تفسير آيات الأحكام [48]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فشرعنا في الدرس الماضي في سورة آل عمران، وتكلمنا على صدر الآيات المتعلقة بالأحكام منها، وتكلمنا على ما يتعلق بالمحكم والمتشابه من كلام الله سبحانه وتعالى، وتكلمنا على الأحكام الواردة في قصة امرأة عمران، وتكلمنا على مسألتين مشهورتين في هذه القصة ما يتعلق بالأحكام الفقهية، تكلمنا على ما يتعلق بمسألة النذور، ونقضها وإبطالها، وذلك لورود محرم، وأن الواجب لا ينقضه إلا وجود محرم.

وتكلمنا على مسألة سبب نقض النذر، وأنه بسبب محرم، وذكرنا المحرم في ذلك أنه وجود المرأة بين الرجال، وذكرنا ما يتعلق ببقاء الحائض في المسجد، لأنه قد جاء عن بعض السلف عليهم رحمة الله القول بأن سبب منع امرأة عمران مريم من بقائها في الكنيسة لكيلا تكون بين الرجال، وألا تطيل المكث، وما يطرأ على المرأة من نزول الحيض مما يتنجس به المكان.

استحباب الدعاء عند الولادة

ثم قال الله سبحانه وتعالى بعدما ذكر دعاء امرأة عمران لربها، قال الله سبحانه وتعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [آل عمران:37]، الله سبحانه وتعالى لما دعته امرأة عمران دعاءً أجابها جل وعلا بالقبول الحسن والنبات الحسن.

ومن هذا يؤخذ أنه يستحب الدعاء عند الولادة أن ينبته الله عز وجل نباتاً حسناً، وأن يتقبله الله جل وعلا، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أظهر منته لامرأة عمران بقبوله لتلك الإجابة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى دعي من امرأة عمران أن يعيذها جل وعلا من الشيطان، فبين له سبحانه وتعالى أن غاية العصمة من الشيطان أن يتقبلها الله جل وعلا وأن ينبتها نباتاً حسناً، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء للمولود عند ولادته بالتبريك لوالديه، وهذا من الأدعية التي تستحسن.

ويؤخذ من ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما استجاب لامرأة عمران بين وجه الاستجابة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد تقبل مريم بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً، وهذا مما يؤخذ منه حسن الدعاء عند المولود لوالديه.

الأصل في باب الحضانة ولمن تكون

وفي قوله سبحانه وتعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، ذكر الله عز وجل الكفالة هنا وهذه الآية أصل في أبواب الحضانة، والحضانة تكون للمولود بعد ولادته إذا فقد والديه أو عند عجز والديه عن كفالته والقيام بشأنه، وذلك أنهما إذا عجزا، إما لمرض من إعاقة أو اغتربا بإكراه أو حبس لعلة، فإنه يقوم بذلك غيرهما، والكفالة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى هنا في قوله: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، هي المرادة بالحضانة، والحضانة ذكرها الله سبحانه وتعالى في عدة مواضع، إما على سبيل الإشارة، وإما التصريح، فالتصريح كما هنا في قول الله جل وعلا: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، والإشارة تقدم في آية الرضاع: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، وكذلك في قول الله سبحانه وتعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ [النساء:23]، الله سبحانه وتعالى ذكر الربائب التي في الحجور، ولا يكون في الحجر إلا الصبي الصغير، والمراد بالحجر هو ما يحتويه الإنسان بين صدره وفخذيه، وهذا هو حجره، ولا يكون في ذلك إلا الصغير، فيربى يقال: فلان في حجري، أي: أضعه في حجري فأحتويه، فهذا من الحضانة.

وهذه الآية أصل في مشروعية الحضانة وحق الأم فيها، وإنما كانت الكفالة لـمريم عليها السلام لزكريا لأن أمها وأباها ماتا، واختلف في سبب الموت، والعلماء عليهم رحمة الله يتفقون أنها كانت يتيمة بعد ولادتها، واختلفوا في سبب اليتم، فمنهم من قال: إن ذلك بسبب سنة أصيبوا فيها بأمراض كالجذام، ومنهم من قال: إنها ميتة كسائر ميتة الناس، وعلى كلٍ نقول: إنه قد اتفق العلماء على أن الكفالة ما انتقلت لزكريا إلا بسبب موت أم مريم، وهي على ما تقدم اسمها حنة أو حِنة .

