مباحث النبوة - ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس فصلاً مستطرداً ضمن مباحث النبوة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فتقدم معنا أن هذا الفصل المستطرد يقوم على ثلاثة أمور:

أولها: في مقاصد النكاح العامة.

وثانيها: في بيان حكم التعدد في حق الأمة.

وثالثها: في بيان حكم التعدد في حق نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه زيادةً عما أحل الله لأمته.

وقلت: أختم بعد ذلك هذه الأمور الثلاثة بترجمة موجزة لأمهاتنا أزواج نبينا على نبينا وأزواجه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وكنا في المبحث الأول من هذه المباحث، ألا وهو مقاصد النكاح العامة، والحكمة من مشروعيته، وقلت: لذلك مقاصد كثيرة وحكم متعددة يمكن أن نجملها في خمس حكم:

أولها: تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية، سواء كانت حسيةً أو معنوية.

وثانيها: إيجاد الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية.

وثالثها: تحصيل الأجر للزوجين عن طريقين اثنين: حسن عشرة كل منهما لصاحبه، ومساعدته له في نفقته.

والأمر الرابع: تذكر لذة الآخرة.

وشرعنا في مدارسة المقصد الخامس من مقاصد النكاح العامة، ألا وهو ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل زوجه وقراباته.

مسكين من لا زوج له

إخوتي الكرام! تقدم معنا أن الزوجين بمثابة اليدين، وبمثابة العينين، فكل منهما يساعد الآخر، وكل منهما يكمل الآخر، وبذلك إذا كان الرجل منفرداً بلا زوجة فكأنه أقطع كما تقدم معنا، وهكذا المرأة إذا كانت منفردة ولا زوج لها فكأنه قطعت إحدى يديها، وقلعت إحدى عينيها كما تقدم معنا، ودللت على هذا بقول الله جل وعلا وهي الآية الأولى التي ذكرتها في سورة الذاريات: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] ، ووقفنا عند أثر يتعلق بهذا المبحث قلت: سأفصل الكلام عليه بإيجاز في أول هذه الموعظة لننتقل بعد ذلك إلى تقرير هذا الأمر، ألا وهو ارتفاق كل من الزوجين بزوجه بصاحبه وبأهل زوجه وقراباته.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أنه إذا كان الزواج ضرورياً لكل من الصنفين الذكر والأنثى فإن الذكر إذا لم يكن معه زوجة فهو مسكين، وهكذا المرأة إذا لم يكن عندها زوج فهي مسكينة، وقلت: هذا الكلام أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا إخوتي الكرام أن الحديث مروي في معجم الطبراني الأوسط، وقلت: إنه في مجمع الزوائد (4/252)، لكنه مرسل كما تقدم معنا فهو من رواية أبي نجيح ، وتقدم معنا أنه من أئمة التابعين الكرام الطيبين وهو يسار والد عبد الله بن نجيح ، وتوفي سنة (109هـ)، وحديثه كما تقدم معنا في صحيح مسلم والسنن الأربع إلا سنن ابن ماجه ، وهو من العلماء الربانيين والأئمة المهتدين، ثقة، عدل، إمام رضا، كما نص على ذلك أئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، فالحديث من رواية أبي نجيح يسار عن نبينا المختار عليه الصلاة والسلام أنه قال: (مسكين مسكين مسكين، رجل لا زوجة له وإن كان كثير المال، مسكينة مسكينة مسكينة، امرأة لا زوج لها وإن كانت كثيرة المال)، تقدم معنا هذا وقلت: إسناد الأثر رجاله ثقات، لكنه مرسل، وله شواهد كثيرة تدل على صحة معناه.

