أرشيف المقالات

الدين والسلوك الإنساني

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
للأستاذ عمر حليق - 5 - النتائج الاجتماعية للاختبار الديني ليس التاريخ الديني إلا تاريخ الصراع الناجح الذي توصل فيه الإنسان إلى الانفعالات النفسانية والطمأنينة الروحية التي اختبرها في امتثاله لتعاليم الأديان على حد قول (جورج سميل) الفيلسوف الاجتماعي الألماني. حاول سميل ومفكر بريطاني آخر أن يتلمسا أوجه الشبه بين النظم الروحية وبين النشاط الفكري الذي يحمل في ثناياه متعاً روحية كالفن والشعر والأدب الرفيع وفلسفة التشريع والعلوم المادية. وليس يعنينا في هذا البحث استعراض أوجه الشبه هذه وإنما لفتنا النظر إليها لبيان ما تنطوي عليه معارضة بعض المثقفين المحدثين من الذين نفروا من الحياة الدينية واستعاضوا عنها بالفن والمتعة الروحية المستمدة منه ومن فلسفة التشريع والعلوم الطبيعية. ولعلنا نوفي هذا الاستعراض حقه إذا حاولنا التعرف على حقيقة الاختبار الديني والمسالك العاطفية والنفسانية التي ينتهجها. يحلو لبعض الناس ومنهم الصوفية والمنقطعون إلى العبادة أن ينادوا بأن الدين في أصوله ليس إلا تأملات في النفس وخالقها وفي النظام الكوني.
ويقول الدنيويون من خصوم الحياة الدينية إن الأديان وليدة التأمل في الخليقة وبارئها؛ وعليه يجب ألا تتعدى حدود التأمل والعبادة. ومثل هذا الوصف لا يعطي إلا صورة مشوهة عن وظيفة الدين وحقيقة الاختبار الديني. ولقد رأينا كيف حاول (دير كهايم) أن يجيب عن التساؤل الذي شغل الناس في الغرب منذ قرون وهو.
هل تسبق العقيدة الاختبار الديني، أم أن ذلك الاختبار هو الذي يساعد على رسوخ العقيدة في نفسية المؤمن؟ وهل الطقوس الدينية مستمدة من العقيدة، أم الصواب عكس ذلك؟ فكان الجواب أن هنالك تواكلاً بين العقيدة والاختبار الديني المعبر عنها.
فهما عنصران يكونان حلقة واحدة؛ فالتساؤل عن إيضاحها كالتساؤل المنطقي القديم (من يأتي أولاً؟ الدجاجة أم البيضة)؟ وحاول مفكر ألماني شهير أن يضع لهذا التساؤل حداً يرد به على الدنيويون فقال: إن الاختبار الديني هو في الواقع مزيج من الإدراك العقلي والشعور النفساني (السيكولوجي) وليس المهم أن نحدد أيهما يسبق الآخر، وإنما المهم أن نقرر بأن الاختبار الديني سلوك يدور في نطاق هاتين الحقيقتين. وأخذ كاتب ألماني آخر هذا الجواب وبنى عليه بحثاً جعله في ثلاثة أبواب: - (1) العقيدة والاختبار الديني. (2) الطقوس والاختبار الديني. (3) النتائج الاجتماعية للاختبار الديني. وسنعتمد إلى حد بعيد على هذا التقسيم في هذا الفصل من دراستنا. العقيدة يقول (لاوي بروهل) في دراسته الشهيرة إن الأسطورة أو الخرافة التي تتعلق بها المجتمعات البدائية تتطور فتصبح عقيدة عند المجتمعات المتحضرة.
وللأساطير لغتها المنطقية الخاصة.
والأساطير التي تتعلق بالآلهة عند المجتمعات البدائية تتفرع وتتشعب ولكنها تتحد في الجوهر.
وحين يأخذ المجتمع البدائي بأسباب الحضارة تتقلص أنواع أساطيره ويندثر بعضها لتفسح الطريق أمام ملحمة محبوكة الأجزاء.
ويلعب التطور الفكري والنمو العقلي دوره الكبير في خلق هذه الملحمة مطهرة من الأدران والسخافات التي لا يدرك الفكر البدائي سذاجتها.
ويصاحب هذا النمو العقلي عادة ترتكز السلطة الروحية التي تعبر عنها هذه الملحمة في يد الكهنة وخدام الآلهة والهياكل المقدسة وفي هذه المركزية تصاغ الرموز والتعبيرات الدينية وتصبح هذه الرموز (التي كانت فيما قبل شفهية تتناقل بالرواية) سجلاً للجماعة التي تؤمن بها وتمتثل لتعاليمها.
