شرح العقيدة الواسطية [18]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

قال المصنف رحمه الله: [ فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم، (فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فـ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] ، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، وأما المرتاب فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق) ].

هذا فيه تفصيل الفتنة التي تكون في القبر، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن أمن منها، وفاز فيها!

يقول رحمه الله: (فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم) يمتحنون ويختبرون، ثم بين وفصل ما هذا الاختبار : (فيقال للرجل -والمقصود المقبور ذكراً كان أو أنثى-: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟) وهذه هي الأصول الثلاثة التي إذا وفق العبد إلى القيام بها في الدنيا وفق إلى الجواب عنها يوم القيامة، فبقدر ما يكون مع الإنسان من الثبات على هذه الأصول الثلاثة بقدر ما يحصل له من الثبات عند الفتنة والاختبار.

(من ربك؟) هذا سؤال عن الرب جل وعلا.

(وما دينك؟) هذا سؤال عن الدين.

(ومن نبيك؟) هذا سؤال عن الرسول.

قال: (فـ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] ) يثبتهم وهم أشد ما يكونون حاجة إلى التثبيت ؛ وذلك أن هذه الفتنة ليست أمراً سهلاً ولا أمراً يسيراً، إنما هي أمر عظيم، وخطب كبير، يأتي الإنسان في هذا المكان الموحش ملكان عظيمان، ورد تسميتهما: (منكر ونكير) في السنة، وهذان الاسمان يتضمنان وصفين لهذين الملكين ، فإنهما يأتيان بهيئة تنكرها النفوس فيراهما حقيقة، وكيف بك إذا رأيت شيئاً لم يسبق لك أن تراه؟

فالهول عظيم؛ ولذلك يحتاج الإنسان إلى التثبيت، فقال الله سبحانه وتعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، وهو ما يكون في فتنة القبر، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الثبات على الحق في الدنيا والآخرة!

وفي هذا الامتحان ينقسم الناس إلى قسمين:

مؤمن ، وكافر.

(فيقول المؤمن) في جواب هذه الأسئلة الثلاثة (الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي) فيأمن ويفوز، ويسلم من هذه الفتنة، (أما المرتاب) ويشمل المنافق والكافر، (فإنه يقول: هاه هاه، لا أدري) أعوذ بالله، أما المنافق فإنه يغلق عليه ما كان يتلفظ به في الدنيا بلسانه، وأما الكافر فإنه لم يهتد، فلا يقر برب يفرد بالعبادة، ولا بدين يجب اتباعه وقبوله، ولا برسول يلزم الإيمان به والتصديق؛ فلذلك يكون قوله: (لا أدري) مطابق لحاله.

وأما المنافق فإنه يغلق عليه ويغفل عما كان يقوله بلسانه، ولم يقر منه شيء في قلبه، فيقول: [ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ] هذا حال المنافق والمرتاب، إما أن يكون قولاً صحيحاً لم يقره في قلبه، وإما أن يكون قولاً باطلاً فلا ينفعه حتى لو ذكره للملكين، فهذا يشمل جواب المنافق وجواب الكافر، فيصح أن يقول المنافق: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، يعني: ولم يقر في قلبي فلم أتذكره، ويصح أن يكون هذا الجواب من المنافق، أنه لم يهتم بهذا الأمر، وإنما قال قولاً لا يدري عن صدقه ولا عن صحته.

فلا يلزم أن يكون هذا من المنافق فقط، بل قد يكون من المنافق وقد يكون من الكافر، المهم أنه لا يوفق إلى الجواب، ويحال دونه ودون الصواب.

[ فيضرب بمرزبة من حديد ] ولا تقول: كيف ولا نرى؟ هذا أمر غيبي فلا تقل: كيف، ولا تعلق ذلك بالرؤية، فإن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم صدق وحق على حقيقته، ومن نعمة الله أن هذا لم يدخل فيه أهل التأويل بالتحريف الباطل، ولا بالتأويل المذموم، بل سلموا للنصوص؛ ولذلك قل الخلاف في هذا الأصل بين أهل الإسلام.