والكفالة إنما كانت لـزكريا لا لذاته فيما يظهر وإنما لقرابة مريم من زوجته، وزوجة زكريا بينها وبين مريم قرابة، واختلف في تعيين هذه القرابة، قيل: إن مريم هي أخت زوجة زكريا، وذلك أن امرأة عمران قد أنجبت قبل مريم بنتاً فتزوجها زكريا، ثم جاءت بـمريم وماتت عنها فلحقت مريم بأختها، وعلى هذا فنقول: إن عيسى بن مريم يكون أخاً لـيحيى بن زكريا، لأن يحيى هو ابن زكريا، وأن عيسى هو ابن مريم، و مريم هي أخت زوجة زكريا، وعلى هذا يكونان أبناء خالة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ( فإذا بـعيسى و يحيى وهما أبناء خالة )، وقد اختلف العلماء في القرابة في تحديدها مع اتفاقهم في كونها من جهة الأم، ولكن يختلفون في تعيينها، قد جاء عن قتادة وعن السدي أن مريم هي أخت زوجة زكريا، يعني: أن أبناءهما من أبناء الخالة، ومنهم من قال: إن خالة مريم وهي أخت حنة أنها تحت زكريا، وعلى هذا يقولون: إن مريم هي ابنة خالة لـيحيى بن زكريا، وعلى هذا يكون عيسى بن مريم هو ابن خالة لـيحيى بن زكريا تجوزاً في لغة العرب؛ لأن العرب يتجوزون في أبناء العمومة وأبناء الخالة، ولكن الذي يظهر والله أعلم في ظاهر الحديث الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح في قوله: ( فإذا عيسى و يحيى وهما أبناء خالة )، أنه يحمل في ذلك على الأصل.

فجعل الله سبحانه وتعالى الكفالة في امرأة زكريا لأنها أقرب النساء إلى مريم .

في هذه الآية دليل على أن أحظ النساء في الكفالة والحضانة هي الزوجة، وذلك لأن الكفالة هنا لم تنتقل إلى زكريا إلا عند فقد أم مريم ، ويتفق العلماء على أن أم مريم ماتت وبسببها استحقت الكفالة وانتقالها إلى زكريا .

الحالة التي تكون فيها الأم أحق بالحضانة

وهنا في مسألة الحضانة ذكرنا اتفاق العلماء على أن الحضانة تكون عند الأم عند طلاق الأبوين، عند طلاق الأب لأم الولد فإنها تكون عند أم الولد بالاتفاق، إلا إذا تزوجت الأم، فإنه يسقط حقها في ذلك، ويتفق العلماء عليهم رحمة الله على أن الأم أحق بالحضانة من الأب، وقد حكى الإجماع على ذلك جماعة من العلماء كـابن المنذر و ابن عبد البر عليهم رحمة الله، ويجعلون ذلك مقيداً ببعض القيود.

وهذه القيود أولها: ألا تتزوج الأم.

القيد الثاني: أن تكون الأم مسلمة، وألا تكون كافرة، وهذا أيضاً من مواضع الخلاف، وهذا محل اتفاق.

الثالثة: أن تكون الأم قادرة على الحضانة، لا تكون الأم مريضة بسفه، أو مريضة بجنون، أو فيها شلل يقعدها عن القيام بشأن ابنها، أو يكون بها فسق وفجور وسوء تربية، وشهد عليها في ذلك، فإنها تضر بالابن أكثر من أن تحسن إليه، فنقول حينئذٍ: الحضانة من جهة الأصل تكون في الأم لا تكون في الأب، وهذا محل اتفاق عند العلماء، ولكنهم اختلفوا في الأمد الذي تحضن فيه الأم ولدها، مع اتفاقهم على أن الحضانة في حق الأم إلى التمييز، واختلفوا فيما بعد ذلك، فهم يتفقون على أنه من عند الولادة يكون عند الأم، فإذا طلقت الأم على سبيل المثال وهي حامل، ثم وضعت، فإن الحضانة تبتدئ من عند وضعها إلى حين التمييز باتفاقهم، أو طلقها بعد شهر أو سنة أو سنتين من الولادة ثم بقيت، فإنها تستكمل في ذلك إلى التمييز، وهذا محل اتفاق، وإنما وقع الخلاف فيما بعد ذلك.

