الصلات الشخصية بالعباقرة
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
3 - الصلات الشخصية بالعباقرة
للأستاذ محمد خليفة التونسي
ومهما يكن من شيء فإنه يحق لنا بعد ما قدمنا (الرسالة العدد941) أن نتعبر العقائد سواء أكانت دينية أم سياسية أم فنية أم غير ذلك قيما وخصائص فردية وإن تكن ظواهر اجتماعية، فالدين، مثلا - ووظيفته الهداية والإصلاح - قد يعجز عن إصلاح المفسد وإرشاد الغوي، بل قد يزيدهما فسادا وغواية لأن الدين - ومثله كل عقيدة نوعها - ليس من الإنسان في البيئة التي حولها، أو أنه جانب من صورة هذه النفس، فإسلام النبي محمد صورة نفسه وإسلام عمر صورة نفسه وكذلك إسلام أبي بكر وعلي وخالد ومعاوية ويزيد وأب ذر والحجاج، وكذلك إسلام كل منتسب إلى الإسلام سواء أكان صالحا أم طالحا، كريما أم بخيلا، شجاعا أم جبانا، على اختلاف النفوس في الطبائع والأخلاق والأمزجة والمسالك في مختلف البيئات
فالإسلام مثلا دين واحد من حيث هو نظام معقول، أي من حيث يراه العقل، ولكن صورته التي يمثلها لنا محمد عليه السلام تختلف قليلا أو كثيراً عن الصورة التي يمثلها لنا كل واحد من أصحابه وأتباعه والمنتسبين إليه إلى اليوم، وإن كانوا جميعا مسلمين يسلمون بالمبادئ العامة التي جاء بها الإسلام، وما اختلفت صور إسلام هؤلاء جميعا كل عن الأخريات كما تبدو لكل متأمل إلا لاختلاف طبائعهم وأخلاقهم وأذواقهم وسائر ملكاتهم الخلقية والشعرية والفكرية
كل عقيدة من العقائد، وكل دين من الأديان طبعا - إنما هو نظام واحد من ناحية تعقله ليس غير، ولكنه من ناحية الإحساس والعمل به صور مختلفة متعددة بمقدار المنتمين إليه، وما من سبب لهذا الاختلاف والتعدد إلا اختلاف كل إنسان قليلا أو كثيرا عن الآخرين من حيث الطبائع والأخلاق والأذواق وما إليها اكثر من اختلافهم في الفهوم، وإن كان لاختلافها حظ في اختلاف الصور العقيدية، غير انه حظ ضئيل وقد يكون غير واقع، بل قد تكون العقول متأثرة لا مؤثرة ومسوقة لا سائقة خضوعا للأمزجة والبائع، فلا ترى العقول إلا ما تريها هذه، ولا تعقل إلا كما تشاء لها مما تقدر عليه وتريده وتؤخر ضرب الأمثلة الكثيرة لذلك، وحسبنا هنا مثلا النظر إلى عقيدة القدر لم يكن أحد يؤمن بهذه العقيدة ويتوكل على الله بكل ما في طاقته من توكل اشد من إيمان النبي محمد عليه السلام، ولكننا لا نجد أمراً من الأمور صغيرها وكبيرها عزم عليه قبل البعثة وبعدها إلا دبره فحزم تدبيره وأحكامه وهيأ له وسائله الدنيوية المألوفة كأشد المفكرين للقدر، وما ترك فجوة في خطة إلا حاول سدها بما بين يديه ومن بين يديه كان ليس لهذه الفجوة سداد إلا عمله وعمل من حوله. وما انتوى أمرا إلا أخطر لبصيرته كل احتمالاته، واستعد بكل أهبة في طاقته من الأهب المادية والمعنوية أشد واكثر مما يستعد لمثلها من لا يؤمنون بقوة غيبية بينما الإيمان بهذه العقيدة عند الضعفاء الفارغين يدفعهم ويسوغ لهم أن يحملوا القدر أو المجتمع أو نحو ذلك كل مسئولياتهم وسخافتهم ورذائلهم، كأنما حاولوا وبذلوا كل ما وسعهم من حول وحيلة في سبيل أهدافهم، فحال القدر أو المجتمع أو نحو ذلك بينهم وبين ما إليه يهدفون ولا يقتصر المر في ذلك على العقائد، بل هو عام في كل ما يخضع للإرادة والعواطف والأمزجة كالفنون فالناس جميعا يؤمنون كل الإيمان بان الموت غاية كل إنسان مهما جل أو هان: وكذلك كان المتنبي وأبو العلاء المعري يعرفان، ويريان الناس وهم يتنازعون أعراض الدنيا ويقتتلون عليها.
