الوفاء خلق أهل الإيمان


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل ربه حق الجهاد، ولم يترك شيئاً مما أمر به إلا بلغه، فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وهدى الناس من الضلالة، ونجاهم من الجهالة، وبصرهم من العمى، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، و( ما قل وكفى خير مما كثر وألهى )، و إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أيها المسلمون عباد الله! فإن التذكير بقيمة الوفاء أمر لا بد منه في هذه الأيام، بعدما رأس البلاد من اختاره الناس عبر صناديق الاقتراع، وتقدم آخرون ليكونوا حكاماً على الولايات، واختير فريق ثالث ليكونوا نواباً عن الشعب، يحققون آماله، ويلبون مطالبه، ويسعون في قضاء مصالحه، ويعملون على ضمان عيش كريم للناس في هذه البلاد.

أيها المسلمون عباد الله! إن الوفاء خلق إنساني رفيع، أمرنا به ربنا في كتابه الكريم، فقال جل من قائل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، فهؤلاء الذين اختيروا ليكونوا حكاماً، ما اختارهم الناس إلا بعدما طرحوا برامج، وبذلوا من أنفسهم عهوداً وقدموا للناس وعوداً، بناءً عليها حصل اختيارهم، فلا بد أن نذكر الجميع بأن الوفاء مطلوب، هذا هو الخلق الإسلامي، وهو من القيم الإنسانية الرفيعة التي تقوي الأواصر بين المجتمع، وتؤكد الثقة بين الأفراد، فيبذل بعضهم لبعض ما يستطيع من معروف، ويكون بين الحاكم والمحكوم عروة وثقى قائمة على الشرع والدين، ليس بين الحاكم والمحكوم مؤامرات ولا دسائس، لا يتربص أحدهما بالآخر الدوائر، بل الكل يعمل على رضا الله عز وجل، الكل يعمل على ما يقربه إلى ربه، وما يرضي عنه مولاه جل جلاله.

أيها المسلمون عباد الله! إن الوفاء أخو الصدق والعدل، وإن الغدر أخو الجور والكذب والظلم، وما زال الموفون بعهدهم ممدوحين عند الله وعند المؤمنين، وما زال أهل الغدر وأهل الكذب مذمومين مقبوحين منبوذين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان بن فلان ).

طاعة ولي الأمر من الوفاء بالعهد

أيها المسلمون! أيها الرعية! أيها المحكومون! إنكم مأمورون بالوفاء، مأمورون بأن تطيعوا من ولاه الله أمركم، وأن تفوا له ببيعته، وأن تعينوه على أمر دينه ودنياه، وأن تبذلوا له النصيحة، وأن تتقوا الله عز وجل فيه، هكذا أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلوات ربي وسلامه عليه: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فيكثرون، قالوا: يا رسول الله! فبم تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، وأدوا الذي عليكم، فإن الله عز وجل سائلهم عما استرعاهم )، فيأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نفي بالبيعة، وأن نؤدي الذي علينا من واجبات، ويخبرنا أن الله عز وجل سائل هؤلاء عما استرعاهم، وعن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة رحمه الله ورضي عنه قال:( دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس قد اجتمعوا إليه، فأتيته فجلست إليه، فسمعته يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشرة، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فأتيناه فجلسنا إليه، فقال صلوات ربي وسلامه عليه: إنه ما من نبي قد بعثه الله إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن ينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه قد جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء الفتن فيرقق بعضها بعضاً، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول: هذه هذه، فمن أحب أن يدخل الجنة ويزحزح عن النار فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر، يقول عبد الرحمن رحمه الله: فدنوت من عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقلت: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى بيديه إلى سمعه وقلبه، وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، قلت: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا بأن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن نقتل أنفسنا، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، فسكت ساعة، ثم رفع رأسه فقال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله ).

يا أيها المسلمون! يا أهل هذه البلاد! إن ناساً يريدون لنا أن نعيش في التيه، نصبح حيث أمسينا، تتقدم الأمم، وترقى الشعوب، ويرتاح الناس، ونحن ندور في حلقة مفرغة، صراع بين حاكم ومحكوم، تربص بين راعٍ ورعية، نقول: لا، بل نعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، نطيع في طاعة الله، ونعصي في معصية الله، نفي بعهد الله، نفي بالبيعة، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونبذل النصح، هذا الذي أمرنا به، ثم بعد ذلك الوفاء مطلوب ممن ولاه الله الأمر.

تحقيق تطلعات الرعية من الوفاء بالعهد

يا أيها المسئولون! يا من وليتم الأمر! يا رئيس الجمهورية! يا حكام الولايات! يا من ستصيرون وزراء ومستشارين! اتقوا الله عز وجل فيما استرعاكم، قال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [النحل:91-92]، أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:152-153].

ألا فاعلموا أيها المسئولون! أن البصير حقاً، والعالم حقاً، من علم أن بعد الحياة موتاً، وبعد الموت بعثاً، وبعد البعث حساباً، وبعد الحساب جنة أو ناراً، البصير حقاً من وفى بعهده، من بذل للناس ما يستطيعه وفاءً بالعهد، قال تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:19-24].

