الهجرة النبوية


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

الموضوع الذي سنختاره لهذا الدرس هو موضوع الهجرة النبوية.

وهذه محطة كبرى من محطات تاريخ هذه الأمة، وهذه الدعوة المباركة، فإن الله سبحانه وتعالى أجرى هذا الكون على وفق السنن الماضية عنده، وهي من تدبيره جل وعلا: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

ومن تدبير الله جل وعلا وسننه الماضية أنه لم يأتِ رسول من عند الله إلا قيض الله له أولياء وأنصاراً ينصرونه، ويقومون بدعوته، وقيض له في المقابل أعداءً يعادونه ويناصبون دعوته العداء، ويقفون في وجهها.

وهذا مثال لسنة أخرى وهي سنة التدافع بين الحق والباطل، فقد بنى الله هذه الدنيا لتكون مسرحاً للصراع بين حزبين: هما حزب الله وحزب الشيطان.

فحزب الله يسعى لإعلاء كلمة الله وتعبيد العباد لرب العباد، وتحريرهم من العبودية للأغيار، والتزامهم بمنهج الله جل جلاله، وتحقيقهم لما خلقوا من أجله، وحزب الشيطان يسعى لتحقيق يمين إبليس وتصديقها، فقد أقسم بعزة الله ليغوين أكثر الناس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ[ص:82-83]، وقد بين الله أن يمينه صدقت في أكثر الناس، فقال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ[سبأ:20]، فحزب الله دائماً مستعدون لإعلاء كلمة الله، وباذلون لأرواحهم ومهجاتهم وأوقاتهم، وأفكارهم، ولكل ما يملكون امتثالاً لأمر الله، ووفاء ببيعته فقد أكد الله هذه البيعة في التوراة والإنجيل والقرآن، وبين منزلتها، فقال: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111].

وهذا الصراع لا يتوقف، فلو توقف لحظة واحدة لفسدت الأرض كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]؛ وذلك أنه لو تمحض الحق عليها لاستحق أهل الأرض أن ينقلوا إلى الجنة؛ لأن الدنيا ليست دار قرار، وحكمة الله فيها العمل، فهي دار عمل ولا جزاء، ولو تمحض الباطل على الأرض كذلك فلم يبقَ للحق دفع، لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته وغضبه، فلذلك كان من سنة الله بقاء هذا التدافع والصراع، فما من نبي من أنبياء الله إلا وجعل الله له عدواً من أكابر مجرمي أهل الأرض ومن الملأ فيها، وجعل له أولياء من المستضعفين، وتلك حكمة ربانية أخرى؛ ليبين الله أن الانتصار ليس بالوسائل المادية ولا بالعُدد ولا بالعَدد، وإنما هو من عند الله: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[آل عمران:126].

نصر الله للحق المتمثل برسول الله على الباطل

إن من نصره الله لا بد أن ينتصر، ورسولنا صلى الله عليه وسلم بعثه الله مقفياً لما سبق من الرسل، ومصدقاً لما بين يديه من الحق، ونصره الله نصراً من عنده ليس راجعاً إلى عدد ولا عدة؛ ولذلك فإن أباه توفي وهو حمل، وأمه توفيت وهو ابن أربع سنين، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره، وتوفي عمه الذي كان يدافع عنه في وقت شدة الحاجة إليه، ولم يكن له أخ ولا أخت، ومات أولاده صغاراً لم يبلغوا الحلم حتى يدافعوا عنه، فكان نصره العظيم الذي نصره الله به نصراً مبيناً لم يعلم الثقلان مثله من عند الله مباشرة ليس لأحد فيه منة ولا يد، وهذا النصر العظيم الذي نصره الله به لا بد أن يمر بآثار المرسلين من قبله، فالمرسلون جميعاً من سنة الله أن يواجهوا وأن يعادوا؛ ولذلك قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية له عما يسمع ومما يواجه: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ[فصلت:43]، فكل هذا قد قيل للرسل من قبلك، وما أرسل الله رسولاً قط، إلا قال له الناس: كذاب، مجنون، ساحر، كاهن، طالب سلطة، ولذلك قال الله تعالى: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[الذاريات:53].

وجود سنة الصراع بين الحق والباطل في الكتب السابقة

وهذه السنة الماضية هي موجودة في الكتب السابقة أيضاً قبل القرآن، ولذلك عرفها ورقة بن نوفل لما أتته خديجة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الوحي إليه، قال: (نعم، إنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً).

فبين أنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جاء به إلا عودي، وقال: (ليتني أكون حياً إذا يخرجك قومك، فقال: أومخرجي هم؟)، فهذه سنة معروفة في الكتب السابقة.