والذين خالفوا شيخ الإسلام رحمه الله وشنعوا عليه في هذه الرسالة، لما قرئ عليهم هذا الفصل لانت جلودهم، وقبلوا قوله، ولم يخالفوه، بخلاف الفصول السابقة فإن الجدال فيها كثر، والنكير فيها واضح منهم على شيخ الإسلام رحمه الله.

[ فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء ]، ظاهره أنه يسمعها كل شيء على الأرض، ولكن جاء في الحديث: (أنه يسمعها من كان قريباً من القبر)، وأنه ليس المراد يسمعها كل شيء ولو بعد، إنما يسمعها كل شيء ممن كان قريباً من القبر إلا الإنسان فإنه لا يسمعها، وهذا من رحمة الله عز وجل بنا.

قال: [ ولو سمعها الإنسان لصعق ] لهول الأمر وعظيم الخطب، ولكن من رحمة الله عز وجل أن حيل بين الإنسان وسماع هذا الذي تفزع له القلوب، ولو أن الناس سمعوا لوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصعق.

هذه الفتنة هل هي عامة لكل أحد؟

ظاهر كلام الشيخ رحمه الله أنها عامة لجميع المكلفين، وهذا هو الصحيح، أن الفتنة عامة لكل مقبور، ولم يقع خلاف بين أهل السنة والجماعة في ذلك، إلا في الأنبياء فقد اختلف أهل العلم في وقوع الفتنة لهم على قولين:

منهم من قال: إنهم يسألون، ومنهم من قال: إنهم لا يسألون.

والظاهر أنهم لا يسألون؛ لأنه يسأل عنهم، وعلى كل حال المسألة ليس وراءها كثير فائدة بالنسبة لما يتعلق بالأنبياء.

كذلك مما وقع فيه الخلاف الشهداء، وظاهر السنة أنهم لا يفتنون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: (كفى ببارقة السيوف فوق رأسه -أي: المجاهد- فتنة).

وممن استثني من غير المكلفين المجنون والصغير، فقد اختلف العلماء: هل يسألون أو لا؟ على أقوال، وعلى كل حال نحن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى حكم عدل لا يظلم الناس شيئاً، فإنهم إن سئلوا فهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتنة التي تكون لهم يوم القيامة؛ لأن من لم تبلغه الرسالة أو مات وهو صغير ولم يمت على الإسلام وما أشبه هؤلاء يفتنون يوم القيامة ويختبرون، فإن آمنوا وصدقوا وامتثلوا نجوا، وإلا كان ذلك هلاكاً لهم.

قال رحمه الله: [ ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى ].

تقدم البيان بأن العذاب نوعان:

منه ما هو دائم، ومنه ما هو منقطع.

فقوله: إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة هذا من جهة العموم ينقسم الناس إلى هذين القسمين، أما من جهة الاستمرار وعدمه فإن ذلك لم يتعرض له رحمه الله في هذا الموضع، وقد يخفف ولا يرفع بالكلية كالذي جرى من النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول، ثم أخذ جريدة رطبة ووضعها صلى الله عليه وسلم على القبر، ولما قيل له في ذلك قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا)، وهذا توقيت لارتفاع العذاب، حيث علق النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف بمدة رطوبة الجريدة، وهذا يدل على أنه قد يخفف العذاب، وقد يرفع، وأنه لا يلزم من كون الإنسان يعذب في القبر أن يستمر ذلك.

قال رحمه الله: [ فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون ].

يقول رحمه الله: [ فتعاد الأرواح إلى الأجساد ]، وهذا مما أجمع عليه أهل الإسلام، ولم يخالف فيه إلا الفلاسفة الذين قالوا: إن البعث لا يكون للأبدان، بل البعث للأرواح فقط! وهؤلاء مكذبون لما علم من الدين بالضرورة، وما جاءت به الرسل، فإن الرسل أخبروا بأن الأرواح تعاد إلى الأجساد، وأن الناس يخرجون من قبورهم في مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل وفي السنة، فهذا أمر كما قال المؤلف رحمه الله أجمع عليه المسلمون، ولم يخالف فيه إلا الفلاسفة الموحدون الذين قالوا: إن الإعادة إنما هي فقط للأرواح دون الأبدان.

