أرشيف المقالات

القول السديد

مدة قراءة المادة : 30 دقائق .
في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد [*] بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وعليه نتوكل اللهم أرنا الحق حقًّا واهدِنَا لاتَّباعِه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابِه الحمد لذاته وجميل صفاته، والشكر له على آلائه ونعمائه وعطائه وهباته، والصلاة والسلام على عبده ورسوله المبعوث بالدين المتين، والكتاب المبين، سيدنا ومولانا ونبينا محمد الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين. أما بعد؛ فهذه تعليقة موسومة (بالقول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد) أذكر فيها ما حضرني من بعض مسائل الاجتهاد، واقتداء المقلد بإمام يرى خلاف قول مقلده - بفتح اللام - إما اجتهادًا أو تقليدًا ما سنح للخاطر الفاتر، في الوقت الحاضر من غير تقيد بمراجعة في ذلك وهي نبذة يسيرة من شيء كثير، فأقول وبالله الإعانة الكلام في هذه المسائل على فصول: الفصل الأول اعلم أنه لم يكلف الله أحدًا من عباده بأن يكون حنفيًّا أو مالكيًّا أو شافعيًّا وحنبليًّا؛ بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم، والعلم بشريعته؛ غير أن العلم بها متوقف على الوقوف عليها، والوقوف له طرق، فما كان منها ممّا يشترك به العوام وأهل النظر كالعلم بفريضة الصلاة والزكاة والصوم والحج والوضوء إجمالاً، وكالعلم بحرمة الزنا والخمر واللواطة وقتل النفس، وغير ذلك مما عُلِمَ من الدين بالضرورة، فذلك لا يتوقف فيه على اتباع مجتهد ومذهب معين؛ بل كل مسلم عليه اعتقاد ذلك.
فمَن كان في العصر الأول فلا يخفى وضوح ذلك في حقه، ومَن كان في الأَعصار المتأخرة، فلوصول ذلك إلى علمه ضرورة من الإجماع والتواتر وسماع الآيات والسنن، أي الأحاديث الشريفة المستفيضة المصرّحة بذلك في حق مَن وصلت إليه. وأمَّا ما لا يتوصل إليه إلا بضرب من النظر والاستدلال فمَن كان قادرًا عليه بتوفر آلاته وجب عليه فعله، كالأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومَن لم يكن له قدرة عليه وجب عليه الاتباع إلى من يرشده [1] إلى ما كُلِّفَ به ممّن هو أهل النظر والاجتهاد والعدالة، وسقط عن العاجز تكليفه بالبحث والنظر لعجزه بقوله تبارك وتعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) ، وقوله عزَّ مِن قائل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ، وهي الأصل في اعتماد التقليد، كما أشار إليه المحقق الكمال بن الهمام في التحرير [2] . *** فصل إذا علمت ذلك؛ فاعلم أن أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد بن محمد بن حنبل رحمة الله عليهم أجمعين، كلٌّ كان من أهل الذكر الذين وجب سؤالهم لمن لم يصل إلى درجة النظر والاستدلال، فإذا عمل أحد من المقلدين في طهارته وصلاته أو شيء مما جرى به التكليف بقول واحد منهم مقلدًا له فيه - لو صادف قوله، ولو لم يعلم به حين العمل فقلده فيه بعد انقضائه على ما ظهر لي في المسألة، كما يدل عليه ما استشهد به في المسألة بعد هذا - فقد أدّى ما عليه، وليس لأحدٍ ممّن هو في درجته التقليد له.
قلت: بل ولا للمجتهد الإنكار عليه، كما صرّح به في غير كتب عندنا من تصانيف الصدر الشهيد حسام الدين وغيره من كتب المذهب المعتبرة، كالتجنيس والمؤيد لشيخ الإسلام برهان الدين صاحب الهداية كما نقلته بخطي عنها في مظانّه. إذا ثَبَتَ ذلك فليس لحنفيّ أو مالكيّ أو شافعيّ من المُقَلدين أن يمتنع من الاقتداء بالإمام المخالف لمذهبه، وليس له أن يحتج بأني لمّا قلدت الشافعي وأبا حنيفة - مثلاً - فقد وجب علي الحكم ببطلان ما خالف اجتهاده؛ لأننا نقول: إنما أبيح التقليد بقدر الضرورة، وذلك يندفع بتقليدك له في عملك وكيفيته فقط، وإن شئت قل: في كيفية إيقاع ما كلفت به فقط، وأما الحكم ببطلان مخالفه فليس ذلك إليك؛ بل للكلام مجال في تسويغ ذلك للمجتهد الذي قلدته.
