الصبر


الحلقة مفرغة

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:1-2] .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمداً رسول الله, الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها المسلمون عباد الله! فإن الناظر في أحوال الناس، والمتأمل في أخبارهم، يجد أن كثيراً من الإخفاق والخلل الذي يحدث إنما مرده إلى فقد خلق عظيم من أخلاق القرآن التي أمرنا بها، إنه خلق الصبر.

يا أيها المسلمون! إن الناظر في أحوال الناس يجد أن طالب الغنى, الحريص على المال، الساعي إلى نيله، لا يصبر حتى يبلغ ما يريد، بل يسلك كل سبيل حلال كانت أو حرام، من أجل أن يصل إلى الغنى والثراء العريض الذي يحلم به.

وقل مثل ذلك: في طالب العلم، الذي يجلس للتدريس ويتصدر للفتيا قبل أن يتأهل، قبل أن يستكمل الأدوات التي لا بد منها.

قل مثل ذلك: في القاضي الذي يجلس على منصة القضاء ليفصل بين الناس، يحكم في المشاجرات، ويقضي في الخصومات، وهو لم يتأهل بعد فيظلم ويحيف.

قل مثل ذلك: في طلاب الحكم الساعين إلى الجاه، الواحد منهم لا يصبر حتى يبلغ ما يريد بالطريقة الشرعية، بل قد يحمل السلاح ويسفك الدماء وينتهك الحرمات، بل قد يضع يده في يد عدو الله ورسوله، من أجل أن يبلغ غايته التي يريد، من أجل أن يكون له العلو في الأرض، والحكم في الناس، والتحكم في رقابهم وأموالهم وأعراضهم.

يا أيها المسلمون يا عباد الله! إن القرآن الكريم قد أبدأ وأعاد في ذكر الصبر والأمر به والحث عليه، والتنويه بشأن أهله؛ لأن الصبر مطية الظفر؛ لأن الصبر طريق إلى الجنة؛ لأن الصبر سبيل إلى نيل رضوان الله عز وجل: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] .

بغير الصبر لا يحفظ دين ولا تنهض دنيا، بغير الصبر لا يبلغ الإنسان ما يريد، لولا صبر الزارع على زرعه ما حصد، لولا صبر الغارس على غرسه ما جنى، لولا صبر الطالب على درسه ما نجح، ولولا صبر المقاتل في ساحات الوغى ما انتصر ولا ظفر، وهكذا الناجحون في كل زمان ومكان، استمرءوا الصبر، واستعذبوا العذاب، واستسهلوا الصعاب، وحفروا بالأظافر في الصخور حتى بلغوا ما يريدون.

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر

بالصبر تبلغ ما تريد أيها المسلم في دنياك وآخرتك.

صور من حياة سيد الصابرين صلى الله عليه وسلم

إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من غير نفوس الناس، بل هو أعظم من غير وجه الدنيا صلوات ربي وسلامه عليه، كان الصبر دينه وديدنه، كان الصبر لحمته وسداه، كان الصبر معدنه الأصيل صلوات ربي وسلامه عليه.

حين نشأ يتيماً لم ير أباه فصبر، وحين ماتت أمه فتجرع مرارة اليتم مرتين فصبر، وهو في السادسة من عمره، ثم لما بلغ الثامنة مات جده عبد المطلب الذي كان أباه بعد أبيه، ثم اشتغل صلوات ربي وسلامه عليه برعي الغنم، ما نشأ كما ينشأ الفتيان، بل على علو نسبه صلوات ربي وسلامه عليه، وبلوغ قومه في المجد ما بلغوا إلا أنه عمل في رعي الغنم وهو لا يزال صبياً بعد, يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط يعطونها إياه.

وصبر صلوات ربي وسلامه عليه على تحمل أعباء الدعوة، والقيام بأمانة الرسالة: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، صبر على أذى المشركين، صبر على أذى اليهود، صبر على أذى المنافقين، صبر على جفاء الأعراب، صبر صلوات ربي وسلامه عليه على فقد الأولاد، مات القاسم و عبد الله و زينب و رقية و أم كلثوم و إبراهيم وهو صلوات ربي وسلامه عليه لا يزيد على أن يقول: ( إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي, وأخلف لي خيراً منها ) .

صبر صلوات ربي وسلامه عليه على الأمراض التي أصابت جسده، صبر حتى في سكرات الموت لما دخل عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: ( يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً، قال: إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم، قال ابن مسعود : ذلك أن لك الأجر مرتين، قال صلوات ربي وسلامه عليه: ذلك كذلك )، ( ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من ذنوبه وخطاياه ) .

