عنوان الفتوى : قراءة القرآن بالألحان
قلتم: إن القراءة بالمقامات الصوتية محرمة؛ لأن منهم من يزيد حرفًا في القرآن، أو يخلّ بتجويده، وهناك شخص يقرأ بالمقامات الصوتية، ولم أجد تغيرًا في الحروف، أو في التجويد الصحيح، فهل يحرم عليّ الاستماع له وهو يقرأ بالمقامات؟ وهل يحرم عليّ دعمه مثلًا بما يسمى بالإعجاب بالمقطع، أو نشر الفيديو بين أصحابي مثلًا؛ حتى يسمعوا هذه التلاوات أم لا؟ وهل آخذ سيئات لنشري هذا المقطع، وتشهير هذا القارئ؛ لأنه يقرأ بالمقامات؟ وإذا كان التجويد سليمًا، فما حكم تقليد الطريقة التي يقرأ بها، والتدرّب عليها، ومحاولة تقليدها دون تعلم أي شيء من المقامات؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنشكر لك تواصلك معنا، وليس من اختصاصنا تتبع مقاطع القراء، وتقويم قراءاتهم؛ فنعتذر عن تلبية طلبك.
وعمومًا: فإن مسألة قراءة القرآن بالألحان، محل خلاف طويل بين العلماء.
وقبل عرض الخلاف فيها، ينبغي تحرير محل النزاع، ومعرفة موارد الإجماع في المسألة:
- أجمع العلماء على استحباب تزيين الصوت بقراءة القرآن العظيم، قال النووي: أجمع العلماء -رضي الله عنهم- من السلف والخلف -من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار أئمة المسلمين- على استحباب تحسين الصوت بالقرآن. وأقوالهم وأفعالهم مشهورة نهاية الشهرة، فنحن مستغنون عن نقل شيء من أفرادها. ودلائل هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفيضة عند الخاصة والعامة، كحديث: زينوا القرآن بأصواتكم. وحديث: لقد أوتي هذا مزمارًا. وحديث: ما أذن الله. وحديث: لله أشد أذنًا. اهـ. من التبيان في آداب حملة القرآن.
وقال ابن حجر: وكان بين السلف اختلاف في جواز القرآن بالألحان، أما تحسين الصوت، وتقديم حسن الصوت على غيره، فلا نزاع في ذلك. اهـ. من فتح الباري.
- اتفق عامة العلماء -إلا من شذّ- على أن القراءة بالألحان إذا أدّت إلى تغيير ألفاظ القرآن -بالتمطيط، ونحوه-، فهي ممنوعة، قال القرطبي: ولا أشك أن موضع الخلاف في هذه المسألة إنما هو إذا لم يغيّر لفظ القرآن بزيادة أو نقصان، أو يبهم معناه بترديد الأصوات؛ فلا يفهم معنى القرآن؛ فإن هذا مما لا شك في تحريمه. اهـ. من المفهم.
وقال ابن حجر: ومحل هذا الاختلاف إذا لم يختلّ شيء من الحروف عن مخرجه.
فلو تغير، قال النووي في التبيان: أجمعوا على تحريمه. وأغرب الرافعي فحكى عن أمالي السرخسي أنه لا يضرّ التمطيط مطلقًا. وحكاه ابن حمدان رواية عن الحنابلة، وهذا شذوذ، لا يعرّج عليه. اهـ. من فتح الباري باختصار.
فمحل الخلاف هو في تجاوز القدر الزائد من التغنّي بالسليقة إلى المبالغة في التطريب والتلحين، بتعمّد مراعاة قوانين النغم واللحن، وتكلّف الاستعانة بها لتحسين الصوت بقراءة القرآن الكريم.
وأكثر العلماء على المنع منها، واستدلوا بجملة من الآثار، وعلّلوا المنع بأن الألحان تشغل القارئ عن التأمّل في المقروء، وتصدّه عن تدبّر معاني القرآن، وتهيج المستمع، وتصرفه إلى التلذّذ بالأنغام دون مراعاة المقصود الأكبر، وهو تدبّر آيات القرآن المجيد، وتفهّم معانيه.
وأجاز بعض العلماء القراءة بالألحان، واستدلوا بجملة من الآثار، وعلّلوا بأن في ذلك إعانة للنفوس على الاستماع للقرآن الكريم، والانتفاع به، والاستغناء به عن الاستماع إلى المعازف، ونحوها.
وننقل هنا كلام جملة من المحققين من العلماء -من المانعين والمجوزين- في عرض الخلاف في المسألة، وأدلة الفريقين، قال ابن تيمية: الناس مأمورون أن يقرؤوا القرآن على الوجه المشروع، كما كان يقرؤه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ فإن القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول.
وقد تنازع الناس في قراءة الألحان: منهم من كرهها مطلقًا، بل حرمها، ومنهم من رخّص فيها.
وأعدل الأقوال فيها: أنها إن كانت موافقة لقراءة السلف، كانت مشروعة، وإن كانت من البدع المذمومة، نهي عنها.