وأما أنت - ومَن هو في مرتبتك من المقلدين - فقول (كل مجتهد) ؛ عنده على حدّ سواء؛ إذ ليس الترجيح بالدليل من وظائفك، وإلا كنت في درجتهم ووجب عليك الاجتهاد وارتفع التقليد، ولكن لا بد للعمل في تصحيحه من مستند، فأنت استندت إلى إمامك - ونعم الإمام - وهذا الآخر استند إلى إمامٍ في فعله مثل إمامك أو أعلى منه، فلا يمكنك الحكم على عمله بالبطلان ألبتة، فلست حينئذٍ في تخلفك عن الاقتداء به إلا عاملاً بمحض التعصب، وقد نص علماؤنا وغيرهم من أصحاب المذاهب على حرمة التعصب، وتصويب الصلابة في المذهب.
ومعنى الصلابة أي [3] الثبات على ما ظهر للمجتهد من الدليل، وليس ذلك إلا للمجتهد نفسه أو لِمَن هو مِن أهل النظر ممن أُخِذَ بقوله. والتعصب: هو الميل مع الهوى لأجل نصرة المذهب ومعاملة الإمام الآخر ومقلديه بما يحطط عنهم.
وقد نصّ في جواهر الفتاوى وغيرها من كتب أصحابنا أن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - لم يكن له تعصب على أئمتنا رحمهم الله تعالى. *** فصل وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يقتدي بعضهم ببعض، وكذا التابعون لهم، وفيهم المجتهدون ولم يُنَقل عن أحد من السلف - رحمهم الله تعالى - أنه كان لا يرى الاقتداء بمَن يخالف قوله في بعض المسائل؛ ولو في خصوص الطهارة والصلاة؛ بل يقتدي بعضهم ببعض، وربّما اعتقد بعضهم ولاية بعض؛ حتى إن الشافعي - رضي الله عنه - بَعث يطلب قميص الإمام أحمد بن حنبل من بغداد يستشفي به في مدّة مرضه بغسله وشرب مائه - كما رأيته مثبتًا في مناقب أحمد رضي الله عنه - وقد روي ذلك بالعكس [4] ، وكذلك كان الصحابة - رضي الله عنهم - يعامل بعضهم بعضًا، كما يُعْلَمُ ذلك من سيرهم وأحوالهم. ولا يلتفت إلى ما قد تمسك به مَن لا معرفة عنده بأن الاختلاف بينهم لم يكن بينهم بهذه الصفة التي عليها المذاهب الآن؛ لأنَّا قد قررنا أن ذلك لا يمنع؛ لأن الكل كانوا في طلب الحق على حدّ متساوٍ، واجتهاد كل واحد منهم يحتمل الخطأ كغيره بعد تسليم بلوغهم درجة الاجتهاد، وإن تفاوتوا فيه. فَإِنْ قُلْتَ: قد نقل الإمام حافظ الدين النسفي صاحب الكنز والكافي في مصفّاه عن المشايخ المتقدمين: إنّا إذا سُئلنا عمّا ذهبنا إليه في الفروع نجيب بأن ما ذهبنا إليه صواب يحتمل الخطأ، وما ذهب إليه الغير خطأ يحتمل الصواب.
انتهى بمعناه، وإن لم يكن بلفظه.
وهذا يوجب امتناع المقلد من اتباع إمام يرى مخالفة قول إمامه لكونه خطأ، وما قلد فيه صواب عنده. قلنا: المراد من هذا تخصيص أن ما ذهب إليه أئمتنا هو صواب عندهم مع احتمال الخطأ؛ إذ كل مجتهد قد يصيب وقد يخطئ في نفس الأمر.
وأما بالنظر إلينا فهو مصيب في اجتهاده، وهو معنى ما روي أن كل مجتهد مصيب؛ فليس معناه أن الحق يتعدد. وينبغي أن يكون قد أراد الكلام [5] أن للمجتهد الحكم ظنّا لا قطعيّا بأن اجتهاد غيره خطأ.
