تفسير آيات الأحكام [57]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فشرعنا في المجلس السابق بالكلام على أوائل سورة النساء، وتكلمنا على الآية الأولى والثانية، ونتكلم بإذن الله عز وجل في هذا المجلس على الآية الثالثة وما يليها.

الحث على رعاية الأيتام

يقول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ[النساء:3] ، لما ذكر الله سبحانه وتعالى الأمر بتقواه, وعطف على ذلك شأن الأرحام ووجوب وصلها والتحريم والتشديد بقطعها، وذكرنا الكلام على الأرحام، وأنواعهم ومراتبهم ومنازلهم وحقهم في ذلك، والأدلة الواردة في كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق الأرحام.

وتقدم أيضاً الإشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأرحام ذكر بعد ذلك اليتامى, لأن الأصل أن الأيتام أو اليتامى يكفلهم أرحامهم, إما أن يكفل الأخ ابن أخيه، أو يكفل الخال ابن أخته وهكذا، وذلك أن القرابات يكون فيها كفالة الأيتام؛ ولهذا ذكر الله عز وجل حق الأيتام بعدما ذكر أمر الأرحام، وقلما يكون اليتيم الغريب في حجر البعيد، هذا قليل بالنسبة لأمر الأيتام.

ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أمر الأيتام للخصيصة من جهة الحياطة في حفظ حقهم، وعدم ظلمهم، ووجوب الوفاء لهم بما أوجب الله عز وجل لهم من الوفاء بصيانة المال، وصيانة العرض، وصيانة الدم من أن يطرأ عليهم شيء من المظالم. فالله سبحانه وتعالى حاط مال اليتيم بجملة من الحياطات، حاطها من الكفيل الذي يتولى أمر اليتيم، وحاط مال اليتيم من الأبعدين.

وتقدم معنا أن جنس أكل مال اليتيم أعظم من جنس أكل مال الربا، وتقدم معنا التعليل لهذه المسألة, لما ذكر الله سبحانه وتعالى أمر الأيتام ووجوب الوفاء لهم بالمال والتحذير من خلط مالهم بقصد الإفساد، كما في قول الله عز وجل: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ[النساء:2]، والمراد بذلك: هي الخلطة بقصد الإنقاص، والإفساد للمال, وأخذ الطيب وترك الخبيث.

وتقدم الإشارة والتدليل على ذلك في سورة البقرة.

ثم ذكر الله سبحانه وتعالى تفصيلاً أدق فيما يتعلق بأمر الأيتام بعدما ذكر حياطة الأموال والاحتراز في المخالطة والمتاجرة؛ ذكر الله عز وجل نوعاً من أنواع مخاوف حق اليتيم, وذلك فيما يتعلق بالجواري الأيتام التي تكون تحت وليها أو كفيلها.

الحث على نكاح غير اليتيمة لمن يكفلها إن كان نكاحها يؤدي إلى الجور عليها

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ[النساء:3]، جاء في كلام المفسرين من السلف في معنى هذه الآية عدة معان:

أول هذه المعاني: أن هذه الآية إنما أنزلها الله عز وجل في اليتيمة تكون في حجر وليها، ثم تميل نفسه إلى مالها وإليها ولا ولي لها إلا هو لأجل يدافع عنها إن أضر بها، وينظر ويحوط مالها إن أراد خلطة له، فيجد في نفسه ميلاً إليها، وربما بميله إليها أجحف في حقها من جهة الصداق, فلم يعطها صداقاً مثلها، ولم يعطها رزقاً وكسوة مثلها، وإنما لأنه لا ولي لها إلا هو، فأراد أن يتزوجها لحظ نفسه، ولو قصر فيها لا تجد ناصراً ينصرها عند ورود المظلمة في حقها، سواءً كان ذلك في نفسها، أو مالها، أو دمها، أو عرضها.

ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا[النساء:3]، يعني: خشيتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى من الجواري، وهذا المعنى قد جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى كما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن عروة بن الزبير سأل عائشة عليها رضوان الله تعالى عن قول الله جل وعلا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ[النساء:3]، فقالت عائشة عليها رضوان الله تعالى: تلك الجارية تكون تحت الرجل, ويريد أن ينكحها وهو وريثها فيعطيها دون صداق غيرها, وربما أضر بها وضربها، وذلك أنه لا ولي لها إلا هو.

