختلاف أحوالهم، وأيضاً خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقون, وكان المنافقون في حالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد على حالين:

الحالة الأولى: خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا من نصف الطريق، وهذا كحال عبد الله بن أبي ومن معه، فإنهم خرجوا ابتداءً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولما كانوا في طريقهم إلى أحد رجعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحالة الثانية: الذين لم يخرجوا أصلاً من المدينة وتعذروا بشيء من الأعذار، وأولئك أيضاً منافقون، والنفاق يظهره الله عز وجل بأحوال وبأسباب, وهذه الأسباب ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وأظهر مواضع النفاق هي في سورة التوبة, ويأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل في مواضعها.

وأكثر ما يظهر الله عز وجل به النفاق هو بأمرين:

الأمر الأول: الاستهزاء.

الأمر الثاني: الإكثار من الأعذار لترك الحق.

ولهذا نجد أن المنافقين حينما يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر لا يعترضون على ذات الأمر, وإنما يعتذرون بشيء من الأعذار التي تسوغ لهم عند من أمرهم أن يتخلفوا عن الامتثال، ولهذا نجد أن المنافقين يتخذون الأعذار للخروج عن الحق، لا يعارضونه صراحة كحال الكفار وإنما يعتذرون.

ولهذا لما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد أن يخرجوا معه: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لما استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81]. ومعنى ذلك: أنه لو كان في غير حر كبرد لخرجنا.

وكذلك أيضاً قال الجد بن قيس لما استحثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال في غزوة تبوك قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ائذن لي ولا تفتني، أي: أني إذا لم يكن ثمة فتنة فإني خارج معك، فهذه أعذار لترك الحق لا لرده ظاهراً.

ولهذا الله سبحانه وتعالى ما بيَّن لرسوله صلى الله عليه وسلم كفراً ظاهراً، ولكن بين نفاقاً باطناً، ولهذا حكم الله عز وجل عليهم أنهم هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] وقربهم من ذلك، يعني: لا يتمحض الكفر في الظاهر، والنفاق في ذلك ظاهر، لأنهم يظهرون ما لا يبطنون، فيبطنون الرد كحال المشركين، ويظهرون الأعذار نفاقاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاملهم في الظاهر كمعاملة المسلمين.