وأما نفس المجتهد المخالف فهو مصيب في العمل باجتهاد نفسه لا مخطئ في ذلك، وإن كان محكومًا بخطأ اجتهاده عند غيره؛ لأنه مأمور باجتهاد نفسه كما لا يخفى. قال الإمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي في شرح الجامع الصغير في مسألة التحري بالقبلة في الليلة المظلمة: وهذا نص من أصحابنا على أنهم لم يقولوا: كل مجتهد مصيب؛ خلافًا للمعتزلة، فإن من نسب ذلك إليهم فقد تقوّل عليهم، هذا لفظ فخر الإسلام رحمة الله عليه. قلت: وقد ذهب بعضهم إلى أن الحق يتعدد في المسألة، وهو ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد فيها، فقد جعل الله تبارك وتعالى حكم المسألة ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد.
ولكن لا نقول به؛ بل معناه أنه مصيب في اجتهاده ثم العلم به، والحق عند الله واحد، ولكن لمّا ظهر لهم بالدليل حكمٌ من الأحكام وجب عليهم اتباع الدليل، ومن ضرورة وجوب الاتباع التصويب، وإلا فالشرع لا يأمر باتّباع الخطأ.
ثُم من ضرورة تصويب قولهم تخطئة قول مخالفهم مع احتمال الإصابة من مخالفهم؛ لأن المجتهد لم يحصل له إلا الظن لا القطع بذلك، ولهذا لو حكم بشيء من القطعيات في العقائد يجزم بالإصابة وبتخطئة المخالف، كما ذكره النسفي في تلك المسألة في المصفى أيضًا. فالحاصل أن المراد من أئمتنا ومَن أخذ بقولهم من أهل النظر كمشايخ المذهب الكبار المتقدمين، كالشيخ أبي الحسن الكرخي والإمام أبي جعفر الطحاوي، والمتأخرين مثل شمس الأئمة الحلواني وتلميذه السرخسي وفخر الإسلام البزدوي وأمثالهم من النظّار في القرن الخامس، والإمام قاضي خان وخسرويه صاحب الهداية، وأضرابهما من أهل الأنظار ذوي القدر الخطير في القرن السادس - لو سُئلوا لكان جوابهم ما ذكره.
ويرشد إلى ذلك تعبيره بقوله: (لو سئلنا) .
وقوله: (عمّا ذهبنا) .
إلى آخره.
ولم يقل: لو سئل المقلد.
فهذا الجواب مقدّر من جانب الأئمة أنفسهم فيما ذهبوا إليه، وليس المراد أن يكلف كل مقلد أن يعتقد ذلك فيما قلد فيه؛ إذ ذلك تقليد فيما لا يحتاج إليه، وهو ممنوع، كما أفدتك من قبل أن التقليد إنما يسوغ بقدر الضرورة، وهو محتاج إلى العلم؛ فلا بد من التقليد في كيفية حصوله، وأما اعتقاد صحة ما قلد فيه ولا يدري [6] بطلان كل ما عداه فليس مكلّفًا. فَإِنْ قُلْتَ: بل هو مكلّف، وإلا لَزِمَ إذًا التكليف مع اعتقاد عدم صحتها. قلت: لا يلزم ذلك إلا لو اعتقد عدم صحة ما قلّد فيه، ونحن لا نقول به؛ بل هو على الصواب ظاهرًا حيث فعل ما عليه، وهو الأخذ بقول مجتهد، وأما تخطئة مَن أخذ بخلاف قول مقلده فما هو مكلف بها. وإذا تقرّر هذا فلا يسوغ لحنفي أو شافعي وَجد في المسجد إمامًا على خلاف مذهبه بعد أن كان من أهل السنة والجماعة ترك الاقتداء به، نظرًا إلى عدم صحة صلاته على مقتضى مذهب إمامه [7] . *** فصل يؤيد ما ذكرته ما نقله التقي الشهني في شرح المختصر والشيخ عثمان الزيلعي وصاحب البحر الرائق وغيرهم عن الإمام الجليل أبي بكر الرازي رحمه الله من صحة الاقتداء بإمام رعف ولم يتوضأ، وهذا يشعر بالاكتفاء باعتقاد الإمام نفسه في صحة صلاته، ولا عبرة حينئذٍ بفسادها في اعتقاد المقتدي، كما أشار إليه النسفي أيضًا، وهذا القول هو المقصود روايته وإن اعتمد