تفسير آيات الأحكام [25]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

منفعة الخمر عاجلة

تكلمنا في المجلس السابق على قول الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، قال الله سبحانه وتعالى بعدما بين الميزان بين الخمر والميسر في باب المنفعة والإثم، وذكرنا إشارة أن الله عز وجل استعمل فيما يعود على الناس بالخير في لفظه أو اصطلاحه النفع، والنفع يقابله الضر، وأما بالنسبة لما يلحق الإنسان من شر في ذلك فإنه استعمل الإثم، ولو قلنا بالاطراد في ذلك، فإن الاطراد والمقابلة هو قولنا: نفع وضر، وإثم وأجر، أو ثواب وعقاب.

الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين لعباده أن المنفعة بالخمر والميسر إنما هي عاجلة لا آجلة يستمتع بها الإنسان في لحظتها ويغنم، وأما بالنسبة لضررها فإن الضرر في ذلك ظاهر من جهة آجل أمره، ولهذا استعمل جانب الإثم، كذلك من العلل في استعمال لفظة الإثم في هذه الآية، أن الإنسان ربما يغيب عنه من علل أحكام الله جل وعلا ما يجب عليه أن يفوض الأمر إلى الله، ولهذا أمر أن يسلم الإنسان علة التحريم لله سبحانه وتعالى، وألا يكلها إلى نظره، وهذا يشير إليه قوله جل وعلا: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:219-220]، وأشار إلى مسألة الدنيا والآخرة، أي: أن العلة متعلقة بالأمرين، ويأتي الإشارة إلى هذا.

الحكمة من السؤال عن الإنفاق بعد ذكر الخمر والموازنة بينه وبين الميسر

ثم ذكر الله عز وجل قوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، بعد أن بين الله سبحانه وتعالى الخمر والميسر وباب الموازنة فيهما من جهة النفع والإثم، وبين الله عز وجل رجحان الإثم والشر في ذلك، بيّن الله عز وجل حكم ما يسألون عنه، وهو ما ينفقون، وسؤالهم عن الإنفاق تقدم معنا في قول الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:215]، تقدم الكلام معنا في هذه الآية، وهذا إما أن يكون سؤالاً جديداً من الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون هذا هو السؤال السابق، فأراد الله عز وجل مزيد بيانه وربطه بذلك الأمر لعلة وحكمة، وهذه العلة والحكمة أن الله عز وجل حينما بيّن أمر الموازنة والنفع في مسألة الخمر والميسر أنهم سألوا في غير هذا الموضع عن النفقة، والإنفاق في ذلك يكون طلباً لأجر الله سبحانه وتعالى، فأنتم تسألون رغبة لرضا الله عز وجل في بيان الخير في موضع الأموال، فلا يليق بمن سأل ذلك السؤال أن يعترض على رجحان تحريم الميسر هنا، أو رجحان سيئته، فينبغي إن كان دافعه في ذلك مرضاة الله جل وعلا أن يتوقف عند المتشابه على أقل أحواله، وتقدم معنا الإشارة أن قول الله جل وعلا: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، أن هذا ليس من القطع بالتحريم، ولكنه من قرائنه.

والعلماء عليهم رحمة الله تعالى قد اختلفوا في ذلك: هل هذه الآية من قطعيات التحريم؟ أم هي من القرائن والإشارات؟

والإلماح برفع درجة مرتبة الخمر والميسر من الحل والإباحة إلى مرتبة المتشابه عندهم مما ينبغي للإنسان أن يجتنبه، وهذا ظاهر في حديث النعمان بن بشير كما في الصحيحين وغيرهما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات )، نقل الشارع ذلك من الحلال المسكوت عنه؛ لأن السكوت عن بيان شيء من المأكول والمشروب يدخله في أصل الحل؛ لأن الأصل في المأكول والمشروب هو الحل.

كذلك في المعاملات الأصل فيها الحل، فنقلها الله عز وجل من دائرة الحل إلى دائرة المتشابهات، فينفر منها أهل الورع كما ينفرون من الحرام، فأراد الله عز وجل أن يبين جواب ذلك السؤال في مسألتهم عن الإنفاق، وهو العفو، أي: ما زاد أو فضل من أموالكم فأنفقوه لله جل وعلا، وهذا فيه إجابة لبعض التساؤل لأنه ربما بعض الناس يخطر في باله خاصة في نزول تلك الآية، أنهم إنما يقولون: إنما نتعامل بالميسر بطيب نفس منا، وهذه العلة قد ترد في أذهان البعض، وكذلك فإننا ننفق ما فضل من أموالنا، ولا نفرط في قوت أبنائنا وبناتنا وأزواجنا، ومن أوجب الله عز وجل علينا النفقة، أراد الله عز وجل أن يبين أن ثمة أمراً هو أولى من ذلك وهو الإنفاق، إذا كان لديكم فضلة مال في أوجه الخير في سبيل الله جل وعلا.