ويقوم الكهنة جيلاً بعد جيل بشرح هذا السجل وإحاطته بهالة من المنطق والرشاد، ومن ثم ينشأ علم اللاهوت ونظام الكهنوت. ويبقى هذا التراث المسجل وقفاً على الكهنة وأعوانهم بينما يكتفي الأتباع بمعرفة الخطوط الرئيسية لهذا التراث المسجل. والعقيدة التي تنشأ على هذا المنوال لا تتحمل تفنيداً ولا تتعرض للنمو الصحي؛ وإنما تظل منطوية على كثير من الهراء والسفسطة والزيغ الذي لا يقبله العقل السليم. وعلى مبلغ صدق العقيدة وصحة ألوهيتها تتوقف سماحة الدين.
فالعقيدة التي تظل محصورة في يد الكهنوت تعجز عن ممشاة التقدم الفكري والرقي العقلي للفرد وللجماعة. أما العقيدة الإلهية الصادقة التي لم تنشأ عن الأساطير والخرافات وإنما نشأت عن وحي من الإله العلي العظيم ورسله المختارين فلا يجد الجدل إلى جوهرها سبيلاً.
فهي ليست وقفاً على طائفة من الكهنة ولا هي نظام إداري تنحصر وراثته في نفر معين من الأتباع؛ وإنما هي مشاع بين الناس وتراثها المسجل في متناول الجميع. والإسلام عقيدة أوحى بها الله إلى نبيه المختار ورسوله المصطفى؛ والرسول الكريم لم يكن كاهناً يحتكر المعرفة الدينية وأنما كان مبشراً ونذيراً ويدعو الناس إلى اتباع هذه المثل العليا التي نزل بها الوحي عليه، ويضع القرآن الكريم في يد كل من يستطيع قراءته ومن لا يستطيع.
ولقد يجوز لنا أن نقول كذلك إن نظام الصلاة في الإسلام كما أوحاه الله تعالى إلى رسوله الكريم قد عني به بالإضافة إلى الطهارة الروحية والجسمانية، وحق الخالق على المخلوق بالإضافة غلى هذه الحقائق المجيدة أن يستمع الناس إلى كلمة الله صافية خالية من التأويل والتفسير.
وكأن الباري عز وجل لم يكتف بتجريد الإسلام عن الكهنوت، بل أوصى جل جلاله في طريقة عملية ألا تكون هناك صلات بين العبد وبارئه غير صلات الروح والفكر المستمدة من الإقناع الشخصي. والسنة الإسلامية الموروثة أن يلقن القرآن الكريم للأحداث في سن مبكرة، فينشئوا ولا غموض يكتنف عقيدتهم، ولا هالة تحيط بطقوس دينهم، ولا وساطة بينهم وبين العلي العظيم. والتخصص في دراسة الدين الإسلامي في معاهد العلم لا يفترض مركزية روحية ولا ينطوي على احتكار لعلوم الدين.
وما يقوم به رجال الدين في الإسلام يكاد ينحصر في تذكير العباد بكلمة الله كما نزلت في القرآن الكريم وكما عززتها الأحاديث النبوية واجتهاد الأئمة الصالحين. وكل مستمع إلى خطب الجمع والأعياد يلمس ذلك كله لمساً تاماً.
وكل دارس للتراث الإسلامي في الفقه والتشريع وما إليه يدرك ذلك من أول وهلة. فالأزهر وغيره من معاقل العلوم الدينية لا يخرج كهنه، وإنما يؤهل طلبته انشر الدعوة الإسلامية وشرحها وتوضيحها للفرد وللجماعة الذين عاقتهم شؤون الحياة اليومية عن استذكار التعاليم الدينية وما انطوت عليه من حكم وموعظات. فوظائف رجال الدين في الإسلام على تنوعها لا تتعدى الوعظ والتعليم والإفتاء، وكلها نشاط متمم للثقافة الدينية التي بدأها الحدث المسلم في سنه الباكرة. وقد اتجهت البروتستانتية إلى الاقتداء بالإسلام في هذا المضمار.
والواقع أن البروتستانتية في بعض أسسها الجوهرية لم تكن إلا ثورة على كهنوت الكنيسة وما أحدثه من ديكتاتورية دينية على النحو الذي يعرفه المطلعون على تعاليم لوثر وكالفين وجماعة الموحدين. وخلو الإسلام من سلطة الكهنوت الروحية واهتمامه ببيان العقائد لا ينفي أن أحكامه تستوجب نوعاً آخر يراد به تنظيم السلطة الدينية وموقفها إزاء الفرد والجماعة وتنظيم علاقات الأفراد بعضها ببعض.