ولذلك فإن نوحاً عليه السلام آذاه قومه فصبر على الأذى ألف سنة إلا خمسين عاماً، وإبراهيم عليه السلام تألب عليه الملأ من قومه -ومنهم أبوه- ورموه في النار، ومع ذلك هاجر عن بلاده، فكانت هجرته سنة للأنبياء من بعده.

وهجرتهم أنواع: فمنها ما يكون ناشئاً عن شدة الضرر بأصحابهم والألم الذي يلحق بهم.

ومنها: النذارة، وذلك بأن يبلغوا أن العذاب قد حل على أقوامهم وأنه لا يرفع عنهم إلا بوجودهم بين ظهرانيهم، كما أخبر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في شأن أهل مكة: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ[الأنفال:33].

فوجود النبي بين ظهراني قومه يرفع البلاء عنهم ما دام بينهم، وما من قوم خرج عنهم نبيهم فظهر لهم العذاب فرجع بعد ما ظهر إلا قوم يونس وحدهم، فإن الله سبحانه وتعالى رفع عنهم البلاء بعد أن رأوه وشاهدوه.

إن من نصره الله لا بد أن ينتصر، ورسولنا صلى الله عليه وسلم بعثه الله مقفياً لما سبق من الرسل، ومصدقاً لما بين يديه من الحق، ونصره الله نصراً من عنده ليس راجعاً إلى عدد ولا عدة؛ ولذلك فإن أباه توفي وهو حمل، وأمه توفيت وهو ابن أربع سنين، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره، وتوفي عمه الذي كان يدافع عنه في وقت شدة الحاجة إليه، ولم يكن له أخ ولا أخت، ومات أولاده صغاراً لم يبلغوا الحلم حتى يدافعوا عنه، فكان نصره العظيم الذي نصره الله به نصراً مبيناً لم يعلم الثقلان مثله من عند الله مباشرة ليس لأحد فيه منة ولا يد، وهذا النصر العظيم الذي نصره الله به لا بد أن يمر بآثار المرسلين من قبله، فالمرسلون جميعاً من سنة الله أن يواجهوا وأن يعادوا؛ ولذلك قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية له عما يسمع ومما يواجه: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ[فصلت:43]، فكل هذا قد قيل للرسل من قبلك، وما أرسل الله رسولاً قط، إلا قال له الناس: كذاب، مجنون، ساحر، كاهن، طالب سلطة، ولذلك قال الله تعالى: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[الذاريات:53].

وهذه السنة الماضية هي موجودة في الكتب السابقة أيضاً قبل القرآن، ولذلك عرفها ورقة بن نوفل لما أتته خديجة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الوحي إليه، قال: (نعم، إنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً).

فبين أنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جاء به إلا عودي، وقال: (ليتني أكون حياً إذا يخرجك قومك، فقال: أومخرجي هم؟)، فهذه سنة معروفة في الكتب السابقة.

ولذلك فإن نوحاً عليه السلام آذاه قومه فصبر على الأذى ألف سنة إلا خمسين عاماً، وإبراهيم عليه السلام تألب عليه الملأ من قومه -ومنهم أبوه- ورموه في النار، ومع ذلك هاجر عن بلاده، فكانت هجرته سنة للأنبياء من بعده.

وهجرتهم أنواع: فمنها ما يكون ناشئاً عن شدة الضرر بأصحابهم والألم الذي يلحق بهم.

ومنها: النذارة، وذلك بأن يبلغوا أن العذاب قد حل على أقوامهم وأنه لا يرفع عنهم إلا بوجودهم بين ظهرانيهم، كما أخبر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في شأن أهل مكة: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ[الأنفال:33].

فوجود النبي بين ظهراني قومه يرفع البلاء عنهم ما دام بينهم، وما من قوم خرج عنهم نبيهم فظهر لهم العذاب فرجع بعد ما ظهر إلا قوم يونس وحدهم، فإن الله سبحانه وتعالى رفع عنهم البلاء بعد أن رأوه وشاهدوه.

الرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة بمكة بعد بعثته يدعو إلى الله، فمكث ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، وهذا الطور هو طور الدعوة السرية التي بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الوقت قسم الذين التحقوا به إلى ثلاثة أقسام:

من يصلح لتحمل المسئولية دون أي عوائق

القسم الأول: الذين يصلحون للعمل وتحمل المسئوليات، وليست لديهم عوائق في أنفسهم ولا في المجتمع من حولهم، ويمكن أن يتفهموا هذه الدعوة بكل تفاصيلها، وهم مستعدون لتحمل الأعباء والمشاق في سبيلها، وليس لديهم عقب المجتمع ولا ما كان عليه من عبية الجاهلية، وهؤلاء قبل التحاقهم به جعلهم في دار الأرقم كونهم تكويناً مختلفاً عما كان عليه أهل مكة، وتربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية غيرت حياتهم بالكلية.