وقلت إخوتي الكرام: إن بعض أئمتنا ومنهم ابن تيمية وغيره رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين كأنه توقف في هذا الأثر، فالإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في مكانين (12/125)، (12/380) يقول: لم أجده مروياً عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يثبت، وتقدم معنا أنه مروي وهو ثابت لكن بإسناد مرسل، والإسناد كما تقدم معنا صحيح ورجاله ثقات، ولهذا الأثر شواهد كثيرة وأن الإنسان إذا لم يكن عنده زوجة فهو مسكين فقير، ثبت في صحيح مسلم وغيره: أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقال له: ألسنا من فقراء المهاجرين الذين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم؟ يعني: بخمسمائة سنة، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] ، ويدخل فقراء هذه الأمة الجنة قبل أغنيائها بنصف يوم بخمسمائة سنة.

ألسنا من فقراء المهاجرين الذين يدخلون الجنة قبل الأولياء بخمسمائة سنة؟ فقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين: ألك زوجة تأوي إليها؟ قال: نعم عندي زوجة، فقال له: ألك بيت تسكن؟ قال: نعم عندي بيت أسكن، قال: سبحان الله، فأنت من الأغنياء.

أي: إذا كان عندك زوجة وملكت بيتاً فأنت من الأغنياء.

فقال الرجل: عندي خادم يخدمني، قال: سبحان الله! أنت من الملوك، وتريد أن تكون من الفقراء الذين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وكان الرجل في بني إسرائيل يسمى ملكاً إذا كان عنده زوجة، وبيت يسكنه، وخادم يخدمه، كما قال الله جل وعلا مشيراً إلى هذا في سورة المائدة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20] ، (جعلكم ملوكاً) أي: جعلكم تتمتعون بهذه الأمور الثلاثة: الواحد منكم مزوج محصن، وعنده بيت يأوي إليه ويسكنه ويستره، ثم عنده خادم يخدمه، هذه صفات من؟ ليست صفات الأغنياء، بل هذه صفات الملوك، وهنا كذلك قال: فأنت من الملوك.

فإذاً: هذه من الحاجات الضرورية أن يكون للرجل امرأة يأوي إليها، وأن يكون للمرأة رجل تأوي إليه، ولذلك مسكين مسكين مسكين رجل ليس له امرأة وإن كان كثير المال، هذا كما تقدم معنا إخوتي الكرام مروي عن نبينا عليه الصلاة والسلام بسند صحيح رجال ثقات لكنه مرسل من رواية أبي نجيح يسار المكي رضي الله عنه وعن أئمتنا أجمعين.

الفرق بين المسكين والفقير

إخوتي الكرام! عند لفظ المسكنة هنا (مسكين مسكين مسكين)، المراد من المسكنة التوجع لهذا الإنسان، والترحم له، يعني من لم يكن عنده زوجة فحقيقةً ينبغي للإنسان أن يعطف عليه، أن يترحم عليه، أن يساعده، أن يرثي لحاله، فهذا يحتاج إلى مساعدة، وهكذا إذا لم يكن عند المرأة رجل تأوي إليه، فكأن كل واحد منهما إذا لم يحصل زوجه وقرينه فقد نقصه بعض حاجاته الضرورية.

وعند هذا المبحث، ألا وهو لفظ المسكين، قلت إخوتي الكرام: إن أئمتنا فرقوا بين المسكين والفقير، والأقوال في ذلك تعددت وكثرت، وأوصلها الإمام القرطبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا إلى تسعة أقوال (8/169) في تفسير قول ربنا جل وعلا: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، وكما قلت: إنها تسعة أقوال سأذكر ثلاثةً منها:

أولها: وهو الذي ذهب إليه فقيه هذه الأمة سيدنا الإمام أبو حنيفة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقال بهذا جم غفير من علماء اللغة والتفسير منهم الإمام ابن السكيت ، ومنهم الإمام ابن قتيبة عليهم جميعاً رحمة الله: أن المسكين أسوأ حالاً من الفقير، وأشد ضراً من الفقير، فالمسكين هو الذي يلازم السكون؛ لأنه ليس عنده شيء يكون، أي: ما عنده شيء يقوم به في سد حاجاته، والفقير عنده شيء لكن لا يكفي حاجته، وأما المسكين فما عنده شيء، إذاً ماذا يملك؟ يملك التراب فقط، ويأوي إليه، وقد أشار الله إلى هذا في سورة البلد، فقال جل وعلا: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد:11-14] وهو الجوع والشدة، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:15-16] ، المسكين هنا وصفه بأنه صاحب التراب، لصق بالتراب، ولا يوجد بينه وبين التراب حاجز وواق وساتر، فهو ملتصق به، جالس عليه، وقال أئمتنا: هو المطروح في الطريق على التراب.

يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:15-16] ، فهذا قد التصق بالتراب، فإذاً لا يملك شيئاً، وأما الفقير فيملك شيئاً لكنه لا يكفيه، ولا يسد حاجته، وأما المسكين فلا يملك شيئاً، مأخوذ من السكون؛ لأنه لعدم وجود شيء عنده يسد شيئاً من حاجته صار كأنه ميت ساكن لا يتحرك، ما عنده إلا التراب، والتراب يملكه كل أحد.

القول الثاني: ذهب الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقال بقوله كثير أيضاً من أئمة اللغة منهم الإمام الأصمعي وبعض المفسرين قالوا: إن الفقير أسوأ حالاً من المسكين، وأشد ضراً منه، فالفقير مفقور، نزعت فقره من ظهره من شدة فقره، وإذا نزع فقار الظهر لا يستطيع الإنسان أن يتحرك، لا يستطيع أن يقوم، ولا يستطيع أن يقعد، فإذاً الفقير سمي بذلك لأنه مفقور، أي: نزعت فقر ظهره من شدة فقره، أي: هو من شدة فقره لا يستطيع أن يتحرك، فهو أسوأ من المسكين، وعليه المسكين عنده شيء لا يكفي حاجته، والفقير ما عنده شيء مطلقاً، بعكس القوي الأول، وكل من القولين معتبر.

والقول الثالث: قال به الإمام الشافعي أيضاً، ويظهر من كلام القرطبي أنه يميل إليه، وهو: أن المسكين والفقير بمعنىً واحد، كل منهما حاجته شديدة، لكن إذا لاحظت وصف السكون في الفقير فتقول عنه: مسكين، وإذا لاحظت أيضاً وصف هذه الحالة التي فيه كأنه نزعت فقر ظهره فلا يستطيع أن يتحرك أيضاً تقول عنه: فقير، فهما لفظان مدلولهما واحد، كل منهما محتاج، وحاجة كل واحد منهما ضرورية شديدة، هذا قول آخر في ذلك.

والذي يظهر والعلم عند الله ما قاله الإمام أبو حنيفة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، فيقدم على الأقوال التي بعده، وأما من ضعف قوله بقول ربنا جل وعلا: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] ، فقال: إذاً يملكون سفينة وسماهم الله مساكين، فقال أئمتنا: ليس في الآية دلالة لا من قريب ولا بعيد على ملكهم للسفينة، فقد تكون هذه السفينة مستأجرة، وقد تكون مستعارة، وقد وقد، فأين الدلالة على أنهم يملكونها؟ وقد يعملون فيها بأجرة مع أن فيهم هذه الصفة، وهي المسكنة، وإذا أخذت منهم فسيعاقبون من قبل سيدهم ومالكهم أو مؤجرهم، والعلم عند الله جل وعلا.

على كل حال هذان اللفظان كل منهما يدل على حاجة، أي منهما أشد؟ العلم عند الله جل وعلا، وأئمتنا يقولون: لفظ الفقير إذا أطلق يدخل فيه المسكين، ولفظ المسكين إذا أطلق يدخل فيه الفقير، لكن إذا اجتمعا فكل واحد منهما له دلالة على حسب بعض الأقوال التي تقدمت معنا، ولذلك يقول بعض أئمتنا: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا اجتمعا مع بعضهما (فقير ومسكين) افترقا في الدلالة، هذا أشد أو هذا أشد، كما تقدم معنا بحث هذا في أقوال أئمتنا، وإذا افترقا فوجد واحد منهما فيدخل فيه الآخر، والعلم عند الله جل وعلا.