ذكر البدائل عن الأشياء المحرمة

وذلك أن قوله سبحانه وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، العفو المراد به الفضل، كما جاء تفسير ذلك عن غير واحد، جاء عن عبد الله بن عباس كما رواه الحكم عن مقسم عن عبد الله بن عباس ، وجاء عن قتادة وكذلك مجاهد وغيرهم من المفسرين، وهذا هو الأظهر والأشهر من أقوال المفسرين من السلف، أن المراد بالعفو هو ما فضل عن مال الإنسان وقدرته.

وهذا فيه إلماحة إلى أنه إذا كان ثمة فضل وتريدون أن تسابقوا إلى الخير، فهو الإنفاق في سبيل الله لا أن تهدروا الأموال فيما لا ينفع، فهو في أقل أحواله أمر مفضول مرذول لا ينبغي للإنسان أن يضع ماله فيه؛ لأنه إهدار في غير مرضاة الله جل وعلا.

وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا أغلق على الإنسان باباً أن يفتح له باباً من أعمال البر حتى لا يتحير، كأن يكون الإنسان يسأل عن مسألة من المسائل في أمور العمل من التجارة ونحو ذلك، فيقال له: إن هذا الأمر محرم، ثم يشار إلى أمور أخرى، أمور الحلال مباحة؛ لأنه ربما الشيطان يضيق على عقل الإنسان المباح، ويستحضر في ذهن الإنسان الأمر المحرم، أو يسأل الإنسان عن وظيفة أو عملٍ أو نشاط معين، أو يعمل في مجال ربوي أو نحو ذلك، فيقال: الأمر في ذلك مباح أن يعمل الإنسان في تجارة أو يعمل في حرفة من نجارة أو صناعة أو تجارة، أو الضرب بأمور النقدين أو ماشية من بهائم الأنعام، أو الزرع والحرث، يعرض له أمور المباحات حتى يضيق ما يوسع الشيطان من ضده من الأمور المحرمة، وهذا هنا إنما جاءت الإجابة لهذه العلة، أي: أن الله عز وجل حينما حرم عليهم أن يضعوا فضل أموالهم فيما يزعمون في أمور الميسر فيرونها فضلاً، فإن ثمة ما أولى من ذلك أن يضعوها فيه وهو مرضاة الله جل وعلا، فينفق الزيادة.

أنواع ما ينفقه الإنسان

وفي هذه الآية إشارة إلى أن ما يكون للإنسان من جهة نفقته فهو على نوعين: الأمر الواجب عليه وهو نفقته على ما أوجب الله عز وجل عليه النفقة من والديه وأبنائه وبناته وزوجه، ومن يعول، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في مسلم وغيره: ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يملك قوته )، وجاء عند النسائي في كتابه السنن، هذا بيان أنه يجب على الإنسان أن ينفق على سبيل الفرض بلا منة على ما أوجب الله عز وجل عليه، وذلك على ما تقدم من الوالدين إن احتاجا والذرية إن احتاجا والزوجة وجوباً ولو لم تحتج إلى الإنسان، إذا كانت المرأة غنية بنفسها، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها، بخلاف الذرية، فإنها إن اغتنت والوالد والوالدة إن اغتنت فإن الإنسان لا يجب عليه أن ينفق عليه، أما بالنسبة للزوجة فيتعين ولو كانت قادرة، بالنسبة للأب وللابن فإن الابن إن كفى نفسه فإنه لا يجب على الأب أن ينفق عليه، فإذا ظهرت كفايته عنده على اليقين فإن النفقة في ذلك لا تجب عليه، بخلاف الزوجة فإن كفاية الزوجة إذا ظهر أن عندها مالاً أو ورثت مالاً من أبيها أو من أحد أرحامها فإنه يجب عليه ولو علم في ذلك الكفاية، إذا احتاجت إلى مطعم أو مشرب أو مسكن، بخلاف الابن إذا احتاج إلى مطعم وهو غني، أو احتاج إلى ملبس وهو غني، فإنه لا يجب على الأب أن ينفق عليه، وهذا بالنسبة للوالد بخلاف لو طلب الوالد من ابنه مالاً ولو كان مكتفياً، فهذا من المواضع الأخرى التي ينفق الإنسان بها على والده طاعة لا نفقة.