الأحق بالحضانة بعد التمييز

اختلف العلماء عليهم رحمة الله في الحضانة بعد التمييز على قولين: ذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الحضانة إذا بدأت بها المرأة قبل التمييز فإنها لا تنفك عنها حتى يبلغ الغلام، وحتى تتزوج الجارية أو تتزوج أمها، فإذا تزوجت الجارية أو تزوجت أمها فأيهما سبق سقطت حينئذٍ الحضانة، وهذا قول الإمام مالك رحمه الله، وذهب جمهور العلماء وهو قول الإمام الشافعي والإمام أحمد إلى أن الحضانة تنتهي بالتمييز، فإذا ميز الصبي أو الجارية فإنهما يخيران بين أبويهما.

أما بالنسبة لإجماع العلماء عليهم رحمة الله في هذه المسألة، وذلك لثبوت النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة: ( أنت أحق به ما لم تنكحي )، وجاء في رواية: ( ما لم تتزوجي )، وهذا دليل على بقاء ذلك، وأن البقاء هل هو باقٍ إلى الرشد أو إلى البلوغ أو إلى التمييز؟ هو على ما تقدم.

والأظهر والله أعلم أن ذلك يكون إلى التمييز، فإذا ميز الصبي وميزت الجارية فإنهما يخيران بين أبويهما، وهذا قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عند النسائي في حديث أبي هريرة ، أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ( إن ولدي ثديي له وعاء، وإنه لما كبر وسقاني من عين كذا وكذا أراده أبوه مني، فجاء أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك وهذا أمك فخذ بيد من شئت منهما، فأخذ بيد أمه، فأخذته تقوده )، وهذا فيه أنه في حال تخييره، إذا سار إلى أبيه أو سار إلى أمه بقي الحكم في ذلك.

العلة في تغليب جانب الأم في استحقاق الحضانة

والعلة في تغليب جانب الأم في جانب الحضانة على الأب، لأن هذا فيه صلاح الولد، وصلاح الأم، وصلاح الأبوين، جهات ثلاث في مصلحة الترجيح في باب الحضانة:

الجهة الأولى بالنسبة لصلاح الأم، كيف تكون الحضانة فيها صلاح الأم؟ لأن الأم تجد في نفسها من جهة الولد ما لم يجده الأب، فهي تجد تعلقاً بابنها وبنتها ما لم يجده الأب من جهته، وذلك لضعف الأم، وانكسار نفسها بخلاف الأب، ما أتاه الله عز وجل من شدة وجلادة وشغل وانصراف ذهن، فإن الشريعة قد جعلت ذلك أرفق بها وأحن إلى قلبها وألين لها.

وأما الجهة الثانية: فمن جهة صلاح الابن أو البنت، أن الأم أرفق بالولد من الأب، وذلك في حال صغره من جهة الرضاع؛ فإن الأب لا بد أن يأتي بمرضعة لولده، فلا يمكن أن يستقل بنفسه الإطعام، ولهذا جاء الأمر من جهة الأم، فتأكد ذلك لصلاح الولد، كذلك من جهة عنايته بصحته، ولباسه، ونومه، وقيامه، لا يمكن أن يستقل الأب بذلك بنفسه، فلا بد أن يستعين وأن يشرك غيره من أمٍ، أو زوجة، أو أختٍ، أو جدةٍ، أن ترعى معه، وهذا يضعف جانب الرعاية وصلاح الولد، فإن إصلاح الأم لولدها أحضى وأعظم من إصلاح البعيدة عنه، وكلما بعدت القرابة ضعفت العناية والرغبة في ذلك، وكذلك بمعرفة صالح الولد مما يفسده أو يضر به.