ما جبلت عليه العلاقة الزوجية من المودة والرحمة

خلاصة الكلام إخوتي الكرام: أن الذي ليس عنده زوجة مسكين فقد حاجةً ضروريةً هو محتاج إليها، والتي ليس عندها زوج تأوي إليه مسكينة فقيرة فقدت حاجةً ضرورية لازمةً لها، والعلم عند الله جل وعلا.

هذا المعنى إخوتي الكرام ألا وهو ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل زوجه وقراباته، أشار إليه ربنا جل وعلا أيضاً في غير الآية المتقدمة إلى ذلك في آيات كثيرة من آيات القرآن الكريم، من ذلك آية الروم، وفيها يقول ربنا الحي القيوم سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:20-21].

إذاً: صفة السكن لا تحصل عند كل من الصنفين إلا إذا أوى وآوى إلى قرينه وزوجه وعاش معه.

والمودة هي أتم أنواع الحب، وألطفه، وأعظمه، وهذه المودة ممزوجة برحمة عظيمة برقة من كل صنف نحو الصنف الآخر، أي: من أحد الزوجين نحو الآخر.

وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] ، وإنما قرن الله الرحمة بالود ليبين أن هذا الود الذي بين الزوجين ليس من أجل قضاء الشهوة فقط، ولو كان الود من أجل قضاء الشهوة لزال من الزوجين بعد قضاء الشهوة، أو عند عدم قضائها كما لو كبر أحد الزوجين، إنما في ذلك آية من آيات الله أن كل واحد منهما محتاج إلى صاحبه، كما تقدم معنا في قصة الرجل الحلبي الذي زاد على الثمانين وعندما ماتت زوجه أراد أن يتزوج، حقيقةً لا يجد أنساً في البيت، لا يجد من يدفئه في فراشه، لا يجد من يستأنس به في بيته، وهنا: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] .

إخوتي الكرام! الإمام الرازي الذي توفي سنة (606هـ) عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا له كلام غريب عجيب في تفسير هذه الآية، أذكره إن شاء الله بعد أن أبين صلة هذه الآية بما قبلها وأبين دلالتها على وجه الاختصار، ثم أقرأ عليكم كلامه، وأبين أيضاً فساده بطرق وترتيبات محكمة إن شاء الله، وأنا حقيقةً أعجب غاية العجب لهذا الإمام كيف قرر هذا الكلام في تفسير هذه الآية من كلام ربنا الرحمن، وما أعلم أن أحداً سبقه إلى ذلك، وما علمت أن أحداً بعده قال بقوله، فأذكر لكم كلامه كما قلت بعد أن أبين صلة هذه الآية بما قبلها، ومعناها على وجه الاختصار، ثم بعد ذلك أذكر كلامه وأنقضه وأبين فساده إن شاء الله.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أن الزوجين بمثابة اليدين، وبمثابة العينين، فكل منهما يساعد الآخر، وكل منهما يكمل الآخر، وبذلك إذا كان الرجل منفرداً بلا زوجة فكأنه أقطع كما تقدم معنا، وهكذا المرأة إذا كانت منفردة ولا زوج لها فكأنه قطعت إحدى يديها، وقلعت إحدى عينيها كما تقدم معنا، ودللت على هذا بقول الله جل وعلا وهي الآية الأولى التي ذكرتها في سورة الذاريات: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] ، ووقفنا عند أثر يتعلق بهذا المبحث قلت: سأفصل الكلام عليه بإيجاز في أول هذه الموعظة لننتقل بعد ذلك إلى تقرير هذا الأمر، ألا وهو ارتفاق كل من الزوجين بزوجه بصاحبه وبأهل زوجه وقراباته.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أنه إذا كان الزواج ضرورياً لكل من الصنفين الذكر والأنثى فإن الذكر إذا لم يكن معه زوجة فهو مسكين، وهكذا المرأة إذا لم يكن عندها زوج فهي مسكينة، وقلت: هذا الكلام أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا إخوتي الكرام أن الحديث مروي في معجم الطبراني الأوسط، وقلت: إنه في مجمع الزوائد (4/252)، لكنه مرسل كما تقدم معنا فهو من رواية أبي نجيح ، وتقدم معنا أنه من أئمة التابعين الكرام الطيبين وهو يسار والد عبد الله بن نجيح ، وتوفي سنة (109هـ)، وحديثه كما تقدم معنا في صحيح مسلم والسنن الأربع إلا سنن ابن ماجه ، وهو من العلماء الربانيين والأئمة المهتدين، ثقة، عدل، إمام رضا، كما نص على ذلك أئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، فالحديث من رواية أبي نجيح يسار عن نبينا المختار عليه الصلاة والسلام أنه قال: (مسكين مسكين مسكين، رجل لا زوجة له وإن كان كثير المال، مسكينة مسكينة مسكينة، امرأة لا زوج لها وإن كانت كثيرة المال)، تقدم معنا هذا وقلت: إسناد الأثر رجاله ثقات، لكنه مرسل، وله شواهد كثيرة تدل على صحة معناه.