وأما النوع الثاني: وهو ما يكون من الأمور المستحبة مما ينفق الإنسان من أمور الصدقات، من إكرام الضيف في القدر الزائد مما لا يجب عليه، وإكرام الضيف منه الواجب ومنه المستحب، من الإحسان إلى الجار، وعموم الصدقات التي يتصدق بها الإنسان، فهذا لا ينفق الإنسان بالنوع الثاني إلا وقد سد النوع الأول، يعني: مما وجب عليه، ويدخل في الأمور الواجبة من النفقة مما يجب على الإنسان في ذمته من أمور الأموال، ولو كان لحظ نفسه لا لحظ غيره، وذلك من الكفارات، إذا وجب على الإنسان كفارة، فيجب عليه من عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين لكفارة اليمين وغير ذلك.

فنقول حينئذٍ: إنه يجب عليه أن ينفق ذلك وألا يصرفها إلى العفو من فضائل المال من الصدقة وغير ذلك، فتدخل من جملة النفقة الواجبة المتعينة عليه.

وأما بالنسبة لما زاد عن حاجة الإنسان وما أوجب الله عز وجل عليه، فإن الإنسان ينفق منه.

واختلف العلماء في أصل ذلك: هل هو واجب أو مستحب؟

بمعنى: أن الإنسان أوجب الله عز وجل عليه نفقة فيما زاد عن ماله إذا بلغ نصاباً بمقدار جعله الله عز وجل مقدراً، وذلك من أنصبة الزكاة، وهذا في النقدين وفي الماشية، وفي عروض التجارة وفي الزروع والثمار، يجب على الإنسان أن يخرج منها مقداراً حده الله عز وجل، وهذا فرض، وأما ما عدا ذلك فهل يجب على الإنسان في ماله شيء من هذا أم لا؟

نقول: هذا من مواضع الخلاف، ويأتي موضعه بإذن الله عز وجل في غير هذا، ولكن نقول: إنه لا يجوز للإنسان أن ينفق شيئاً من ماله، وقد كان عليه شيء من الأمور المتعينة من أمور النفقة.

أنواع التفكر

وقول الله جل وعلا: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:219]، بعد أن ذكر الله عز وجل أمر الموازنة بين الخمر والميسر في مسألة المنافع والآثام التي تلحق الإنسان في دينه ودنياه، أشار الله عز وجل إلى أن بيان هذه الأحكام لا يمكن أن تتضح للإنسان إلا بمزيد تفكر، والتفكر على نوعين: تفكر في أمر الدنيا وهي أمور الماديات، وتفكر في أمر الآخرة، ولا ينبغي للإنسان أن يعجل أمر الدنيا ونتيجتها على أمر الآخرة وعاقبتها، ولهذا لما ذكر الله عز وجل المنافع وهي عاجلة الإنسان مما يستمتع به في الدنيا وكذلك الآثام وهي تتعلق بأمر الآخرة غالباً، فإن الإثم لا يطلق إلا على أمر الآخرة، وكل إثم يلزم منه شر في الدنيا، وأما بالنسبة لمنافع الدنيا فلا يلزم منها ثواب في الآخرة، ولهذا جاء استعمال الإثم في هذه الآية، فذكر المنافع، أي: أنها تنفعكم في الدنيا ولا يعني أنها تنفعكم في الآخرة، فالإنسان يستمتع بالمأكل والمشرب وسماها هنا منافع، لكن يؤجر عليها بالآخرة؟