من يصلح لتحمل المسئولية مع وجود عوائق في المجتمع من حولهم

والقسم الثاني: الذين يتحملون الأعباء وهم مستعدون لتحمل هذا الدين، ولتحمل تبعاته وليست لديهم عوائق في أنفسهم ولكن لديهم عوائق في المجتمع من حولهم لتعلق المجتمع بهم، ولانشغالهم ببعض الأمور والمهن التي لها علاقة بالمجتمع، فلا يمكن أن يدخلوا في ذلك الطور السري من أطوار الدعوة، وهؤلاء جعل لهم داراً أخرى، هي دار سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقد هيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الدارين تهييئاً عجيباً، فالدار الأولى: دار الأرقم بن أبي الأرقم وهو شاب من بني مخزوم ليس له كثير من العيال، وهي على الصفا، وبنو مخزوم كانوا أعداء بني هاشم في الجاهلية، فقريش في الجاهلية قد اختلفوا على حرب الفجار فكانوا حلفين: الحلف الأول يسمى: حلف المطيبين، وسادتهم بنو هاشم، والحلف الثاني يسمى: حلف لعقة الدم، وسادتهم بنو مخزوم وبني عدي، فهذه الدار ليست للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من بني هاشم، ولا لأحد من بني المطلب من بني عمه، ولا لأحد من حلف المطيبين، وإنما هي لشاب من بني مخزوم من حلف لعقة الدم.

ثم لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة، كان سادة بني مخزوم من الذين ناصبوه العداء كـالوليد بن المغيرة وابن أخيه عمرو بن هشام بن المغيرة الذي يسمى بـأبي جهل ، كانا من أشهر أعداء هذه الدعوة في بداية نشأتها؛ فلذلك اختار داراً لشاب منهم من بني مخزوم، والدار الثانية كذلك هي لشاب من بني عدي بن كعب، وهم أيضاً من حلف لعقة الدم كما ذكرنا، وهو قريب لـعمر بن الخطاب ، وكان من أشد أعداء الدعوة إذ ذاك في بدايتها، وفي الدار أخته فاطمة بنت الخطاب وهي زوجة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، ودار الأرقم كانت مناسبة للاختفاء والإسرار؛ لأنها كانت على الصفا فلا يستغرب أن يخرج منها أحد في أية ساعة من ليل أو نهار أو أن يدخل إليها، ولا يستغرب أن يأتيها الرجال والشباب والنساء والكبار والصغار؛ لأنه إذا رأى إنسان من يتابعه أو ينظر إليه فيرتاب منه واصل سيره كأنه يسعى بين الصفا والمروة، والناس يسعون بين الصفا والمروة في جميع ساعات الليل والنهار، كما في الحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً أراد أن يطوف بهذا البيت بأية ساعة من ليل أو نهار).

وهذا القسم تعددت العوائق التي فيهم، منها: مثلاً تعلق المجتمع بهم، فمنهم: عبد الله بن مسعود وكان راعياً يرعى الغنم، فلو أضل قوم شاة من الليل وجاءوا يطلبون ابن مسعود فوجدوه في دار الأرقم لاكتشف هذا العمل.

ومنهم كذلك عمار بن ياسر وكان أيضاً تاجراً يبيع للناس حوائجهم، فلو جاء قوم يطلبون حاجة من الحاجات التي يطلبها الناس في كل الساعات ووجدوا عماراً في دار الأرقم لاكتشف العمل.

ومنهم أيضاً: خباب بن الأرت وكان حداداً يصلح للناس الأبواب والنوافذ، فلو جاء قوم يطلبونه من الليل فوجدوه في دار الأرقم لاكتشف العمل، فجعل لهم داراً مستقلة، ومع ذلك لم يكونوا أقل شأناً من الذين في دار الأرقم، بل كان في ميزان حسناتهم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

