شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع - مقدمات في البيوع-1


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الليلة السبت الموافق السادس عشر من محرم من سنة 1423 للهجرة، وهذا الدرس هو مقدمات في البيوع، ربما عندنا في هذه الليلة حوالي سبع مقدمات تقريباً، نأتي عليها بإذن الله تعالى.

أولاً: المقدمة الأولى: الحاجة إلى عقد البيع.

عقد البيع: هو أبو العقود جميعاً وأسبقها من حيث الوجود، وحاجة الناس إلى البيع وضرورتهم إليه فوق حاجتهم وضرورتهم إلى أي عقد آخر من العقود العادية التي يجرونها، ولهذا يذكر الفقهاء جميعاً عقد البيع في طليعة كتاب المعاملات أو كتاب العقود، أو في طليعة العقود التي يتحدثون عنها بعد كتاب العبادات، بعدما ينتهون من كتاب العبادات الذي هو الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج ينتقلون إلى المعاملات، فأول ما يبدءون به هو كتاب البيوع.

عقد البيع من العقود المسماة

وعقد البيع هو من العقود المسماة، ما معنى كونه من العقود المسماة؟ ما معنى كون البيع عقداً مسمى؟

معناها: أن البيع له اسم، أو ما له اسم؟ له اسم، ما اسمه؟ اسمه البيع.

كما أن عقد الإجارة عقد مسمى واسمه الإجارة، وهكذا هذه العقود التي لها أسماء يسميها العلماء: العقود المسماة، وهي تزيد على خمسة وعشرين عقداً من العقود الشرعية، مثلما ذكرنا: الإجارة، الرهن، الوديعة، الصلح، العارية، الهبة، الشركة، المضاربة، المزارعة، المساقاة، الوكالة.. إلى غير ذلك من العقود، هذه كلها تسمى عقوداً مسماة؛ لأن كل عقد منها يحمل اسماً.

طيب يقابل ذلك ماذا؟ عقود غير مسماة، هناك عقود غير مسماة في الماضي، يعني: لم يرد لها اسم في الشرع، ولكن الفقهاء الذين عايشوا وعاصروا تلك العقود أطلقوا عليها أسماء معينة فصارت مسماة الآن؛ لأن الفقهاء سموها.

الآن في العصر الحاضر يوجد عقود ليس لها اسم بالضبط، أو تحتاج إلى اسم خاص؛ لأنها مركبة من عدة عقود، مثلاً: عندما يدخل الإنسان إلى الفندق فيتفق مع أصحاب الفندق على أنه يسكن عندهم يوماً وليلة آكلاً شارباً، بخدمات معينة، من المطار إلى المطار، إلى مجموعة خدمات، من ذلك مثلاً: خدمات هاتفية، وخدمات الفاكس.. وإلى آخر الأشياء الموجودة.

هذه العملية قد تحتاج إلى اسم خاص تجمع كل هذه الاتفاقيات، هناك قد تكون أمام عقد قد لا يكون مسمى، ويوجد لذلك نظائر كثيرة في الحياة الجارية بين الناس اليوم؛ لأن التجارة والاقتصاد يتطور وينمو شيئاً فشيئاً والباب فيه مفتوح كما سوف يأتي الكلام الآن.

المقصود: بيان كلمة مسماة، وأنها تعني: أن هذه العقود تحمل أسماء يقابلها عقود غير مسماة، إما في الماضي وأطلق الفقهاء عليها أسماء فصارت مسماة، أو نقول: جدت الآن ولا زالت بحاجة إلى تسمية، مثل ذلك أيضاً ربما نقول: إنه بعض البطاقات الموجودة الآن، بطاقات التي يسمونها بطاقات الائتمان.. البطاقات الائتمانية، هذه بطاقة أيضاً تحتاج إلى تسمية معينة، هل هي عبارة عن قرض؟ هل هي إجارة؟ هل هي وكالة؟ هل هي خليط من ذلك كله؟ وقد كتب فيها أهل العلم، لكن لا يزال هناك نوع من البحث والتردد بشأنها.

يتفرع عن عقد البيع عقود أخرى، مثل: عقد السلف كما سوف نشير إليه، عقد الاستصناع، عقد الصرف، عقد المرابحة، التورية، الوضيعة، النقالة.. غيرها، لا بأس أن نجري تعريفاً سريعاً، سنعرف البيع ثم نعرف هذه الأشياء كلها بعد قليل.

المهم أن هناك عقد البيع وترتبط به عقود أخرى مثلما ذكرنا، ولذلك كان كثير من الفقهاء يقولون: كتاب البيوع بدلاً ما يقولون: كتاب البيع، فيأتون به بصيغة الجمع؛ إشارة إلى أنه يدخل في عقد البيع مجموعة من البيوع الأخرى التي يتضمنها كما ذكرنا. وأحياناً يقولون: عقد البيع.

