شرح العقيدة الواسطية [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:

قال رحمه الله: [ ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من خلقه.

ثم رسله صادقون مصدقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون؛ ولهذا قال: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182] فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ].

ذكرنا أن التكييف والتمثيل منتف بالكتاب وبالسنة، وبإجماع السلف، والشيخ رحمه الله ذكر علة ذلك، يعني: علة أنه لا يكيف ولا يمثل ما أخبر الله به عن نفسه، فقال: (لأنه سبحانه لا سمي له) ومن أين لنا أنه جل وعلا لا سمي له؟

من قوله سبحانه وتعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، فالاستفهام هنا استفهام نفي، وإنكار أن يكون لله جل وعلا سمي يساميه، ويماثله، ويشابهه سبحانه وتعالى في شيء من أسمائه وصفاته، فنفى عن نفسه أن يكون له سمي.

قال: (ولا كفء له) وذلك في قوله جل وعلا: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]، (ولا ند له) وذلك في قوله سبحانه وتعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، فنفى عن نفسه سبحانه وتعالى السمي، ونفى عن نفسه الكفء، ونفى عن نفسه الند، ومجموع هذه يفيد نفي النظير والمثيل والعديل والمساوي له سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة كنه ما وصف به نفسه، يعني: حقيقة ما وصف به نفسه، ولا سبيل إلى تمثيل شيء مما أثبته لنفسه بما هو ثابت لخلقه.

الأقيسة الممنوعة والجائزة في حق الله تعالى

ثم قال رحمه الله: (ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى) وهذا امتداد لنفي التكييف والتمثيل؛ لأن القياس تمثيل وتسوية وتعدية، والقياس الذي نفاه الشيخ رحمه الله في قوله: (ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى) هو قياس التمثيل وقياس الشمول، فقياس التمثيل: هو مساواة الله بغيره من خلقه، وهو ما يعرف عند الأصوليين بإلحاق فرع بأصل لعلة جامعة.

فقياس التمثيل هو: أن يمثل الله جل وعلا بغيره من المخلوقين، ولو في شيء مما ثبت له، فهذا منتفٍ، ولا يمكن أن يقول به مصدق لما جاء في الكتاب والسنة؛ لأن الكتاب والسنة نفيا التمثيل، ونفيا عنه سبحانه وتعالى المثل، وإثبات قياس التمثيل هو إثبات للنظير والمثل، ومخالفة لما أفادته هذه الآيات الدالة على أنه لا مثيل له ولا نظير.

النوع الثاني من القياس المنفي: قياس الشمول، وهذا القياس هو: أن يدخل الله جل وعلا وغيره في قضية عامة كلية تستوي أفرادها، وهذا لا يمكن؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، فلا يمكن أن يسوى بغيره، ويدخل هو وغيره في قضية كلية عامة، فهذان القياسان لا يمكن إثباتهما، ولا يجوز لمؤمن أن يثبتهما؛ لدلالة الأدلة على أنه سبحانه وتعالى لا مثيل له ولا نظير، والقياس الذي استعمله أهل السنة والجماعة هو قياس الأولى، وقياس الأولى: هو أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت للمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تخلى منه المخلوق فإن تنزيه الخالق عنه من باب أولى، هذا هو ضابط قياس الأولى، في الكمالات: كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به، وفي العيوب والنقائص: كل ما تنزه عنه المخلوق من العيب والنقص فتنزيه الخالق منه من باب أولى، ودليل هذا القياس الذي أثبته أهل السنة والجماعة قوله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، وقوله: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى [الروم:27]، هذا هو دليل جواز إثبات قياس الأولى في باب الأسماء والصفات.

لكن يجب أن نتنبه إلى أن هذا القياس -الذي هو قياس الأولى- لا يمكن أن نثبت به شيئاً لم يرد إثباته في الكتاب والسنة، أو ننفي به شيئاً لم يرد نفيه في الكتاب والسنة.

إذاً: ما فائدة هذا القياس إذا كان لا يفيدنا في الإثبات ولا يفيدنا في النفي؟

فائدته في إثبات ما جاءت به النصوص أو نفي ما جاءت النصوص بنفيه عن الله عز وجل بدلالة العقل، وتنبه لهذا، فقل من ينبه عليه أو ينتبه له؛ حتى لا نضطرب ولا نعارض ما تقدم من أننا لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وأننا لا ننفي عنه ما وصف به نفسه، نعلم بهذا كله أن قياس الأولى الذي أثبته أهل السنة والجماعة واستعملوه هو في الاستدلال لما ثبت بالكتاب والسنة من جهة العقل، وإلا فإنه لا يقوى في إثبات أمر لم يدل عليه الكتاب أو السنة، كما أنه لا يقوى في نفي ما لم يدل الكتاب أو السنة على نفيه.