خلافة روايةً عندنا. وهو الذي أميل إليه، وعليه يتمشى ما ذهبنا إليه في هذه الوريقات؛ بل أزيد وأقول: والذي يقتضيه النظر فيما ذهبنا إليه لا ينبغي تخصيص عقيدة الإمام بالاعتبار في الصحة؛ بل يقول: يكفي حصول الصحة على قول مجتهد، سواء في ذلك مطابقة عقيدة الإمام والمأموم أو غير مطابقة؛ كمثل شافعي مسَّ فرجه وصلَّى ناسيًا إمامًا، واقتدى الحنفي بالشافعي ثُم نسي ودخل في الصلاة، والحنفي كان عالمًا بمسّه وهو ذاكرٌ له، فنقول: له أن يقتدي به؛ لأنه في حالته بعد المس، وهو متوضئ في اعتقاد الحنفي المقتدي فيكفي ذلك. وقد قال المحقق في فتح القدير في مثل هذه الصورة: إن الأكثر على الصحة؛ خلافًا للهندواني وغيره، ففي هذه الصورة قد اعتبرنا اعتقاد الحنفي المقتدي، واكتفينا بصحتها في عقيدته، وصححنا الاقتداء، كما أنه في مسألة اقتداء الحنفي بالإمام الذي رعف ولم يتوضأ اكتفينا بصحتها في عقيدة الإمام الراعف، وصححنا الاقتداء به، وهو الذي نقلوه عن الإمام الرازي. وقد ذكر الشيخ الإمام المحقق كمال الدين بن الهمام في شرحه على الهداية عن شيخه الإمام سراج الدين الشهير بقارئ الهداية أنه كان يعتقد قول أبي بكر الرازي، وأنه أنكر مرة أن يكون فساد الصلاة بذلك مرويًّا عن المتقدمين.
انتهى. ورأيت في رسالة لبعض الفضلاء أن بعض الفضلاء كانوا يرجحون قول أبي بكر الرازي بناءً على قوة دليله ووضوح بيانه، وهو أن شرط صحة صلاة المأموم صحة صلاة الإمام في نفسها، وصلاة كل مكلف إنما تصح في نفسها - إمامًا ومأمومًا - باعتبار رأيه ومذهبه، لا على مذهب الغير؛ إذ كل مجتهد مطاع في حكمه، ومجزي عن عمله الذي رآه ومثاب عليه - وإن لم يصب الحق - فالحنفي لا يجزم بفساد صلاة مجتهد خرج منه الدم وهو يرى أنه غير ناقض، وإن قطع بفسادها من حنفي ابتلي به - على رأيه -. قوله: لا يجزم.
وقوله: وإن قطع.
لا يخفى أنه لا جزم ولا قطع في الظنيات، فالصواب أن يقال: لا يحكم، أو لا يقول بفسادها.
وكذا أن يقول: وإن حكم - أو - وإن قال بفسادها، بدل قوله: وإن قطع.
قال جامعها: وإن قطع بفسادها من حنفي ابتلي به بناء على رأيه ومذهبه ...
إلى آخر ما ذكره مما تركت ذكره قصد الاقتصار على ما هو المقصود منه. وكذلك أيضًا أجاب عنه الشهني في شرح المختصر، وغيره من المصنفين في مسألة صحة اقتداء مقلد أبي حنيفة في الوتر بمَن يرى عدم وجوبه؛ بأنه لا يجب عليه اعتقاد الوجوب.
يدل أيضًا على ما أرشدتك إليه من أن التقليد إنما هو بقدر الحاجة، واعتقاد الوجوب في عمل لم يجمعوا على وجوبه لا يجب؛ بل ربما لا يسوغ؛ كما سيأتي قريبًا.
فلذلك نقول: المقلد محتاج إلى إيقاع ما كلف به بطريقه لا غير، فتنبه! فقد نقل صاحب البحر الرائق - وهو خاتمة المتأخرين - مولانا العلامة ابن نجيم رحمه الله تعالى في (البحر الرائق شرح كنز الدقائق) عن شرح (منية المصلي) : أنه صرّح بعض مشايخنا بأنه لا ينوي في الوتر أنه واجب للاختلاف في وجوبه.
ونقل هو أيضًا عن المحيط والبدائع أنه ينوي صلاة الوتر والعيد فقط.
انتهى.
وهذا نصّ فيما أشرت إليه. *** فصل قد استفاض عند فضلاء العصر منع التلفيق في التقليد، وذلك بأن يعمل - مثلاً - في بعض أعمال الطهارة والصلاة أو أحدهما بمذهب إمام، وفي بعض العبادات بمذهب إمام آخر.