إذاً: عقد البيع هو عقد مسمى.

عقد البيع من عقود المبادلات والمعاوضات

وأيضاً عقد البيع هو من عقود المبادلات، وقد يقولون: من عقود المعاوضات، فأما أنه عقد مبادلة؛ فإن الإنسان يبادل مالاً بمال، يبادل مثلاً هذا الكتاب بمبلغ من المال، وقد يجوز أن تكون المبادلة بشيء آخر ليس بنقد، وإنما مبادلة بكتاب آخر، أو ببضاعة أخرى، أو بسلعة أخرى.

هذا النوع من البيع ماذا يسمى؟ كوني أعطيك الكتاب هذا وتعطيني كتاباً آخر، أو أعطيك الكتاب وتعطيني الساعة التي معك إن كانت رخيصة وتعادل قيمتها أو تقاربها، أنا أحتاج الساعة وأنت تحتاج الكتاب، هذا النوع من البيع ماذا يسمى؟ يسمى مقايضة.

إذاً: البيع هو عبارة عن عقد مبادلة.. مبادلة مال بمال، وقد نقول عنه: إنه عقد معاوضة؛ لأنه لا يمكن أن يخلو من عوض، هناك سلعة وهناك ثمن وعوض لها، ولذلك لو كان هناك مثلاً هدية أو هبة أو عطية هل تسمى بيعاً؟ لا تسمى بيعاً، وليس فيها معاوضة، وليس فيها ثمن أو مبادلة أيضاً، فالبيع من عقود المبادلات ومن عقود المعاوضات.

تاريخ ظهور النقود ذات القيمة الثمنية

طبيعة الحال أن الناس أول ما بدءوا في تحصيل حاجاتهم كانت تقع هناك حاجة عندي تحتاجها أنت، وهناك شيء عندك أحتاجه أنا، فآخذ ما عندك وتأخذ ما عندي، وهذا ما عبرنا عنه قبل قليل بالمقايضة.

لكن المقايضة عملية لا تخلو من تعقيد وصعوبة؛ لأنه متى أكتشف أن الشيء الذي أحتاجه موجود عندك، وأن الشيء الذي تحتاجه أنت موجود عندي، وقد أحتاج شيئاً عندك وأنت تحتاج شيئاً عند فلان، وفلان يحتاج شيئاً عن رابع، وهكذا تصبح القضية أكثر تعقيداً، فلذلك أول ما بدأ الناس بعملية المقايضة؛ لأنها عملية يعني هي أول وأبسط وأبدأ ما يقوم الناس به، ثم بعد ذلك انتقل الناس إلى ابتكار واختراع عملية النقود والأموال التي تكون وسيلة للشراء والبيع والإبراء وسداد الديون.. وغير ذلك.

فهنا وجدت النقود ذات القيمة الثمنية، والتي يمكن أن يشتري بها كل من الآخر ما يحتاج إليه، وبهذا عرفت طريقة البيع، ثم توسع الأمر وتزايد بحسب حاجات الناس، وتنوعت ألوان البيوع كما أشرنا إلى شيء من ذلك قبل قليل.

وعقد البيع هو من العقود المسماة، ما معنى كونه من العقود المسماة؟ ما معنى كون البيع عقداً مسمى؟

معناها: أن البيع له اسم، أو ما له اسم؟ له اسم، ما اسمه؟ اسمه البيع.

كما أن عقد الإجارة عقد مسمى واسمه الإجارة، وهكذا هذه العقود التي لها أسماء يسميها العلماء: العقود المسماة، وهي تزيد على خمسة وعشرين عقداً من العقود الشرعية، مثلما ذكرنا: الإجارة، الرهن، الوديعة، الصلح، العارية، الهبة، الشركة، المضاربة، المزارعة، المساقاة، الوكالة.. إلى غير ذلك من العقود، هذه كلها تسمى عقوداً مسماة؛ لأن كل عقد منها يحمل اسماً.

طيب يقابل ذلك ماذا؟ عقود غير مسماة، هناك عقود غير مسماة في الماضي، يعني: لم يرد لها اسم في الشرع، ولكن الفقهاء الذين عايشوا وعاصروا تلك العقود أطلقوا عليها أسماء معينة فصارت مسماة الآن؛ لأن الفقهاء سموها.

الآن في العصر الحاضر يوجد عقود ليس لها اسم بالضبط، أو تحتاج إلى اسم خاص؛ لأنها مركبة من عدة عقود، مثلاً: عندما يدخل الإنسان إلى الفندق فيتفق مع أصحاب الفندق على أنه يسكن عندهم يوماً وليلة آكلاً شارباً، بخدمات معينة، من المطار إلى المطار، إلى مجموعة خدمات، من ذلك مثلاً: خدمات هاتفية، وخدمات الفاكس.. وإلى آخر الأشياء الموجودة.