وبهذا يتبين لنا أن القياس في باب الأسماء والصفات ثلاثة أنواع: نوعان ممنوعان، ونوع جائز، النوعان الممنوعان هما: قياس التمثيل وقياس الشمول، والنوع الجائز هو قياس الأولى.

من أوصاف خطاب الله كمال العلم والصدق والنصح

قال رحمه الله: (فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً) هذه جملة تعليلة علل بها المؤلف رحمه الله القواعد المتقدمة من قواعد الأسماء والصفات، وأنه لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه، ولا نثبت لله جل وعلا إلا ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإثبات لما تضمنه الكتاب ولما تضمنته السنة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، لماذا؟

لأنه قال: (فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره) فهذا إثبات كمال علمه سبحانه وتعالى، ولا ريب أن المخبر إذا اتصف بهذه الصفة كان ذلك من أسباب قبول خبره والوقوف عنده.

ثاني ما اتصف به سبحانه وتعالى: أنه أصدق قيلاً، فقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] أي: لا أصدق من الله قولاً، فإذا كان قوله صدقاً، ومن لوازم الصدق النصح؛ لأن النصح فرع عن الصدق، فمن كان صادقاً كان ناصحاً، فتميز الخطاب أيضاً بخصيصة وميزة عظيمة وهي: الصدق والنصح، فاجتمع لنا الآن في خطاب الله عز وجل ثلاثة أوصاف:

كمال العلم، وكمال الصدق، وكمال النصح.

ثم قال: (وأحسن حديثاً من خلقه) فحديثه أحسن الأحاديث: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً [الزمر:23]، فالله جل وعلا أنزل على هذه الأمة أحسن الأحاديث، فخطاب توافرت فيه هذه الصفات من أين يرد عليه الوهم؟! ومن أين يتطرق إليه الخلل؟! علم وصدق ونصح وبلاغة وفصاحة لا تجارى، ولا يبلغ حدها، بل هي قد بلغت الغاية في الحسن والبيان، فلا سبيل إلى عدم قبول ما تضمنه الكتاب من الأخبار والأحكام، قال الله جل وعلا: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115] فهي تامة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ومن ادعى بتأويل أو تحريف أن النص يدل على خلاف ما ظهر منه وتبادر، دون مرجح؛ فإنه قد اتهم خطاب الله عز وجل إما بنقص العلم أو بنقص الصدق، أو بنقص النصح، أو بعدم البيان والفصاحة، وهذه أوصاف اضبطها، فإنها أوصاف تميز بها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة؛ ولهذا لا عدول لأهل السنة والجماعة عما تضمنه الكتاب والسنة.

صدق الرسل فيما أخبروا وبلغوا

قد يقول قائل: هذا خطاب الله، لكن الخلل أتانا من الطريق الذي وصلنا به الخطاب، فانتقل المؤلف رحمه الله كما سيأتي دليله في الآية إلى تزكية الطريق الذي وصلنا به خبر الله سبحانه وتعالى، وهم الرسل، فقال: (ثم رسله صادقون) فيما يخبرون به عن الله جل وعلا، من العقائد والأحكام والأخبار؛ فأمنا الخلل في الطريق، وقد يكون الإنسان صادقاً، لكنه يخطئ، فيخبر بخلاف الحق، ولنفي هذا الوارد الذي قد يورده المخالفون لطريق الرسل، فيقولون: نحن لا نتهم الرسل فيما أخبروا به، لكن الرسل أخطئوا أو قصروا، فيأتيك الجواب في قوله رحمه الله: (مصدقون) أي: من الله جل وعلا، فهو عليهم شهيد؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى في غير ما آية: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28] أي: شهيداً على ما تخبر به الرسل من الأخبار، وما تنبئ به من الأحكام، فشهادة الله على هؤلاء الرسل كافية في قبول ما جاءوا به؛ لأنه لو كان ما جاءوا به مخالفاً للحق لما أقرهم عليه جل وعلا، بل إنه سبحانه وتعالى تعهد وتكفل بفضح ومعاقبة كل من افترى عليه كذباً، فقال سبحانه وتعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ [الحاقة:44] أي: شيئاً منها، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:45-47]، والآية الأخيرة تبين أن هذا التهديد ليس في حق الرسل فقط، بل في حق كل من كذب على الله عز وجل، وافترى عليه في خبر أو حكم، فإذا كان الرسل مصدقين، وهذه حال الله جل وعلا معهم من الشهادة والاطلاع والعلم بما يخبرون، ومع ذلك لم يتعقبهم بشيء، ولم نر أنه وقع بهم ما أخبر به سبحانه وتعالى من العقوبة العاجلة قبل الآخرة؛ دل ذلك على أن ما جاءوا به هو المطابق لما عليه الأمر، والموافق لما تكلم به سبحانه وتعالى.