من يصلح لتحمل المسئولية مع وجود عوائق في أنفسهم

والقسم الثالث: الذين لديهم عوائق في أنفسهم، ومن أمثلة هؤلاء: أبو ذر رضي الله عنه، فـأبو ذر من أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل قد قال فيه: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر )، ولكنه كان صاحب علانية فلا يتحمل كتمان السر، وكانت تلك المرحلة تقتضي كتماناً وحصافة، وقد حدثنا بقصة إسلامه كما في الصحيحين، فذكر: (أنه لم يزل يأتيه خبر مبعث رجل بمكة، فلما كثر عليه ذلك أرسل أخاه فقال: ائتني بجلية هذا الأمر، فذهب إلى مكة فأتاه فقال: وجدته والناس فيه مختلفون بين مصدق له ومكذب، وقومه عليه جرآء، فقال: لم تشفِ لي غليلاً، قال: فقعدت على راحلتي فأتيت مكة، فاستقبلني الملأ من قريش، فقالوا: لعلك غريب بهذا الوادي، فقلت: أجل، فقالوا: فإن به ساحراً هو أسحر خلق الله، فاحذر أن تسمع شيئاً من كلامه لا يسحرك، فحوشت أذني خشية أن أسمع شيئاً من كلامه)، فتلاحظون هنا سرعة تأثره واستجابته للدعاية المغرضة التي دعا بها الملأ من قريش، وهذا يدلنا على ما يتعلق بشخصيته هو واستعجاله، وليس هذا نقصاً في دينه ولا مستواه في الإيمان، وإنما هو مما فطر الله عليه الناس، فالناس مفطورون بفطرة الله، منهم الطويل، ومنهم القصير، ومنهم صاحب استعجال، ومنهم من هو صاحب حصافة، وليس ذلك راجعاً إلى نقص في الدين ولا إلى نقص في الخلق.

قال: (فجلست عند الكعبة فأتاني علي بن أبي طالب وهو يومئذٍ شاب صغير، فقال: لعلك غريب بهذا الوادي؟ قلت: أجل، قال: فهل لك فيمن يضيفك؟ قلت: وددت ذلك، فقال: اتبعني)، فـعلي لم يأخذه معه، بل قال: اتبعني، فكان علي يسير في ظلال الجدران، وأبو ذر يتبعه، فإذا رأى من ينظر إليه تشاغل علي بإصلاح نعله، لئلا يعرف أين يذهب به، (حتى أدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس وجه كذاب).

فأول علامة، وأول معجزة من المعجزات التي تدل على صدقه ما يتعلق بخلقه وخلقه، فقد خلقه الله بهذه الصورة التي وضع الله لها القبول، وألقى عليه المهابة، فهو أحسن الناس خَلقاً، وأحسنهم خُلقاً، فبمجرد رؤية هذا الرجل الصادق لوجهه عرف أنه ليس وجه كذاب، وهنا بدأ ينتزع ما جعل في أذنيه ليسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، وأكرم ضيافته، فلما عرض عليه الإسلام بادر إليه، فأسلم، فقال: ( ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، واكتم إيمانك عن قريش فإني أخافهم عليك، قال: والذي بعثك بالحق لأرمين بها بين أظهرهم).

وهذه أيضاً تدل على ما كان عليه رضي الله عنه من الاستعجال الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، قال: (فأتيت الملأ من قريش وهم عند الكعبة فصحت فيهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمداً، فقاموا إليّ يضربونني حتى وقعت على الأرض، فجاء العباس وعبد المطلب فأكبا عليّ حتى منعاهم من قتلي، فلما اجتمعوا مرة أخرى وقفت وصحت فيهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمداً، فقاموا إلي يريدون قتلي، فجاء أبو بكر فقال: أتقتلون رجلاً من غفار وتجارتكم تمر على غفار)، فـأبو بكر جعل الأمر في إطار تجاري اقتصادي ليتفهمه المشركون إذ ذاك، ثم أخذ بيده فأخرجه إلى المسجد فقال: لا حاجة لك في البقاء هنا فاخرج.

ومن أمثلة هذا النوع: الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، وهو ابن عم أبي هريرة رضي الله عنه، وقصة إسلامه في الصحيح كذلك، وفيها: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فعرض عليه الإسلام فأسلم، فقال: ارجع إلى قومك فكن فيهم فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، قال: فخرجت فجعل الله نوراً بين عيني في وجهي، فلما نزلت على قومي من الجبل خشيت أن ينظروا إلى ذلك فيجعلوه عاهة فسألت الله فحوله إلى يدي، فأتيت قومي من الليل فاستقبلني أبي، فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني، قال: ولِم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قال: ديني دينك، فاستقبلتني أمي فقلت: إليك عني، فلست منك ولست مني، قالت: ولِم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قالت: ديني دينك، فاستقبلتني صاحبتني: فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني، قالت: ولِم؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قالت: ديني دينك).