ثم دخلت عليه ابنته فاطمة رضي الله عنها فرأت حال أبيها وما هو فيه من كربات النزع وسكرات الموت فقالت: ( وا كرب أبتاه! قال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم ) ، ما كان يزيد صلوات ربي وسلامه عليه على أن يغمس يده في الماء، ثم يمسح جبينه الطاهر ويقول: ( لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات، اللهم هون علي سكرات الموت ) . هذا ذكره, هذا دعاؤه, صلوات ربي وسلامه عليه.

لكن العاقبة أن رفع الله ذكره، وشرح الله صدره, وأظهر الله دينه، وأعلى أمره، وكتب له المحبة في قلوب المؤمنين إلى يوم يبعثون؛ لأنه كان سيد الصابرين صلوات الله وسلامه عليه.

صور من صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

وهكذا الأنبياء من قبله، يقول الله عز وجل عن أيوب عليه السلام: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، ويقول على لسان إسماعيل عليه السلام مخاطباً أباه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، قال: هذه الكلمة بعدما قال له أبوه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] . صبر على هذا البلاء المبين، صبر على الذبح الذي فيه إزهاق الروح وإذهاب النفس.

وهكذا نبي الله موسى عليه السلام، يصبر في طلب العلم حين يمشي مع فتاه ليبلغ مجمع البحرين، ليلقى ذلك العالم العامل فيقول له: لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، يقول له موسى عليه السلام: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69] .

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85] . الصبر طريق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، هو طريق الصالحين والأولياء المقربين من بعدهم, بغير الصبر لا تبلغ ما تريد.

الصبر سبيل المؤمن إلى الجنة

يا أيها المسلم! يا طالب الجنة، أيها الحريص على رضوان الله! اعلم أنك لن تبلغ ما تريد إلا بالصبر، اصبر على طاعة الله رجاء ما عنده، اصبر عن معصية الله إبقاء على الإيمان، وخوفاً من الوعيد، وحياء من الله جل جلاله، واصبر على قضاء الله وقدره: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157] .

اصبر على فقد المال، اصبر على فقد الولد، اصبر على كل ما يصيبك في ذات الله عز وجل؛ رجاء ما عنده من أجر وثواب لتسلم عليك الملائكة: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24]، (سلام عليكم بما صبرتم) أي: بسبب صبركم، صبركم على طاعة الله، صبركم عن معصية الله، صبركم على قضاء الله وقدره.

يا أيها المسلمون! إن طلاب المجد، وعشاق الدنيا، والساعين إلى المعالي، هؤلاء جميعاً علموا أنه لا سبيل إلى ما يريدون إلا بركوب متن المشقات، إلا بتجرع غصص الآلام، إلا بالصبر على كثير مما يكرهون، وعن كثير مما يحبون، علموا ذلك يقيناً فصبروا.

يقول أحدهم وكان يطمح إلى الولاية والحكم, وغاية همه ومبلغ علمه أن يكون حاكماً على الناس، ماذا يقول هذا الذي طلب شيئاً رخيصاً؟ ربما لا يقربه إلى الله بل يباعده، لا يقربه إلى الجنة بل يقربه إلى النار، يقول هذا المسكين:

لا يبلغ المجد إلا سيد فطن لما يشق على السادات فعال

لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال

يقول عن نفسه: بأنه سيتحمل المشقات، سيبذل ماله من أجل أن يبلغ تلك الغاية التي يريد, من أجل أن يبلغ الولاية والحكم.

أنت يا طالب الجنة! يا من تحرص على رضوان الله عز وجل! اعلم أنه بغير الصبر لا نجاح في الدنيا ولا فوز في الآخرة، بغير الصبر لا سعادة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة، الصبر هو مطية الفوز.

حادثة لشخص اقترف جريمة قتل لقلة صبره

إن الإنسان ليعجب، وقد يصدق أو لا يصدق حين يسمع من حديث الناس، أو يقرأ في بعض الصحف، أن رجلاً فقد بعض ماشيته.. بعض غنمه أو إبله أو بقره، فما كان منه إلا أن عاقب التي تسببت في ذلك، من كانت ترعى تلك الأغنام فألقاها في بئر سحيق، من هي هذه الراعية؟ هي ابنته, فلذة كبده.

