أرشيف المقالات

فكلوا مما ذكر اسم الله عليه

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾
 
قال تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ * وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴾ [الأنعام: 118 - 120].
 
والغرَضُ الذي سِيقَتْ له هذه الآيات: تهييج المؤمنين إلى إحلال ما أَحَلَّ الله، وتحريم ما حرَّم، والتنصيصُ على إباحة ما ذُكر اسم الله عليه مِن الذبائح، والتفريق بينه وبين الميتة وما لم يُذكر اسم الله عليه.
 
وهذه الآياتُ مُرَتَّبة على النهي عن اتباع المضلِّين، المفهوم مِن قوله فيما سبق: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116].
 
وقوله: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ يجوز في (الفاء): أن تكونَ واقعةً في جواب شرط مُقَدَّر؛ أي: إن كنتم محقين في الإيمان فكُلُوا.
 
ويجوز أن تكون عاطفة على ما تقدم مِن مضمون الجمل السابقة؛ كأنه قيل: اتبعوا ما أمركم الله به من أكل المذكَّى دون الميتة، فكلوا مما ذُكر اسم الله عليه.
 
أو أنها عاطفة على محذوف دَلَّ عليه أول الكلام؛ أي: كونوا على الهدى فكلوا، والأمرُ بـ(كلوا) للإباحة، والمخاطب به المؤمنون.
 
ومعنى ﴿ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾؛ أي: ما ذَكَرَ الذابحُ اسمَ الله وحده عليه عند ذبحه، وجوابُ الشرط في قوله: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه، والتعبيرُ بوصف الإيمان للتهييج والإلهاب.
 
ويُفهم مِن هذه الجملة أنه لا يُباح ما لم يُذكر اسم الله عليه، كما كان يستبيحه كفارُ قريش مِن أكل الميتات، وأكل ما ذُبح على النُّصُب.
 
والمراد ﴿ بِآيَاتِهِ ﴾: أحكامه مِن الأوامر والنواهي التي اشتملتْ عليها آياتُ القرآن، ومِن جُملتها الأمر بالأكل مما ذُكر اسم الله عليه.
 
وجملة: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ ﴾ استئناف لتأكيد إباحة ما ذُبح على اسم الله.
 
﴿ وَمَا ﴾: استفهام للإنكار.
 
وقد اختلف النحاةُ في تقدير معنى: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا ﴾ على قولين:
فذهب بعضُ البصريين إلى أنَّ معنى ذلك هو: وأي شيء لكم في ألا تأكلوا مما ذُكر اسم الله عليه، وذَهَب غيرهم إلى أنَّ معنى ذلك: وأي شيء يَمنعكم أن تأكلوا مما ذُكر اسم الله عليه.
 
وهذا بناء على أن (ما لك) و(ما منعك) بمعنًى واحد.
 
وعلى القول الثاني تكون (لا) صلة لتأكيد المنع، وأن تأكلوا في موضع نصب بمعنى الفعل الذي في قوله: ﴿ مَا لَكُمْ ﴾؛ أي: ما يمنعكم.
 
وعلى القول الأول يكون ﴿ أَلَّا تَأْكُلُوا ﴾ في موضع خفض بتقدير حرف الجر.
 
وقد اختار ابنُ جرير القول الثاني؛ لأنَّ التقدير الأول لا يُقال إلا لمن كفَّ عن أكله رجاء ثواب بالكف عن أكله، وذلك يكون ممن آمن بالكف، فكف اتباعًا لأمر الله وتسليمًا لحكمه، ولا يُعلم أحد مِن سلف هذه الأمة كف عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك.
 
ومفعول ﴿ تَأْكُلُوا ﴾ محذوف؛ أي: شيئًا.
وقوله: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ﴾ جملة حالية مؤكدة للإنكار.
وقد قُرِئ ﴿ فَصَّلَ ﴾ و﴿ حَرَّمَ ﴾ بالبناء للفاعل، وهو الله تعالى، والتفصيل: التبيين الذي يدفع الشك ويُزيل الشبهة.
وقرأ عطية العوفي شذوذًا (فَصَلَ) بالتخفيف؛ أي: استبان وظَهَر.
 
كما قرئ: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فَصَلَتْ ﴾ [سورة هود: 1]، بفتح الفاء والصاد؛ أي: استبانتْ.
 