وهذه القصة تدلنا كذلك على الوجه الذي منع النبي صلى الله عليه وسلم فيه الطفيل من أن يجلس عنه، ومنعه أن يدخله دار الأرقم؛ لأنه كان صاحب علانية يصلح للدعوة وللجهاد وللأمر العام، ولكنه لا يصلح لتلك المرحلة في ذلك الوقت، فلهذا قال: (ارجع إلى قومك فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي)، وهذه المرحلة هي التي تصلح له.

ومن الأمثلة على ذلك: عمرو بن عبسة وهو رابع من أسلم كما قال هو عن نفسه: (أنا رابع الإسلام)، وكان أخا أبي بكر من الرضاع، وهو من أهل البادية، فجاء إلى مكة فدعاه أبو بكر إلى الإسلام فأسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمه أوقات الصلاة، وأمره أن يرجع إلى قومه، وأمره إذا علم أن الله أظهره أن يلحق به، فجاء بعد الهجرة بعد غزوة بدر، فقال: (يا رسول الله! أعرفتني؟ فقال: أجل)، فعرفه بعد سنوات لم يره فيها.

فهؤلاء الذين كان لديهم عوائق ردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المجتمع، وعلمهم ما يحصنون به دينهم واعتقادهم، ولكنه لم يقبل انضمامهم إلى عمله إذ ذاك؛ لأنه عمل شاق، وفيه كثير من التبعات والمشكلات، ولا يمكن أن يقوم له إلا من كان مستعداً بذاته.

ولذلك فإن أبا ذر رضي الله عنه، قال: (ساببت رجلاً من أصحابي فعيرته بأمه فقلت: يا ابن السوداء، فرمى ذلك إلى رسول الله عليه وسلم. أي: بلغه، فقال: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)، فهنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم لإزالة كل هذه العقد والفوارق بين المجتمع، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هي الرباط الذي يربط الناس على كلمة سواء (لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى).

وتفاوت الناس وتفاضلهم فيه هو لمدة محصورة ضيقة محدودة، كتفاوت قوم ركبوا سيارة فكان بعضهم في مقدمها وبعضهم في مؤخرها، ثم نزلوا منها يمشون، فليس الذي كان في مقدمها يحتفظ ببطاقة تدل على أنه كان في مقدمها، فكذلك تفاوت أهل الدنيا فيها بين جميل وقبيح وطويل وقصير وأبيض وأسود، وعالم وجاهل وغني وفقير وعزيز وذليل، وملك ومملوك، فكل هذا تفاوت محصور مدته يسيرة، فإذا وقف الإنسان على القبور فإنه لا يجد فرقاً بين الذكر والأنثى، ولا بين المعمر وقصير العمر، ولا بين الأبيض والأسود ولا بين الغني والفقير، فقبورهم متساوية، وهذا يدل على أن الفضل الباقي فضل واحد هو التقوى فقط: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، أما في الدنيا فنعم فعلى وجه الأرض ذكر وأنثى وطويل وقصير، وملك ومملوك، لكن في بطن الأرض يتساوون جميعاً، وما بعد ذلك لا فرق فيه إلا بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13].

القسم الأول: الذين يصلحون للعمل وتحمل المسئوليات، وليست لديهم عوائق في أنفسهم ولا في المجتمع من حولهم، ويمكن أن يتفهموا هذه الدعوة بكل تفاصيلها، وهم مستعدون لتحمل الأعباء والمشاق في سبيلها، وليس لديهم عقب المجتمع ولا ما كان عليه من عبية الجاهلية، وهؤلاء قبل التحاقهم به جعلهم في دار الأرقم كونهم تكويناً مختلفاً عما كان عليه أهل مكة، وتربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية غيرت حياتهم بالكلية.

والقسم الثاني: الذين يتحملون الأعباء وهم مستعدون لتحمل هذا الدين، ولتحمل تبعاته وليست لديهم عوائق في أنفسهم ولكن لديهم عوائق في المجتمع من حولهم لتعلق المجتمع بهم، ولانشغالهم ببعض الأمور والمهن التي لها علاقة بالمجتمع، فلا يمكن أن يدخلوا في ذلك الطور السري من أطوار الدعوة، وهؤلاء جعل لهم داراً أخرى، هي دار سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقد هيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الدارين تهييئاً عجيباً، فالدار الأولى: دار الأرقم بن أبي الأرقم وهو شاب من بني مخزوم ليس له كثير من العيال، وهي على الصفا، وبنو مخزوم كانوا أعداء بني هاشم في الجاهلية، فقريش في الجاهلية قد اختلفوا على حرب الفجار فكانوا حلفين: الحلف الأول يسمى: حلف المطيبين، وسادتهم بنو هاشم، والحلف الثاني يسمى: حلف لعقة الدم، وسادتهم بنو مخزوم وبني عدي، فهذه الدار ليست للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من بني هاشم، ولا لأحد من بني المطلب من بني عمه، ولا لأحد من حلف المطيبين، وإنما هي لشاب من بني مخزوم من حلف لعقة الدم.