والله إلى هذه اللحظة الإنسان لا يدري أحق هذا أم باطل؟ حقيقة أم خيال؟ هذا الذي لا يستطيع أن يصبر على فقد بعض ماله، فيقدم على قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، فيأتي أكبر الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل، سبحان الله! أين هو؟ أهو من أهل الإيمان؟ أهو ممن يشهدون أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله؟ أهو ممن قرءوا القرآن؟ ممن عرفوا السيرة؟ ممن يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟

ألم يقرأ في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] ؟

ألم يقرأ تلك النصوص التي تخبر أن الله مع الصابرين، وأن الله يحب الصابرين: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186] ؟

الصبر أيها المسلمون عباد الله! خلق المسلم، خلق راسخ في النفس، يحملها على ترك فعل ما لا يجمل ولا يستحسن، يحبس نفسه على ما تكره، يحبس لسانه عن التشكي، يحبس نفسه عن الجزع، يحبس جوارحه عن لطم الخدود، وشق الجيوب، والكلام بما لا يليق.

هذا هو المسلم المقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، يصبر على الآلام, يصبر على الأمراض، يصبر على المصائب، يصبر على طاعة الله في طريق طويل لا ينتهي إلا بالموت: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].

يصبر عن معصية الله عز وجل، هذا هو المسلم الذي عرف دينه حقاً، عرف بأن الله عز وجل خلقه في هذه الدنيا ليبتليه ليمحصه، ليعلم حاله، ليقدم برهاناً على أنه عبد الله حقاً، ولا يكون كذلك إلا بالصبر.

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من خير عباده الصابرين، ومن خير عباده الشاكرين، وأن يجعلنا ممن يصبرون على قضاء الله وقدره، والحمد لله رب العالمين.

إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من غير نفوس الناس، بل هو أعظم من غير وجه الدنيا صلوات ربي وسلامه عليه، كان الصبر دينه وديدنه، كان الصبر لحمته وسداه، كان الصبر معدنه الأصيل صلوات ربي وسلامه عليه.

حين نشأ يتيماً لم ير أباه فصبر، وحين ماتت أمه فتجرع مرارة اليتم مرتين فصبر، وهو في السادسة من عمره، ثم لما بلغ الثامنة مات جده عبد المطلب الذي كان أباه بعد أبيه، ثم اشتغل صلوات ربي وسلامه عليه برعي الغنم، ما نشأ كما ينشأ الفتيان، بل على علو نسبه صلوات ربي وسلامه عليه، وبلوغ قومه في المجد ما بلغوا إلا أنه عمل في رعي الغنم وهو لا يزال صبياً بعد, يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط يعطونها إياه.

وصبر صلوات ربي وسلامه عليه على تحمل أعباء الدعوة، والقيام بأمانة الرسالة: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، صبر على أذى المشركين، صبر على أذى اليهود، صبر على أذى المنافقين، صبر على جفاء الأعراب، صبر صلوات ربي وسلامه عليه على فقد الأولاد، مات القاسم و عبد الله و زينب و رقية و أم كلثوم و إبراهيم وهو صلوات ربي وسلامه عليه لا يزيد على أن يقول: ( إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي, وأخلف لي خيراً منها ) .

صبر صلوات ربي وسلامه عليه على الأمراض التي أصابت جسده، صبر حتى في سكرات الموت لما دخل عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: ( يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً، قال: إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم، قال ابن مسعود : ذلك أن لك الأجر مرتين، قال صلوات ربي وسلامه عليه: ذلك كذلك )، ( ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من ذنوبه وخطاياه ) .

ثم دخلت عليه ابنته فاطمة رضي الله عنها فرأت حال أبيها وما هو فيه من كربات النزع وسكرات الموت فقالت: ( وا كرب أبتاه! قال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم ) ، ما كان يزيد صلوات ربي وسلامه عليه على أن يغمس يده في الماء، ثم يمسح جبينه الطاهر ويقول: ( لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات، اللهم هون علي سكرات الموت ) . هذا ذكره, هذا دعاؤه, صلوات ربي وسلامه عليه.

لكن العاقبة أن رفع الله ذكره، وشرح الله صدره, وأظهر الله دينه، وأعلى أمره، وكتب له المحبة في قلوب المؤمنين إلى يوم يبعثون؛ لأنه كان سيد الصابرين صلوات الله وسلامه عليه.

وهكذا الأنبياء من قبله، يقول الله عز وجل عن أيوب عليه السلام: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، ويقول على لسان إسماعيل عليه السلام مخاطباً أباه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، قال: هذه الكلمة بعدما قال له أبوه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] . صبر على هذا البلاء المبين، صبر على الذبح الذي فيه إزهاق الروح وإذهاب النفس.

وهكذا نبي الله موسى عليه السلام، يصبر في طلب العلم حين يمشي مع فتاه ليبلغ مجمع البحرين، ليلقى ذلك العالم العامل فيقول له: لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، يقول له موسى عليه السلام: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69] .

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85] . الصبر طريق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، هو طريق الصالحين والأولياء المقربين من بعدهم, بغير الصبر لا تبلغ ما تريد.