ثم قال رحمه الله: [ وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]، وتنشر الدواوين -وهي صحائف الأعمال- فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره كما قال سبحانه وتعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14] ].

قال الشيخ رحمه الله: [ وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون ]، وهذا القيام يكون بعد النفخ في الصور، وهي النفخة الثالثة التي تعاد بها الأرواح إلى الأبدان كما قال الله جل وعلا: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، فهذه هي نفخة البعث، وقد دل على هذا -كما ذكر المؤلف رحمه الله- الكتاب والسنة وإجماع السلف.

فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين لا لغيره؛ لأنه جل وعلا الملك الذي وصف نفسه في أم الكتاب بقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، مالك يوم الحساب، لا مالك إلا الله سبحانه وتعالى.

(حفاة عراة غرلاً) وهذا فيه وصفهم عند قيامهم، وأنهم يعودون كهيئتهم في خلقهم الأول، (حفاة) فلا شيء يقي أقدامهم، (عراة) فلا شيء يقي أبدانهم، (غرلاً) لم ينقص منهم شيء، فيأتون على أكمل هيئة، لا نقص في أبدانهم، ولا شيء يواري أجسادهم، ولا يقي أقدامهم شيء في ذلك الموقف العظيم الذي تشيب منه الولدان كما قال جل وعلا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، فيعيد الله عز وجل الخلق على هيئتهم الأولى، وتبعث الأجساد التي طاعت واستقامت، وتبعث الأبدان التي عصت وطغت؛ ولذلك تشهد عليك جوارحك يوم القيامة، ولا يشهد إلا ما شاهد، فإنها تبعث يوم القيامة وتشهد عليك، فالبعث للأبدان التي كانوا عليها في الدنيا، وإن كان يعطيهم الله جل وعلا من القوى ما ليس لهم في الدنيا، فإن الشمس -كما سيأتي- تدنو من رءوس الخلائق، ولو كان هذا في دنيانا هذه لاحترق الكون، واحترقت الأبدان، لكن يمدهم الله سبحانه وتعالى بخلق يستعينون به على مواجهة أهوال ذلك اليوم، ويناسب الحال الأخروية التي لا موت بعدها ولا فناء، ولا يلزم من هذا تغير الأبدان، بل الله على كل شيء قدير.

دنو الشمس من الخلائق

قال: [ وتدنو منهم الشمس ] وهذا قد ثبت في أحاديث كثيرة في السنة، وأن هذه الشمس العظيمة تدنو من رءوس الخلائق قدر ميل أو ميلين، واختلف في الميل: هل هو ميل المسافة أو ميل المكحلة؟

على قولين، وعلى أيهما فالأمر عظيم سواءً ميل المكحلة أو ميل المسافة.

[ ويلجمهم العرق ] هذا فيه بيان منتهى ما يصل العرق من الإنسان، وإلا فإنه ليس كل أحد يكون هذا مصيره، فمن الناس من يبلغ العرق منه إلى الكعبين، ومنهم إلى حقويه، ومنهم دون ذلك، ومنهم أكثر من ذلك، إلى أن يبلغ الإلجام وهو موضع اللجام من الفرس.

نصب الموازين

قال رحمه الله: [ وتنصب الموازين ] والموازين جمع ميزان، والميزان جاء الخبر عنه في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أما في الكتاب ففي قوله جل وعلا: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، وكذلك في الآيات التي ذكرها المؤلف: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:102-103].

وأما السنة ففي قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، وهو مما تواتر النقل بثبوته عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالميزان جاء فيه أحاديث متواترة، وهو ميزان حقيقي غير العدل؛ لأن من المئولة من يقول: المراد بالميزان: ظهور العدل.