ثم لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة، كان سادة بني مخزوم من الذين ناصبوه العداء كـالوليد بن المغيرة وابن أخيه عمرو بن هشام بن المغيرة الذي يسمى بـأبي جهل ، كانا من أشهر أعداء هذه الدعوة في بداية نشأتها؛ فلذلك اختار داراً لشاب منهم من بني مخزوم، والدار الثانية كذلك هي لشاب من بني عدي بن كعب، وهم أيضاً من حلف لعقة الدم كما ذكرنا، وهو قريب لـعمر بن الخطاب ، وكان من أشد أعداء الدعوة إذ ذاك في بدايتها، وفي الدار أخته فاطمة بنت الخطاب وهي زوجة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، ودار الأرقم كانت مناسبة للاختفاء والإسرار؛ لأنها كانت على الصفا فلا يستغرب أن يخرج منها أحد في أية ساعة من ليل أو نهار أو أن يدخل إليها، ولا يستغرب أن يأتيها الرجال والشباب والنساء والكبار والصغار؛ لأنه إذا رأى إنسان من يتابعه أو ينظر إليه فيرتاب منه واصل سيره كأنه يسعى بين الصفا والمروة، والناس يسعون بين الصفا والمروة في جميع ساعات الليل والنهار، كما في الحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً أراد أن يطوف بهذا البيت بأية ساعة من ليل أو نهار).

وهذا القسم تعددت العوائق التي فيهم، منها: مثلاً تعلق المجتمع بهم، فمنهم: عبد الله بن مسعود وكان راعياً يرعى الغنم، فلو أضل قوم شاة من الليل وجاءوا يطلبون ابن مسعود فوجدوه في دار الأرقم لاكتشف هذا العمل.

ومنهم كذلك عمار بن ياسر وكان أيضاً تاجراً يبيع للناس حوائجهم، فلو جاء قوم يطلبون حاجة من الحاجات التي يطلبها الناس في كل الساعات ووجدوا عماراً في دار الأرقم لاكتشف العمل.

ومنهم أيضاً: خباب بن الأرت وكان حداداً يصلح للناس الأبواب والنوافذ، فلو جاء قوم يطلبونه من الليل فوجدوه في دار الأرقم لاكتشف العمل، فجعل لهم داراً مستقلة، ومع ذلك لم يكونوا أقل شأناً من الذين في دار الأرقم، بل كان في ميزان حسناتهم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

والقسم الثالث: الذين لديهم عوائق في أنفسهم، ومن أمثلة هؤلاء: أبو ذر رضي الله عنه، فـأبو ذر من أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل قد قال فيه: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر )، ولكنه كان صاحب علانية فلا يتحمل كتمان السر، وكانت تلك المرحلة تقتضي كتماناً وحصافة، وقد حدثنا بقصة إسلامه كما في الصحيحين، فذكر: (أنه لم يزل يأتيه خبر مبعث رجل بمكة، فلما كثر عليه ذلك أرسل أخاه فقال: ائتني بجلية هذا الأمر، فذهب إلى مكة فأتاه فقال: وجدته والناس فيه مختلفون بين مصدق له ومكذب، وقومه عليه جرآء، فقال: لم تشفِ لي غليلاً، قال: فقعدت على راحلتي فأتيت مكة، فاستقبلني الملأ من قريش، فقالوا: لعلك غريب بهذا الوادي، فقلت: أجل، فقالوا: فإن به ساحراً هو أسحر خلق الله، فاحذر أن تسمع شيئاً من كلامه لا يسحرك، فحوشت أذني خشية أن أسمع شيئاً من كلامه)، فتلاحظون هنا سرعة تأثره واستجابته للدعاية المغرضة التي دعا بها الملأ من قريش، وهذا يدلنا على ما يتعلق بشخصيته هو واستعجاله، وليس هذا نقصاً في دينه ولا مستواه في الإيمان، وإنما هو مما فطر الله عليه الناس، فالناس مفطورون بفطرة الله، منهم الطويل، ومنهم القصير، ومنهم صاحب استعجال، ومنهم من هو صاحب حصافة، وليس ذلك راجعاً إلى نقص في الدين ولا إلى نقص في الخلق.