هذه العملية قد تحتاج إلى اسم خاص تجمع كل هذه الاتفاقيات، هناك قد تكون أمام عقد قد لا يكون مسمى، ويوجد لذلك نظائر كثيرة في الحياة الجارية بين الناس اليوم؛ لأن التجارة والاقتصاد يتطور وينمو شيئاً فشيئاً والباب فيه مفتوح كما سوف يأتي الكلام الآن.

المقصود: بيان كلمة مسماة، وأنها تعني: أن هذه العقود تحمل أسماء يقابلها عقود غير مسماة، إما في الماضي وأطلق الفقهاء عليها أسماء فصارت مسماة، أو نقول: جدت الآن ولا زالت بحاجة إلى تسمية، مثل ذلك أيضاً ربما نقول: إنه بعض البطاقات الموجودة الآن، بطاقات التي يسمونها بطاقات الائتمان.. البطاقات الائتمانية، هذه بطاقة أيضاً تحتاج إلى تسمية معينة، هل هي عبارة عن قرض؟ هل هي إجارة؟ هل هي وكالة؟ هل هي خليط من ذلك كله؟ وقد كتب فيها أهل العلم، لكن لا يزال هناك نوع من البحث والتردد بشأنها.

يتفرع عن عقد البيع عقود أخرى، مثل: عقد السلف كما سوف نشير إليه، عقد الاستصناع، عقد الصرف، عقد المرابحة، التورية، الوضيعة، النقالة.. غيرها، لا بأس أن نجري تعريفاً سريعاً، سنعرف البيع ثم نعرف هذه الأشياء كلها بعد قليل.

المهم أن هناك عقد البيع وترتبط به عقود أخرى مثلما ذكرنا، ولذلك كان كثير من الفقهاء يقولون: كتاب البيوع بدلاً ما يقولون: كتاب البيع، فيأتون به بصيغة الجمع؛ إشارة إلى أنه يدخل في عقد البيع مجموعة من البيوع الأخرى التي يتضمنها كما ذكرنا. وأحياناً يقولون: عقد البيع.

إذاً: عقد البيع هو عقد مسمى.

وأيضاً عقد البيع هو من عقود المبادلات، وقد يقولون: من عقود المعاوضات، فأما أنه عقد مبادلة؛ فإن الإنسان يبادل مالاً بمال، يبادل مثلاً هذا الكتاب بمبلغ من المال، وقد يجوز أن تكون المبادلة بشيء آخر ليس بنقد، وإنما مبادلة بكتاب آخر، أو ببضاعة أخرى، أو بسلعة أخرى.

هذا النوع من البيع ماذا يسمى؟ كوني أعطيك الكتاب هذا وتعطيني كتاباً آخر، أو أعطيك الكتاب وتعطيني الساعة التي معك إن كانت رخيصة وتعادل قيمتها أو تقاربها، أنا أحتاج الساعة وأنت تحتاج الكتاب، هذا النوع من البيع ماذا يسمى؟ يسمى مقايضة.

إذاً: البيع هو عبارة عن عقد مبادلة.. مبادلة مال بمال، وقد نقول عنه: إنه عقد معاوضة؛ لأنه لا يمكن أن يخلو من عوض، هناك سلعة وهناك ثمن وعوض لها، ولذلك لو كان هناك مثلاً هدية أو هبة أو عطية هل تسمى بيعاً؟ لا تسمى بيعاً، وليس فيها معاوضة، وليس فيها ثمن أو مبادلة أيضاً، فالبيع من عقود المبادلات ومن عقود المعاوضات.

طبيعة الحال أن الناس أول ما بدءوا في تحصيل حاجاتهم كانت تقع هناك حاجة عندي تحتاجها أنت، وهناك شيء عندك أحتاجه أنا، فآخذ ما عندك وتأخذ ما عندي، وهذا ما عبرنا عنه قبل قليل بالمقايضة.

لكن المقايضة عملية لا تخلو من تعقيد وصعوبة؛ لأنه متى أكتشف أن الشيء الذي أحتاجه موجود عندك، وأن الشيء الذي تحتاجه أنت موجود عندي، وقد أحتاج شيئاً عندك وأنت تحتاج شيئاً عند فلان، وفلان يحتاج شيئاً عن رابع، وهكذا تصبح القضية أكثر تعقيداً، فلذلك أول ما بدأ الناس بعملية المقايضة؛ لأنها عملية يعني هي أول وأبسط وأبدأ ما يقوم الناس به، ثم بعد ذلك انتقل الناس إلى ابتكار واختراع عملية النقود والأموال التي تكون وسيلة للشراء والبيع والإبراء وسداد الديون.. وغير ذلك.

فهنا وجدت النقود ذات القيمة الثمنية، والتي يمكن أن يشتري بها كل من الآخر ما يحتاج إليه، وبهذا عرفت طريقة البيع، ثم توسع الأمر وتزايد بحسب حاجات الناس، وتنوعت ألوان البيوع كما أشرنا إلى شيء من ذلك قبل قليل.