وقلت إخوتي الكرام: إن بعض أئمتنا ومنهم ابن تيمية وغيره رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين كأنه توقف في هذا الأثر، فالإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في مكانين (12/125)، (12/380) يقول: لم أجده مروياً عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يثبت، وتقدم معنا أنه مروي وهو ثابت لكن بإسناد مرسل، والإسناد كما تقدم معنا صحيح ورجاله ثقات، ولهذا الأثر شواهد كثيرة وأن الإنسان إذا لم يكن عنده زوجة فهو مسكين فقير، ثبت في صحيح مسلم وغيره: أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقال له: ألسنا من فقراء المهاجرين الذين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم؟ يعني: بخمسمائة سنة، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] ، ويدخل فقراء هذه الأمة الجنة قبل أغنيائها بنصف يوم بخمسمائة سنة.

ألسنا من فقراء المهاجرين الذين يدخلون الجنة قبل الأولياء بخمسمائة سنة؟ فقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين: ألك زوجة تأوي إليها؟ قال: نعم عندي زوجة، فقال له: ألك بيت تسكن؟ قال: نعم عندي بيت أسكن، قال: سبحان الله، فأنت من الأغنياء.

أي: إذا كان عندك زوجة وملكت بيتاً فأنت من الأغنياء.

فقال الرجل: عندي خادم يخدمني، قال: سبحان الله! أنت من الملوك، وتريد أن تكون من الفقراء الذين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وكان الرجل في بني إسرائيل يسمى ملكاً إذا كان عنده زوجة، وبيت يسكنه، وخادم يخدمه، كما قال الله جل وعلا مشيراً إلى هذا في سورة المائدة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20] ، (جعلكم ملوكاً) أي: جعلكم تتمتعون بهذه الأمور الثلاثة: الواحد منكم مزوج محصن، وعنده بيت يأوي إليه ويسكنه ويستره، ثم عنده خادم يخدمه، هذه صفات من؟ ليست صفات الأغنياء، بل هذه صفات الملوك، وهنا كذلك قال: فأنت من الملوك.

فإذاً: هذه من الحاجات الضرورية أن يكون للرجل امرأة يأوي إليها، وأن يكون للمرأة رجل تأوي إليه، ولذلك مسكين مسكين مسكين رجل ليس له امرأة وإن كان كثير المال، هذا كما تقدم معنا إخوتي الكرام مروي عن نبينا عليه الصلاة والسلام بسند صحيح رجال ثقات لكنه مرسل من رواية أبي نجيح يسار المكي رضي الله عنه وعن أئمتنا أجمعين.

إخوتي الكرام! عند لفظ المسكنة هنا (مسكين مسكين مسكين)، المراد من المسكنة التوجع لهذا الإنسان، والترحم له، يعني من لم يكن عنده زوجة فحقيقةً ينبغي للإنسان أن يعطف عليه، أن يترحم عليه، أن يساعده، أن يرثي لحاله، فهذا يحتاج إلى مساعدة، وهكذا إذا لم يكن عند المرأة رجل تأوي إليه، فكأن كل واحد منهما إذا لم يحصل زوجه وقرينه فقد نقصه بعض حاجاته الضرورية.