وهذه الميزة في خطاب الله عز وجل، وفي الطريق الذي وصلنا به خطابه، وليس في أي سبيل آخر، ولذلك قال: (بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون) وهذا وصف مطابق لحال المخالفين للرسل، ومخالفين لما جاءت به الدلائل في الكتاب والسنة، فمهما ادعوا العلم، ومهما بالغوا في خلع الألقاب عليهم، فإنهم يقولون على الله ما لا يعلمون؛ لأنه لا أتم، ولا أكمل، ولا أنصح، ولا أفصح، ولا أبين، مما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه، أو أخبرت به رسله.

ولا سلامة للمؤمن من الاضطراب والحيرة والضلال إلا بالتسليم لله جل وعلا، والوقوف عند النصوص.

تنزيه الله لنفسه عما وصفه المخالفون للرسل

قال المؤلف رحمه الله: (ولهذا قال سبحانه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182]) هذه الآيات العظيمة افتتحها الله سبحانه وتعالى بتنزيه نفسه، فقال: سُبْحَانَ رَبِّكَ أي: يا محمد! سبحانه.. فسبح نفسه، والتسبيح معناه التنزيه، فالله سبحانه وتعالى نزه نفسه عن كل عيب ونقص وشر في الأقوال والأفعال، والأسماء والصفات، فلا يتطرق إلى شيء من أموره نقص سبحانه وتعالى.

ولتأكيد امتناع النقص عليه قال سبحانه وتعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ َ والعزة: هي الامتناع، وهو ربها أي: صاحبها سبحانه وتعالى، فـ(رب) هنا معناه: صاحب العزة، والعزة له وصف وملك، قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [يونس:65] فالعزة له سبحانه وتعالى، وعزة كل عزيز فرع عن عزته، فهو الذي يهبها له، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، فإذا كان هذا وصفه سبحانه وتعالى فإنه لا يتطرق إليه النقص، بل أصحاب العقول السليمة لا يمكن أن يدور في عقولهم نقص هذا الرب جل وعلا بوجه من الوجوه.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ [الصافات:180] أي: عما يصف به الكافرون والمخالفون للرسل ربهم، ويستوي في هذا الاعتقادات الفاسدة الكفرية فما دونها، فكل ما خالف الكتاب والسنة من العقائد في الله جل وعلا فإن الله سبحانه وتعالى قد نزه نفسه عن ذلك في هذه الآية: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ [الصافات:180].

ثم سلم على المرسلين فقال: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181] والسلام على المرسلين لسلامة ما قالوه كما سيبين المؤلف رحمه الله، وهذا السلام بشرى لكل من سلك سبيل المرسلين، فهو سلام للمرسلين ولأتباعهم، وليس خاصاً بالمرسلين، إنما هو للمرسلين ولمن سلك سبيلهم، وانتهج نهجهم، وسار على صراطهم.

ثم بعد أن سبح نفسه ونزهها عن العيب والنقص، وسلم على أقوم الناس منهجاً وطريقاً حمد نفسه فقال: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:182]، وهذه الجملة فيها إثبات الكمالات لله سبحانه وتعالى: الكمال في الأسماء، والكمال في الصفات، والكمال في الأفعال، فإنه لا يحمد إلا من كملت أسماؤه، ولا يحمد إلا من كملت صفاته، وجملت أفعاله سبحانه وتعالى، ولاحظ كيف افتتح هذا التعقيب بما ذكره في سورة الصافات من أقاويل أهل الكفر واعتقاداتهم في ربهم، واعتقادهم الولد، وجعلهم بينه وبين الجنة نسباً، وما إلى ذلك مما ذكره من العقائد الفاسدة، ثم عقب ذلك بذكر التسبيح والتحميد، وكثيراً ما يقترن في كتاب الله عز وجل التسبيح مع التحميد، بل نحن في صلاتنا نقول: سبحان الله وبحمده في الركوع والسجود، وفي الأذكار بعد الصلوات نقول: سبحان الله والحمد لله، فالتسبيح والتحميد مقترنان، ووجه اقترانهما أن التسبيح: تنزيه لله عز وجل عن كل عيب ونقص، وهذا تخلية، والتحميد: إثبات لكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ولذلك كانت سبحان الله وبحمده من خير الكلام، ومما يملأ به الميزان، وتملأ ما بين السماء والأرض؛ لما تمضمنته من إثبات الكمالات لله عز وجل، ونفي النقائص عنه سبحانه وتعالى.