المقدمة الثانية: ما يتعلق بموضوع العبادات والمعاملات، أشرنا إلى شيء من ذلك: أن الفقهاء والعلماء يقسمون أبحاثهم إلى قسمين:

القسم الأول يسمونه: العبادات.

والقسم الثاني يسمونه: المعاملات.

ويشمل العبادات من الطهارة إلى الحج والصوم، وما وراء ذلك فهو يعتبر من المعاملات، وقد يسميه بعضهم: بالعادات، فيقولون: قسمان: عبادات وعادات.

وهذا أيضاً موجود عند الناس، تقول: الصلاة مثلاً عبادة، لكنها تحولت عند بعض الناس إلى عادة، إذاً: عندهم فرق بين العبادة وبين العادة.

هذه العقود التي أشرنا إليها من البيوع والإجارة والرهن والإعارة والوديعة والصلح وو.. إلى آخره، هذه كلها تسمى معاملات، تدخل في باب المعاملات، وتدخل أيضاً في باب العادات أنها من الأعمال العادية، يعني: أن الأصل فيها أنها يمكن أن تجري بين الناس دون أن يحتاجوا إلى شريعة تبين لهم هذا، لكن الشريعة جاءت لتحكم هذا وتضبطه وتبين الحلال منه والحرام.

القسم الأول: العبادات

طبعاً العبادات لو أردنا أن نعرف العبادات سنجد أن المقصود بالعبادات: هي القرب المحضة التي يفعلها العبد بينه وبين ربه تبارك وتعالى؛ تقرباً إلى الله عز وجل وطمعاً في مرضاته وفي ثوابه، فالصلاة مثلاً هي قربة محضة يفعلها لوجه الله تعالى، وكذلك الزكاة، مع أن الزكاة فيها دفع مال، إلا أنه لا يدفع هذا المال من أجل أن يحصل على شيء مقابله أو على سلعة أو على دنيا، وإنما يدفع المال تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، وطمعاً في الثواب، وطمعاً في النجاة من العقوبة، وهكذا الصوم والحج، فالعبادات: قرب محضة متمحضة للتقرب إلى الله عز وجل.

بخلاف المعاملات: فهي معاملة بين الناس ففيها معاوضة وأخذ وعطاء، ومثلما ذكرنا قبل قليل: مبادلة، وفائدة لهذا الطرف وفائدة لذاك، فالمشتري اشترى؛ لأنه يحتاج إلى السلعة، والبائع باع؛ لأنه يحتاج إلى الثمن؛ ولهذا نقول: إن هذا لا يدخل في باب الإعانة للطرف الآخر، يعني الرسول عليه الصلاة والسلام كان يبيع ويشتري في المدينة من اليهود، فهل تقول: إن بيعه وشراءه من اليهود كان مثلاً إعانة لهم؟ لا؛ لأنه لما باع منهم واشترى كان ذلك لمصلحته هو ولمصلحة المسلمين، وإن كان الطرف الآخر قد يستفيد من ذلك أيضاً، فهذه قضايا الأصل فيها: تبادل المنافع بين الأطراف المشتركة في هذا الأمر.

وهكذا كانت المعاملات كلها تدور على تبادل المنافع والأموال بين الناس بواسطة العقود والتصرفات المختلفة، وعامة كتب الفقه هي على هذا الترتيب الذي ذكرته: أنه يكون فيها العبادات ويكون فيها المعاملات، وهذا تقسيم اصطلاحي بحت، ربما نقول: إنه تقسيم موضوعي يراعي طبيعة الموضوع الذي ينتمي إليه الباب، والناس والطلاب لابد لهم من تقسيمات في أبواب العلم حتى يميزوا بعضها عن بعض، ولا شك أن هذا الاصطلاح قد يترتب عليه مع الوقت عند بعض الخاصة وكثير من العامة بعض اللبس، ولهذا استنكر الأستاذ: سيد قطب رحمه الله في كتاب: خصائص التصور الإسلامي، وكأنه مال إلى انتقاد هذا التقسيم، وأن المسألة كلها تتعلق بعبادات وأنشطة للمؤمن يقوم بها بينه وبين الله تبارك وتعالى، وفي نظري أن هذا المأخذ الذي ذكره سيد رحمه الله تعالى فيه نظر؛ لأن تقسيم الفقهاء معتبر وصحيح وله أصل في الشريعة، فالإسلام ليس ديناً كهنوتياً محضاً مختصاً بالعلاقة الروحانية بين العبد وبين ربه، كما هي الحال بالنسبة للنصارى مثلاً في دينهم المحرف، ولكن الإسلام دين شمولي تكاملي، وهذه الشمولية والتكاملية في الإسلام سر من أسرار عظمته إذ جعل الله سبحانه وتعالى لكل شيء قدراً.

