سلسلة منهاج المسلم - (61)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم، وها نحن في الباب الثالث ألا وهو الأخلاق، وبما أننا مقبلون على عيد الأضحى، اخترنا الليلة أن ندرس أحكام الأضحية وما يتعلق بها.

قال: [ الفصل الرابع عشر: في الأضحية والعقيقة].

قال:[ وفيه مادتان: المادة الأولى: في الأضحية: ] ما هي الأضحية؟

قال: [ أولاً: تعريفها: الأضحية هي الشاة ] سواء كانت غنماً أو معزاً [تذبح ضحى يوم العيد ] فلهذا سميت بالأضحية؛ لأنه يضحى بها. أي: تذبح في ضحى يوم العيد، فهي مأخوذة إذاً من الضحى الذي هو مقابل العشي [ تقرباً إلى الله تعالى ] فما كل ما يذبح أضحية، مئات الآلاف تذبح في ذلك اليوم، يذبحها اليهود والنصارى والمشركون، فلا يعتبر ذلك أضحية لهم؛ لأنهم ما آمنوا بالله ولا تقربوا إليه، فهي أضحية لمن ذبحها يتقرب بها إلى الله عز وجل؛ ليغفر له، ويرحمه، ويدخله الجنة، لا لمجرد ذبحها يوم العيد.

ومعنى هذا: أن من أراد أن يضحي فلابد وأن ينوي بأضحيته التقرب إلى الله ليرضى عنه ويقبله في عباده الصالحين، فنذبح الأضحية في ضحى يوم العيد من أجل أن يحبنا الله، ويرضى عنا، ويغفر ذنوبنا، ويستر عوراتنا، متملقين متقربين، لا لمجرد أكل اللحم وإعطائه.

[ ثانياً: حكمها: ] ما حكم الأضحية؟ هل هي فريضة.. واجبة، سنة مؤكدة؟ لابد من العلم أن [ الأضحية سنة واجبة ] وهذه المسألة من لطائف هذا الكتاب، فإن مذهباً من مذاهبنا الأربعة يقول: إنها سنة، ومذهب آخر يقول: إنها واجبة، فلكي نجمع بين المسلمين حتى لا يتفرقوا نقول بأنها سنة واجبة، لأجل لا يغضب المالكي ولا الحنبلي.

قد يعجب بعض طلبة العلم: لم يقول: سنة واجبة، ولا يقول: سنة مؤكدة؟ هي والله مؤكدة، ولكن ما دام الإمام أحمد على جلالته يقول: هي واجبة، فنقول: سنة واجبة، فتطمئن النفوس [ على أهل كل بيت مسلم ] على أهل كل بيت مسلم، بيت كافر لا تجب عليهم، ولا هي سنة ولا واجب [ قدر أهله عليها ] بهذا الشرط، قدر أهلها عليه، أي: استطاعوا أن يضحوا، فإذا كانوا لا يملكون قيمتها، ولا توجد شاة في مرعاهم ولا في دارهم فمن أين يذبحون؟! لابد من أن تكون القدرة -أي: الاستطاعة- متوفرة، فالأضحية إذاً سنة واجبة على المسلم إذا قدر على ذلك، فإذا لم يقدر فمعفو عنه، وبالنية يحصل على أجر الأضحية. آه! لو كنت أملك قيمة شاة، والله! ليعطى الأجر كاملاً: ( إنما الأعمال بالنيات ).

قال: [ وذلك لقول الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1-2] ] النحر للإبل والبقر، والذبح كذلك يطلق عليه النحر.

(فصل لربك) يا رسولنا! وأمتك معك، (وانحر) أضحيتك يوم العيد. دليل سنية الأضحية ووجوبها هذه الآية الكريمة: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] إذاً: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] شكراً لله على ما أنعم به عليك، وأمته تابعة له، هذا دليل القرآن.

ودليل السنة الموضحة المبينة [ قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من كان ذبح قبل الصلاة ) ] أي: صلاة العيد [ ( فليعد ) ] ذبيحته، لو لم تكن واجبة ما قال: (فليعد). من ذبح جهلاً أو غلطاً أو نسياناً أو متعمداً قبل صلاة العيد فعليه أن يعيد الذبيحة، بأن يذبح شاة أخرى، لأن الأولى ليست أضحية، إنما هي صدقة أو طعام لأهله، فهذا دليل على وجوب وسنية هذه العبادة [ و] الدليل أيضاً [ قول أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: ( كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ] هذا الصحابي يتحدث مع أولاد الصحابة؛ لأنه عاش مع رسول الله، فهو يخبر الذين جاءوا من بعده، يقول: [ ( كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته ) ] لعلهم اختلفوا. أو قال قائل: كل واحد يذبح شاة، فإننا خمسة أولاد بالغون. ففصل لهم القول وبين لهم ما كان على عهد رسول الله، وهو الحق.. هو الطريق المستقيم.