وعند هذا المبحث، ألا وهو لفظ المسكين، قلت إخوتي الكرام: إن أئمتنا فرقوا بين المسكين والفقير، والأقوال في ذلك تعددت وكثرت، وأوصلها الإمام القرطبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا إلى تسعة أقوال (8/169) في تفسير قول ربنا جل وعلا: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، وكما قلت: إنها تسعة أقوال سأذكر ثلاثةً منها:

أولها: وهو الذي ذهب إليه فقيه هذه الأمة سيدنا الإمام أبو حنيفة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقال بهذا جم غفير من علماء اللغة والتفسير منهم الإمام ابن السكيت ، ومنهم الإمام ابن قتيبة عليهم جميعاً رحمة الله: أن المسكين أسوأ حالاً من الفقير، وأشد ضراً من الفقير، فالمسكين هو الذي يلازم السكون؛ لأنه ليس عنده شيء يكون، أي: ما عنده شيء يقوم به في سد حاجاته، والفقير عنده شيء لكن لا يكفي حاجته، وأما المسكين فما عنده شيء، إذاً ماذا يملك؟ يملك التراب فقط، ويأوي إليه، وقد أشار الله إلى هذا في سورة البلد، فقال جل وعلا: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد:11-14] وهو الجوع والشدة، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:15-16] ، المسكين هنا وصفه بأنه صاحب التراب، لصق بالتراب، ولا يوجد بينه وبين التراب حاجز وواق وساتر، فهو ملتصق به، جالس عليه، وقال أئمتنا: هو المطروح في الطريق على التراب.

يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:15-16] ، فهذا قد التصق بالتراب، فإذاً لا يملك شيئاً، وأما الفقير فيملك شيئاً لكنه لا يكفيه، ولا يسد حاجته، وأما المسكين فلا يملك شيئاً، مأخوذ من السكون؛ لأنه لعدم وجود شيء عنده يسد شيئاً من حاجته صار كأنه ميت ساكن لا يتحرك، ما عنده إلا التراب، والتراب يملكه كل أحد.

القول الثاني: ذهب الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقال بقوله كثير أيضاً من أئمة اللغة منهم الإمام الأصمعي وبعض المفسرين قالوا: إن الفقير أسوأ حالاً من المسكين، وأشد ضراً منه، فالفقير مفقور، نزعت فقره من ظهره من شدة فقره، وإذا نزع فقار الظهر لا يستطيع الإنسان أن يتحرك، لا يستطيع أن يقوم، ولا يستطيع أن يقعد، فإذاً الفقير سمي بذلك لأنه مفقور، أي: نزعت فقر ظهره من شدة فقره، أي: هو من شدة فقره لا يستطيع أن يتحرك، فهو أسوأ من المسكين، وعليه المسكين عنده شيء لا يكفي حاجته، والفقير ما عنده شيء مطلقاً، بعكس القوي الأول، وكل من القولين معتبر.

والقول الثالث: قال به الإمام الشافعي أيضاً، ويظهر من كلام القرطبي أنه يميل إليه، وهو: أن المسكين والفقير بمعنىً واحد، كل منهما حاجته شديدة، لكن إذا لاحظت وصف السكون في الفقير فتقول عنه: مسكين، وإذا لاحظت أيضاً وصف هذه الحالة التي فيه كأنه نزعت فقر ظهره فلا يستطيع أن يتحرك أيضاً تقول عنه: فقير، فهما لفظان مدلولهما واحد، كل منهما محتاج، وحاجة كل واحد منهما ضرورية شديدة، هذا قول آخر في ذلك.

والذي يظهر والعلم عند الله ما قاله الإمام أبو حنيفة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، فيقدم على الأقوال التي بعده، وأما من ضعف قوله بقول ربنا جل وعلا: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] ، فقال: إذاً يملكون سفينة وسماهم الله مساكين، فقال أئمتنا: ليس في الآية دلالة لا من قريب ولا بعيد على ملكهم للسفينة، فقد تكون هذه السفينة مستأجرة، وقد تكون مستعارة، وقد وقد، فأين الدلالة على أنهم يملكونها؟ وقد يعملون فيها بأجرة مع أن فيهم هذه الصفة، وهي المسكنة، وإذا أخذت منهم فسيعاقبون من قبل سيدهم ومالكهم أو مؤجرهم، والعلم عند الله جل وعلا.

