شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب أركان الحج والعمرة


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله في الباب الثاني: [باب أركان الحج والعمرة].

هذا هو الباب الثاني: قال: [أركان الحج: الوقوف بـعرفة وطواف الزيارة].

أولاً: لابد أن نشير إشارة سريعة إلى الفرق بين الركن والشرط؛ لأنهما متشابهان من جهة أن لا تكون العبادة صحيحة إلا بهما، لكن هناك فرق بين الركن وبين الشرط، فالشرط قبل العبادة، والركن في ماهيتها، في ضمنها، ولهذا نقول مثلاً للصلاة: الطهارة شرط للصلاة، لكن السجود ركن فيها؛ لأنه داخل في ماهيتها، وهكذا مثلاً النية، واستقبال القبلة وغير ذلك، فهذه شروط وتلك أركان، هذا هو الفرق بين الركن وبين الشرط.

الركن الأول: الوقوف بعرفة

المؤلف رحمه الله قال: [أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة] فأما الوقوف بعرفة فهو ركن باتفاق العلماء، وهو أعظم أركان الحج، ومن الدليل على ركنيته قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، وهذا أمر لهم بأن يقفوا بعرفة، والآية الأخرى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، فهو أمر لهم أن يقفوا بـعرفة ؛ لأنهم كانوا في الجاهلية كانت قريش لا تقف بـعرفة، وتقف بـالمزدلفة ويقولون: لا يخرجون إلى الحل؛ لأن عرفة الحل والمزدلفة حرم، فكانوا يبقون في الحرم، ويتركون الناس يخرجون إلى عرفة، أما هم فيرون أنهم أهل البيت، فيظلون في مزدلفة، ولا يفيضون إلى عرفة، فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، يعني: أن يقفوا بـعرفة، ثم يدفعوا منها كما يدفع غيرهم من الحاج، فالآيات تدل على وجوب الوقوف بـعرفة، وأنه من أركان الحج.

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة )، وقد رواه الخمسة وسنده جيد، فهو دليل على أن الوقوف بـعرفة هو أعظم أركان الحج، وأنه لا يصح الحج إلا به، ولهذا من فاته الوقوف بـعرفة فقد فاته الحج

وكذلك ما رواه الخمسة أيضاً بسند جيد عن عروة بن مضرس الطائي أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بـالمزدلفة فقال له: ( يا رسول الله! إني أتيتك من جبل طي، وقد أتعبت راحلتي، وأضنيت نفسي، ما تركت جبلاً إلا وقفت عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه، وكان قد وقف قبل ذلك بـعرفة أية ساعة شاء من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه ).

فدل هذا الحديث أيضاً على أن الوقوف بعرفة شرط لصحة الحج، وهذا كما ذكرت إجماع من أهل العلم لا خلاف فيه، ولهذا لا داعٍ للاستطراد به، وكلهم أجمعوا على أن الوقوف بـعرفة ركن في الحج.

الركن الثاني: طواف الإفاضة

الركن الثاني الذي ذكره المصنف رحمه الله: وهو طواف الزيارة، وطواف الزيارة أيضاً المقصود به طواف الحج، طواف الركن، طواف الفريضة، طواف الصدر عند بعضهم يسمونه كذلك، فهذا الطواف الذي هو طواف الحج، لا يكون إلا بعد عرفة باتفاقهم أيضاً كما ذكرناه ونوهنا عليه بالأمس.

هذا الطواف أيضاً هو ركن من أركان الحج، وقد فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر به وقال لـعائشة : ( غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وقال عن صفية : ( أفحابستنا هي؟ )؛ لأنه كان سينتظرها للطواف، لو كانت لم تطف طواف الزيارة، طواف الحج، فلما علم أنها قد طافت قال: ( فلتنفر إذاً )، فدل هذا على أن طواف الزيارة ركن، وأنه لابد منه، وهذا أيضاً باتفاق العلماء.