فوضع الله عز وجل للعبادات المحضة نظاماً خاصاً كما سوف أشير إليه، وجعل للمعاملات أو العادات نظاماً آخر.

نظام العبادات في الإسلام

نظام العبادات نظام تفصيلي توقيفي، معنى كونه توقيفياً: أن العبادات لا يجوز لأحد أن يخترع أو يبتكر فيها شيئاً إلا أن يكون الشرع قد أذن فيه، هذا معنى كونه توقيفياً كما نص عليه الإمام أحمد وفقهاء أهل الحديث، وهذا من حيث الأصل إجماع: أن العبادات الأصل فيها أنها توقيفية، لا يجوز لأحد أن يبتكر عبادة لم يكن مأذوناً بها، فلو أن إنساناً ابتكر عبادة: فإذا ارتفعت الشمس وسخن الجو حفر لنفسه في الأرض إلى النصف ودفن نصف بدنه وقال: إنه يتعبد الله بذلك! سيقول له كل العلماء بل كل المسلمين: إن هذه العبادة التي تزعمها عبادة بدعية ما أنزل الله بها من سلطان، ولهذا فهي رد عليه.

إذاً: نقول: أن نظام العبادات في الإسلام نظام توقيفي أولاً.

ثم هو نظام تفصيلي. ومعنى كونه تفصيلياً: أن الشريعة جاءت بتفصيل العبادات في سببها، فسبب العبادة لابد أن يكون مشروعاً.

في نوعها فنوع العبادة كونها صلاة، أو صياماً، أو حجاً.. أو غير ذلك، لابد أن يكون مشروعاً أيضاً.

في صفة العبادة: قياماً، ركوعاً، سجوداً، قياماً، قعوداً.. هذا أيضاً لابد أن يكون مشروعاً.

في وقتها، فوقت العبادة لابد أن يكون مشروعاً: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وهكذا الصيام، الوقوف بعرفة، الزكاة أيضاً، الحول.. وهكذا ما يتعلق بالوقت.

أيضاً في عددها، فإن عدد العبادة لابد أن يكون محدداً: خمس صلوات في اليوم والليلة مثلاً، الصلاة أربع ركعات.

إذاً: ذكرنا خمسة أشياء أو لا؟

نقول أولاً: في نوع العبادة، وفي سببها، وفي صفتها وفي عددها، وفي وقتها.

خمسة أشياء كلها لابد أن يكون عندنا إذن من الشارع بها؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فإذا اخترعنا نحن عبادة جديدة لم يأذن بها الله وقعنا في هذه الآية.

إذاً: هذا نظام العبادات في الإسلام، فهي توقيفية كما ذكرنا، وهذا جانب من جوانب يسر الإسلام وسماحته؛ لأنه لو فتح الشرع باب التوسعة على الناس في ابتكار عبادات جديدة، كما يقع فيه بعض المبتدعين، أو بعض المتوسعين مثلاً، وصاروا كلما جاءت مناسبة اخترعوا عبادة تليق بها، لوجدت أنه كما تجد في بعض البيئات الإسلامية ربما يكون عندهم في السنة ثلاثمائة وستون مناسبة، كل مناسبة يقام لها حفل وعيد واجتماع وذكر.. وأعمال معينة، فهذه من الآصار والأغلال التي يلقيها الناس ويقيمونها على أنفسهم؛ بسبب جهلهم بقانون الشريعة.

ولهذا نقول: إن من يسر الشريعة وسماحتها أن الله تعالى حد لنا الواجبات فلا نزيد فيها؛ حتى لا تتحول حياة الناس كلها إلى صلة ونشاط متواصل من الأعمال التعبدية والقرب التي تلهيهم عن أعمال أخرى يريدها الله سبحانه وتعالى منهم، كالمعاملات، والأعمال الدنيوية، والبيع والشراء، والضرب في الأرض؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يذكر هذا وهذا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، وهكذا جاء الكلام في الحج وغيره مما سبق أن ذكرناه في أكثر من مناسبة.

موسى عليه السلام قال للرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: ( إن الله فرض على أمتي خمسين صلاة )، قال له: ( إن أمتك لا تطيق، فارجع إلى ربك واسأله التخفيف )، وهذا الذي تجد أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حاذروه عن هذه الأمة وسألوا ربهم التخفيف؛ لأن بعض أتباعهم ربما عن إخلاص، لكن الإخلاص لا يكون مقبولاً إلا إذا صاحبه علم وفهم واتباع، فيقعون في إنشاء واختراع عبادات وطقوس ورسوم لم يأذن بها الله تعالى.

القسم الثاني: المعاملات

أما فيما يتعلق بالمعاملات فالأصل أن المعاملات عفو، ومعنى كونها عفواً: أن الأصل فيها الحل، والأصل فيها الإباحة، والأصل الصحة في المعاملات وفي العقود، ولا نحتاج إلى دليل فيها، بالعكس لا نمنع منها إلا ما جاء الدليل بمنعه وإلا دخلنا في عموم قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59].