أشار الله سبحانه وتعالى في هذا السياق إلى هذا المعنى، أن الإنسان إذا وجد في نفسه هذا الميل فعليه أن ينظر إلى سعة المباح, وذلك أن الله عز وجل قد جعل له المباح من النساء أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع, وأن لا يجعل مطمعه في هذه اليتيمة خشية الإضرار بها.

وهذا المعنى قد جاء أيضاً عن جماعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، فقد جاء عن عبد الله بن عباس ، و عبد الله بن مسعود ، وجاء عن غيرهم من المفسرين من التابعين، عن مجاهد بن جبر ، و عكرمة ، و الحسن ، و النخعي ، وغيرهم عليهم رحمة الله.

التحذير من الزنا كما يحذر أكل مال اليتيم

ومن هذه المعاني في قول الله عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ[النساء:3]، قال غير واحد من المفسرين: إن هذه الآية نزلت في الحياطة من الزنا، ومعنى ذلك: أنكم كما تحتاطون وتتهيبون مال اليتيم الحرام أن تأكلوا فتهيبوا كذلك الزنا, واعلموا أن الله عز وجل قد جعل لكم سعةً في الحلال مثنى وثلاث ورباع، وهذا إشارة إلى أن الإنسان يدفع عن نفسه الحرام بالحلال.

ويكون المراد بالوقيعة في الزنا في هذه الآية إما أن يكون ذلك في اليتيمة، فيجد الإنسان خشيةً من نفسه عليها، ثم أباح الله عز وجل له مندوحةً في ذلك أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع حتى يدفع عن نفسه ذلك.

الخشية من الوقوع في الفرج الحرام كما يخشى من أكل المال الحرام

وقيل: إن المعنى أعم من هذا، أي: ليس المراد في ذلك هو الخشية على اليتيمة، وإنما ما هو أوسع من ذلك، كما تخشون من أكل الأموال فاخشوا كذلك ما يتعلق بأمر الفروج والوقوع في الفرج الحرام وهو الزنا، واعلموا أن الله عز وجل قد جعل لكم مندوحةً في ذلك.

وفي هذا السياق دلالة وإشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر أمراً محرماً وقرب الإنسان منه جعل للإنسان مخارج في ذلك، وتقدم معنا في قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ[البقرة:220]، أي: أن الإنسان يحتاط إذا كان عنده مال اليتيم كابن أخيه أو ابن أخته أو ابن عمه أو غير ذلك، وقد قام بكفالة ذلك المال، يحتاط ويحترز ويتوقى، فيوقع ذلك حرجاً في نفسه، وهذا الحرج إذا كان غالياً ربما أفسد مال اليتيم.

ومعنى فساد مال اليتيم من شدة الاحتياط، أي: أن الإنسان يحتاط من قربه فيدعه، فلا يجعله خليطاً لماله في التجارة يخشى أن يخسر، ثم بعد ذلك يتضرر ويقل نماؤه ويستهلكه اليتيم بأكله، ويستهلكه اليتيم والرجل يبعده عن المضاربة في تجارته خوفاً منه وشدة من الحياطة، فالله عز وجل هون هذا الأمر إذا قصد الإنسان الإصلاح والخير: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ[البقرة:220].

يعني: عدوهم من إخوانكم البالغين إذا أردتم من ذلك خيراً ولو كان في ذلك خسارة إذا كان ذلك من أمر الخلطة، ولهذا جعل الله عز وجل الترخص في ذلك في أمر الخلطة فتجعل ماله كمالك: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ[البقرة:220]، يعني: لا تتعاملوا بمالهم منفردين فتخاطرون في ذلك؛ لأن الإنسان يتعامل مع حظ غيره تعاملاً يختلف عن شراكته مع غيره في أمر المال وغيره، ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل مثل هذا الأمر نوعاً من الترخص وعدم التشديد في ذلك، شريطة أن يكون ذلك مساوياً لمال الإنسان.

وهذا أيضاً فيه رفع للحرج فيما يتعلق في أمر الأعراض، وذلك أن اليتيمة إذا لم يلها وليها وكفيلها إما أخ له وإما عم أو خال أو غير ذلك، فإن كفالته ستكون للأبعدين، فهل يترك لغير كفيل؟ كذلك الجارية من جهة كفالتها فإذا لم يكفل الجارية عمها أو خالها أو بعيد منها فهل يكفلها الأبعدون؟

الله عز وجل ما أمر الإنسان في ذلك بالمفارقة أن يتبرأ الإنسان لنفسه، بل جعل له مخرجاً في الحلال مع بقاء الحياطة لحق اليتيم في ماله وعرضه.