والسلف كانوا يحسّنون القرآن بأصواتهم من غير أن يتكلّفوا أوزان الغناء.
فإذا حسّن الرجل صوته بالقرآن كما كان السلف يفعلونه -مثل أبي موسى الأشعري، وغيره-، فهذا حسن.
وأما ما أحدث بعدهم من تكلّف القراءة على ألحان الغناء؛ فهذا ينهى عنه عند جمهور العلماء؛ لأنه بدعة، ولأن ذلك فيه تشبيه القرآن بالغناء، ولأن ذلك يورث أن يبقى قلب القارئ مصروفًا إلى وزن اللفظ بميزان الغناء، لا يتدبّره، ولا يعقله، وأن يبقى المستمعون يصغون إليه لأجل الصوت الملحن، كما يصغى إلى الغناء، لا لأجل استماع القرآن، وفهمه، وتدبّره، والانتفاع به. اهـ. باختصار من جامع المسائل.
وقال ابن القيم: قال المجوّزون -واللفظ لابن جرير-: الدليل على أن معنى الحديث تحسين الصوت، والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع قراءته، كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه -: ما روى أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: («ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن»).
قالوا: ولأن تزيينه، وتحسين الصوت به، والتطريب بقراءته، أوقع في النفوس، وأدعى إلى الاستماع، والإصغاء إليه؛ ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع، ومعانيه إلى القلوب؛ وذلك عون على المقصود، وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء، وبمنزلة الطيب، والتحلّي، وتجمّل المرأة لبعلها؛ ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح.
قالوا: ولا بدّ للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء، فعوّضت عن طرب الغناء بطرب القرآن، كما عوّضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه، وكما عوّضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محض التوحيد والتوكل، وعن السفاح بالنكاح، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني، ونظائره كثيرة جدًّا.
قالوا: والمحرم لا بد أن يشتمل على مفسدة راجحة، أو خالصة، وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئًا من ذلك.
قالوا: وهذا التطريب والتلحين أمر راجع إلى كيفية الأداء، وتارة يكون سليقة وطبيعة، وتارة يكون تكلفًا وتعملًا.
قالوا: والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين: مد، وترجيع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يمد صوته بالقراءة، يمد "الرحمن"، ويمد "الرحيم"، وثبت عنه الترجيع.
قال المانعون من ذلك: الحجة لنا من وجوه:
أحدها: ما رواه حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم: («اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق؛ فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم»).
قالوا: وقد جاء زياد النهدي إلى أنس -رضي الله عنه- مع القراء، فقيل له: اقرأ، فرفع صوته وطرب، وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء، وقال: يا هذا، ما هكذا كانوا يفعلون، وكان إذا رأى شيئًا ينكره، رفع الخرقة عن وجهه).
قالوا: وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن المطرب في أذانه من التطريب، كما روي عن ابن عباس، قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: («إن الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلًا سمحًا، وإلا فلا تؤذن») رواه الدارقطني.
وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ، من حديث قتادة، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: «كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المدّ، ليس فيها ترجيع».
قالوا: والترجيع والتطريب يتضمن همز ما ليس بمهموز، ومدّ ما ليس بممدود، وترجيع الألف الواحد ألفات، والواو واوات، والياء ياءات؛ فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن؛ وذلك غير جائز. اهـ. من زاد المعاد باختصار.
وقال ابن حجر: حكى عبد الوهاب المالكي، عن مالك تحريم القراءة بالألحان. وحكاه أبو الطيب الطبري، والماوردي، وابن حمدان الحنبلي عن جماعة من أهل العلم.
وحكى ابن بطال، وعياض، والقرطبي من المالكية، والماوردي، والبندنيجي، والغزالي من الشافعية، وصاحب الذخيرة من الحنفية الكراهة. واختاره أبو يعلى، وابن عقيل من الحنابلة.
وحكى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين الجواز. وهو المنصوص للشافعي، ونقله الطحاوي عن الحنفية.
وقال الفوراني من الشافعية في الإباحة: يجوز، بل يستحب.
والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنًا، فليحسنه ما استطاع، كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث. وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح. ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم؛ فإن الحسن الصوت يزداد حسنًا بذلك، وإن خرج عنها، أثر ذلك في حسنه. وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها، ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها، لم يفِ تحسين الصوت بقبح الأداء. ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام؛ لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء.
فإن وجد من يراعيهما معًا؛ فلا شك في أنه أرجح من غيره؛ لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت، ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء. اهـ. من فتح الباري باختصار.
وبعد هذا؛ فما دامت مسألة قراءة القرآن بالألحان محل خلاف قديم بين الأئمة، وليس فيها نصوص صريحة بالمنع؛ فلا نرى التشديد وغلق الباب بالكلية.
ولا حرج -إن شاء الله- في الاستماع إلى من يراعي المقامات في قراءته للقرآن الكريم، ولا في نشر تلاوته، ومحاكاته.
وانظر الفتاوى: 177585، 257152، 364279.
والله أعلم.