ولم أجد على امتناع ذلك برهانًا؛ بل قد أشار إلى عدم منعه المحقق في التحرير، وأنه لم يرد ما يمنع، ونقل منع التلفيق عن بعض المتأخرين.
قال شارح تحريره العلامة ابن أمير حاج: القائل بالمنع العلامة القرافي رحمه الله تعالى. قلت: والقرافي رجل من فضلاء الأصوليين من المالكية، ولا علينا أن نأخذ بقوله، خصوصًا وقد وجدت عن بعض أئمتنا ما يدل على جوازه؛ بل على وقوعه، وهو ما نقل في البزازية أن من علماء خوارزم من أصحابنا مَن اختار عدم فساد الصلاة بالخطأ في القراءة فيها أخذًا بمذهب الإمام الشافعي رحمه الله.
فقيل له: مذهبه في غير الفاتحة [8] ، فقال: اخترت من مذهبه الإطلاق، وتركت القيد [9] ؛ لما تقرر في كلام محمد [10] رحمه الله تعالى: أن المجتهد يتبع الدليل لا القائل، حتى صحّ القضاء بصحة النكاح بعبارة النساء على الغائب.
انتهى، نقله عنهما العلامة خاتمة المتأخرين ابن نجيم في بعض رسائله في الوقف.
فانظر كيف لفق أخذًا بمذهبه بأن الفاتحة ليست بركن فلا يضر نقصان بعضها فيما أخطأ فيه؛ أعني خطأ فاحشًا، كمن قال: (إيّاك نعبا وإياك نستعين) ؛ فسبقه اللسان خطأ.
فإن الفاتحة نقصت كلمة نعبد فلم تجز صلاته على مذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - ما لم يُعِدْ قراءة نعبد، فإذا أعادها صحت صلاته ولم تفسد عنده بهذا الخطأ؛ لأن عنده الكلام الخطأ لا يفسد إذا كان قليلاً، وعندنا هو مفسد، فإذا أعادها على الصحة لا يفيد لأن الصلاة قد فسدت.
هذا وقد قال بعدم الفساد عندنا بعض المشايخ إن أعادها على الصحة كما نقله الزاهدي، ولكن ظاهر ما في البزازية عن بعض علماء خوارزم أنه لا تفسد ولو لم يعد على الصحة، وإن أخذه بمذهب الشافعي في عدم الفساد بالخطأ، وهو عين التلفيق. فإن قلت: إن ذلك البعض من علماء خوارزم لعله إنما قال بذلك اجتهادًا، بدليل قوله: إن المجتهد يتبع الدليل لا القائل، قلت: يمنع مِن ذلك قولُه: أخذًا بمذهب الشافعي، فإن المتبادر من ذلك أنه قلده في ذلك.
ومعنى قوله حينئذٍ: لِمَا تقرّر من كلام محمد - إلى آخره - يعني أن المجتهد كما يتبع ما دلّ عليه الدليل باجتهاد لا باتباع مَن قال بمثل ما أدّاه إليه اجتهاده، فكذلك المقلّد إنما يلزمه خصوص ما قلّد فيه لا اتباع ذلك المجتهد الذي قلّده في جميع ما قال به، وخصوص ما قلت فيه إنما هو عدم الفساد بالخطأ في القراءة مطلقًا، سواء كان ذلك في الفاتحة أو غيرها، وذلك هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه، وعن سائر الأئمة المجتهدين. وفساد الصلاة بوقوع الخطأ في الفاتحة عنده ليس لخصوص كونه في الفاتحة؛ بل لفوات بعض الفاتحة عنده في الصلاة، ولهذا لو أتى بما أخطأ فيه منها على الصحة فإنه لا يقول بفساد صلاته حينئذٍ.