الركن الثالث: الإحرام

كم ذكر المصنف من أركان الحج؟ ذكر اثنين فقط، وهناك ركن ثالث لم يذكره المصنف وهو: الإحرام -فتح الله عليك- وقد سبق أن ذكرناه في عام مضى، وأن جمهور العلماء بما فيهم الحنابلة يرون الإحرام ركناً في الحج وفي العمرة أيضاً كما سيأتي، ولكن المصنف لم يذكره هنا؛ لأن الإحرام يطلق على أكثر من معنى، فإذا كان المراد بالإحرام الدخول في النسك أو كما يعبرون أحياناً: نية الدخول في النسك، فهو حينئذٍ شرط لابد منه أو ركن، نقول: شرط أو ركن، وإن قلنا: إنه شرط بهذا المعنى باعتبار أنه يقع قبل العبادة، فإن هذا الشرط ينبغي يستديم ويستمر ولهذا الأحناف قالوا: هو شرط في الابتداء ركن في الاستدامة، يعني: يبدأ به باعتباره شرطاً للعبادة، لكن يستديمه بحيث لا يقطع نيته ولا يرفضها، ولهذا نقول: إن الإحرام الذي هو الدخول في النسك أو نية الدخول في النسك هو ركن أيضاً، ولهذا ينبغي أن تكون أركان الحج ثلاثة.

أما إن أريد بالإحرام معنى آخر، فهذا له تفصيل، مثلما لو أراد بالإحرام الامتناع عن المحظورات، فهذا قد يدخل في الوجوب، أو أراد بالإحرام معنى خاصاً من المحظورات، مثل: لبس ثياب الإحرام وخلع المخيط، هذا نوع من المحظورات، ففي الحالة هذه له حكم آخر كما ذكرنا.

المقصود: أن الإحرام -وهو نية الحج- أو الدخول في الحج أو في العمرة، هو ركن أو شرط، والخلاف في هذه المسألة يسير.

إذاً: أركان الحج ثلاثة.

المؤلف رحمه الله قال: [أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة] فأما الوقوف بعرفة فهو ركن باتفاق العلماء، وهو أعظم أركان الحج، ومن الدليل على ركنيته قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، وهذا أمر لهم بأن يقفوا بعرفة، والآية الأخرى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، فهو أمر لهم أن يقفوا بـعرفة ؛ لأنهم كانوا في الجاهلية كانت قريش لا تقف بـعرفة، وتقف بـالمزدلفة ويقولون: لا يخرجون إلى الحل؛ لأن عرفة الحل والمزدلفة حرم، فكانوا يبقون في الحرم، ويتركون الناس يخرجون إلى عرفة، أما هم فيرون أنهم أهل البيت، فيظلون في مزدلفة، ولا يفيضون إلى عرفة، فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، يعني: أن يقفوا بـعرفة، ثم يدفعوا منها كما يدفع غيرهم من الحاج، فالآيات تدل على وجوب الوقوف بـعرفة، وأنه من أركان الحج.

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة )، وقد رواه الخمسة وسنده جيد، فهو دليل على أن الوقوف بـعرفة هو أعظم أركان الحج، وأنه لا يصح الحج إلا به، ولهذا من فاته الوقوف بـعرفة فقد فاته الحج

وكذلك ما رواه الخمسة أيضاً بسند جيد عن عروة بن مضرس الطائي أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بـالمزدلفة فقال له: ( يا رسول الله! إني أتيتك من جبل طي، وقد أتعبت راحلتي، وأضنيت نفسي، ما تركت جبلاً إلا وقفت عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه، وكان قد وقف قبل ذلك بـعرفة أية ساعة شاء من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه ).

فدل هذا الحديث أيضاً على أن الوقوف بعرفة شرط لصحة الحج، وهذا كما ذكرت إجماع من أهل العلم لا خلاف فيه، ولهذا لا داعٍ للاستطراد به، وكلهم أجمعوا على أن الوقوف بـعرفة ركن في الحج.

الركن الثاني الذي ذكره المصنف رحمه الله: وهو طواف الزيارة، وطواف الزيارة أيضاً المقصود به طواف الحج، طواف الركن، طواف الفريضة، طواف الصدر عند بعضهم يسمونه كذلك، فهذا الطواف الذي هو طواف الحج، لا يكون إلا بعد عرفة باتفاقهم أيضاً كما ذكرناه ونوهنا عليه بالأمس.