عدم الزواج باليتيمة إن كان سوف يظلمها في الصداق ونحوه

وفي هذه الآية إشارة أن الله سبحانه وتعالى لما أمر بحياطة مال اليتيم وعرضه، إذا رغب الإنسان بها وأراد أن يتزوجها, وخشي ألا ينصفها من جهة الصداق والعطية؛ لأن المرأة إذا كان وليها ميتاً كأبيها وأخيها أو ليس لها أحد, فإن النفوس تضعف عن الحياطة في حقها بخلاف التي لها ولي يتعهدها من أب أو أخ فتضعف النفوس، فإذا وجد الإنسان في نفسه من جارية عنده يتيمة أن يقصر فيها، فعليه أن يكون هو ولياً لها, وأن يزوجها غيره، فينصفها عند غيره في صداقها، فيقوم حينئذ بمقام الولاية، ولهذا يقول الله عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى[النساء:3]، يعني: فانكحوا غيرهن واتركوهن لغيركم بتزويجهن، وقوموا بحياطة أعراضهن وأموالهن، وهذا من التشديد في أمر مال اليتيم، ولو كان ذلك في أمر الصداق فربما تشوف الإنسان إلى المغالاة في مهر بنته وما تشوف للمغالاة في مهر غيرها لحظ بنته وربما لحظه هو، فيترخص إذا كان ذلك لحظه من جهة إنقاص المهر، وإذا كان ذلك في حظ غيره من جهة الزيادة يميل إلى النقص ولا يميل إلى الزيادة، فأراد الله عز وجل حياطة مال اليتيم، وحياطة عرضه في هذا الأمر.

زواج الولي بموليته اليتيمة إن تقدم لها من هو أفضل منه

ومن هذه المعاني أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أمر اليتيمة والتي تكون في حجر الإنسان وما لديها من مال، وكذلك ربما يكون لديها جمال، فيميل الإنسان إليها طامعاً بجمالها فيقدم نفسه على غيره الأحظ, وذلك أنه إذا وجد من هو أولى من ذلك من صاحب الخلق والدين الذي هو أفضل منه فيقدم مطمعه على مطمع وحظ غيره، ويظلم حينئذ اليتيم.

وهذا إشارة إلى إنصافها في حقها حتى في أمر زواجها، فإذا علم أنه يتقدم إليها من هو خير منه فعليه أن يقدمه على حظ نفسه، وهذا من الأمور والمكامن الخفية في هذا من دوافع النفوس، فجاءت الحياطة في مثل هذا الأمر مخاطبةً لنفوس الأولياء والكفلاء الذين يتولون أمر الأيتام.

المراد بالخوف في قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا..)

وقول الله جل وعلا: وَإِنْ خِفْتُمْ[النساء:3]، يعني: وجلتم أو شككتم أو خفتم، وكل هذه المعاني جاءت عن غير واحد من المفسرين، فإذا وجد الإنسان شيئاً من نفسه في ذلك بأمر اليتيمة، فليعلم أن الله عز وجل قد جعل له أمراً وبداً إلى مباحة، وجعل لها سبيلاً أن تسلكه فيما أحله الله عز وجل لها من غير إضرار.

وتقدم معنا الكلام عن اليتيم, وأن اليتيم هو من فقد أباه سواءً كان ذكراً أو أنثى، وأعظم اليتم هو فقد الأبوين، ثم يليه فقد الأب، ثم يليه فقد الأم، وفي مصطلح الشريعة اليتيم لا يطلق إلا على من فقد أباه، والعرب تسمي من فقد الأبوين لطيماً، ومن فقد الأب والأم يسمى يتيماً، ويقيدونه في الأم بيتيم الأم، ولا يقيدونه عند الأب باعتبار اشتهار ذلك ومعرفته.

التعدد شريعة فطرية

وفي قول الله سبحانه وتعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ[النساء:3]، هذا فيه إشارة إلى ما أحل الله عز وجل للرجال من النكاح، وهذه شريعة قديمة جعلها الله سبحانه وتعالى فطرية، وقد تزوج أنبياء الله عز وجل من ذلك عدداً، تزوج إبراهيم الخليل امرأتين، وتزوج داود ألفاً كما جاء في التوراة، وتزوج سليمان مائة، وتزوج النبي عليه الصلاة والسلام اثنى عشر وتوفي عن تسع.