والخوارزمي لم يقلده في ركنية الفاتحة؛ بل قلده في عدم الفساد بالخطأ في القراءة - أعني الشافعي رحمه الله تعالى يقول بإطلاقه، وقول القائل: (له مذهبه في غير الفاتحة) ؛ غير صحيح - كما تقدّم بيانه، وكذلك قول الخوارزمي له، وتركه القيد واقع في غير محله؛ لأنه لم يقيده الشافعي بغير الفاتحة؛ بل خرج ذلك من الخوازرمي للمشاكلة في الجواب لِمَن نسب إليه القيد - أي إلى الشافعي - وذلك إما جهل من ذلك القائل بمذهب الشافعي، أو توسع في العبارة وتسامح؛ لأنه لما كان الشافعي يقول بالفساد بوقوع الخطأ في الفاتحة إذا لم يعد على الصحة، فكأن غير الفاتحة صار كالقيد لإطلاق الجواز، وليس قيدًا حقيقةً كما بيّنته في أول الكلام؛ فافهم. والحاصل أنه لم يثبت من كل وجه كون الخوارزمي قال بذلك الاجتهاد، ولو فرضنا ثبوت ذلك فما ضرنا ذلك فيما قصدنا إليه من جواز التلفيق، فكما أنه لو حصل التلفيق بالاجتهاد حكمنا بالصحة؛ فكذلك إذا حصل التلفيق بالتقليد حكمنا بالصحة؛ لأن الاجتهاد أصل في العمل والتقليد فرع.
التكليف في الأصل إنما هو بالاجتهاد عند عدم النص، فإن عجز عن ذلك الاجتهاد نزل إلى التقليد، ففي كل موضع قلنا بالصحة مع الاجتهاد نقول بها مع التقليد عند العجز عنه من غير زيادة أمر آخر، وما زاد على ذلك فهو قول مخترع لا يقوم به دليل مرضي، ولا تنهض به حجة. وما يزعمه من منع التلفيق من أن كلاّ من المجتهدَيْن اللذَيْن قلدهما - مثلاً - يقول ببطلان صلاته الملفقة - مثلاً - أو سئل عنها بانفراده، فمغالطة مدفوعة بما لا يسع هذا المحل بيانه. وإجمال ذلك: أنه إنما يقول له: إنها باطلة إن كنت أخذت في ذلك الأمر الذي حكمت إذًا ببطلانه من أجله بمذهبي وأمّا إن كنت قلدت فيه غيري فلا أحكم ببطلانها حينئذٍ في حقّك إن كنت متمسكًا بقول مجتهد.
وكذلك يقول له الآخر والآخر والآخر، فبطل إطلاق قولهم: يمنع التلفيق بأن كلاّ من المجتهدين حاكمٌ ببطلان صلاته مثلاً؛ بل يقيد الحكم منه ببطلانها بما إذا كان متمسكًا فيها بمذهبه فيما يرى ذلك المجتهد بطلانها بسبب فعله أو تركه لا أن قلد غيره فيه؛ فافهم ما فيه؛ فتندفع تلك المغالطة التي حكم مَن حكم بمنع التلفيق بسببها.
فإن أبيت وقلت: لا؛ بل المجتهد يطلق القول ببطلانها على رأيه.
فنقول: لا يليق هذا الإبطال بما إذا قلد مجتهدًا غيره في الأمر الذي أبطلها بسببه، كما لا يليق إبطاله بنقض قول ذلك المجتهد المصحح لها مع وجود ذلك الأمر الذي أبطلها بسببه ذلك المجتهد الآخر، فسلمت له صلاته - أي المقلد - بتقليده لها كل أمر من أمورها مجتهدًا يرى صحة ذلك، فصار حكم المجتهد المبطل في مصروفًا عنه بتقليده مَن يرى الصحة بذلك الأمر، وبذلك ينصرف عنه حكم كل المجتهدين، وببطلانها بيان قول المانع فيما إذا قلد المكلف أبا حنيفة - رضي الله عنه - في أن المس غير ناقضٍ مثلاً، وقلد الشافعي - رحمه الله تعالى - في الاكتفاء بمسح بعض شعرات من الرأس لا تبلغ الربع، أو مقدار ثلاثة أصابع باعتبار الرواية الأخرى في مذهب أبي حنيفة - رحمة الله عليه - في المقدار المفروض في مسح الرأس، فإن المانع يقول: إن أبا حنيفة والشافعي حاكمان ببطلان صلاته، فأبو حنيفة لفقد مسح المقدار المفروض عنده، والشافعي لوجود المس، فهي غير جائزة عندهما. أقول: وجوابه ما بيّناه بأن هذه مغالطة، وإطلاق في محل تقييد؛ بل الحكم ببطلانها عند كل منهما مقيد بما إذا كان آخذا في ذلك الأمر الذي حكم من حكم ببطلانها بسببه بمذهب المبطل - كما تقدم بيانه قريبًا - فافهم؛ والله أعلم بالصواب. اللهم لو ذهب مجتهد إلى أن المفروض من الرأس في المسح مقدار ما قال به الشافعي، وإلى أن المس غير ناقض، وإلى أن الدلك والموالاة في الوضوء لا يلزمان ، لم يسوغ المانع له حينئذٍ اجتهاده؟ [11] فكذلك عليه أن يسوغ للمقلد تقليده في كل واحد من المذكورات لمجتهد قال بذلك؛ كما لا يخفى، فإن تَأَبَّى مُتَأَبٍّ عن تلقي هذا البيان بالقَبول بعد صحته ووضوحه فاقرعه بما تقدم قريبًا من عدم لحوق الإبطال من المجتهد بالمقلد لغيره فيما أبطله بسببه، وإن صادف حكمه عنه بذلك. ثُم نرجع ونقول: وكذلك مسألة النكاح؛ فإنه لا يصح بعبارة النساء على الغائب، وعندنا الحكم بالعكس في المسألتين، فإذا حكم بصحته بعد وقوعه بعبارة النساء على الغائب فقد لفق، ومع هذا فقد حكموا بصحة هذا الحكم الملفق من المذهبين، وكذلك مسألة الإمام أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لمّا صلى بالناس الجمعة فأخبر بوجود فأرة في ماء الحمام الذي كان اغتسل منه للجمعة، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا) .