وقد كان هذا التفصيلُ بآية الأنعام: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ...
[الأنعام: 145] إلى آخر الآية، والتأخر في التلاوة لا يوجب التأخر في النُّزول، لا بآية المائدة ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ﴾ [المائدة: 3]؛ لأن الأنعام مكية والمائدة مدنية، فكيف يحيل بالبيان على ما لم ينزل بعدُ؟!
 
و(الاضطرار): الاحتياج إلى الشيء، واضطره إليه: أحوجه وأَلْجَأَهُ، والاستثناء مُنقطع؛ أي: لكن ما أحوجتكم الضرورة إليه مما حرم، فهو حلال وقت الضرورة.
 
وقوله: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ استئناف لبيان جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من تحريم الحلال؛ كالبحيرة والسائبة، وتحليل الحرام كالميتة.
 
وقد قُرئ ﴿ لَيَضِلُّونَ ﴾ بفتح الياء مِن ضَلَّ الثلاثي المجرد، على معنى: أنهم هم الذين يَضِلون عن الحق فيجورون عنه.
 
وقُرئ بالضم مِن أضَلَّ المزيد بحرف، على معنى: أنهم يُضِلون غيرهم، والقراءة الثانية تدل على زيادة جُرمهم والتشنيع عليهم؛ فهي أبلغ في الذم.
 
وقوله: ﴿ بِأَهْوَائِهِمْ ﴾ متعلق بـ(يضلون)، و(الباء) للسببية؛ أي: بسبب اتباع أهوائهم.
 
وقوله: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ متعلِّق بمحذوف حال؛ أي: مصاحبين للجهل؛ بمعنى أنهم لا يعلمون حكمة الله في أمر الذبح؛ إذ الحكمة فيه إخراج ما حرم الله علينا مِن الدم، بخلاف ما مات حتفَ أنفه، ولذلك شرَّع الذكاة في محلٍّ مخصوص؛ ليكون الذبح فيه سببًا لجذب كل دم في الحيوان.
 
وقوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ استئنافٌ يتضمن الردع والوعيد لهؤلاء المضلين.
 
وقوله: ﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾: ذروا؛ أي: اتركوا، ولم يأتِ من هذا الفعل المصدر والماضي واسم الفاعل.
 
وقد اختلف العلماء في المراد بظاهر الإثم وباطنه، فقيل: ظاهرُه الزنا في العلن، وباطنه الزنا في السر، وعلى هذا فالمرادُ بالإثم الزنا خاصة.
 
وقيل: ظاهره نكاح المحارم كالبنات والأمهات وما نكح الآباء، وباطنه الزِّنا، وعلى هذا فالمرادُ بالإثم بعض حالات الوطء.
 
وقيل: ظاهرُه أفعال الجوارح؛ كالقتل والسرقة والزنا، وباطنُه أفعال القلوب؛ كالرِّياء والحسد والعُجْب والكِبْر.
 
وقيل: ظاهرُه إعلانُ المعصية، وباطنُه إسرارها.
 
وعلى هذين القولين، فالمرادُ بالإثم المعصية، والمختارُ القول الأخير؛ لأن الآية عامة في كل ذلك، وهي كقوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [الأعراف: 33].
 
وجملة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴾ استئنافية لتعليل الأمر، وهو يشتمل على الوعيد الشديد.
 
وأصلُ الكسب إصابةُ الرِّزق، ومعنى يكسبون الإثم؛ أي: يُصيبون المعاصي ويرتكبونها.
 
والتعبيرُ بـ﴿ يَكْسِبُونَ ﴾ للتشنيع عليهم، والتنفير مِن عملهم.
ومعنى ﴿ سَيُجْزَوْنَ ﴾؛ أي: سيثابون يوم القيامة.
 
والمراد (بالاقتراف) العمل والاكتساب، وقد سُمع عن العرب: خرج يقترف لأهله؛ بمعنى: يكسب لهم، وأصلُ الاقتراف اقتطاعُ قطعة من الشيء، و(القَرَف) - بفتح القاف والراء - اسم من المقارفة، وهي المخالَطة، والجامع بين المعنى الأصلي والمعنى المراد الحيازة والضم في كلٍّ.
 
ما يُؤخذ من الآيات:
1- جواز الأكل مما ذُكر اسمُ الله عليه.
2- أن التحليل والتحريم مِن الله.
3- مَن حرَّم أو حلَّل من عند نفسه بغير إذنٍ مِن الله فهو ضالٌّ مضلٌّ جاهل.
4- جواز أكل المُحرَّمات للضرورة.
5- وُجوب ترك الزنا وسائر المعاصي العلنيَّة والسِّريَّة.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