لا اختلاف على الشاعرين الحكيمين فيما يريان ويعقلان، ولكن هذا ينتهي مما يرى إلى نتيجة تناقض كل المناقضة النتيجة التي ينتهي إليها صاحبه أبو العلاء المعري يرى ذلك فيزهد وييأس ويعدو الناس إلى الزهد واليأس.
يقول: (تجربة الدنيا وأفعالها ...
حثت أخا الزهد على زهده) وله؟ يجيب: (لو عرف الإنسان مقداره ...
لم يفخر المولي على عبده أمس الذي مر على قربه ...
يعجز أهل الأرض عن رده أضحى الذي أجل في سنه ...
مثل الذي عوجل في مهده ولا يبالي الميت في قبره ...
بذمه شيع أم حمده والواحد المفرد في حتفه ...
كالحاشد المكثر من حشده وحالة الباكي لآبائه ...
كحالة الباكي على ولده) ونحو ذلك، مما بين أن أسباب الزهد في الحياة عنده بل السخرية والتهكم بها إلى أن الفناء مصير كل خير وشرن، وحسن وقبيح (زحل أشرف الكواكب طرا ...
من لقاء الردى على ميعاد ولنار المريخ من حدثان الد ...
هر مطف وإن علت في اتقاد واللبيب اللبيب من ليس يغتر ...
يكون مصيره للفساد) وكذلك (سيسأل قوم من قريش ومكة ...
كما قال قوم من جديس ومن طسم) فكل عمل يقوم به الإنسان جهد ضائع يتلوه جهد ضائع لا يستحق الأسف (تعب كلها الحياة فما أع ...
جب إلا من راغب في زدياد أسف غير نافع واجتهاد ...
لا يؤدى إلى غناء واجتهاد) إلى مئات الأبيات في هذا المعنى ونحوه والأسباب واحدة والنتيجة واحدة والمتنبي يرى ما يرى، ومن السباب التي يستنتج منها المعري وجوب الزهد ويستنتج هو وجوب الإقبال على الحياة والانغماس في معاركها على قدر الطاقة.
فيقول: (وإذا غامرت في شرف مروم ...
فلا تقنع بما دون النجوم) ولماذا؟ (فطعم الموت في أمر حقير ...
كطعم الموت في أمر عظيم) ويقول: (صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ...
وعناهم من شأنه ما عانا وتولوا الناس قبلنا كلهم من ...
هـ، وإن سر بعضهم أحيانا ربما تحسن الصنيع ليالي ...
هـ ولكن تكدر الإحسان) وليس الإنسان ضحية شرور القدر وحده، بل ضحية شرور أخيه الإنسان أيضاً، واتخاذه من كل وسيلة للخير وسيلة للشر (وكأنا لم يرض فينا بريب الد ...
هر حتى أعانه من أعانا كلما اثبت الزمان قناة ...
ركب المرء في القناة سنانا) وهل المغنم الذي يجتنيه الإنسان من وراء كل ذلك يستحقه هذا العناء؟ ولا، والمتنبي لنا ذلك (ومراد النفوس أصغر من أن ...
نتعادى فيه وان نتفانى) وإذن أفتزهد في هذا الصغار أيها الحكيم؟ ذلك ما ينكره المتنبي اشد الإنكار، ويحرمه كل التحريم، ويعتده كفرا: (غير أن الفتى يلاقي المنايا ...
كالحات ولا يلاقي الهوانا ولو أن الحياة تبقى الحي ...
لعددنا أضلنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بد=فمن العجز أن تكون جبانا) وماذا من العذابات التي نلقاها من مخاوف الموت ووقعه؟ لا داعي للتردد حيالها فهذه أوهام: (كل ما لم يكن من الصعب في الأن ...
فس سهل فيها إذا هو كانا) أو كما قال في موضع آخر: (فما الخوف إلا ما تخوفه الفتى ...
ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا) أو كقوله في غيره: (والأسنى قبل فرقة الروح عجز ...
والأسى لا يكون بعد الفراق) ويكرر المتنبي ذكر الأسباب نفسها في عشرات المواضع من ديوانه، وينتهي إلى هذه النتيجة نفسها كقوله: لو فكر العاشق في منتهى ...
حسن الذي يسبيه لم يسبه يموت راعي الضأن في جهله ...
موتة جالينوس في طبه وربما زاد على عمره ...
وزاد في الأمن على سربه وغاية المفرط في سلمه ...
كغاية المفرط في حربه) وما نتيجة ذلك أيها المتنبي؟ فلا قضى حاجته طالب ...