قال في المحيط البرهاني والفتاوى الظهيرية وغيرهما من كتاب النكاح مستشهدًا بها في مسألة من مسائل النكاح سيأتي ذكرها: للحنفي أن يعمل فيها بغير مذهبه. أقول: فهذا أبو يوسف رحمه الله - إمام المذهب وكبيره، المجتهد الكامل - قد قلد عند الضرورة ولم يكن ذلك مذهبًا له؛ بل مذهبه تنجس الماء القليل وإن لم يتغير بوقوع ما ينجسه فيه، ولا شك أن الظاهر أنه فعل الطهارة وصلى الصلاة على مقتضى مذهبه، وإنما قلد في خصوص الماء، فقد حصل التلفيق منه، وهو أوفى حجة لنا، ويستفاد منه أيضًا أنه يقلد إذا احتاج، إذ هو الظاهر من فعله هنا، وإن كان نقل في جواهر الفتاوى عن الحاوي من كتبنا: أن أبا يوسف - رحمه الله - بقي على هذا المذهب ستة أشهر، ثُم رجع إلى مذهب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في المسألة؛ فإنه يحتمل أنه ظهر له بالدليل بعد التقليد صحة ما ذهب إليه غيره ممّن قلده في المسألة خصوصًا، ولفظ نقل المحيط والظهيرية: (ولم يكن ذلك مذهبًا له؛ بل يدل على وقوعه تقليدًا) . وهذه المسألة وهي: هل للمجتهد أن يقلد مجتهدًا في مسألة فيها خلاف؟ المشهور أنه ليس له ذلك، وروي عن الإمام محمد - رحمه الله - جواز تقليد العالم للأعلم، والفقيه للأفقه، وفرع أبي يوسف هذا يوافقه، ثُم رأيت في أصول الإمام شمس الأئمة أبي بكر بن محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي - رحمهم الله تعالى - وهو صاحب المبسوط - ما نصه: على أصل أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - إذا كان عند مجتهدٍ أن من يخالفه في الرأي أعلم بطريق الاجتهاد فإنه مقدّم عليه في العلم فإنه يدع رأيه لرأي مَن عرف زيادة قوة في اجتهاده - إلى أن قال -: وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: (لا يدع المجتهد في زماننا رأيه لرأي مَن هو مقدّم عليه في الاجتهاد من أهل عصره) ، إلى آخر ما ذكره. فأفاد عن محمد خلاف ما رأيته عنه، فلعل أن له في المسألة روايتين.
ونقل صاحب الفتاوى الصيرفية عن فوائد تجنيس الملتقط: اشترى الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - الباقلاء من منادي السكك، فأكل وأكلوا وصلوا بعدما حلق وعلى ثوبه شعر كثير، فقيل له في ذلك، فقال: حين ابتلينا انحططنا إلى مذهب أهل العراق.
