المباح وغير المباح من المزاح


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعــد:

في ليلة الإثنين، السادس والعشرين من شهر شوال، ينعقد -بحمد الله تعالى وتوفيقه- هذا المجلس، وهو الثاني عشر من مجالس الدروس العلمية العامة، وموضوع هذه الحلقة -كما كنت نوهت لكم في المجلس السابق- هو: الكلام عن المباح وغير المباح من المزاح.

وأحب أن أقول للإخوة: إن هذا الدرس سيكون هو الدرس الأخير قبل إجازة الامتحانات، وإن كنت وعدتكم في المجلس السابق أن آخذ رأيكم، لكني فكرت في الموضوع، فوجدت عدة أمور تدعو إلى إيقاف الدرس في هذه الفترة الوجيزة، منها أن عدداً من الإخوة الطلاب -لا بأس بهم- من الحضور، وهم يطلبون ويتمنون الإيقاف حتى لا يفوتهم شيء.

ومنها -وهذا هو السبب الثاني-: أن الإخوة في خارج هذا البلد ممن يتابعون هذه الدروس -أيضاً- تفوتهم متابعتها أثناء الاختبارات؛ لأنهم لا يوجد لديهم وقت لاقتناء الشريط أو سماعه فيفوت عليهم، والسبب الثالث: هو أن عندي أعمالاً كثيرة، من تحرير بعض المسائل، وتصحيح بعض الكتب، ومراجعة بعض الأمور.

وكنت أؤجل وأسوف؛ رجاء أن توجد الفرصة، فرأيت أن فرصة الامتحانات يمكن أن أستفيد منها في بعض هذه المسائل؛ ولذلك سيكون هذا الدرس -كما قلت- هو الدرس الأخير، أما استئناف هذه الدروس فسيكون -بإذن الله تعالى- في ليلة الإثنين، الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة.

وفي مثل هذه الأمسية بعد صلاة المغرب، سوف ينعقد المجلس الثالث عشر، وسيكون موضوع ذلك المجلس -إن شاء الله تعالى- حول حكم النكت والطرائف وما يتعلق بها، وهو يعتبر مكملاً ومتمماً لهذا موضوع، ولكن هذا الموضوع مستقل وذاك موضوع مستقل، ليس لأحدهما ارتباط ضروري بالآخر، وإن كانا من حيث الموضوع متكاملين.

وفي موضوع: ما يباح وما لا يباح من المزاح، سوف أتحدث في عدة نقاط.

تعريف المزاح

المزاح: هو الدعابة، وهو نقيض الجد من قول أو فعل، والمزاح أمر جبل عليه الإنسان في أصل طبيعته، ويستخدمه الإنسان لأغراض شتى.

من أهداف المزاح

فمن الناس من يمزح بقصد التسلية، لأنه إذا كثر عليه الجد وثقل عليه، فإنه يمل ويكل، فيلوذ ويلجأ إلى شيء من الدعابة والمزاح، وهذا جاء في حديث حنظلة بن الربيع، ففي صحيح مسلم {أن حنظلة بن الربيع الأسيّدي رضي الله عنه قال لـأبي بكر: نافق حنظلة، إنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات ونسينا كثيراً.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لكذلك، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نافق حنظلة...، وفي الأخير قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تدومون على ما تكونون عندي؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة}.

أي: ساعة تعبد وجد وإقبال، وساعة يجلس الإنسان فيها مع أهله ومع أولاده، ويستمتع بما أباح الله تعالى له من أمور الدنيا، ويدخل في ذلك مداعبة الأهل والأطفال والأصحاب والأحباب وغير ذلك.

وقد يكون من أهداف المزاح أحياناً: التعلم.

فإن التعلم يكون باللعب كما يكون بالجد، وأنت ترى أن الله -جل وعلا- فطر الصبيان الصغار على اللعب بأشياء مما يحتاجونها في كبرهم، فأنت تجد الطفلة الصغيرة تأتي إلى وسادتها، وتحزمها وتعدها بنتاً لها وتسميها، وتحملها وتضعها على حجرها، وتقبلها وتضمها وتغضب إذا أوذيت، وهذا يتناسب مع الجبلة التي خلقت من أجلها المرأة.

وكذلك الصبيان يجلسون فيصنعون البيوت ويصنعون الأشياء، ويتدربون على الأعمال التي سوف يعانونها في الكبر، فالمزاح واللعب -أحياناً- يكون للتعلم، كما يكون التعلم بالجد.