قال: (فجلست عند الكعبة فأتاني علي بن أبي طالب وهو يومئذٍ شاب صغير، فقال: لعلك غريب بهذا الوادي؟ قلت: أجل، قال: فهل لك فيمن يضيفك؟ قلت: وددت ذلك، فقال: اتبعني)، فـعلي لم يأخذه معه، بل قال: اتبعني، فكان علي يسير في ظلال الجدران، وأبو ذر يتبعه، فإذا رأى من ينظر إليه تشاغل علي بإصلاح نعله، لئلا يعرف أين يذهب به، (حتى أدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس وجه كذاب).

فأول علامة، وأول معجزة من المعجزات التي تدل على صدقه ما يتعلق بخلقه وخلقه، فقد خلقه الله بهذه الصورة التي وضع الله لها القبول، وألقى عليه المهابة، فهو أحسن الناس خَلقاً، وأحسنهم خُلقاً، فبمجرد رؤية هذا الرجل الصادق لوجهه عرف أنه ليس وجه كذاب، وهنا بدأ ينتزع ما جعل في أذنيه ليسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، وأكرم ضيافته، فلما عرض عليه الإسلام بادر إليه، فأسلم، فقال: ( ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، واكتم إيمانك عن قريش فإني أخافهم عليك، قال: والذي بعثك بالحق لأرمين بها بين أظهرهم).

وهذه أيضاً تدل على ما كان عليه رضي الله عنه من الاستعجال الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، قال: (فأتيت الملأ من قريش وهم عند الكعبة فصحت فيهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمداً، فقاموا إليّ يضربونني حتى وقعت على الأرض، فجاء العباس وعبد المطلب فأكبا عليّ حتى منعاهم من قتلي، فلما اجتمعوا مرة أخرى وقفت وصحت فيهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمداً، فقاموا إلي يريدون قتلي، فجاء أبو بكر فقال: أتقتلون رجلاً من غفار وتجارتكم تمر على غفار)، فـأبو بكر جعل الأمر في إطار تجاري اقتصادي ليتفهمه المشركون إذ ذاك، ثم أخذ بيده فأخرجه إلى المسجد فقال: لا حاجة لك في البقاء هنا فاخرج.

ومن أمثلة هذا النوع: الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، وهو ابن عم أبي هريرة رضي الله عنه، وقصة إسلامه في الصحيح كذلك، وفيها: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فعرض عليه الإسلام فأسلم، فقال: ارجع إلى قومك فكن فيهم فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، قال: فخرجت فجعل الله نوراً بين عيني في وجهي، فلما نزلت على قومي من الجبل خشيت أن ينظروا إلى ذلك فيجعلوه عاهة فسألت الله فحوله إلى يدي، فأتيت قومي من الليل فاستقبلني أبي، فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني، قال: ولِم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قال: ديني دينك، فاستقبلتني أمي فقلت: إليك عني، فلست منك ولست مني، قالت: ولِم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قالت: ديني دينك، فاستقبلتني صاحبتني: فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني، قالت: ولِم؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه، قالت: ديني دينك).

وهذه القصة تدلنا كذلك على الوجه الذي منع النبي صلى الله عليه وسلم فيه الطفيل من أن يجلس عنه، ومنعه أن يدخله دار الأرقم؛ لأنه كان صاحب علانية يصلح للدعوة وللجهاد وللأمر العام، ولكنه لا يصلح لتلك المرحلة في ذلك الوقت، فلهذا قال: (ارجع إلى قومك فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي)، وهذه المرحلة هي التي تصلح له.

ومن الأمثلة على ذلك: عمرو بن عبسة وهو رابع من أسلم كما قال هو عن نفسه: (أنا رابع الإسلام)، وكان أخا أبي بكر من الرضاع، وهو من أهل البادية، فجاء إلى مكة فدعاه أبو بكر إلى الإسلام فأسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمه أوقات الصلاة، وأمره أن يرجع إلى قومه، وأمره إذا علم أن الله أظهره أن يلحق به، فجاء بعد الهجرة بعد غزوة بدر، فقال: (يا رسول الله! أعرفتني؟ فقال: أجل)، فعرفه بعد سنوات لم يره فيها.

فهؤلاء الذين كان لديهم عوائق ردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المجتمع، وعلمهم ما يحصنون به دينهم واعتقادهم، ولكنه لم يقبل انضمامهم إلى عمله إذ ذاك؛ لأنه عمل شاق، وفيه كثير من التبعات والمشكلات، ولا يمكن أن يقوم له إلا من كان مستعداً بذاته.