أيها المسئولون! إن الناس الذين اختاروكم ينتظرون أن يروا وعودكم قد حققت، وعهودكم قد صدقت، إن المسلمين في هذه البلاد يتوقون ليوم يرون فيه أعلام الدين مرفوعة، وشريعة الله منفذة، وحدوده مرعية، يرون الحرام حراماً والحلال حلالاً، يرون تعظيماً لحرمات الله أن تنتهك، قياماً بأمر الله وصدعاً به في الناس جميعاً كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم، إن للناس مطالب مشروعة في طعام طيب يأكلونه، وصحة تضمن لهم، وتعليم يبذل لأولادهم، إن الناس يريدون حياة كريمة، حياة لا يتمايزون فيها إلا بتقواهم وبذلهم، لا يتمايزون فيها إلا بصدقهم وجهادهم، لا تمايز فيها لقريب على بعيد، ولا لصديق على شانئ، بل الكل في شرع الله سواء، لما جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يريد أن يقبض عطاءه، يريد أن يأخذ راتبه، نظر إليه عمر، وعرفه من وجهه أنه هو قاتل زيد بن الخطاب هذا الرجل كان مرتداً، وشارك في حروب الردة ضد المسلمين، وقتل زيد بن الخطاب أخا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، نظر إليه عمر وقال له: والله إني لا أحبك، فقال له الرجل: أتمنعني حقي؟ قال: لا، قال له الرجل: فلا حاجة لي في حبك، إنما يأسى على الحب النساء.

عمر أمير المؤمنين خليفة المسلمين، من بيده الأمر والنهي، يعطي للرجل عطاءه رغم كونه لا يحبه، رغم كونه قاتل أخيه، والرجل يرد عليه بكل جرأة، يقول له: لا حاجة لي في حبك، إنما يأسى على الحب النساء، هذا هو الحكم الإسلامي الراشد، هذه هي سيرة الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين.

ألا فاعلموا أيها المسئولون! أنه لا حاجة للناس في صلاتكم، ولا صيامكم، ولا قرآنكم، ولا حجكم، ولا عمرتكم، فإن هذه عبادات نفعها قاصر عليكم، وثوابها راجع إليكم، هذه عبادات بينكم وبين ربكم، ونسأل الله أن يتقبل منكم، لكن العبادة حقاً أن تجهدوا أنفسكم في مصالح رعيتكم، العبادة حقاً أن تفوا بما عاهدتم، قال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، هؤلاء هم الصادقون، من أوفوا بعهودهم، من حققوا وعودهم، من بذلوا أنفسهم في راحة رعيتهم، هؤلاء هم الصادقون، وهؤلاء هم المتقون، ألا فاعلموا أن الوفاء بالعهد صفة الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، قال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:36-37]، وقال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، هذه هي سيرة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا أماناتكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم )، فهذه الستة من أتى بها ضمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة.

أسأل الله عز وجل أن يصلح الراعي والرعية، اللهم أصلح الراعي والرعية، اللهم أصلح الراعي والرعية، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين! وأبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه وليك، ويذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! وتوبوا إلى الله واستغفروه.

أيها المسلمون! أيها الرعية! أيها المحكومون! إنكم مأمورون بالوفاء، مأمورون بأن تطيعوا من ولاه الله أمركم، وأن تفوا له ببيعته، وأن تعينوه على أمر دينه ودنياه، وأن تبذلوا له النصيحة، وأن تتقوا الله عز وجل فيه، هكذا أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلوات ربي وسلامه عليه: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فيكثرون، قالوا: يا رسول الله! فبم تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، وأدوا الذي عليكم، فإن الله عز وجل سائلهم عما استرعاهم )، فيأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نفي بالبيعة، وأن نؤدي الذي علينا من واجبات، ويخبرنا أن الله عز وجل سائل هؤلاء عما استرعاهم، وعن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة رحمه الله ورضي عنه قال:( دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس قد اجتمعوا إليه، فأتيته فجلست إليه، فسمعته يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشرة، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فأتيناه فجلسنا إليه، فقال صلوات ربي وسلامه عليه: إنه ما من نبي قد بعثه الله إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن ينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه قد جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء الفتن فيرقق بعضها بعضاً، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول: هذه هذه، فمن أحب أن يدخل الجنة ويزحزح عن النار فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر، يقول عبد الرحمن رحمه الله: فدنوت من عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقلت: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى بيديه إلى سمعه وقلبه، وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، قلت: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا بأن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن نقتل أنفسنا، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، فسكت ساعة، ثم رفع رأسه فقال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله ).

يا أيها المسلمون! يا أهل هذه البلاد! إن ناساً يريدون لنا أن نعيش في التيه، نصبح حيث أمسينا، تتقدم الأمم، وترقى الشعوب، ويرتاح الناس، ونحن ندور في حلقة مفرغة، صراع بين حاكم ومحكوم، تربص بين راعٍ ورعية، نقول: لا، بل نعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، نطيع في طاعة الله، ونعصي في معصية الله، نفي بعهد الله، نفي بالبيعة، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونبذل النصح، هذا الذي أمرنا به، ثم بعد ذلك الوفاء مطلوب ممن ولاه الله الأمر.