وقد كشف في وسائل التربية الحديثة: أن المعلم يحتاج إلى أن يُدخل على طلابه -أحياناً- نوعاً من الطرف ليبعد عنهم السآمة والملل، وهذا كان موجوداً عند علمائنا السابقين، فكان بعضهم يستخدم مع طلابه أساليب للتعليم، مثل أن يسألهم، أو يجعل لهم لغزاً يسمونه "المعاياة" يعاييهم فيه -أي: يعجزهم في الجواب عنه- إلى غير ذلك من الأشياء التي تطرد السآمة والملل، وتعين المتعلم على ما هو بصدده.

وقد يكون المزاح واللعب -أحياناً- للتخلص من الخوف أو القلق أو الغضب أو غيرها، فإن الإنسان إذا مزح أدخل على قلبه شيئاً من التسلية والسرور، وأزال ما يخاف منه أو خفف من ذلك، وهذا يقوله العلماء المعاصرون، لكن في هدى النبي عليه الصلاة والسلام ما يشبه هذا.

ففي الحديث المتفق عليه، حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته، حين تخلف عن غزوة تبوك، يقول رضي الله عنه: {فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم تبسم المغضب}.

إذاً الابتسامة أحياناً تكون من الفرح والسرور والاستبشار، وأحياناً تكون من الغضب، فيتبسم الإنسان لأن من سجيته الكرم والخلق الحسن، حتى وهو مغضب، ويدل حاله على أن هذا التبسم ليس تبسم الرضا، وإنما هو تبسم الغضب.

وقد يكون المزاح -أحياناً- للتخلص من موقف صعب، فإن كثير من الناس كانوا -ولا زالوا- يتعرضون لمواقف صعبة، إما مع حاكم أو أمير أو قاض، أو زوج مع زوجته أو زوجة مع زوجها، أو تلميذ مع شيخه أو ما أشبه ذلك.

فيكون موقفاً صعباً، ليس له جواب إلا إذا كان هذا الإنسان عنده طرف وسرعة بديهة -كما يقولون- فيتخلص من صعوبة هذا الموقف؛ بأن يأتي بمزحة مناسبة؛ فيضحك منها الشيخ أو الأمير أو الشخص المعني، ثم يزول ما به من الغضب، ويعفو ويصفح عن الطرف الآخر، ومثل هذا كثير في كتب اللغة والأدب وغيرها.

وقد يكون المزاح على سبيل الملاطفة والملاينة، وتطييب خاطر من يقابلك؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} فإنك إذا تبسمت له، تعرب له عن محبتك وسرورك بمقدمه، وأن قلبك لا يحمل له إلا الود والحب، فهذه بسمة يعبر فيها الأخ المسلم عن حبه لأخيه حين يلقاه، فعدها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات، كأنك أخذت مالاً وأعطيته إياه؛ لأنك تدخل السرور على قلبه بذلك.

ولهذا يقول جرير رضي الله عنه: {ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم} متفق عليه فكان يبتسم له صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحبه، ويقول: عليه مسحة ملك. وكان لا يثبت على الخيل، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، وأمره أن يذهب إلى ذي الخلصة -وهو صنم كانت تعبده العرب في الجاهلية- فيهدمه، ففعل رضي الله عنه وأرضاه.

العرب تحب المزاح وتكره الاكفهرار

وضد المزاح والتبسم: العبوس والتقطيب والجد والصرامة.

والعرب كانت تمتدح بالأول، وتذم بالثاني، فإذا أرادت العرب أن تمدح شخصاً قالت: فلان بسام الثنايا، طلق الوجه، بشوش للضيف، ويعتبرون هذا مما يمدح به الإنسان؛ لأنه يدل على كرم أخلاقه، وحسن معشره وطيب معاملته، وقد يذمون بالآخر وهو الاكفهرار والعبوس.

فيقولون: فلان عبوس الوجه، جهم المحيا، كريه المنظر، حامض الوجه، كأنما وجهه بالخل منضوح، أي: كأنما وضع الخل على وجهه فلشدة حموضته قطب واكفهرت أساريره، وكأنما أسعط خيشومه بالخردل، أي: كأنما وضح الخردل في أنفه سعوطاً فكان مقطباً: فالعرب تمدح بالأول وتذم بالثاني.