وأما الجهة الثالثة، وهي بالنسبة لصلاح الأبوين: أن الشريعة تتشوف في حال فراق الأبوين بطلاق أو بخلع إلى رجوعهما إذا كان الطلاق رجعياً، لأن الولد إذا كان عند أمه في ذلك كسر لنفس الرجل أن يأتي إلى ولده، بخلاف إذا كان الولد في حضانة أبيه وفي حجره، فإن الأب لا يصل أهل ولده من جهة أمه، وإنما تصله في ذلك الأم، وأما بالنسبة للأب فإنه يصل أهل الولد، وذلك بولي الزوجة ما لم تتزوج، وهذا أحضى لرجوع الأبوين، بخلاف إذا جاءت الأم إلى ولدها أو بنتها فلا يعني من ذلك أن تأتي إلى أهل الولاية، وأهل الولاية والعصمة في ذلك هو الزوج، والحرمة في ذلك قائمة بين الزوجين، وأما إذا كان الزوج يأتي إلى أهل زوجته أو طليقته، فإنه يقابل أولياءها، والمرأة إذا جاءت إلى ولدها لا تقابل الولي في ذلك ممن بيده عصمة النكاح في حال العودة وهو الزوج، ولهذا تشوفت الشريعة وجعلت الحضانة تكون للزوجة؛ لأن ذلك فيه صالح الأمر، وكذلك فيه حفظ للمودة السابقة، وإحسان المعشر، وغير ذلك من المقاصد الشرعية.

وإذا تزوجت الأم سقط حقها الحضانة، وإذا طلقت مرة أخرى، وبقي مدة الحضانة هل يرجع إليها ولدها أم لا؟

نعم، يرجع إليها ولدها، وذلك أن الحقوق تعود بزوال مانعها، كما توجد وتتحقق بوجود أسبابها، ومعلوم أن سبب وجود الحق في الحضانة هو عدم زواجها، وكذلك الأمومة، فإذا ارتفعت لسبب من الأسباب فإنها حينئذ ترجع إليها بزوال المانع، وهذا محل خلاف عند العلماء في مسألة المرأة إذا تزوجت ثم طلقت هل ترجع في حقها في الحضانة أم لا؟

والأرجح في هذا الرجوع، وكذلك إذا أسقطت المرأة حقها من نفسها في الحضانة، أرادت أن تتنازل لأبيه، لأي علة، إما أمراً نفسياً أو لمرض أو لشغل، أو غير ذلك، ثم انتظرت عاماً، ثم أرادت حقها فلها ذلك؛ لأن الحق في ذلك لا يسقط، وأما إذا كانت الزوجة ليست بمسلمة والأب مسلماً، فهل يسقط حق الحضانة في ذلك أم لا؟ هذا من مواضع الخلاف.

جمهور العلماء يرون أن الإسلام شرط في حضانة الأم لولدها، خلافاً لـأبي حنيفة الذي لا يفرق بين الدينين: الإسلام والكفر، والصواب في ذلك التفريق، وأنه لا بد من الإسلام، لأن المولود يولد على الفطرة، فإذا كانت الأم نصرانية أو يهودية أو على ملة من الملل الكفرية، فإنها ستربي ابنها على ذلك، وينشأ، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ، قال عليه الصلاة والسلام: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، فإذا كانت الحاضنة في ذلك كافرة كنصرانية أو غير ذلك، فإنها تصوغ ابنها على خلاف الفطرة، وتصبغه على ذلك، ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد فطر الناس على الفطرة الصحيحة، وهي: الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وعلى هذا نقول أيضاً: إن الأم إذا كانت فاجرة أو فاسقة أو غير ذلك فإنها تسقط حضانتها كذلك، كالتي تربي الابن، أو البنت على فساد، إما من تعرٍ الجارية، أو الرقص، أو شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير، أو غير ذلك من الأمور المحرمة، فينشأ على ذلك ويستسيغها، فإن هذا مما يسقط الحضانة.