والصحيح أنه ميزان حقيقي كما أخبرت به النصوص، ودلت عليه الآثار، ومضى عليه سلف الأمة الأخيار، وأما كيفية هذا الميزان، فهو كسائر ما أخبرنا به مما لا تدركه عقولنا من أمور الغيب، نعرف أن الميزان يوزن به، أما تفصيل الكيفية فلا ندركه، هل هو نظير الموازين التي نعرفها في الدنيا أو لا؟ الله أعلم بذلك، لكن هو ميزان توزن به الأعمال، له كفتان كما دلت السنة، كفة توضع فيها الحسنات، وكفة توضع فيها السيئات، وهل هو ميزان واحد أو موازين متعددة؟

جاء لفظ الميزان في الكتاب والسنة مفرداً ومجموعاً، فمن العلماء من قال: إنه ميزان واحد توزن به أعمال الخلائق كلهم، ومنهم من قال: إنها موازين، ومنهم من قال: إن لكل أمة ميزاناً، ولا يجرؤ الإنسان على الجزم هل هو ميزان واحد أو هي موازين متعددة، لكن ظاهر السنة التعدد، وقال بعض أهل العلم: إن ظاهر الكتاب والسنة التعدد، والإفراد لا يعارض التعدد؛ لأن الإفراد باعتبار الجمع.

ومن قال: بأنه ميزان واحد، قال: الجمع المراد به: اختلاف الموازين باختلاف الموزون لا باختلاف الميزان نفسه، يعني: باعتبار اختلاف ما يوزن، لا باعتبار اختلاف الميزان نفسه.

على كل حال نحن نؤمن بما دلت عليه النصوص من إثبات هذا الذي أثبته الله عز وجل، وهو الميزان الذي توزن به الأعمال.

وقوله: [ تنصب الموازين ] أي: تقام، كما قال الله عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، موازين العدل، فتوزن فيها أعمال العباد.

فأفادنا المؤلف رحمه الله أن الذي يوزن هو أعمال العباد، ودليل ذلك قوله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:102]، (من) هنا شرطية، وجواب الشرط في قوله: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:102]، والموازين هنا هي ما يوزن من الأعمال، فأعمال العباد توزن فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فإن رجحت حسناته فأولئك هم المفلحون، فمعنى ثقل الموازين: رجحان الحسنات على السيئات، ومعنى خفة الموازين رجحان السيئات على الحسنات، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، نعوذ بالله من الخسران! وهذا فيمن خفت خفة لم يبق له معها حسنة، وهؤلاء هم الكفار الذي قال الله فيهم: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، فلا يقام لهم وزن يوم القيامة.

والنصوص تذكر المتقابلين، تذكر مآل أهل الإيمان، ومآل أهل الكفر، وبينهم درجات، فالكفر دركات، والإيمان درجات، والنصوص تبين مآل منتهى الفريقين؛ ولذلك من خفت موازينه من أهل الإيمان بأن ثقلت سيئاته على حسناته ومعه أصل الإيمان، هل يكون في جهنم خالداً؟

لا، لا يكون في جهنم مخلداً، إنما يكون فيها إلى أن تمحص سيئاته، ويخلص من ذنوبه، ثم ينقل من النار إلى الجنة.

وقد دلت نصوص أخرى على أن الميزان يكون للعامل نفسه؛ ومن ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ساقيّ ابن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد)، فدل ذلك على أن الذي يوزن العامل نفسه.

ودلت نصوص أخرى على أن الذي يوزن هو الكتاب لا العمل كما في حديث صاحب البطاقة، فإنه يؤتى بالبطاقة وتوضع في كفة، والبطاقة هي سجل العمل، فما الجمع بين هذه الآثار؟

قال بعضهم: إن الوزن يكون لهذا ولهذا ولهذا، فالكل يوزن.

والظاهر أن الأصل في الوزن يكون للعمل، وأنه قد يوزن العامل، وقد يوزن سجل العمل، لكن الأصل في الوزن إنما هو للعمل كما دلت عليه الآية التي ذكرها المؤلف، وكما دل عليه قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، فالمثقال هنا: معيار وزن، والموزون هو العمل، فأكثر النصوص على أن الوزن للعمل.

فنقول: الأصل في الوزن للأعمال، وقد توزن الكتب والسجلات، وقد يوزن العامل.