ولاشك أن العرب يقصدون الأمر المعتدل من ذلك، وإلا فإن المزاح -كما سيأتي- إذا زاد وتعدى كان مهانة وذلاً وضعةً من قدر صاحبه، كأن يجرئ عليه الصبي الصغير، والسفيه والأحمق والجاهل، فإنما يقصد العرب من ذلك: ما يكون على حد الاعتدال والتوازن، لا إفراط ولا تفريط؛ ولذلك يقول أبو تمام -يمدح رجلاً-:

الجد شيمته وفيه دعابة      طوراً ولا جد لمن لا يلعب

فبين أن الجد هو شيمة هذا الإنسان -الأصل عنده الجد- لكن ليس دائماً، ففيه دعابة وفيه فكاهة، (طوراً) أي: حيناً، ولا جد لمن لا يهزل، فإن الإنسان إذا داوم شد الحبل على نفسه فإنه ينقطع، وهذا حتى في سياسة النفس ينبغي أن يتفطن إليه، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: [[يعجبني أن يكون الرجل في بيته صبياً]].

وكان عمر رضي الله عنه وهو الخليفة أحياناً يكون في بيته فيتغنى بأبيات من الشعر، يقرؤها بلحون العرب، كما يردد الواحد منا بيتاً في بيته -أي: بيتاً من الشعر- فربما طرق أحد الباب فسمع عمر وهو يردد هذا البيت من الشعر أو ذاك.

وحتى الجبابرة والمتسلطون يقع منهم ذلك، سئل الحجاج يوماً عن موقفه ومعاشرته مع أهله، فقال: والله ما تعدوننا إلا شياطين، والله لقد رأيتني وأنا أقبل رجل إحداهن. أي: رجل إحدى زوجاته، فهذه الأشياء لابد منها لكل إنسان، وهي جبلة فطر عليها المرء، ولا مفر له منها، لكن ينبغي أن يكون -كما أسلفت- على حد القصد والاعتدال، لا يخرج إلى إفراط ولا إلى تفريط.

المزاح: هو الدعابة، وهو نقيض الجد من قول أو فعل، والمزاح أمر جبل عليه الإنسان في أصل طبيعته، ويستخدمه الإنسان لأغراض شتى.

فمن الناس من يمزح بقصد التسلية، لأنه إذا كثر عليه الجد وثقل عليه، فإنه يمل ويكل، فيلوذ ويلجأ إلى شيء من الدعابة والمزاح، وهذا جاء في حديث حنظلة بن الربيع، ففي صحيح مسلم {أن حنظلة بن الربيع الأسيّدي رضي الله عنه قال لـأبي بكر: نافق حنظلة، إنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات ونسينا كثيراً.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لكذلك، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نافق حنظلة...، وفي الأخير قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تدومون على ما تكونون عندي؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة}.

أي: ساعة تعبد وجد وإقبال، وساعة يجلس الإنسان فيها مع أهله ومع أولاده، ويستمتع بما أباح الله تعالى له من أمور الدنيا، ويدخل في ذلك مداعبة الأهل والأطفال والأصحاب والأحباب وغير ذلك.

وقد يكون من أهداف المزاح أحياناً: التعلم.

فإن التعلم يكون باللعب كما يكون بالجد، وأنت ترى أن الله -جل وعلا- فطر الصبيان الصغار على اللعب بأشياء مما يحتاجونها في كبرهم، فأنت تجد الطفلة الصغيرة تأتي إلى وسادتها، وتحزمها وتعدها بنتاً لها وتسميها، وتحملها وتضعها على حجرها، وتقبلها وتضمها وتغضب إذا أوذيت، وهذا يتناسب مع الجبلة التي خلقت من أجلها المرأة.

وكذلك الصبيان يجلسون فيصنعون البيوت ويصنعون الأشياء، ويتدربون على الأعمال التي سوف يعانونها في الكبر، فالمزاح واللعب -أحياناً- يكون للتعلم، كما يكون التعلم بالجد.

وقد كشف في وسائل التربية الحديثة: أن المعلم يحتاج إلى أن يُدخل على طلابه -أحياناً- نوعاً من الطرف ليبعد عنهم السآمة والملل، وهذا كان موجوداً عند علمائنا السابقين، فكان بعضهم يستخدم مع طلابه أساليب للتعليم، مثل أن يسألهم، أو يجعل لهم لغزاً يسمونه "المعاياة" يعاييهم فيه -أي: يعجزهم في الجواب عنه- إلى غير ذلك من الأشياء التي تطرد السآمة والملل، وتعين المتعلم على ما هو بصدده.