لا يؤجر إلا على ما احتسب وما حث الله عز وجل عليه، فاستعمل لفظ المنافع، أي: أنه لا يلزم من ذلك أن يكون ثواباً عند الله، وذكر الإثم إشارة إلى أنه لا بد أن يتلازم الإثم في الآخرة مع الشر في الدنيا، فاجتمع على الإنسان الأمران، وهو ضر الدنيا وضر الآخرة، بخلاف ما هم عليه، فهو منفعة دنيا مجردة لا تنفع بالآخرة، وهذه مسألة الاحتياط أنه ينبغي للإنسان أن يحتاط في الأمرين: فيما يتعلق بأمور الإيمان من جهة الأصل حتى لو وجد الإنسان في نفسه حسكة في مسألة من المسائل ونحو ذلك، يأخذ في ذلك جانب الاحتياط، ولهذا الملاحدة الذين ينكرون وجود الإله بعضهم يسلم ويشحذ ما يدفعه إلى الإيمان شحذاً لأن العاقبة في ذلك سلامة في الدنيا ونجاة في الآخرة، بخلاف الذي يلحد في جنب الله سبحانه وتعالى

فهو إلى خسار، ولهذا يقول أبو العلاء المعري مشيراً إلى هذا:

قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأموات قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما

يعني: إن صح قولكما أنه لا يوجد رب فأنا سالم في الدنيا، وبعد الموت لا شيء عليّ، وأما لو صح قولي فإنكم في الدنيا سالمون وفي الآخرة خاسرون، فأيهما أولى بالاتباع؟ من جهة النظر الأولى بالاتباع قولي، إذا كنتم تسلمون من جهة العقل، ولهذا الله سبحانه وتعالى استعمل الأمرين هنا، مسألة النفع ومسألة الإثم، أي: أنه نفع عاجل وقتي، وأما بالنسبة للآخرة فثمة إثم ينتظر الإنسان، والعاقل في ذلك هو الذي يرجح جانب الإثم في هذا، هذا في حال عدم إيمان الإنسان بذلك أنه يشحذ ما يدفعه للإيمان، فكيف بمؤمنين قد نزلت عليهم تلك الأوامر الإلهية فينبغي عليهم ألا يقدموا شيئاً على مراد الله عز وجل، وهم يؤمنون به سبحانه وتعالى.

التفكير الذي يكون سبباً للهلاك

ولهذا ذكر الله عز وجل هنا التفكر، قال: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:219-220]، وإنما تضل العقول هو أنها تقصر في تفكيرها إما بالجانب المادي فيغيب عنها الجانب الأخروي فتخرج بنتيجة مخالفة عن مراد الله سبحانه وتعالى، فأمر الله عز وجل الناس أن يفكروا بالأمرين، بعاجل الناس وما يتعلق بأمور الماديات، وهي أمر الدنيا، وأن يتفكروا بأمر الآخرة.

والتفكر بأمر الدنيا على نوعين أيضاً: وهو عاجل وهو ما يسمى بالنظر القاصر، وأن ينظر الإنسان إلى النتائج التي تظهر له مثلاً في أول أمره، ويغلب جانبها من متعة الشهوات أو المسامع ويغيب ما يأتي بعد ذلك، فالإنسان يكون لديه نشوة بالانتصار لنفسه بالضرب أو القتل أو أخذ المال أو نحو ذلك، ويغيب ما يأتيه بعد ذلك من العقاب أو سوء السمعة أو غير ذلك، فثمة للدنيا عاجل وآجل، وأما أمر الآخرة فهو واحد، فنتيجته العاجلة هي نتيجته الآجلة على حد سواء، ولهذا أمر الله عز وجل البشر أن يتفكروا في الدنيا والآخرة، أي: في أمريهما حتى تصح النتائج عندهما، والنتائج في ذلك الناس يتباينون فيها بحسب تناول العقول لها، منهم من يتناول الأدنى ويعظمه ويزهد في النتائج، وهذا يخرج الإنسان بنتيجة ضعيفة جداً.

في هذا إشارة إلى أن الله عز وجل خاطب العقول بالتأمل والتفكر والتدبر بحال العاجل والآجل، وأنه ينبغي للإنسان أن يزن بينهما وأن لا يغلب لحظة من لحظاته على أمر سرمدي أو أمر مستديم أو أمر ما هو أطول من ذلك، ويرجع في ذلك الإنسان بحسب قوة عقله وتفكره وكذلك تدبره في المصالح والموازين.

وكذلك في هذا إشارة إلى أن العقل الصحيح لا يخالف النص الصحيح من كلام الوحي، وهذا ظاهر أن الله عز وجل حينما بيّن أمر الموازنة بمسألة النفع والضر، ثم بيّن الله عز وجل الغاية من ذلك؛ أنه ينبغي للعاقل أن يرجح ما رجحت كفة سيئاته من جهة التحريم، وما غلب من جهة منافعه يغلبه من جانب الإباحة.