سبب نسبة الكفالة إلى زكريا مع أن الكافل زوجته

وهنا في زكريا الله سبحانه وتعالى ذكر الكفالة فيه فقال: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، وثمة قراءتان في هذا، كفلها بالتخفيف وهذه قراءة أهل الحجار: مكة والمدينة، وقراءة البصريين، وكفَّلها بالتشديد وهي قراءة الكوفيين وبعض أهل المدينة: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37] ، والكفالة هنا إنما هي بسبب امرأة زكريا، وإنما ذكر الله عز وجل الكفالة لـزكريا وباسمه؛ لأن زكريا يكفل زوجته، وزوجته تكفل مريم فكفالة الجميع إنما هي في زكريا، وهذا فيه دليل على القوامة، فلما استحق زكريا كفالة مريم لأجل زوجته وزوجته يكفلها زكريا، جعل الله عز وجل كفالة الجميع في زكريا، والكفالة في زكريا هنا إنما كانت بالاستهام وهي الاقتراع، والله سبحانه وتعالى يسر السبيل أن تكون لـزكريا، لمقامه في قومه، ولنبوته، وسيادته فيهم، وكذلك يهيئ الله عز وجل أمر مريم تثبيتاً وتقوية، لأنها ستجد شدة قدرها الله عز وجل عليها، وذلك من إنجابها لـعيسى بلا زوج، وما في ذلك من شدة، وتحتاج إلى قوة عزيمة وتعبد لله سبحانه وتعالى وصبر، ولا يكون ذلك إلا في من نشأت في كنف نبي بعد عون الله عز وجل وتثبيته.

أهمية التربية في البيوت الصالحة

وفي قوله سبحانه وتعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، هذا فيه إشارة إلى عظم التربية في البيوت الصالحة وأثرها، ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى على أم مريم و مريم، أن جعل الكفالة في بيت زكريا، فترى أمر الصلاح والديانة والتعبد لله عز وجل، ولا ترى من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى والخروج عن حدوده شيئاً، لأن المولود يتطبع على ما يرى في بيت تربيته من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى.

وهنا في ذكر المحراب المراد بذلك: هو موضع العبادة، وليس المراد بذلك المحاريب الموجودة في زماننا، وهي التي تكون مستديرة أو مربعة في مواضع أو في أماكن العبادات، وإنما هو موضع الصلاة التي يضعه الإنسان.

ثم قال الله سبحانه وتعالى بعدما ذكر دعاء امرأة عمران لربها، قال الله سبحانه وتعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [آل عمران:37]، الله سبحانه وتعالى لما دعته امرأة عمران دعاءً أجابها جل وعلا بالقبول الحسن والنبات الحسن.

ومن هذا يؤخذ أنه يستحب الدعاء عند الولادة أن ينبته الله عز وجل نباتاً حسناً، وأن يتقبله الله جل وعلا، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أظهر منته لامرأة عمران بقبوله لتلك الإجابة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى دعي من امرأة عمران أن يعيذها جل وعلا من الشيطان، فبين له سبحانه وتعالى أن غاية العصمة من الشيطان أن يتقبلها الله جل وعلا وأن ينبتها نباتاً حسناً، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء للمولود عند ولادته بالتبريك لوالديه، وهذا من الأدعية التي تستحسن.

ويؤخذ من ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما استجاب لامرأة عمران بين وجه الاستجابة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد تقبل مريم بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً، وهذا مما يؤخذ منه حسن الدعاء عند المولود لوالديه.

وفي قوله سبحانه وتعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، ذكر الله عز وجل الكفالة هنا وهذه الآية أصل في أبواب الحضانة، والحضانة تكون للمولود بعد ولادته إذا فقد والديه أو عند عجز والديه عن كفالته والقيام بشأنه، وذلك أنهما إذا عجزا، إما لمرض من إعاقة أو اغتربا بإكراه أو حبس لعلة، فإنه يقوم بذلك غيرهما، والكفالة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى هنا في قوله: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، هي المرادة بالحضانة، والحضانة ذكرها الله سبحانه وتعالى في عدة مواضع، إما على سبيل الإشارة، وإما التصريح، فالتصريح كما هنا في قول الله جل وعلا: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، والإشارة تقدم في آية الرضاع: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، وكذلك في قول الله سبحانه وتعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ [النساء:23]، الله سبحانه وتعالى ذكر الربائب التي في الحجور، ولا يكون في الحجر إلا الصبي الصغير، والمراد بالحجر هو ما يحتويه الإنسان بين صدره وفخذيه، وهذا هو حجره، ولا يكون في ذلك إلا الصغير، فيربى يقال: فلان في حجري، أي: أضعه في حجري فأحتويه، فهذا من الحضانة.