فمن تحكم في عباد الله تعالى وفي رزق الله تعالى، وفي تصرفات الناس وعقودهم بالتحليل والتحريم بغير إذن من الله سبحانه وتعالى فهو واقع في هذه الآية: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59].

ولذلك جاءت النصوص الشرعية في مجال المعاملات قليلة جداً، فتجد مجلدات مثلاً في العبادات، بل في الصلاة وحدها، بينما تجد في المعاملات كلها أربعين خمسين صفحة وأحاديث معدودة، وربما يقوم الباب كله على حديث واحد، باب الشفعة مثلاً، أو باب إحياء الموات، وربما لا تجد في الباب كله حديثاً واحداً أيضاً، وجاءت النصوص في المعاملات ليست تتكلم عما يجوز وإنما تتكلم عن ماذا؟

عما لا يجوز؛ ولهذا يقول لك الفقهاء مثلاً: باب البيوع المحرمة، أو يقولون بشكل أحسن: البيوع المنهي عنها؛ لتشمل المحرم والمكروه, لماذا؟ لأن الأصل هو الإباحة؛ ولهذا قد يجد للناس من البيوع أو الشركات أو المعاملات شيء لم يكن معروفاً عند أسلافهم، فلهذا جعل الله سبحانه وتعالى النصوص في باب المعاملات أو في باب العادات ليست نصوصاً تفصيلية، وإنما هي نصوص إجمالية، إما أنها نصوص تبين ما هو محرم وممنوع، هذا نوع، أو أنها نصوص تضع القواعد الكلية العامة في الباب، وينطلق الناس منها.

والمقصود من النصوص الشرعية في المعاملات: هي حفظ المعاملة بين الناس، وحفظ حقوق الناس، ومنع الضرر ومنع الضرار، ومنع الاضطراب، ومنع الخصومات.. وما أشبه ذلك.

وبهذا يعلم أنه ليس كل ما ورد في الشريعة فهو من العبادات، ولكن بدون شك أنه بالنية الصالحة والقصد الحسن ومراقبة الله سبحانه وتعالى والتزام شريعته، يثاب المرء على مثل هذه الأشياء.

المباح أوسع الدوائر في الشريعة

نبقى أيضاً في الموضوع نفسه، فنقول: إن البيوع، والمعاملات، والعقود.. كلها هي داخلة في الشريعة وهي من الشريعة، لكن الشريعة خمسة أحكام، وهو ما يسميه الأصوليون بالأحكام التكليفية، ومن الأحكام التكليفية: المباح عند كثير من الأصوليين، والمباح: هو داخل في دائرة ما استوى طرفاه، ليس عليه ثواب بذاته ولا عقاب بذاته، لا يذم ولا يحمد لذاته، وإنما يذم ويحمد لاعتبار آخر.

وهذه الدائرة دائرة المباح هي أوسع الدوائر في الشريعة، فأنت حينما تأتي إلى الواجبات تجدها معدودة محدودة، تأتي إلى المحرمات مثل ذلك، المستحبات المكروهات.. لكن حين تأتي إلى دائرة المباح تجد أن في هذه الدائرة أشياء كثيرة جداً مما لا يتناهى ولا يأتي عليه الحصر، وهو مما سكت الله سبحانه وتعالى عنه، أو بين حله وجوازه بنص كتابه أو بحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بما أشبه ذلك من الأشياء التي يعرف بها ويتعرف بها إلى الأحكام الشرعية.

ولهذا يقول جمهور الأصوليين: ما من مسألة تقع للناس إلا ولله سبحانه وتعالى فيها حكم علمه من علمه وجهله من جهله، ويقصدون بهذا أنه حتى المباح، يعني: كوننا نقول مثلاً: إن شرب الماء مباح -ودعوني أشرب قليلاً- هذا حكم شرعي وهو الإباحة.

طبعاً العبادات لو أردنا أن نعرف العبادات سنجد أن المقصود بالعبادات: هي القرب المحضة التي يفعلها العبد بينه وبين ربه تبارك وتعالى؛ تقرباً إلى الله عز وجل وطمعاً في مرضاته وفي ثوابه، فالصلاة مثلاً هي قربة محضة يفعلها لوجه الله تعالى، وكذلك الزكاة، مع أن الزكاة فيها دفع مال، إلا أنه لا يدفع هذا المال من أجل أن يحصل على شيء مقابله أو على سلعة أو على دنيا، وإنما يدفع المال تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، وطمعاً في الثواب، وطمعاً في النجاة من العقوبة، وهكذا الصوم والحج، فالعبادات: قرب محضة متمحضة للتقرب إلى الله عز وجل.