اتهام العقل إذا عارض حكم الله عز وجل

ثم أرشد الله عز وجل إلى مزيد تفكر، وفي هذا إشارة أن الإنسان إذا وجد في عقله معارضة لحكم الله فليتهم النظر، إما أنه نظر نظرة مادية مجردة وغيّب أمر الآخرة، فلم تتضح له الصورة كما أراد الله عز وجل، وبهذا نعلم أن اقتصار الإنسان على واحدٍ منهما بالتفكر يعطل مراد الله عز وجل من حكمه، فالله عز وجل ما أمر الإنسان أن يتفكر بالآخرة حتى لا تتعطل الدنيا، وما أمر الإنسان أن يتفكر بالدنيا مجرداً حتى لا تتعطل الآخرة، وإنما أمر بالتفكر بالأمرين حتى يتضح له الأمر، وهذا مرتبط بما يأتي بعده من سؤالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن اليتامى، وذلك أنهم ربما زهدوا بالعناية بهم والتجارة بأموالهم خوفاً من أمر الآخرة، وفي ذلك نفع لهم ولغيرهم في أمر الدنيا، فأمر الله عز وجل بالموازنة بالأمرين.

تكلمنا في المجلس السابق على قول الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، قال الله سبحانه وتعالى بعدما بين الميزان بين الخمر والميسر في باب المنفعة والإثم، وذكرنا إشارة أن الله عز وجل استعمل فيما يعود على الناس بالخير في لفظه أو اصطلاحه النفع، والنفع يقابله الضر، وأما بالنسبة لما يلحق الإنسان من شر في ذلك فإنه استعمل الإثم، ولو قلنا بالاطراد في ذلك، فإن الاطراد والمقابلة هو قولنا: نفع وضر، وإثم وأجر، أو ثواب وعقاب.

الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين لعباده أن المنفعة بالخمر والميسر إنما هي عاجلة لا آجلة يستمتع بها الإنسان في لحظتها ويغنم، وأما بالنسبة لضررها فإن الضرر في ذلك ظاهر من جهة آجل أمره، ولهذا استعمل جانب الإثم، كذلك من العلل في استعمال لفظة الإثم في هذه الآية، أن الإنسان ربما يغيب عنه من علل أحكام الله جل وعلا ما يجب عليه أن يفوض الأمر إلى الله، ولهذا أمر أن يسلم الإنسان علة التحريم لله سبحانه وتعالى، وألا يكلها إلى نظره، وهذا يشير إليه قوله جل وعلا: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:219-220]، وأشار إلى مسألة الدنيا والآخرة، أي: أن العلة متعلقة بالأمرين، ويأتي الإشارة إلى هذا.

ثم ذكر الله عز وجل قوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، بعد أن بين الله سبحانه وتعالى الخمر والميسر وباب الموازنة فيهما من جهة النفع والإثم، وبين الله عز وجل رجحان الإثم والشر في ذلك، بيّن الله عز وجل حكم ما يسألون عنه، وهو ما ينفقون، وسؤالهم عن الإنفاق تقدم معنا في قول الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:215]، تقدم الكلام معنا في هذه الآية، وهذا إما أن يكون سؤالاً جديداً من الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون هذا هو السؤال السابق، فأراد الله عز وجل مزيد بيانه وربطه بذلك الأمر لعلة وحكمة، وهذه العلة والحكمة أن الله عز وجل حينما بيّن أمر الموازنة والنفع في مسألة الخمر والميسر أنهم سألوا في غير هذا الموضع عن النفقة، والإنفاق في ذلك يكون طلباً لأجر الله سبحانه وتعالى، فأنتم تسألون رغبة لرضا الله عز وجل في بيان الخير في موضع الأموال، فلا يليق بمن سأل ذلك السؤال أن يعترض على رجحان تحريم الميسر هنا، أو رجحان سيئته، فينبغي إن كان دافعه في ذلك مرضاة الله جل وعلا أن يتوقف عند المتشابه على أقل أحواله، وتقدم معنا الإشارة أن قول الله جل وعلا: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، أن هذا ليس من القطع بالتحريم، ولكنه من قرائنه.