فقوله: (كان الرجل) أي: المؤمن (في عهد رسول الله) أيام حياته صلى الله عليه وسلم (يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته) كثروا أو قلوا، أهل البيت امرأة وأولادها خمسة.. سبعة وزوجها، كلهم يضحون بشاة واحدة، وإن كان الأطفال بلغوا الرشد ما داموا يجمعهم طعام واحد، وأسرة واحدة، وبيت واحد، فتكفيهم شاة واحدة.

الأسرة.. البيت فيه رجال ونساء كثر لكن منزلهم واحد، وحياتهم واحدة، وطعامهم واحد، هؤلاء تجزيهم الشاة الواحدة، ولا يطالبون بأكثر من شاة، لكن إذا تفرق الأولاد، هذا إبراهيم في منزل وأولاده معه، وهذا عثمان مع أولاده في منزل آخر، حينئذ كل ولد له أولاد، وعليه أضحية، لكن ما داموا في منزل واحد فحينئذ الأضحية مجزية، ولا يطالبون بأكثر من شاة.

[ ثالثاً: فضلها ] ما فضل الأضحية؟ ما هي الحسنات التي نظفر بها من أجلها؟ ما هي الدرجة العالية التي نرقاها من أجلها؟ بين لنا فضل هذه الأضحية.

قال: [ يشهد لما لسنة الأضحية من الفضل العظيم: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم )] ومعنى إراقة الدم: سيلانه، يذبح الشاة فيسيل دمها، لا يوجد عمل في يوم العيد أفضل من الأضحية [ ( وإنها ) ] أي: الأضحية [ ( لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً )حسن هذا الحديث الترمذي ، فلا أحسب أن أحداً يسمع هذا ولا يضحي، إلا إذا كان فارغ الجيب فلا حرج [ وقوله صلى الله عليه وسلم وقد قالوا له ] أصحابه [ ما هذه الأضاحي يا رسول الله؟! قال: ( هي سنة أبيكم إبراهيم ) ] سنها الخليل عليه السلام [ ( قالوا: ما لنا منها؟ ) ] ما لنا من هذه الأضحية؟[ ( قال: بكل شعرة حسنة ) ] هل يوجد أكثر من هذا؟ هذا إذا كانت معزة فله بكل شعرة حسنة [ ( قالوا: فالصوف ) ] إذاً يا رسول الله؟ [ ( قال: بكل شعرة من الصوف حسنة ) ] إذاً: بشراكم! والذين لا يستطيعون بشراهم أيضاً فقط بالنية، لو كان عندنا لضحينا! هذه كافية.

أما [ حكمتها: من الحكمة في هذه الأضحية ] إذ كل عمل لابد له من علة وسبب وحكمة.

الحكمة الأولى: التقرب إلى الله تعالى بها

[ أولاً: التقرب إلى الله تعالى بها ] لنقرب من رضاه، فيحبنا، وينزلنا إذا متنا بجواره [ إذ قال سبحانه وتعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] ] وهذا أمر الله لرسوله [ وقال عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] ] والمراد من النسك هنا: الذبح.. الأضحية [ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163] والنسك هنا هو الذبح تقرباً إليه سبحانه وتعالى ] فالمراد بالنسك الذبح بشرط أن يكون تقرباً إلى الله، أما يذبح لغير الله فلا يسمى عبادة، لابد وأن يكون يتقرب بذلك ويتزلف ويتملق إلى الله؛ ليحبه ويرضى عنه.

الحكمة الثانية: إحياء سنة إمام الموحدين إبراهيم الخليل عليه السلام

[ ثانياً ] من الحكم [ إحياء سنة إمام الموحدين إبراهيم الخليل عليه السلام ] نحيي هذه السنة بأن نذبح كما ذبح، ونضحي كما ضحى [ إذ أوحى الله تعالى إليه ] أي: أعلمه بطريق خفي سريع، وهذا هو الوحي، أوحى إليه [ أن يذبح ولده إسماعيل ] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ [الصافات:83-85]، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:71-73] .. وقال أيضاً: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:101-102] أجاب هذا الغلام الطاهر النقي: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] (من الصابرين) على الذبح، وفصل الرأس عن الجسد.