بخلاف المعاملات: فهي معاملة بين الناس ففيها معاوضة وأخذ وعطاء، ومثلما ذكرنا قبل قليل: مبادلة، وفائدة لهذا الطرف وفائدة لذاك، فالمشتري اشترى؛ لأنه يحتاج إلى السلعة، والبائع باع؛ لأنه يحتاج إلى الثمن؛ ولهذا نقول: إن هذا لا يدخل في باب الإعانة للطرف الآخر، يعني الرسول عليه الصلاة والسلام كان يبيع ويشتري في المدينة من اليهود، فهل تقول: إن بيعه وشراءه من اليهود كان مثلاً إعانة لهم؟ لا؛ لأنه لما باع منهم واشترى كان ذلك لمصلحته هو ولمصلحة المسلمين، وإن كان الطرف الآخر قد يستفيد من ذلك أيضاً، فهذه قضايا الأصل فيها: تبادل المنافع بين الأطراف المشتركة في هذا الأمر.

وهكذا كانت المعاملات كلها تدور على تبادل المنافع والأموال بين الناس بواسطة العقود والتصرفات المختلفة، وعامة كتب الفقه هي على هذا الترتيب الذي ذكرته: أنه يكون فيها العبادات ويكون فيها المعاملات، وهذا تقسيم اصطلاحي بحت، ربما نقول: إنه تقسيم موضوعي يراعي طبيعة الموضوع الذي ينتمي إليه الباب، والناس والطلاب لابد لهم من تقسيمات في أبواب العلم حتى يميزوا بعضها عن بعض، ولا شك أن هذا الاصطلاح قد يترتب عليه مع الوقت عند بعض الخاصة وكثير من العامة بعض اللبس، ولهذا استنكر الأستاذ: سيد قطب رحمه الله في كتاب: خصائص التصور الإسلامي، وكأنه مال إلى انتقاد هذا التقسيم، وأن المسألة كلها تتعلق بعبادات وأنشطة للمؤمن يقوم بها بينه وبين الله تبارك وتعالى، وفي نظري أن هذا المأخذ الذي ذكره سيد رحمه الله تعالى فيه نظر؛ لأن تقسيم الفقهاء معتبر وصحيح وله أصل في الشريعة، فالإسلام ليس ديناً كهنوتياً محضاً مختصاً بالعلاقة الروحانية بين العبد وبين ربه، كما هي الحال بالنسبة للنصارى مثلاً في دينهم المحرف، ولكن الإسلام دين شمولي تكاملي، وهذه الشمولية والتكاملية في الإسلام سر من أسرار عظمته إذ جعل الله سبحانه وتعالى لكل شيء قدراً.

فوضع الله عز وجل للعبادات المحضة نظاماً خاصاً كما سوف أشير إليه، وجعل للمعاملات أو العادات نظاماً آخر.

نظام العبادات نظام تفصيلي توقيفي، معنى كونه توقيفياً: أن العبادات لا يجوز لأحد أن يخترع أو يبتكر فيها شيئاً إلا أن يكون الشرع قد أذن فيه، هذا معنى كونه توقيفياً كما نص عليه الإمام أحمد وفقهاء أهل الحديث، وهذا من حيث الأصل إجماع: أن العبادات الأصل فيها أنها توقيفية، لا يجوز لأحد أن يبتكر عبادة لم يكن مأذوناً بها، فلو أن إنساناً ابتكر عبادة: فإذا ارتفعت الشمس وسخن الجو حفر لنفسه في الأرض إلى النصف ودفن نصف بدنه وقال: إنه يتعبد الله بذلك! سيقول له كل العلماء بل كل المسلمين: إن هذه العبادة التي تزعمها عبادة بدعية ما أنزل الله بها من سلطان، ولهذا فهي رد عليه.

إذاً: نقول: أن نظام العبادات في الإسلام نظام توقيفي أولاً.

ثم هو نظام تفصيلي. ومعنى كونه تفصيلياً: أن الشريعة جاءت بتفصيل العبادات في سببها، فسبب العبادة لابد أن يكون مشروعاً.

في نوعها فنوع العبادة كونها صلاة، أو صياماً، أو حجاً.. أو غير ذلك، لابد أن يكون مشروعاً أيضاً.

في صفة العبادة: قياماً، ركوعاً، سجوداً، قياماً، قعوداً.. هذا أيضاً لابد أن يكون مشروعاً.

في وقتها، فوقت العبادة لابد أن يكون مشروعاً: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وهكذا الصيام، الوقوف بعرفة، الزكاة أيضاً، الحول.. وهكذا ما يتعلق بالوقت.

أيضاً في عددها، فإن عدد العبادة لابد أن يكون محدداً: خمس صلوات في اليوم والليلة مثلاً، الصلاة أربع ركعات.