هذا الطواف أيضاً هو ركن من أركان الحج، وقد فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر به وقال لـعائشة : ( غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وقال عن صفية : ( أفحابستنا هي؟ )؛ لأنه كان سينتظرها للطواف، لو كانت لم تطف طواف الزيارة، طواف الحج، فلما علم أنها قد طافت قال: ( فلتنفر إذاً )، فدل هذا على أن طواف الزيارة ركن، وأنه لابد منه، وهذا أيضاً باتفاق العلماء.

كم ذكر المصنف من أركان الحج؟ ذكر اثنين فقط، وهناك ركن ثالث لم يذكره المصنف وهو: الإحرام -فتح الله عليك- وقد سبق أن ذكرناه في عام مضى، وأن جمهور العلماء بما فيهم الحنابلة يرون الإحرام ركناً في الحج وفي العمرة أيضاً كما سيأتي، ولكن المصنف لم يذكره هنا؛ لأن الإحرام يطلق على أكثر من معنى، فإذا كان المراد بالإحرام الدخول في النسك أو كما يعبرون أحياناً: نية الدخول في النسك، فهو حينئذٍ شرط لابد منه أو ركن، نقول: شرط أو ركن، وإن قلنا: إنه شرط بهذا المعنى باعتبار أنه يقع قبل العبادة، فإن هذا الشرط ينبغي يستديم ويستمر ولهذا الأحناف قالوا: هو شرط في الابتداء ركن في الاستدامة، يعني: يبدأ به باعتباره شرطاً للعبادة، لكن يستديمه بحيث لا يقطع نيته ولا يرفضها، ولهذا نقول: إن الإحرام الذي هو الدخول في النسك أو نية الدخول في النسك هو ركن أيضاً، ولهذا ينبغي أن تكون أركان الحج ثلاثة.

أما إن أريد بالإحرام معنى آخر، فهذا له تفصيل، مثلما لو أراد بالإحرام الامتناع عن المحظورات، فهذا قد يدخل في الوجوب، أو أراد بالإحرام معنى خاصاً من المحظورات، مثل: لبس ثياب الإحرام وخلع المخيط، هذا نوع من المحظورات، ففي الحالة هذه له حكم آخر كما ذكرنا.

المقصود: أن الإحرام -وهو نية الحج- أو الدخول في الحج أو في العمرة، هو ركن أو شرط، والخلاف في هذه المسألة يسير.

إذاً: أركان الحج ثلاثة.

الأول: الإحرام من الميقات

قال: [وواجباته: الإحرام من الميقات]، فإن هذا لابد منه، فإن الإنسان ينبغي له أن يحرم من الميقات عند جميع العلماء، كما ذكرنا خلافاً للحسن البصري فلو أنه جاوز الميقات وهو ناوٍ للحج أو العمرة غير محرم، وغير ناوٍ لذلك، فإنه يأثم بهذا، والفقهاء يرون عليه دماً بذلك إلا أن يعود فيحرم منه.

الثاني: الوقوف بعرفة إلى الليل

قال: [والوقوف بـعرفة إلى الليل] هذا هو الواجب الثاني.

فالوقوف بـعرفة إلى الليل ذكرناه بالأمس، وهو أنه ما يتعلق بأصل الوقوف بـعرفة، ما حكمه؟ ركن، هذا أصل الوقوف حتى قال الحنابلة وغيرهم من الفقهاء: لو مر بها وهو عابر، أو حتى لو كان في طيارة ومر بجوها عندهم لأجزأه ذلك واعتبر واقفاً، أو مر على سيارته ولم يقف أو يجلس ولو لحظة أو ومضة، فهذا تحقق له الوقوف، لكن الواجب متعلق بقوله: (إلى الليل)، وأن يدرك جزءاً من النهار وجزءاً من الليل بـعرفة، فهذا عندهم واجب، وقد ذكرنا تفصيله أمس، وذكرنا خمسة أقوال، نذكرها باختصار:

القول الأول: أن هذا ركن، وهو قول مالك، يقول: لو خرج من عرفة قبل الليل فسد حجه.

القول الثاني: أنه واجب وعليه دم.

القول الثالث: أنه واجب وليس عليه دم.

القول الرابع: أنه يعذر بالخروج أصحاب الحاجة والعذر.

القول الخامس: أنه سنة، وليس بواجب، هذه خمسة أقوال، وقد ذكرنا أدلتها بالأمس.

هذا ما يتعلق بأمر الوقوف بعرفة .