قال المؤلف رحمه الله: (فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل) وهذا يشمل الكفار الذين نسبوا له الولد، والذين جعلوا بينه وبين الجنة نسباً، والذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، والذين قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع عن تعب، وما إلى ذلك من العقائد الباطلة التي لا حصر لها ولا حد من عقائد الكفار، ويدخل فيها أيضاً العقائد المنحرفة من عقائد أهل القبلة، يعني: المنتسبين لملة الإسلام من أهل البدع المغلظة، والبدع التي تعتبر من البدع الخفيفة كبدع من أول بعض الصفات وأثبت بعضها.

المهم أن هذا ينتظم جميع من خالف سبيل الرسل بكفر أو بدعة، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، فإن ما قالوه لا نقص فيه ولا عيب.

جمع الله سبحانه فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات

ثم بعد أن فرغ من الاستدلال لما تقدم من القواعد ختم هذا الفصل بذكر قاعدة مهمة وهي في قوله رحمه الله: (وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات) أي: الله سبحانه وتعالى في خبره عن نفسه جمع بين النفي والإثبات، النفي هو أمر سلبي، والإثبات أمر إيجابي، واعلم أن المؤلف رحمه الله أطلق القول في هذا الموضع، ولكنه فصله في كثير من مؤلفاته، ومراده رحمه الله أن يبين أن كلا النوعين -النفي والإثبات- قد وردا في صفات الله عز وجل، وفيما أخبر به عن نفسه، لكن هل هما على حد سواء؟ هل النفي كالإثبات؟

الجواب: لا، فالأصل في الإثبات التفصيل في الأسماء والصفات، وقد يرد الإثبات مجملاً في الأسماء والصفات، أما النفي فعلى عكس ذلك، فطريقة القرآن: الإجمال في النفي وعدم التفصيل.

فمثال الإثبات المجمل في الأسماء: قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، هذا من الكتاب، وفي السنة دعاء الاستخارة: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك) هذا فيه إجمال في إثبات أسماء الله عز وجل: (سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) هذا إجمال ليس فيه تفصيل، فهو يفيد ثبوت الأسماء إجمالاً.

وإجمال الصفات في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، فهذا إثبات مجمل للصفات، ومنه قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى [الروم:27]، والمثل في الموضعين بمعنى الصفة، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] يعني: له الصفة العليا سبحانه وتعالى، وهذا إثبات مجمل.

أما التفصيل فهو الأصل، وهو الغالب، وهو الذي ملء به القرآن، من ذلك ما في آخر سورة الحشر من قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ ... [الحشر:22-23]، كل هذا تفصيل في الأسماء والصفات؛ لأن كل اسم يتضمن صفة، ويدل على صفة أو صفات بدلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام.

أما النفي فالأصل فيه الإجمال، ومن ذلك الآيات التي سمعناها في نفي المثل كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وقوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وقوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65].

واعلم أنه قد يأتي النفي مفصلاً، لكنه قليل، ثم إنه لا يرد إلا لغرض وهو: إثبات الكمال، إذاً: النفي الوارد في صفات الله عز وجل هل هو نفي لمجرد النفي؟

الجواب: لا، إنما هو نفي لإثبات كمال، فإذا قرأت في النفي المجمل: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] يفيدك هذا تعظيم الرب الذي لا سمي له؛ لثبوت الكمال له في أسمائه وصفاته وأفعاله، فأفادنا الإثبات.

والنفي المفصل أيضاً لا يرد إلا لإثبات كمال، مثال ذلك قوله تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، هذا المراد منه إثبات كمال العدل، وأيضاً يرد النفي في الصفات لنفي ما يتوهمه الجاهلون، أو نفي ما وصف به الجاهلون رب العالمين، وذلك كنفي الولد عنه، لماذا قال سبحانه وتعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]؟ لنفي ما وصفه به الجاهلون من أن له ولداً، ونفي الولد عنه يفيد كماله سبحانه وتعالى، وأنه لا شبيه له؛ لأنه ما من شيء إلا له فرع أو أصل، والله سبحانه وتعالى قد تنزه عن الفرع والأصل، فالنفي المفصل لا يرد إلا لأجل إثبات الكمال، سواء كان نفياً لما توهمه الجاهلون، أو نفياً لإثبات كمال ضد الصفات، كقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، وكقوله تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وكنفي العجز في غير ما آية.

إذاً: عرفنا أن النفي الأصل فيه الإجمال، ويرد مفصلاً، ولكن يقصد منه الكمال.

لماذا لا يرد النفي مفصلاً في صفات الله عز وجل؟

لأن النفي المحض الذي لا غرض منه عدم، والعدم ليس كمالاً، وليس بشيء كما يقول شيخ الإسلام فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، بل قد يكون النفي نقصاً، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.