الاختلاف في التعدد

واختلف العلماء في التعدد هل هو سنة أو مباح؟

عامة السلف على أنه سنة، وقد جاء عند البخاري من حديث سعيد بن جبير أن ابن عباس قال له: أتزوجت امرأةً؟ يعني: أخرى، قال: لا، قال: تزوج, فإن خير الرجال أكثرهم نساء، والأصل في الصحابة عليهم رضوان الله تعالى التعدد، وأحد الباحثين أراد أن يجمع الصحابة المعددين فلم يجدهم إلا معددين, فكان الأصل في ذلك هو التعدد، بخلاف الزمن المتأخر فالأصل في ذلك التوحد أو التوحيد.

حد التعدد

وقوله جل وعلا: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ[النساء:3]، وفي قوله: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ[النساء:3]، إشارة إلى هذا القيد, وأنه لا يجوز أكثر من ذلك.

وجاء في هذه الآية حد التعدد وهو بالأربع، وكانوا في الجاهلية يتزوجون عشراً كما جاء ذلك عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى, ثم جعل الله عز وجل في ذلك العدد إلى الأربع, ولا تجوز الزيادة عن ذلك وهذا محل اتفاق، والزيادة عن ذلك خصيصة للرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، والأمة في ذلك على هذه الإباحة؛ ولهذا قال الله جل وعلا: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ[النساء:3]، فجعل الله حكم الرابعة والثالثة والثانية كحكم الأولى؛ ولهذا قال: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ[النساء:3].

وفي هذه الآية إشارة إلى معنى أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر اليتيمة، قال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى[النساء:3]، وما قال: واحدة، إشارة إلى جملة من المعاني, ومن هذه المعاني: أن الأصل التعدد.

وكذلك في هذا إشارة إلى معنى أن الرجل إذا كانت عنده يتيمة فلا يجعلها في داره وهو أعزب، ولهذا قال الله عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى[النساء:3]، أين الأولى؟ موجودة مع اليتيمة، أي: أنها لا تكون في حجره وحدها حتى لا يكون في ذلك دافع للشيطان إلى السوء, فإن طول المكث والبقاء من غير وجود ما يدفع تهمة أو شبهة ربما يكون ذلك إضعافاً لوازع النفس, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ[النساء:3].

المراد بالعدل بين الزوجات

ثم قال الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:3]، يعني: ألا تعدلوا في الإنصاف مع النساء من جهة القسمة، والعدل بين النساء باطن وظاهر، فبالنسبة للباطن هو الميل القلبي, وهذا أمر فطري ونفسي لا يكلف عليه الإنسان، ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في السنن من حديث عائشة مرسلاً وموصولاً، قالت: ( كان النبي عليه الصلاة والسلام يقسم بين نسائه ويعدل, ويقول: اللهم هذا قسمي في ما تملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ). يعني: ميل القلب، فميل القلب إذا كان لا يلزم منه عمل وإجحاف وظلم من جهة العطية بالمال، أو بالقسم فإن ذلك لا يضر الإنسان.

وأما العدل الظاهر فيجب ولا خلاف عند العلماء فيه، والعدل الظاهر يكون في المبيت, والنفقة بالمال والكسوة والسكنى وغير ذلك، فيجب في هذا العدل.

أما الباطن سواء كان في الأبناء والبنات، أو في الأزواج، فإن الله عز وجل لا يؤاخذ عبده بما وجد في قلبه، ولهذا ربما بعض الآباء يجد ميلاً في قلبه لبعض أبنائه، أو يجد ميلاً في قلبه لذكر دون أنثى، أو لأنثى دون ذكر، والله عز وجل لا يؤاخذه بذلك، وإنما يؤاخذه في الأمر الظاهر ولو دق.

ولهذا قد روى الحسين المروزي عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا يستحبون أن يعدلوا بين أبنائهم حتى في القبل، يعني: في القبلة، إذا قبل صبي غلام له فإنه يقبل الآخر, وذلك من العدل، وقد جاء في خبر مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء عن عمر بن عبد العزيز أنه كان جالساً, فجاء لرجل أحد أبنائه فأجلسه على فخذه, ثم جاء الآخر فأجلسه على الأرض, فقال: أجلسهما جميعاً على فخذك أو جميعاً على الأرض.