الثالث: المبيت بمزدلفة إلى نصف الليل

الثالث: [والمبيت بـمزدلفة إلى نصف الليل].

المؤلف عبر بالمبيت؛ لأنه قيده إلى نصف الليل، والفقهاء بعضهم يستخدم لفظ المبيت، وبعضهم يستخدم لفظ الوقوف بـمزدلفة، ويقصدون بذلك أن يفرقوا به بين الوقوف وبين المبيت، بعضهم يرون الوقوف بـمزدلفة واجباً، مثلما يقف بـعرفة، حتى لو مر بها عندهم لكان قد وقف وأدى الواجب، ويرون ما زاد على ذلك أنه مستحب، وهذا مذهب الأكثرين.

وأما المبيت فهو أن يبقى بها إلى نصف الليل، أو يبقى بها إلى أكثر الليل، فالمبيت إذاً: أضيق من الوقوف.

وفيما يتعلق بالمبيت أو قل: بالوقوف بمزدلفة فيه ثلاثة أقوال:

القول الأول: ما ذكره المصنف أنه واجب، وهذا مذهب عطاء، والزهري، وقتادة، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبي حنيفة، يرون أن عليه أن يقف بـمزدلفة ولو قليلاً، وحجتهم في ذلك: فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: ( خذوا عني مناسككم ).

وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، وإذن النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه وللضعفة من أصحابه بالدفع قبل نصف الليل، كل هذه من الأدلة على الوجوب.

القول الثاني: أنه ركن لا يصح الحج إلا به، فمن لم يبت أو لم يقف بـمزدلفة فسد حجه عندهم، وهذا منقول عن خمسة من أئمة التابعين واختاره من الشافعية الإمام ابن خزيمة ولا أعلم عليه دليلاً، ورد في هذا حديث ولكنه ضعيف جداً.

القول الثالث: أن الوقوف بـمزدلفة سنة، وهي رواية عن الإمام أحمد .

و لعل القول الأول بالوجوب هو أعدل الأقوال وأوسطها وأصحها دليلاً.

الرابع: السعي بين الصفا والمروة

ثم قال: [والسعي] هذا هو الواجب الرابع من واجبات الحج، والسعي ركن عند الحنابلة وركن عند الشافعية أيضاً، ونقول: واجب عند الحنابلة وركن عند الشافعية. وقال مالك أيضاً: إنه ركن لابد منه، وهكذا قال جماعة: إسحاق وأبو ثور وداود الظاهري، وفي رواية عن أحمد : أنه ركن.

إذاً: القول الأول: أن السعي ركن عند هؤلاء، وهو رواية عن الإمام أحمد .

ومن أدلتهم على ذلك: القرآن الكريم في قوله تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، وقد قالت عائشة رضي الله عنها كما في البخاري لما سألها عروة قالت: [ ولعمري ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته إذا لم يطف بين الصفا والمروة ]، وقالت: [ إن الله سبحانه وتعالى قال: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ [البقرة:158]؛ لرفع الحرج الذي كان يعتقده الأنصار ]؛ لأنهم كانوا يطوفون به في الجاهلية ويطوفون لمناة وهو صنم من أصنامهم، فتحرجوا بعد الإسلام، فأذن الله لهم بذلك وبين أنه من مناسك الحج، ولهذا قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، فقالوا: لو لم تكن واجبة، لم يقل عنها: إنها من شعائر الله سبحانه وتعالى، وهذا هو القول الأول.

وفي حديث: ( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا ) رواه أحمد وغيره، وسنده ضعيف .

القول الثاني: أبو حنيفة، وأحمد في روايته الأخرى التي ذكرها المصنف قالوا: إن السعي بين الصفا والمروة في الحج واجب، وليس بركن، واستدلوا بحديث: ( اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي )، كما ذكرنا، واستدلوا أيضاً بالآية الكريمة، وقالوا: إن الآية دلت على الوجوب، لكن من أين أخذتم الركنية للسعي منها؟

وهناك قول ثالث في السعي وهو: أنه سنة أو تطوع، وهذا جاء عن جماعة من الصحابة كـابن مسعود وابن عباس، وأبي بن كعب، وابن الزبير، وأنس بن مالك، وابن سيرين وغيرهم، قالوا: إنه تطوع.