نشر الصحف

قال رحمه الله: [ وتنشر الدواوين ] تنشر أي: تفرق، فالنشر أصله التفريق، والدواوين جمع ديوان، وما هو الديوان؟

الديوان في الأصل هو السجل الذي يكتب فيه، والمراد به: الكتاب الذي في أيدي الحفظة، فإنه ينشر يوم القيامة ويؤتى به، قال الله جل وعلا: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18]، يسجل، وقال سبحانه وتعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11]، يكتبون العمل، وقال جل وعلا: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، فدل ذلك على أن عمل الإنسان وما يكون منه مكتوب مسجل، وهذا المكتوب المسجل ينشر.

قال المؤلف رحمه الله: [ وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، والناس في هذا الموقف بين مسرور ومثبور، فآخذ كتابه بيمينه -وهذا هو المسرور نسأل الله أن نكون منهم- وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره -وهذا هو المثبور نعوذ بالله من الخسران- ].

كما قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13]، طائره يعني: عمله؛ لأن العمل به يعلو الإنسان، وبه يهوي وينزل، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) وقيل: إن الطائر هو القرطاس، وكان يستعمله العرب في ضربهم للأزلام، والمراد واضح: أنه يلزم ما كان منه من عمل، أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ [الإسراء:13]، وأين يلزم؟

فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13]، وهذا دليل على شدة الملازمة وقربها، وعدم التمكن من الانفكاك منها، فما كان في الرقبة لا سبيل للتخلص منه.

وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا [الإسراء:13]، وهذا الكتاب ما هو؟

هو كتابه الذي كان يرصد فيه عمله، ويسجل فيه ما يكون منه، يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء:13]، أي: مبسوطاً مفرقاً واضحاً.

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، فيؤمر بقراءة كتابه، ويقال له: نكتفي من حسابك بمحاسبتك لنفسك، فيكون الإنسان على نفسه حسيباً يوم القيامة.

الحساب

قال رحمه الله: [ ويحاسب الله الخلائق ] وذلك بعد أن يأتي جل وعلا لفصل القضاء، وأول ما يحاسب عليه الناس التوحيد، فيقال: ماذا أجبتم المرسلين؟ أي: في أصل الدين والتوحيد، أما من حيث العمل، فالعمل قسمان:

حق لله، وحق للخلق.

فأول ما يحاسب فيما يتعلق بحق الله الصلاة، وأول ما يحاسب ويقضى به بين الناس فيما يتعلق بالحقوق التي بينهم الدماء، فيحاسب الله عز وجل الخلائق، والخلائق هنا يشمل جميع بني آدم، ويشمل الجن أيضاً جميعاً، يحاسبهم جل وعلا في ساعة واحدة، لا إله إلا الله! على اختلاف ألوانهم وأعمارهم وأعمالهم وألسنتهم وكثرتهم يحاسبهم سبحانه في ساعة واحدة، ولما قيل لـابن عباس : كيف يحاسبهم في ساعة واحدة وهم كثر وهو واحد؟

قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة، ولا يشغله رزق فلان عن رزق فلان؛ كذلك يحاسبهم في ساعة واحدة، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

ويخلو بعبده المؤمن تكريماً له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكمله الله ليس بينه وبينه ترجمان، فيقرره بذنوبه) أي: يعرفه بها، ويجعله يقر بما كان منه من سيئات، وما هي الذنوب التي يقرره بها؟

هي الذنوب التي لم يتب منها، أما ما كان من الذنوب وتاب منها؛ فإن ذلك يعفى ويصفح عنه، وهذا من فضل الله ورحمته، فكل ذنب خالطه الإنسان وتاب منه يمحى عنه، ولا يسأل عنه، ولا يحاسب عليه؛ كرماً من الله وتفضلاً، أما ما كان من الذنوب التي لم يتب منها الإنسان فهو الذي يقرره بها جل وعلا، ويسأله عنها.

يقول: [ كما وصف ذلك في الكتاب والسنة ] أي: أن تفصيل هذا جاء في الكتاب والسنة.