وهذه الآية أصل في مشروعية الحضانة وحق الأم فيها، وإنما كانت الكفالة لـمريم عليها السلام لزكريا لأن أمها وأباها ماتا، واختلف في سبب الموت، والعلماء عليهم رحمة الله يتفقون أنها كانت يتيمة بعد ولادتها، واختلفوا في سبب اليتم، فمنهم من قال: إن ذلك بسبب سنة أصيبوا فيها بأمراض كالجذام، ومنهم من قال: إنها ميتة كسائر ميتة الناس، وعلى كلٍ نقول: إنه قد اتفق العلماء على أن الكفالة ما انتقلت لزكريا إلا بسبب موت أم مريم، وهي على ما تقدم اسمها حنة أو حِنة .

والكفالة إنما كانت لـزكريا لا لذاته فيما يظهر وإنما لقرابة مريم من زوجته، وزوجة زكريا بينها وبين مريم قرابة، واختلف في تعيين هذه القرابة، قيل: إن مريم هي أخت زوجة زكريا، وذلك أن امرأة عمران قد أنجبت قبل مريم بنتاً فتزوجها زكريا، ثم جاءت بـمريم وماتت عنها فلحقت مريم بأختها، وعلى هذا فنقول: إن عيسى بن مريم يكون أخاً لـيحيى بن زكريا، لأن يحيى هو ابن زكريا، وأن عيسى هو ابن مريم، و مريم هي أخت زوجة زكريا، وعلى هذا يكونان أبناء خالة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ( فإذا بـعيسى و يحيى وهما أبناء خالة )، وقد اختلف العلماء في القرابة في تحديدها مع اتفاقهم في كونها من جهة الأم، ولكن يختلفون في تعيينها، قد جاء عن قتادة وعن السدي أن مريم هي أخت زوجة زكريا، يعني: أن أبناءهما من أبناء الخالة، ومنهم من قال: إن خالة مريم وهي أخت حنة أنها تحت زكريا، وعلى هذا يقولون: إن مريم هي ابنة خالة لـيحيى بن زكريا، وعلى هذا يكون عيسى بن مريم هو ابن خالة لـيحيى بن زكريا تجوزاً في لغة العرب؛ لأن العرب يتجوزون في أبناء العمومة وأبناء الخالة، ولكن الذي يظهر والله أعلم في ظاهر الحديث الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح في قوله: ( فإذا عيسى و يحيى وهما أبناء خالة )، أنه يحمل في ذلك على الأصل.

فجعل الله سبحانه وتعالى الكفالة في امرأة زكريا لأنها أقرب النساء إلى مريم .

في هذه الآية دليل على أن أحظ النساء في الكفالة والحضانة هي الزوجة، وذلك لأن الكفالة هنا لم تنتقل إلى زكريا إلا عند فقد أم مريم ، ويتفق العلماء على أن أم مريم ماتت وبسببها استحقت الكفالة وانتقالها إلى زكريا .




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آيات الأحكام [30] 2764 استماع
تفسير آيات الأحكام [54] 2525 استماع
تفسير آيات الأحكام [22] 2452 استماع
تفسير آيات الأحكام [58] 2337 استماع
تفسير آيات الأحكام [25] 2324 استماع
تفسير آيات الأحكام [35] 2272 استماع
تفسير آيات الأحكام [5] 2256 استماع
تفسير آيات الأحكام [11] 2218 استماع
تفسير آيات الأحكام [55] 2181 استماع
تفسير آيات الأحكام [32] 2177 استماع