وقد يكون المزاح واللعب -أحياناً- للتخلص من الخوف أو القلق أو الغضب أو غيرها، فإن الإنسان إذا مزح أدخل على قلبه شيئاً من التسلية والسرور، وأزال ما يخاف منه أو خفف من ذلك، وهذا يقوله العلماء المعاصرون، لكن في هدى النبي عليه الصلاة والسلام ما يشبه هذا.

ففي الحديث المتفق عليه، حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته، حين تخلف عن غزوة تبوك، يقول رضي الله عنه: {فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم تبسم المغضب}.

إذاً الابتسامة أحياناً تكون من الفرح والسرور والاستبشار، وأحياناً تكون من الغضب، فيتبسم الإنسان لأن من سجيته الكرم والخلق الحسن، حتى وهو مغضب، ويدل حاله على أن هذا التبسم ليس تبسم الرضا، وإنما هو تبسم الغضب.

وقد يكون المزاح -أحياناً- للتخلص من موقف صعب، فإن كثير من الناس كانوا -ولا زالوا- يتعرضون لمواقف صعبة، إما مع حاكم أو أمير أو قاض، أو زوج مع زوجته أو زوجة مع زوجها، أو تلميذ مع شيخه أو ما أشبه ذلك.

فيكون موقفاً صعباً، ليس له جواب إلا إذا كان هذا الإنسان عنده طرف وسرعة بديهة -كما يقولون- فيتخلص من صعوبة هذا الموقف؛ بأن يأتي بمزحة مناسبة؛ فيضحك منها الشيخ أو الأمير أو الشخص المعني، ثم يزول ما به من الغضب، ويعفو ويصفح عن الطرف الآخر، ومثل هذا كثير في كتب اللغة والأدب وغيرها.

وقد يكون المزاح على سبيل الملاطفة والملاينة، وتطييب خاطر من يقابلك؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} فإنك إذا تبسمت له، تعرب له عن محبتك وسرورك بمقدمه، وأن قلبك لا يحمل له إلا الود والحب، فهذه بسمة يعبر فيها الأخ المسلم عن حبه لأخيه حين يلقاه، فعدها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات، كأنك أخذت مالاً وأعطيته إياه؛ لأنك تدخل السرور على قلبه بذلك.

ولهذا يقول جرير رضي الله عنه: {ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم} متفق عليه فكان يبتسم له صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحبه، ويقول: عليه مسحة ملك. وكان لا يثبت على الخيل، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، وأمره أن يذهب إلى ذي الخلصة -وهو صنم كانت تعبده العرب في الجاهلية- فيهدمه، ففعل رضي الله عنه وأرضاه.

وضد المزاح والتبسم: العبوس والتقطيب والجد والصرامة.

والعرب كانت تمتدح بالأول، وتذم بالثاني، فإذا أرادت العرب أن تمدح شخصاً قالت: فلان بسام الثنايا، طلق الوجه، بشوش للضيف، ويعتبرون هذا مما يمدح به الإنسان؛ لأنه يدل على كرم أخلاقه، وحسن معشره وطيب معاملته، وقد يذمون بالآخر وهو الاكفهرار والعبوس.

فيقولون: فلان عبوس الوجه، جهم المحيا، كريه المنظر، حامض الوجه، كأنما وجهه بالخل منضوح، أي: كأنما وضع الخل على وجهه فلشدة حموضته قطب واكفهرت أساريره، وكأنما أسعط خيشومه بالخردل، أي: كأنما وضح الخردل في أنفه سعوطاً فكان مقطباً: فالعرب تمدح بالأول وتذم بالثاني.