والعلماء عليهم رحمة الله تعالى قد اختلفوا في ذلك: هل هذه الآية من قطعيات التحريم؟ أم هي من القرائن والإشارات؟

والإلماح برفع درجة مرتبة الخمر والميسر من الحل والإباحة إلى مرتبة المتشابه عندهم مما ينبغي للإنسان أن يجتنبه، وهذا ظاهر في حديث النعمان بن بشير كما في الصحيحين وغيرهما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات )، نقل الشارع ذلك من الحلال المسكوت عنه؛ لأن السكوت عن بيان شيء من المأكول والمشروب يدخله في أصل الحل؛ لأن الأصل في المأكول والمشروب هو الحل.

كذلك في المعاملات الأصل فيها الحل، فنقلها الله عز وجل من دائرة الحل إلى دائرة المتشابهات، فينفر منها أهل الورع كما ينفرون من الحرام، فأراد الله عز وجل أن يبين جواب ذلك السؤال في مسألتهم عن الإنفاق، وهو العفو، أي: ما زاد أو فضل من أموالكم فأنفقوه لله جل وعلا، وهذا فيه إجابة لبعض التساؤل لأنه ربما بعض الناس يخطر في باله خاصة في نزول تلك الآية، أنهم إنما يقولون: إنما نتعامل بالميسر بطيب نفس منا، وهذه العلة قد ترد في أذهان البعض، وكذلك فإننا ننفق ما فضل من أموالنا، ولا نفرط في قوت أبنائنا وبناتنا وأزواجنا، ومن أوجب الله عز وجل علينا النفقة، أراد الله عز وجل أن يبين أن ثمة أمراً هو أولى من ذلك وهو الإنفاق، إذا كان لديكم فضلة مال في أوجه الخير في سبيل الله جل وعلا.

وذلك أن قوله سبحانه وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، العفو المراد به الفضل، كما جاء تفسير ذلك عن غير واحد، جاء عن عبد الله بن عباس كما رواه الحكم عن مقسم عن عبد الله بن عباس ، وجاء عن قتادة وكذلك مجاهد وغيرهم من المفسرين، وهذا هو الأظهر والأشهر من أقوال المفسرين من السلف، أن المراد بالعفو هو ما فضل عن مال الإنسان وقدرته.

وهذا فيه إلماحة إلى أنه إذا كان ثمة فضل وتريدون أن تسابقوا إلى الخير، فهو الإنفاق في سبيل الله لا أن تهدروا الأموال فيما لا ينفع، فهو في أقل أحواله أمر مفضول مرذول لا ينبغي للإنسان أن يضع ماله فيه؛ لأنه إهدار في غير مرضاة الله جل وعلا.

وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا أغلق على الإنسان باباً أن يفتح له باباً من أعمال البر حتى لا يتحير، كأن يكون الإنسان يسأل عن مسألة من المسائل في أمور العمل من التجارة ونحو ذلك، فيقال له: إن هذا الأمر محرم، ثم يشار إلى أمور أخرى، أمور الحلال مباحة؛ لأنه ربما الشيطان يضيق على عقل الإنسان المباح، ويستحضر في ذهن الإنسان الأمر المحرم، أو يسأل الإنسان عن وظيفة أو عملٍ أو نشاط معين، أو يعمل في مجال ربوي أو نحو ذلك، فيقال: الأمر في ذلك مباح أن يعمل الإنسان في تجارة أو يعمل في حرفة من نجارة أو صناعة أو تجارة، أو الضرب بأمور النقدين أو ماشية من بهائم الأنعام، أو الزرع والحرث، يعرض له أمور المباحات حتى يضيق ما يوسع الشيطان من ضده من الأمور المحرمة، وهذا هنا إنما جاءت الإجابة لهذه العلة، أي: أن الله عز وجل حينما حرم عليهم أن يضعوا فضل أموالهم فيما يزعمون في أمور الميسر فيرونها فضلاً، فإن ثمة ما أولى من ذلك أن يضعوها فيه وهو مرضاة الله جل وعلا، فينفق الزيادة.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آيات الأحكام [30] 2761 استماع
تفسير آيات الأحكام [48] 2721 استماع
تفسير آيات الأحكام [54] 2523 استماع
تفسير آيات الأحكام [22] 2449 استماع
تفسير آيات الأحكام [58] 2334 استماع
تفسير آيات الأحكام [35] 2269 استماع
تفسير آيات الأحكام [5] 2252 استماع
تفسير آيات الأحكام [11] 2213 استماع
تفسير آيات الأحكام [55] 2177 استماع
تفسير آيات الأحكام [32] 2172 استماع