إذاً: ذكرنا خمسة أشياء أو لا؟

نقول أولاً: في نوع العبادة، وفي سببها، وفي صفتها وفي عددها، وفي وقتها.

خمسة أشياء كلها لابد أن يكون عندنا إذن من الشارع بها؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فإذا اخترعنا نحن عبادة جديدة لم يأذن بها الله وقعنا في هذه الآية.

إذاً: هذا نظام العبادات في الإسلام، فهي توقيفية كما ذكرنا، وهذا جانب من جوانب يسر الإسلام وسماحته؛ لأنه لو فتح الشرع باب التوسعة على الناس في ابتكار عبادات جديدة، كما يقع فيه بعض المبتدعين، أو بعض المتوسعين مثلاً، وصاروا كلما جاءت مناسبة اخترعوا عبادة تليق بها، لوجدت أنه كما تجد في بعض البيئات الإسلامية ربما يكون عندهم في السنة ثلاثمائة وستون مناسبة، كل مناسبة يقام لها حفل وعيد واجتماع وذكر.. وأعمال معينة، فهذه من الآصار والأغلال التي يلقيها الناس ويقيمونها على أنفسهم؛ بسبب جهلهم بقانون الشريعة.

ولهذا نقول: إن من يسر الشريعة وسماحتها أن الله تعالى حد لنا الواجبات فلا نزيد فيها؛ حتى لا تتحول حياة الناس كلها إلى صلة ونشاط متواصل من الأعمال التعبدية والقرب التي تلهيهم عن أعمال أخرى يريدها الله سبحانه وتعالى منهم، كالمعاملات، والأعمال الدنيوية، والبيع والشراء، والضرب في الأرض؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يذكر هذا وهذا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، وهكذا جاء الكلام في الحج وغيره مما سبق أن ذكرناه في أكثر من مناسبة.

موسى عليه السلام قال للرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: ( إن الله فرض على أمتي خمسين صلاة )، قال له: ( إن أمتك لا تطيق، فارجع إلى ربك واسأله التخفيف )، وهذا الذي تجد أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حاذروه عن هذه الأمة وسألوا ربهم التخفيف؛ لأن بعض أتباعهم ربما عن إخلاص، لكن الإخلاص لا يكون مقبولاً إلا إذا صاحبه علم وفهم واتباع، فيقعون في إنشاء واختراع عبادات وطقوس ورسوم لم يأذن بها الله تعالى.

أما فيما يتعلق بالمعاملات فالأصل أن المعاملات عفو، ومعنى كونها عفواً: أن الأصل فيها الحل، والأصل فيها الإباحة، والأصل الصحة في المعاملات وفي العقود، ولا نحتاج إلى دليل فيها، بالعكس لا نمنع منها إلا ما جاء الدليل بمنعه وإلا دخلنا في عموم قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59].

فمن تحكم في عباد الله تعالى وفي رزق الله تعالى، وفي تصرفات الناس وعقودهم بالتحليل والتحريم بغير إذن من الله سبحانه وتعالى فهو واقع في هذه الآية: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59].

ولذلك جاءت النصوص الشرعية في مجال المعاملات قليلة جداً، فتجد مجلدات مثلاً في العبادات، بل في الصلاة وحدها، بينما تجد في المعاملات كلها أربعين خمسين صفحة وأحاديث معدودة، وربما يقوم الباب كله على حديث واحد، باب الشفعة مثلاً، أو باب إحياء الموات، وربما لا تجد في الباب كله حديثاً واحداً أيضاً، وجاءت النصوص في المعاملات ليست تتكلم عما يجوز وإنما تتكلم عن ماذا؟

عما لا يجوز؛ ولهذا يقول لك الفقهاء مثلاً: باب البيوع المحرمة، أو يقولون بشكل أحسن: البيوع المنهي عنها؛ لتشمل المحرم والمكروه, لماذا؟ لأن الأصل هو الإباحة؛ ولهذا قد يجد للناس من البيوع أو الشركات أو المعاملات شيء لم يكن معروفاً عند أسلافهم، فلهذا جعل الله سبحانه وتعالى النصوص في باب المعاملات أو في باب العادات ليست نصوصاً تفصيلية، وإنما هي نصوص إجمالية، إما أنها نصوص تبين ما هو محرم وممنوع، هذا نوع، أو أنها نصوص تضع القواعد الكلية العامة في الباب، وينطلق الناس منها.

والمقصود من النصوص الشرعية في المعاملات: هي حفظ المعاملة بين الناس، وحفظ حقوق الناس، ومنع الضرر ومنع الضرار، ومنع الاضطراب، ومنع الخصومات.. وما أشبه ذلك.

وبهذا يعلم أنه ليس كل ما ورد في الشريعة فهو من العبادات، ولكن بدون شك أنه بالنية الصالحة والقصد الحسن ومراقبة الله سبحانه وتعالى والتزام شريعته، يثاب المرء على مثل هذه الأشياء.