ولاشك أن العرب يقصدون الأمر المعتدل من ذلك، وإلا فإن المزاح -كما سيأتي- إذا زاد وتعدى كان مهانة وذلاً وضعةً من قدر صاحبه، كأن يجرئ عليه الصبي الصغير، والسفيه والأحمق والجاهل، فإنما يقصد العرب من ذلك: ما يكون على حد الاعتدال والتوازن، لا إفراط ولا تفريط؛ ولذلك يقول أبو تمام -يمدح رجلاً-:

الجد شيمته وفيه دعابة      طوراً ولا جد لمن لا يلعب

فبين أن الجد هو شيمة هذا الإنسان -الأصل عنده الجد- لكن ليس دائماً، ففيه دعابة وفيه فكاهة، (طوراً) أي: حيناً، ولا جد لمن لا يهزل، فإن الإنسان إذا داوم شد الحبل على نفسه فإنه ينقطع، وهذا حتى في سياسة النفس ينبغي أن يتفطن إليه، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: [[يعجبني أن يكون الرجل في بيته صبياً]].

وكان عمر رضي الله عنه وهو الخليفة أحياناً يكون في بيته فيتغنى بأبيات من الشعر، يقرؤها بلحون العرب، كما يردد الواحد منا بيتاً في بيته -أي: بيتاً من الشعر- فربما طرق أحد الباب فسمع عمر وهو يردد هذا البيت من الشعر أو ذاك.

وحتى الجبابرة والمتسلطون يقع منهم ذلك، سئل الحجاج يوماً عن موقفه ومعاشرته مع أهله، فقال: والله ما تعدوننا إلا شياطين، والله لقد رأيتني وأنا أقبل رجل إحداهن. أي: رجل إحدى زوجاته، فهذه الأشياء لابد منها لكل إنسان، وهي جبلة فطر عليها المرء، ولا مفر له منها، لكن ينبغي أن يكون -كما أسلفت- على حد القصد والاعتدال، لا يخرج إلى إفراط ولا إلى تفريط.

أما النقطة الثانية في هذا الدرس فهي: مزاح سيد المرسلين وإمام المتقين، وقدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

لاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القدوة في كل أمر، وكان عليه الصلاة والسلام يعاني من أمور الدعوة والتبليغ، والإصلاح، والأمر والنهي والجهاد وغير ذلك، ما لا يعانيه غيره، فلا أحد يستطيع أن يقول إنه مشغول أكثر مما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً، ولا جاد أكثر مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاداً، ولا ورع أكثر من ورعه صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة في ذلك كله.

ولاشك أن الرسول عليه السلام كان الغالب على حياته الجد، وقد بان الشيب على مفرقه عليه الصلاة والسلام قبل أوانه، فقيل له شبت يا رسول الله! فقال: {شيبتني هود وأخواتها، وقال: حم، وعمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت} وهذا حديث ورد من طرق كثيرة صححه بها بعضهم، وإن كان بعض أهل العلم أعلَّوه بالاضطراب، لكن معناه صحيح.

وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان غالب صلاته في آخر عمره وهو قاعد بعد ما حطمه الناس} أي: من كثرة دخول الناس وخروجهم عليه وسؤالهم له وحاجتهم؛ حَطَمُوه فتأثر بذلك وأسرع إليه الشيب صلى الله عليه وسلم.

ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان له مزاح يسلي به أصحابه، ويسري به عن القريب والبعيد.

نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم

وأذكر نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: كثرة تبسمه وممازحته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كما سبق في حديث جرير: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه إلا تبسم}.

وقد روى الترمذي، وأحمد وغيرهما، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، وهو حديث حسن، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، أنه قال: {ما رأيت أكثر تبسماً من النبي صلى الله عليه وسلم}.

وفي حديث p=1000136>أبي هريرة

رضي الله عنه أنهم قالوا: {يا رسول الله، إنك تداعبنا -أي تمازحنا- فقال: نعم، لكني لا أقول إلا حقاً} رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.

وقد جاء عن ابن عمر عند الطبراني، وسنده حسن -أيضاً- وجاء عن بكر بن عبد الله المزني وغيرهم {إنك تداعبنا. قال: نعم، ولكني لا أقول إلا حقاً}.

ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخاطب خادمه أنس بن مالك فيقول له: {يا ذا الأذنين} وهذا الحديث رواه الترمذي في الشمائل، وهو كما قال الترمذي: حديث صحيح غريب.

و(يا ذا الأذنين) مزاح؛ لأن كل إنسان له أذنان، فقوله لـأنس: {يا ذا الأذنين} هذا على سبيل الممازحة.

ومن ذلك -أيضاً- قوله لأخي أنس من أمه: { يا أبا عمير ما فعل النغير -وكان له نغر يلعب به، فمات هذا النغر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو عمير كسيف حزين- فقال: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ -العصفور- فقال: مات يا رسول الله} وكان هذا على سبيل الدعابة والممازحة له.