فؤاده يخفق من رعبه. وإذا فليست الغيرة في الحياة بما نرى وما نريد أو لا نريد، ولكن الغيرة بالدوافع والأمزجة فهي التي تحدد المذهب والإحساس والنظر، والمعري والمتنبي كلاهما صادقان فيما يحسان وما يقولان، وكل منهما في كل ما يقول وفي لمزاجه، وفي لمذهبه ودوافعه في الحياة، فلا تناقض بينهما في منطق العواطف، وإن تناقضا في النظر العقلي المجرد، وإذا كان المنطق العقلي المجرد لا يحتمل أكثر من نتيجة واحدة ومذهب واحد إذا تحدث الأسباب؛ فإن منطق العواطف يتسع لملايين الملاين من النتائج والمذاهب المتناقضة بقدر عدد النفوس العاطفة، ومنطق العواطف أصدق من كل هذا التناقض من كل منطق عقلي مجرد ولو كان أحكم الحكماء والناس جميعاً في ذلك على نحو المعري والمتنبي كما يظهر من دراسة أحوالهم في كل زمان ومكان. فيقول طرفة بن العبد على نحو قريب من نحو المتنبي لمن لامه في المغامرة بنفسه في الحرب والإسراف في اللذات (ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ...
وإن اشهد اللذات هل أنت مخلدي إذا كنت لا تستطيع دفع منيتي ...
فدعني أبادرها بما ملكت يدي) كما يقول أبو العتاهية على نحو قريب من نحو المعري: (لدوا للموت وابنوا للخراب ...
فكلكمو يصير إلى ذهاب) أو قوله: (أيلهو ويلعب من نفسه ...
تموت ومنزله يخرب) أو قوله: (بين عيني كل حي ...
علم الموت يلوح كلنا في غفلة والم ...
وت يغدو ويروح نح على نفسك يا مس ...
كين إن كنت تنوح لنموتن وإن عم ...
رت ما عمر نوح) أو كقوله: (ألم تر ريب الدهر في كل ساعة ...
له عارض فيه المنية تلمع أيا باني الدنيا لغيرك تبتني ...
ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع أرى المرء وثابا على كل فرصة ...
وللموت يوما - لا محالة مصرع) وحب النفس مثل آخر لما يتصل بالطبائع والأخلاق والعواطف، فهل يتأدى بنا جميعا إلى مذهب واحد؟ لا، بل يذهب بالناس مذهبين كل منهما يناقض الأخر كل المناقضة، والأمر فيه كالأمر في القدر، وموقف الإنسان من الحياة، ويلخص لنا المتنبي هذين المذهبين من وراء حب النفس تلخيصا حكيما، ويمهد له، ويعقب عليه، فيقول: (أرى كلنا ينبغي الحياة لنفسه ...
حريصا عليها مستهاما بها صبا فحب الجبان النفس أورده البقا ...
وحب الشجاع أورده الحربا ويختلف الرزقان، والفعل واحد ...
إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنيا) وأذكر أني قرأت قصة أوربي لا يحضرني الآن أسمه ولا اسم قصته.
.
تدور حول قسيس رأى امرأة تزل أحيانا، ففكر أن يهديها، وارتحل إلى إيطاليا في أمر وفكر في هدية يهديها إليها بعد عودته، فلم يجد امرأة ميتة، ففرح بها إيمانا منه بأن رؤيتها الجمجمة تذكرها بالموت فترتدع عن غيها، ولكن ما إن سلم إليها الهدية الثمينة حتى رآها تغرق في الفساد وتزداد ضلالا وغواية، وعجب من ذلك إذ رأى من مسلكها عكس ما كان يرجو، فلما سألها عن ذلك أعلمته أن رؤيتها الهدية قبلها تفارقها دون أن تنغمس فيها.
.
ذلك أنها فكرت فانتهت إلى أنه ما دام مصيرها كمصير هذه الجمجمة فأحر بها إلا تحرم نفسها إرضاء شهوة من الشهوات، وهذه دون شك نتيجة لا تزيد غرابة عن النتيجة التي كان ينتظرها القسيس الأريب وهي تعففها عن الشهوات.
نتيجتان ليست إحداهما بأرجح من الأخرى.
.
ولا أدنى إلى العاطفة والعقل، لأن العبرة في أعمال الإنسان بدوافع حياته وطبيعته ومزاجه وحاجاته وشهواته، لا بعقله ولا بمذهبه الديني والسياسي ولا بما يسره أو يسوءه، فما دينه ولا وطنيته ولا عواطفه ولا أقواله وأعماله وآراؤه إلا صورة نفسه، وكلها معلومات وكلها حتى دينه إنما منزلتها بمنزلة الإناء الصافي من الشراب لا يتلون إلا بلونه، ولا ينضح إلا به محمد خليفة التونسي