هذا مما ابتلى الله به إبراهيم ليرفع درجته ويعلي مستواه، وقد قال تعالى في ذلك: اذكر يا رسولنا لأمتك، ولليهود، والنصارى وغيرهم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] فاز بها. من جملة هذه الأوامر والتكاليف: أن يذبح ولده الطفل الصغير [ ثم فداه ] أي: الله فدى إسماعيل [ بكبش فذبحه بدلاً عنه، قال تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] ] لما تله للجبين ناداه: اترك هذا، وخذ هذا، وإذا كبش أملح من الجنة.. من فوق السماوات السبع.

إذاً: فالمضحون من المؤمنين والمؤمنات استنوا بسنة إبراهيم، والاستنان بسنن الصالحين يعلي الدرجة، ويرفع المقام.

الحكمة الثالثة: التوسعة على العيال, وإشاعة الرحمة بين الفقراء والمساكين

[ ثالثاً ] من الحكم [ التوسعة على العيال يوم العيد، وإشاعة الرحمة بين الفقراء والمساكين ] وهذه علة عظيمة، فقد كنا في وقت مضى ما نأكل اللحم إلا من الموسم إلى الموسم، وإليكم لطيفة سمعتها من أمي، أروح بها على نفوسكم: امرأة جاء الخاطب ليخطبها فسألوه: كم تأكلون اللحم؟ فقال: في كل شهرين. فردوه فجاء خاطب ثانٍ فسألونه نفس السؤال فقال: ثلاث مرات في العام. فلم يقبلونه. فاحتال عليهم خاطب آخر فقال لهم: نأكل اللحم من العام إلى العام. فرضوا به، فسحرها بكلمة: من العام إلى العام.

إذاً: فهذه الذبيحة توسعة على الأسرة حتى يأكلوا اللحم، فقد يفقدونه من شهرين أو ثلاثة.

والعيال هم من تعولهم من زوجة وولد وأبناء، فاللحم يوم العيد متوفر لكل الفقراء والمساكين؛ لأن الأضحية -كما سيأتي بيانها- تقسم ثلاثة أقسام: قسم لأهل البيت، وقسم للأقارب والأصدقاء، وقسم للفقراء والمساكين.

الحكمة الرابعة: شكر الله تعالى على ما سخر لنا من بهيمة الأنعام

[ رابعاً:] الحكمة الرابعة من حكم الأضحية [ شكر الله تعالى على ما سخر لنا من بهيمة الأنعام ] الذي سخر لك الشاة تسوقها وتحلبها وتجز صوفها وشعرها ثم تذبحها وتأكلها ألا يستحق الشكر ؟! يعطيك قرصاً من العيش فتحمده وتشكره عليه! يكسوك ثوباً واحداً فترفع رأسك وتقول: جزاك الله خيراً وتذل له، والذي وهبك هذا الحيوان هو الذي خلقه، هو الذي سخره، هو الذي أحياه، هو الذي أقدرك على ذبحه وأكله أفلا تشكره؟ أعوذ بالله![ قال تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:36-37] ] أي: تتقونه فتطيب أرواحكم فيحبكم وتحبونه؛ لأن أصحاب الأرواح الخبيثة مبغضون لله، مكروهون عنده، لا يحبهم، ولا يقبلهم، هذه عملية لتزكية النفس وتطهيرها، هذا الذي يستفيده الله فقط.

وتأملوا الآية الكريمة! (فكلوا منها) أي: من الأضحية (وأطعموا القانع والمعتر) على حد سواء (كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون) من سخرها؟ الله. و(القانع والمعتر): الفقير والغني.

[ أولاً: التقرب إلى الله تعالى بها ] لنقرب من رضاه، فيحبنا، وينزلنا إذا متنا بجواره [ إذ قال سبحانه وتعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] ] وهذا أمر الله لرسوله [ وقال عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] ] والمراد من النسك هنا: الذبح.. الأضحية [ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163] والنسك هنا هو الذبح تقرباً إليه سبحانه وتعالى ] فالمراد بالنسك الذبح بشرط أن يكون تقرباً إلى الله، أما يذبح لغير الله فلا يسمى عبادة، لابد وأن يكون يتقرب بذلك ويتزلف ويتملق إلى الله؛ ليحبه ويرضى عنه.