ومن ذلك: ما رواه أنس -أيضاً- {أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: احملني يا رسول الله -أي أعطني شيئاً أركب عليه للغزو والسفر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنا حاملوك على ولد الناقة -ففهم الأعرابي: أن ولد الناقة هو الجمل الصغير- فقال: وما أفعل بولد الناقة يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟!}.

والحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب، ورواه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده.

ومن ذلك: حديث أنس -أيضاً- الذي رواه الترمذي في الشمائل، وسنده صحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له رجل من الأعراب اسمه زاهر الأسلمي، فكان هذا الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهدايا مما يستطرف من هدايا البادية، من الأقط والسمن وغيرها.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي له أيضاً، فيقول عليه السلام: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فوجد زاهراً يبيع في السوق ولم يعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتسلل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه واحتضنه وقال: من يشتري العبد من يشتري العبد؟ فالتفت زاهر فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إذاً تجدني كاسداً يا رسول الله. قال: لكنك عند الله لست بكاسد}.

وفي رواية قال: {لكنك عند الله غالٍ} والحديث -كما أسلفت صحيح- وفيه ما كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من البساطة والممازحة، وتطييب أصحابه بما يناسبهم مع عدم الكذب، فإن زاهراً كان عبداً لله عز وجل ولا شك.

والحديث قال عنه ابن كثير أيضاً: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه على ذلك الشيخ الألباني، وقال الحافظ ابن حجر: حديث صحيح.

ومن ذلك: ما رواه الترمذي والبيهقي عن الحسن البصري مرسلاً، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها عند الطبراني والبغوي في تفسيره، وهو حديث حسن:{أن امرأة عجوزاً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن أكون من أهل الجنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة عجوز، فكأن هذه المرأة خافت ووجلت.

فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38] فذهب ما بها وعرفت مراده صلى الله عليه وسلم}.

هذه نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم ومداعبته مع أصحابه.

الأحاديث والأخبار الواردة في ضحكه وتبسمه صلى الله عليه وسلم

أما الأحاديث والأخبار التي كان يقولها صلى الله عليه وسلم، فيضحك أو يتبسم بعض من حوله من أصحابه، فهذا كثير جداً، لو جمع لكان في مجلد، لكنني أذكر نماذج سريعة منه.

فمن ذلك: حديث أبي ذر في صحيح مسلم {أن الله تعالى يدني عبداً من عباده يوم القيامة، فيقول له: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ ويقول لملائكته: اذكروا له صغار ذنوبه ونحو عنه كبارها، فيذكرون له الذنوب الصغيرة، حتى إذا انتهت قال الله عز وجل: فإني قد أبدلتها لك حسنات -لأنه قد تاب منها، فأبدلها الله تعالى له حسنات-.

فهذا الرجل قال: يارب! عملت ذنوباً لا أراها هاهنا!، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} أي: أن هذا الرجل عندما كانت الذنوب الكبائر مستورة عنه وكانت عليه سكت ولم يثر الموضوع، لكن لما عرف أنها صارت في صالحه، وأنها بدلت حسنات، صار يطالب بها، ويقول: عملت ذنوباً لا أراها هنا، أين الكبائر التي عملتها؟ لأنه يعلم أنها ستبدل إلى حسنات!!.

ومن ذلك -أيضاً- ما ورد في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع -يريد أن يزرع- فقال الله عز وجل: ألست فيما أغنيتك به يا عبدي؟! قال: يا رب، ولكني أحب أن أزرع. قال: فيأذن الله تعالى له بذلك، فيكون بذره وزرعه ونماؤه ونضجه وحصاده في لحظة واحدة، فقال رجل من الأعراب -كان حاضراً عند الرسول صلى الله عليه وسلم-: والله يا رسول الله، لا تجد هذا الرجل إلا قرشياً أو أنصارياً، أما نحن فلا حاجة لنا في الزرع؛ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} وله من ذلك شيء كثير -كما أسلفت-.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5118 استماع
حديث الهجرة 5007 استماع
تلك الرسل 4155 استماع
الصومال الجريح 4146 استماع
مصير المترفين 4122 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4052 استماع
وقفات مع سورة ق 3976 استماع
مقياس الربح والخسارة 3929 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3872 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3833 استماع