على كل حال هذان اللفظان كل منهما يدل على حاجة، أي منهما أشد؟ العلم عند الله جل وعلا، وأئمتنا يقولون: لفظ الفقير إذا أطلق يدخل فيه المسكين، ولفظ المسكين إذا أطلق يدخل فيه الفقير، لكن إذا اجتمعا فكل واحد منهما له دلالة على حسب بعض الأقوال التي تقدمت معنا، ولذلك يقول بعض أئمتنا: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا اجتمعا مع بعضهما (فقير ومسكين) افترقا في الدلالة، هذا أشد أو هذا أشد، كما تقدم معنا بحث هذا في أقوال أئمتنا، وإذا افترقا فوجد واحد منهما فيدخل فيه الآخر، والعلم عند الله جل وعلا.

خلاصة الكلام إخوتي الكرام: أن الذي ليس عنده زوجة مسكين فقد حاجةً ضروريةً هو محتاج إليها، والتي ليس عندها زوج تأوي إليه مسكينة فقيرة فقدت حاجةً ضرورية لازمةً لها، والعلم عند الله جل وعلا.

هذا المعنى إخوتي الكرام ألا وهو ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل زوجه وقراباته، أشار إليه ربنا جل وعلا أيضاً في غير الآية المتقدمة إلى ذلك في آيات كثيرة من آيات القرآن الكريم، من ذلك آية الروم، وفيها يقول ربنا الحي القيوم سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:20-21].

إذاً: صفة السكن لا تحصل عند كل من الصنفين إلا إذا أوى وآوى إلى قرينه وزوجه وعاش معه.

والمودة هي أتم أنواع الحب، وألطفه، وأعظمه، وهذه المودة ممزوجة برحمة عظيمة برقة من كل صنف نحو الصنف الآخر، أي: من أحد الزوجين نحو الآخر.

وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] ، وإنما قرن الله الرحمة بالود ليبين أن هذا الود الذي بين الزوجين ليس من أجل قضاء الشهوة فقط، ولو كان الود من أجل قضاء الشهوة لزال من الزوجين بعد قضاء الشهوة، أو عند عدم قضائها كما لو كبر أحد الزوجين، إنما في ذلك آية من آيات الله أن كل واحد منهما محتاج إلى صاحبه، كما تقدم معنا في قصة الرجل الحلبي الذي زاد على الثمانين وعندما ماتت زوجه أراد أن يتزوج، حقيقةً لا يجد أنساً في البيت، لا يجد من يدفئه في فراشه، لا يجد من يستأنس به في بيته، وهنا: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] .

إخوتي الكرام! الإمام الرازي الذي توفي سنة (606هـ) عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا له كلام غريب عجيب في تفسير هذه الآية، أذكره إن شاء الله بعد أن أبين صلة هذه الآية بما قبلها وأبين دلالتها على وجه الاختصار، ثم أقرأ عليكم كلامه، وأبين أيضاً فساده بطرق وترتيبات محكمة إن شاء الله، وأنا حقيقةً أعجب غاية العجب لهذا الإمام كيف قرر هذا الكلام في تفسير هذه الآية من كلام ربنا الرحمن، وما أعلم أن أحداً سبقه إلى ذلك، وما علمت أن أحداً بعده قال بقوله، فأذكر لكم كلامه كما قلت بعد أن أبين صلة هذه الآية بما قبلها، ومعناها على وجه الاختصار، ثم بعد ذلك أذكر كلامه وأنقضه وأبين فساده إن شاء الله.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل 3297 استماع
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم 3252 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] 3230 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] 3207 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] 3166 استماع
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً 3152 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] 3121 استماع
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده 3095 استماع
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1] 3005 استماع
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة 2950 استماع