وأيضاً نقول: لعل القول الأوسط بأن السعي واجب -وهو ما ذكره المصنف في الحج- هو أعدل الأقوال وأوسطها وأصحها دليلاً.

الخامس: المبيت بمنى

الركن الخامس قال: [والمبيت بمنى]، والمقصود المبيت بمنى ليالي التشريق، والمبيت بمنى فيه خلاف معروف، فالمؤلف رحمه الله اختار أنه واجب، وهذه إحدى الروايات عن الإمام أحمد، وهو قول مالك والشافعي، ونسب إلى جماعة من السلف كـعروة، وإبراهيم، ومجاهد، وعطاء، واستدلوا بأدلة على الوجوب، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة بترك المبيت، الراعي يرعى بالنهار، ويرمي بالليل، فرخص لهم بترك المبيت، وكذلك رخص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس بترك المبيت من أجل سقايته وذهب إلى مكة، فقالوا: إن الرخصة لا تكون في الغالب إلا في مقابل أمر واجب أو لازم، فلما رخص للرعاة ورخص للعباس دل على أن أصل المبيت عندهم واجب.

وكذلك استدلوا بما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا يبيتن أحد من وراء العقبة)، وهذا صحيح عن عمر وكان يبعث رجالاً ينظرون من شذ من الحاج خارج منى، فيأمرونهم بالرجوع إليها.

فهذه أدلة من قالوا بوجوب المبيت بمنى، وكذلك هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله: ( خذوا عني مناسككم )، ولكن ليس في المبيت بـمنى نص خاص، ولا أمر مباشر من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كانت أدلتها ليست في قوة أدلة المبيت بـمزدلفة، والإمام أحمد خفف في المبيت بـمنى، ورأى أنه ليس عليه دم، حتى إنه نقل له عن إبراهيم أنه يقول: عليه دم فضحك، وقال: الدم شديد، يعني: ألزمه بدم أمر صعب، وقال في بعض الآثار: [ يتصدق أو يطعم ].

إذاً: هذا ما يتعلق بالمبيت، أنه قيل بوجوبه وهذه أدلتهم.

وقيل: إن المبيت بمنى سنة وليس بواجب، وهذه رواية أخرى معروفة أيضاً عن الإمام أحمد وهو مروي عن ابن عباس والحسن البصري، وقد سئل الإمام أحمد كما ذكرت لكم عمن ترك المبيت، فقال: لا شيء عليه، وقد أساء. يعني: لم ير عليه دماً، وهذا أيضاً -القول بالسنية- هو قول أصحاب الرأي، وهو قول الحنفية.

السادس: رمي الجمرات

السادس: [والرمي] رمي الجمرات، وقد ذكرناه قبل قليل فيما يتعلق بصفته، فرمي الجمرات واجب عند جمهور العلماء، وحكاه غير واحد من الفقهاء إجماعاً أنه يجب على الحاج أن يرمي الجمرات.

ما هي الأدلة على وجوب رمي الجمرات؟

يبدو لي -والله أعلم- أن من الأدلة قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس لما قال: ( القط لي حصى، ثم قال: بمثل هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو! ) والحديث صحيح.

فهذا دليل على الوجوب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرمي وحدد جنس ما يرمى به، وهي: الحجارة الصغار، وكذلك الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رميت بعدما أمسيت، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارم ولا حرج )، فأمره بالرمي، فدل على أن الرمي أيضاً واجب، وهكذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال: ( خذوا عني مناسككم )، هذا هو مذهب الجماهير وحكي إجماعاً.

هناك قول عند المالكية والذي يظهر لي أنه ضعيف عندهم: أن الرمي سنة، وهذا حكاه ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [ إن الرمي إنما شرع حفظاً للتكبير في أيام التشريق، فإن ترك الرمي وكبر أجزأه ذلك]، ولكن هذا القول -كما ذكرت- قول ضعيف جداً، فإن الراجح أن رمي الجمرات واجب على الحاج.

السابع: الحلق والتقصير

السابع مما ذكره المؤلف رحمه الله من الواجبات: هو الحلق أو التقصير، قال: [والحلق]. المصنف ذكر الحلق، والتقصير يدخل فيه تبعاً، فالحلق فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودعا للمحلقين، ثم دعا للمقصرين، بل ذكره الله تعالى في القرآن، فقال: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، وفي الآية الأخرى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27].