وهو يفهم بظاهره أنه قلد في ذلك. فقد تلخص من المنقول عن الأئمة أن التلفيق [12] من مسئلتي أبي يوسف وبعض علماء خوارزم، ومسألة صحة الحكم على الغائب بصحة النكاح بعد وقوعه - كما سبق في المسألة التي ذكروها - واستئناسي بمقالة المحقق في التحرير، وما على الإنسان أن يختار الأسهل في العمل. ثُم وجدت شيخ الإسلام خاتمة الأئمة المتأخرين مولانا العلامة زين الدين ابن نجيم صرّح في رسالة ألّفها في بيع الوقوف على وجه الاستبدال بأن ما وقع في آخر التحرير من منع التلفيق فإنما عزاه إلى بعض المتأخرين وليس هذا المذهب. انتهى.
فحمدت الله تبارك وتعالى على موافقة ما ادعيته لما نص عليه مولانا العلامة ابن نجيم. (للرسالة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ)) (*) هذه الرسالة هي تأليف الفقيه الأصولي الشيخ محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي ابن المقدسي المبروز الملاّ فروخ بن عبد المحسن الرومي الموروي، أتم تأليفه سنة 1052 للهجرة ظفر بنسخة خطية منها صديقنا الشيخ مصطفى بن محمد سليم الغلاييني؛ فأرسلها إلينا فاستحببنا نشرها في المنار لفوائدها وللاستشهاد بها على وجود العلماء المنصفين الميسرين الجامعين للكلمة في كل شعب إسلامي وكل عصر من عصور ضعف العلم. (1) المنار: حق العبارة أن تكون: (اتباع من يرشده) . (2) المنار: التقليد: الأخذ بالرأي من غير دليل.
وإنما تدل الآية على السؤال عن الدليل، وهو ما تواتر عند أهل الكتاب من كون جميع الرسل كانوا رجالاً، ومثله طلب النصر دون الرأي، هذا وإن الاجتهاد يتجزأ، فمَن لم يقدر على معرفة جميع الأحكام أو أكثرها بالنظر والاستدلال يجوز أن يقدر على ما يحتاج إليه منها كله أو بعضه، وحينئذٍ يمتنع عليه أن يأخذ فيه برأي غيره واجتهاده، كما ثبت في علم الأصول. (3) لفظ (أي) لا حاجة إليه فعله سبق قلم من الناسخ أو المؤلف. (4) في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي أن الشافعي أرسل إلى أحمد كتابًا من مصر وهو ببغداد مع الربيع يذكر له فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يكتب إليه: (إنك ستُمتحن وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم، فيرفع الله لك علمًا إلى يوم القيامة) وأن أحمد أعطى الربيع قميصه بشارة، وأن الشافعي قال للربيع لما عاد: ليس نفجعك به؛ ولكن بلّه وارفع إليّ الماء لأتبرك به.
فهذا أصل الحكاية، وبعض الناس يتصرفون فيها.
والسند الذي ذكره السبكي لا يصح، ولكنه يقبلون مثله في المناقب. (5) المنار: كانت هذه الجملة إلى الأربعة الأسطر موضوعة في الفصل السابق قبل قوله: (وأما أنت ...
إلخ)
ولا معنى لها هناك، ولا مرجع لضميرَيْ (يكون) و (أراد) . (6) المنار: كذا في الأصل ولعل في الكلام حذفًا، والمراد ظاهر؛ أي: وأما اعتقاد صحة ما قلد فيه ولا يدري ما دليله، وبطلان كل ما عداه فليس مما يكلفه. (7) تقييده بأهل السنة فيه بحث؛ فقد أجازوا الاقتداء بالفاسق ولو في الاعتقاد كالمبتدع ولكن مع الكارهة، وهذا مما يتحقق به كونهم أهل الجماعة أي يجمعون كلمة المسلمين ولا يفرقونها. (8) أي ذل مذهبه في غير الفاتحة. (9) سينقل المصنف قريبًا قول الخوارزمي في هذا السياق: (وتركها لقيد في غير محله) - أي الشافعي - فهل هو عين هذه العبارة ووقعت هنا محرفة؟ أم سقط من الكلام هنا؟ . (10) سيعيد العبارة بلفظ: (من كلام محمد) . (11) قوله: (لم يسوغ ...
إلخ)
جواب لو، ومعنى النفي باطل؛ لأن مانع التلفيق لا يمنع المجتهد من القول بهذه المسائل، ولا يصح المعنى إلا إذا جعلت الجملة للاستفهام، ولا تبعد على المصنف لضعفه في العربية، وإلا فالعبارة محرفة. (12) كذا، والمعنى مأخوذ من مسألتي أبي يوسف ...
إلخ.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١