فقد شرع الإسلام القصاص في القتل وغير ذلك من الجرائم، وشرع الدية وشرح كثيراً من أحكام الأسرة والمعاملات الشخصية.
ولا يمكن أن يكون شرع هذه الأحكام لمجرد البيان والإرشاد دون الأمر بإقامتها والحكم بها في المحاكم الشرعية، وهي سلطة دينية تستمد وزنها وأحكامها من الشرع والتعاليم الإسلامية، ولكنها مع ذلك بعيدة كل البعد ومغايرة كل المغايرة لسلطة الكهنوت، فلكل فرد من المسلمين الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (والنكوص عنه مع القدرة عليه إثم عظيم) كما قال فضيلة الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية السابق في خلال النقاش عن السلطة الدينية وحقوقها وواجباتها. ولنعد لصلب موضوعنا.
رأينا مع (لاوي بروهل) كيف ينشأ الكهنوت من تركز السلطة الروحية في يد جماعة مختارة من الحافظين لتراث الدين المسجل، وكيف أن هذا الكهنوت بحكم احتكاره للمعرفة الدينية وحقوقها وواجباتها قد وضع ما يعرف في بعض الديانات بعلم (اللاهوت). وحين خرج من قبضة الكهنوت احتكار المعرفة الدينية وأتيح لبعض النابهين من العية التعمق في الدراسة والاستقراء نشأت الفلسفة الدينية وأخذت تجادل الكهنوت في أسرار الدين وتأويلاته وتحليلاته وأحكامه وتفاسيره. ووجد الكهنوت في بعض الحالات أنفسهم في مأزق حرج فلم يكن استعدادهم الفكري ليتحمل هذا النقد؛ وذلك لأن حياة الكهنوت في عزلة عن الحياة اليومية، ولأن اللاهوت الذي وضع الكهنة على مدى الأجيال أسسه ومبادئه كان قد أهمل في كثير من الحالات مراعاة الحقائق الاجتماعية؛ ولذلك فقد وجد الفلاسفة من ورائهم علماء الطبيعة مآخذ على العقيدة الدينية كما يحفظها الكهنة ويبشرون بها ويعرضونها على سلوك الناس.
واشتط الفلاسفة وعلماء الطبيعة في تهجمهم على الكهنة ولاهوتهم في تحيز أفسد عليهم الرشد والنزاهة؛ وأصبحت العقيدة الدينية بفضل هذا الصراع علماً على الإيمان الساذج سذاجة الجهل والتعصب الأعمى الذي تبثه ديكتاتورية الكهنوت في العقول الساذجة والقلوب القلقة نشأت.
ولم تقتصر هذه الوصمة على الأديان التي تطورت من الخرافات والأساطير، وإنما شملت الأديان السماوية التي أوحى بها الله إلى رسله وأنبيائه. وأصبحت الفلسفة ونظرة الطبيعيين إلى الحياة والممات علماً على التحرر الفكر الطليق.
ولكن هذا الانطلاق (كما بينا في مستهل هذا البحث) لم يستطع أن يزعزع الإيمان الصادق أو أن يطوح بالغريزة الدينية والطمأنينة والاستقرار الذي يهيمن على من يختبرون في صدق الحياة الدينية.
وبازدياد الصراع بين العقل والعقيدة الدينية ازدادت البلبلة الفكرية والفوضى الأخلاقية وتعرض المجتمع إلى مشكلات لم تكن الفلسفة ولا العلم الطبيعي مستعدين لمعالجتها. فإذا نشأت في العالم اليوم نزعة إلى التوفيق بين الحياة الروحية والظواهر الطبيعية والحقائق الاجتماعية فما ذلك إلا لأن هذه الأمور جميعها تؤثر في حياة الفرد والمجتمع. وسنحاول في الفصل القادم أن نتعرف جوهر العلاقات بين هذه الأمور متابعين البحث في النتائج الاجتماعية للاختيار الديني ومجارين بذلك هذا الاتجاه الجديد في التفكير العربي الذي أقلقه تطور العلوم الطبيعية التي قطعت صلاتها بالقيم الأخلاقية التي يبشر بها الدين فأنتجت القنابل الذرية والمشاكل النفسانية التي تعبث بمجتمع مفكك الأوصال مشحون بالفوضى والقلق. للبحث صلة نيويورك عمر حليق

شارك الخبر

المرئيات-١