ومن هنا اختلف العلماء في مسألة: هل الحلق نسك؟ أم الحلق تحلل وليس بنسك؟ أو كما يقولون: استباحة محظور، فالجمهور على أن الحلق نسك؛ لأنه مأمور به، ومنهي عنه حال الإحرام، وجاء النص به في القرآن، وجاء النص به في السنة، فقالوا: الحلق نسك، وهذا المذهب هو الصحيح عند الشافعية، وهو الصحيح أيضاً عند الحنابلة، بما يعني أن عند الشافعية والحنابلة قول آخر بخلاف ذلك، وهو قول أبي حنيفة ومالك أن الحلق ليس نسكاً.

إذاً: هذا مذهب الجمهور، وإذا كان الحلق نسكاً، وهذا هو الصحيح أن الحلق نسك، فهنا يقع اختلاف: ما حكم الحلق، هل هو ركن، أم واجب؟ هذا فيه خلاف أيضاً، الشافعية يرونه ركناً على الصحيح عندهم، والجمهور يرونه واجباً وهو الصحيح أن الحلق واجب وليس بركن، وأنه نسك أيضاً وليس باستباحة محظور.

القول الثاني في الحلق: أنه ليس بنسك، وإنما هو استباحة محظور، وعلى هذا ليس عليه ثواب ولا هو بنسك، وهذا هو أحد قولي الشافعي كما ذكرت.

وقال بعضهم: إن الشافعي انفرد بهذا القول، ولكن الصواب أن الشافعي لم ينفرد به، فإن عند الحنابلة قولاً نظير هذا أنهم قالوا: إن الحلق استباحة محظور، وليس بنسك، وهو قول عطاء، وأبي ثور، وأبي يوسف، وأدلة ما اخترناه من أن الحلق نسك، وأنه واجب واضحة مما ذكرنا من القرآن الكريم الآيتين، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله، ودعائه للمحلقين ثم للمقصرين.

الثامن: طواف الوداع

الأمر الثامن الذي ذكره المصنف رحمه الله من الواجبات هو: [ طواف الوداع ] وقد ذكرنا أسماءه: طواف الصدر، طواف الخروج، طواف الوداع.

وطواف الوداع واجب عند الحنابلة والحنفية، وهو قول للشافعي أيضاً أنه واجب، والدليل على وجوبه: حديث ابن عباس : ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت )، وكذلك اللفظ الآخر: ( أن الناس كانوا ينفرون من كل وجه )، أما الإمام مالك فكان لا يرى طواف الوداع واجباً، ولكنه يكره تركه، وهو أيضاً قول الشافعي .

ومما استدلوا به على عدم الوجوب تخفيفه عن الحائض والنفساء، فقالوا: هذا دليل على أنه ليس بواجب، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة في قصة صفية لما قالوا: إنها قد حاضت، ثم أخبروه أنها قد أفاضت وطافت بالبيت طواف الحج، قال: ( فلتنفر إذاً )، ولم يلزمها بطواف الوداع، فقالوا: هذا دليل على أن طواف الوداع ليس بواجب، والواقع أن هذا الاستدلال ليس بقوي؛ لأننا نقول: إن الرخصة للحائض والنفساء في بعض العبادات أمر معهود للشارع، فإن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، فلا يصح منها الصوم لو صامت، وكذلك الصلاة لا تصح منها ولا قضاء عليها، فكذلك وجد في لسان الشرع أنه خفف عن الحائض طواف الوداع؛ لئلا تحبس أهلها خصوصاً أن هذا قد يقع كثيراً لبعض النساء في آخر حجها، فيترتب على تأخيرها حرج ومشقة عليها وعلى من معها، فكان هذا مناسباً للرخصة.

ولهذا فإن الأقرب أن طواف الوداع واجب. والله أعلم.

قال: [وواجباته: الإحرام من الميقات]، فإن هذا لابد منه، فإن الإنسان ينبغي له أن يحرم من الميقات عند جميع العلماء، كما ذكرنا خلافاً للحسن البصري فلو أنه جاوز الميقات وهو ناوٍ للحج أو العمرة غير محرم، وغير ناوٍ لذلك، فإنه يأثم بهذا، والفقهاء يرون عليه دماً بذلك إلا أن يعود فيحرم منه.