وهل عاقبة هذا التقرير المحاسبة والمؤاخذة؟

الجواب: الناس على درجات، منهم من يناقش، ومن نوقش الحساب عذب، ومنهم من لا يناقش، إنما يعرض عليه عمله ويقال له: كما سترتها عليك في الدنيا أنا أغفرها لك اليوم، سبحان الله! فيجمع له فضيلتين ونعمتين:

فضيلة وإحسان سابق، وفضيلة وإحسان لاحق.

السابق هو سترها في الدنيا، واللاحق هو العفو عنها يوم الموقف والعرض على الله جل وعلا.

محاسبة الكفار

ثم قال: [ وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته ] لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته لماذا؟

لأنه لا حسنات لهم؛ ولذلك قال: [ فإنه لا حسنات لهم ] كيف لا حسنات لهم؟

أي: لا حسنات معتبرة، قال الله جل وعلا: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، والعمل هنا المراد به: العمل الصالح، فإنه لا ينتفع به، لكن من عدل الله وإحسانه أنه يجزيه عليه في الدنيا، أما الآخرة فإذا وافى الآخرة لم يقدم بعمل إذا لم يأت بأصل الدين وهو التوحيد، والإقرار لله بالإلوهية، وللنبي صل الله عليه وسلم بالرسالة.

وفهمنا من هذا أنه يحاسب محاسبة أخرى، فنفى عنه المحاسبة التي هي وزن الأعمال، وهو المشار إليه في قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، فإنه لا يقام لهم يوم القيامة وزناً، أي: وزناً ينتفعون به، وزناً يوازن به بين الحسنات والسيئات.

أما المحاسبة التي هي عرض الأعمال على وجه التقريع والتوبيخ وإقامة الحجة عليه من نفسه؛ فذاك قد جاءت به السنة، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إن الله سبحانه وتعالى يقول لعبده: يا فل! - ترخيم يا فلان- ألم أسودك؟ ألم أربعك؟ ألم أزوجك؟ ألم أجعلك ترأس؟ فيقول: بلى يا ربي! فيقول الله جل وعلا: أكنت تظن أنك ملاقِ؟ فيقول: لا. فيقول الرب جل وعلا: اليوم ننساك كما نسيتني) وهذا لا يكون إلا من الكافر؛ لأن من ظن أنه لا يلقى الله فإنه يكفر بذلك.

وهذا فيه أنه يحاسبهم سبحانه وتعالى ويكلمهم، لكنه كلام توبيخ ومحاسبة وتقريع وزيادة حسرة وندامة، نعوذ بالله من الخسران!

وقوله: [ فإنه لا حسنات لهم ] يصح أن تقول: لا حسنات بناءً على الفتح، ويصح بالبناء على الكسر، وجهان، يمكن أن تقول: فإنه لا حسناتَ لهم، ويصح أن تقول: فإنه لا حسناتِ لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، هذا هو الحساب الثابت للكفار، فما ورد من أن الكفار يحاسبون فمعناه: عد أعمالهم وإحصاؤها، فتعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها، ويقرون بها، ويجزون بها، هذا معنى محاسبة الكفار، والمؤلف رحمه الله إنما ذكر منتهى الفريقين كما هو الحال في الكتاب والسنة، وكما ذكرنا لكم أن أهل الإيمان درجات في حسابهم، كما أن أهل الكفر درجات في حسابهم، والقرآن إنما يبين منتهى حال الفريقين: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، وهذا هو الذي جرى عليه الكتاب، وجرى عليه المؤلف رحمه الله في كلامه في هذا الموضوع.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الواسطية [16] 2360 استماع
شرح العقيدة الواسطية [3] 2197 استماع
شرح العقيدة الواسطية [21] 2139 استماع
شرح العقيدة الواسطية [6] 1990 استماع
شرح العقيدة الواسطية [25] 1912 استماع
شرح العقيدة الواسطية [2] 1902 استماع
شرح العقيدة الواسطية [12] 1848 استماع
شرح العقيدة الواسطية [24] 1823 استماع
شرح العقيدة الواسطية [19] 1743 استماع
شرح العقيدة الواسطية [15] 1738 استماع