وهذا من تمام العدل والإنصاف؛ لأن الأولاد يجدون في نفوسهم من الدقة في عدم الإنصاف ما لا يدركه الولي من دقائق الأمور لاختلاف نفوسهم، وتباينها عن نظرة الآباء، فالعدل الظاهر واجب في ذلك ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلاً.

حكم التعدد لمن عرف أنه لن يعدل

وفي قول الله جل وعلا: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:3]، الله سبحانه وتعالى قيد الأمر بالنكاح أكثر من واحدة أن يكون ذلك بالعدل، وإذا غلب على ظن الإنسان أو تيقن أنه لا يعدل بين نسائه فهل يتحول ذلك إلى التحريم؟

نقول: إذا تيقن الإنسان من ذلك أو غلب على ظنه أنه لا يعدل في الأمر الظاهر فيحرم عليه حينئذ النكاح.

واختلف فيما إذا غلب على ظنه عدم العدل، والوقوع في الحرام، فلا يدفع الحرام إلا بالزواج من ثانية وثالثة، وإذا تزوج من ثانية وثالثة لم يعدل، واختلف في هذا الأمر, منهم من قال: يتزوج ولو غلب على ظنه عدم العدل ويدفع الظلم قدر وسعه وإمكانه.

ومن العلماء من قال: يتوقى الحرام بنوعيه في ظلم المرأة، فلا يتزوج الثانية والثالثة إذا غلب على ظنه، وكذلك يجب عليه أن يحترز من الحرام. وإذا وقع في الحرام فهل له أن يتزوج حلالاً ويظلم المرأة إذا غلب على ظنه ذلك؟

من العلماء من قال: يبقى الأمر حراماً عليه، ويجب عليه أن يتوقى من الزنا؛ لأن الظلم في حق المرأة كبيرة من جهة عدم العدل معها، وقد جاء في الخبر: ( أنه يأتي يوم القيامة وشقه مائل )..

كذلك ما يتعلق بظلم النساء أو ظلم الناس عموماً في أموالهم وأعراضهم يكون من حقوق العباد, وحقوق العباد مبنية على المشاحة، فالعلماء يختلفون في تقديم هذا أو هذا, مع كون كلا الأمرين من كبائر الذنوب، ظلم المرأة من جهة حقها في القسم، وكذلك الظلم فيما يتعلق بأمر الزنا، وكلها كبائر، والمقارنة بين أمر الكبائر مما لا ينبغي, لكن ربما هذه المسألة مما تعرض حال الفتيا.

المراد بعدم العدل في قوله: (ألا تعدلوا)

وهنا في قول الله جل وعلا: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:3]، يعني: فانكحوا واحدةً أو ما ملكت أيمانكم مما أحل الله عز وجل لكم من ملك اليمين، قال: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا[النساء:3].

والمراد بقوله: أَلَّا تَعُولُوا[النساء:3]، يعني: ألا تظلموا وألا تحيفوا، وجاء في كلام بعض المفسرين: أن لا تفتقروا، كما نقل ذلك الإمام الشافعي عن ابن عيينة، أنه قال في قول الله عز وجل: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا[النساء:3]، يعني: أن لا تفتقروا. يعني: أن الله سبحانه وتعالى يرزق عبده إذا علم قصده الخير، فيعينه ويغنيه بالحلال، سواء كان ذلك من الأزواج، أو من الأموال.

يقول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ[النساء:3] ، لما ذكر الله سبحانه وتعالى الأمر بتقواه, وعطف على ذلك شأن الأرحام ووجوب وصلها والتحريم والتشديد بقطعها، وذكرنا الكلام على الأرحام، وأنواعهم ومراتبهم ومنازلهم وحقهم في ذلك، والأدلة الواردة في كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق الأرحام.

وتقدم أيضاً الإشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأرحام ذكر بعد ذلك اليتامى, لأن الأصل أن الأيتام أو اليتامى يكفلهم أرحامهم, إما أن يكفل الأخ ابن أخيه، أو يكفل الخال ابن أخته وهكذا، وذلك أن القرابات يكون فيها كفالة الأيتام؛ ولهذا ذكر الله عز وجل حق الأيتام بعدما ذكر أمر الأرحام، وقلما يكون اليتيم الغريب في حجر البعيد، هذا قليل بالنسبة لأمر الأيتام.

ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أمر الأيتام للخصيصة من جهة الحياطة في حفظ حقهم، وعدم ظلمهم، ووجوب الوفاء لهم بما أوجب الله عز وجل لهم من الوفاء بصيانة المال، وصيانة العرض، وصيانة الدم من أن يطرأ عليهم شيء من المظالم. فالله سبحانه وتعالى حاط مال اليتيم بجملة من الحياطات، حاطها من الكفيل الذي يتولى أمر اليتيم، وحاط مال اليتيم من الأبعدين.

وتقدم معنا أن جنس أكل مال اليتيم أعظم من جنس أكل مال الربا، وتقدم معنا التعليل لهذه المسألة, لما ذكر الله سبحانه وتعالى أمر الأيتام ووجوب الوفاء لهم بالمال والتحذير من خلط مالهم بقصد الإفساد، كما في قول الله عز وجل: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ[النساء:2]، والمراد بذلك: هي الخلطة بقصد الإنقاص، والإفساد للمال, وأخذ الطيب وترك الخبيث.

وتقدم الإشارة والتدليل على ذلك في سورة البقرة.

ثم ذكر الله سبحانه وتعالى تفصيلاً أدق فيما يتعلق بأمر الأيتام بعدما ذكر حياطة الأموال والاحتراز في المخالطة والمتاجرة؛ ذكر الله عز وجل نوعاً من أنواع مخاوف حق اليتيم, وذلك فيما يتعلق بالجواري الأيتام التي تكون تحت وليها أو كفيلها.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ[النساء:3]، جاء في كلام المفسرين من السلف في معنى هذه الآية عدة معان:

أول هذه المعاني: أن هذه الآية إنما أنزلها الله عز وجل في اليتيمة تكون في حجر وليها، ثم تميل نفسه إلى مالها وإليها ولا ولي لها إلا هو لأجل يدافع عنها إن أضر بها، وينظر ويحوط مالها إن أراد خلطة له، فيجد في نفسه ميلاً إليها، وربما بميله إليها أجحف في حقها من جهة الصداق, فلم يعطها صداقاً مثلها، ولم يعطها رزقاً وكسوة مثلها، وإنما لأنه لا ولي لها إلا هو، فأراد أن يتزوجها لحظ نفسه، ولو قصر فيها لا تجد ناصراً ينصرها عند ورود المظلمة في حقها، سواءً كان ذلك في نفسها، أو مالها، أو دمها، أو عرضها.

ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا[النساء:3]، يعني: خشيتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى من الجواري، وهذا المعنى قد جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى كما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن عروة بن الزبير سأل عائشة عليها رضوان الله تعالى عن قول الله جل وعلا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ[النساء:3]، فقالت عائشة عليها رضوان الله تعالى: تلك الجارية تكون تحت الرجل, ويريد أن ينكحها وهو وريثها فيعطيها دون صداق غيرها, وربما أضر بها وضربها، وذلك أنه لا ولي لها إلا هو.

أشار الله سبحانه وتعالى في هذا السياق إلى هذا المعنى، أن الإنسان إذا وجد في نفسه هذا الميل فعليه أن ينظر إلى سعة المباح, وذلك أن الله عز وجل قد جعل له المباح من النساء أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع, وأن لا يجعل مطمعه في هذه اليتيمة خشية الإضرار بها.

وهذا المعنى قد جاء أيضاً عن جماعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، فقد جاء عن عبد الله بن عباس ، و عبد الله بن مسعود ، وجاء عن غيرهم من المفسرين من التابعين، عن مجاهد بن جبر ، و عكرمة ، و الحسن ، و النخعي ، وغيرهم عليهم رحمة الله.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آيات الأحكام [30] 2761 استماع
تفسير آيات الأحكام [48] 2721 استماع
تفسير آيات الأحكام [54] 2523 استماع
تفسير آيات الأحكام [22] 2449 استماع
تفسير آيات الأحكام [58] 2334 استماع
تفسير آيات الأحكام [25] 2319 استماع
تفسير آيات الأحكام [35] 2269 استماع
تفسير آيات الأحكام [5] 2252 استماع
تفسير آيات الأحكام [11] 2213 استماع
تفسير آيات الأحكام [55] 2178 استماع