ولذلك فإن أبا ذر رضي الله عنه، قال: (ساببت رجلاً من أصحابي فعيرته بأمه فقلت: يا ابن السوداء، فرمى ذلك إلى رسول الله عليه وسلم. أي: بلغه، فقال: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)، فهنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم لإزالة كل هذه العقد والفوارق بين المجتمع، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هي الرباط الذي يربط الناس على كلمة سواء (لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى).

وتفاوت الناس وتفاضلهم فيه هو لمدة محصورة ضيقة محدودة، كتفاوت قوم ركبوا سيارة فكان بعضهم في مقدمها وبعضهم في مؤخرها، ثم نزلوا منها يمشون، فليس الذي كان في مقدمها يحتفظ ببطاقة تدل على أنه كان في مقدمها، فكذلك تفاوت أهل الدنيا فيها بين جميل وقبيح وطويل وقصير وأبيض وأسود، وعالم وجاهل وغني وفقير وعزيز وذليل، وملك ومملوك، فكل هذا تفاوت محصور مدته يسيرة، فإذا وقف الإنسان على القبور فإنه لا يجد فرقاً بين الذكر والأنثى، ولا بين المعمر وقصير العمر، ولا بين الأبيض والأسود ولا بين الغني والفقير، فقبورهم متساوية، وهذا يدل على أن الفضل الباقي فضل واحد هو التقوى فقط: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، أما في الدنيا فنعم فعلى وجه الأرض ذكر وأنثى وطويل وقصير، وملك ومملوك، لكن في بطن الأرض يتساوون جميعاً، وما بعد ذلك لا فرق فيه إلا بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13].

وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة عبية الجاهلية وتفاخرها بالآباء، وما كانت عليه من قطيعة ونفرة، وما كان الناس عليه إذ ذاك من ظلم اجتماعي واقتصادي، وما كانوا يعانونه من موروث ورثوه عن الآباء دون أن يتفهموه، ودون أن يدركوا له فائدة، فمختلطات أهل الجاهلية قد ضربت الناس بعطن، والناس يتناقلونها، فتنقلها الأجيال عن الأجيال دون أن يفكروا في إزالتها، ودون أن يفكروا فيما وضعت له، كحال كثير من مجتمعات المسلمين اليوم، فإن لديهم كثير من العوائد والفروق والعقد الاجتماعية، والتفاضل الذي ما أنزل الله به من سلطان، والأمور التي يقدرونها ويحترمونها كأنها طقوس دينية، ومع ذلك لا يدرون متى جاءت ولا من الذي ابتكرها، ولا من الذي أحدثها ودعا إليها، ولا ما فائدتها في المجتمع.

فهذه الأمور جاء النبي صلى الله عليه وسلم لتحطيمها وتهديمها وإزالتها، فلذلك قال لـأبي ذر : (أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)، فهذه ليست كفراً ولا نقصاً في إيمانه ولكنها خلق كان عليه وطبع كان فيه، ولذلك فإن أبا ذر بعد ذلك ندم عليه أشد الندم فغير حياته بعد أن أدبه النبي صلى الله عليه وسلم هذا التأديب البليغ بهذه الكلمة النبوية الصادقة.

لما كثر المسلمون بمكة احتاجوا إلى أن تكون لهم نافذة خارجية؛ لأنه بالإمكان أن يجتثوا في داخل مكة، والدعوة لا يمكن أن تنتشر إلا إذا كان لها نوافذ وأشرعة بمثابة عروق الشجرة، فالشجرة لو لم يكن لها إلا ساقها فقط لسقطت بأول نفحة رياح، لكنها تمد عروقها في الأرض فتتمدد، فلذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم وفداً من أصحابه إلى الحبشة، فاستقروا فيها، فقال: (إن بها ملكاً عدلاً لا يظلم عنده أحد) وهو النجاشي ، ثم بعد ذلك لما جاءه وفد عبد القيس وذكروا أنهم لا يستطيعون أن يأتوه إلا في الشهر الحرام وبينهم وبينه هذا الحي من كفار مضر، ردهم إلى بلادهم وعلمهم ما يدعون به إلى الله عز وجل فكانت نافلة أخرى في جهة المشرق، ولذلك فجمعتهم ثاني جمعة صليت في الإسلام، صلوا الجمعة قبل أن يصليها النبي صلى الله عليه وسلم في مسجدهم بجواثى وهي قرية في البحرين، وما زالت آثارها باقية إلى الآن.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع