شرح العقيدة الواسطية [24]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وبعد:

قال المصنف رحمه الله: [ وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)، ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم ].

هذا الحديث فيه: أن صاحب الكبيرة ينفى عنه الاسم المطلق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يعني: حال مواقعته لهذه المعصية لا يكون مؤمناً كامل الإيمان، لماذا لا يكون مؤمناً كامل الإيمان؟

لأنه لو كان مؤمناً كامل الإيمان لترك المعاصي؛ لأن الإيمان الكامل هو اسم للعمل بجميع ما أمر الله به ورسوله، وترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، فلما كان هذا مخالفاً لما أمر الله به ومنتهكاً لما نهى الله عنه فإنه لا يستحق هذا الاسم.

من السلف من مثل الإيمان والإسلام بدائرتين: الدائرة الواسعة الكبيرة هي دائرة الإسلام، وداخلها دائرة أضيق منها وهي دائرة الإيمان، فإذا خرج من دائرة الإيمان هل يكون قد خرج من الإسلام والإيمان؟

لا، إنما خرج من الإيمان وهو في دائرة الإسلام، وهو الذي أفاده قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، فأخرجهم من الدائرة الضيقة التي لا يصل إليها إلا من جاهد واجتهد في طاعة الله وترك ما نهى الله عنه؛ إلى الدائرة الواسعة التي هي دائرة الإسلام الثابتة لكل من أقر بمباني الإسلام وأركانه الخمسة.

(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، يرتفع عنه هذا الاسم، والذي يرتفع عنه هو الاسم المطلق الكامل (ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن).

وبعد أن ذكر المؤلف هذين الدليلين الدالين على أن انتفاء الاسم لا يرفع وصف الإيمان، كما أن ثبوت الاسم يفيد الثبوت الكلي والثبوت الجزئي، انتقل رحمه الله إلى بيان القول الوسط في مرتكب الكبيرة، فقال: (ونقول هو) الضمير يعود إلى الفاسق الذي بدأ الكلام عنه في قوله: ولا يسلبون الفاسق الملي، قال: (ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان)، لكن هل يسوغ ويصح أن يقال: هو مؤمن فقط دون تقييد؟

الجواب: لا، إنما هذا قول المرجئة الذين يثبتون الإيمان لكل من اتصف به، وأنه كامل الإيمان.

إذاً: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهذا أيضاً تقييد: (مؤمن بإيمانه) يعني: مؤمن بما معه من الإيمان الذي حمله على فعل الطاعات وترك المنهيات (لكنه فاسق) يعني: خارج عن الإيمان بكبيرته، يعني: بسبب كبيرته، فالباء هنا للسببية.

الفسوق هو الخروج، والخروج هنا عن أي شيء؟ عن دائرة الإيمان الكامل المطلق إلى دائرة الإيمان الناقص، وهي دائرة الإسلام، فلا يعطى الاسم المطلق، ما هو الاسم المطلق؟ الكامل، ولا يسلب مطلق الاسم بكبيرته، يعني: ولا يسلب الإيمان بالكلية بسبب كبيرته بل يثبت له أصل الإيمان، ويكون موصوفاً به على وجه العموم لكنه ناقص الإيمان، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.

وبهذا يكون قد انتهى البحث فيما يتعلق بفصل الإيمان.

واعلم أن هناك مسألة طال فيها الخلاف وهي هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان أو لا؟

والصحيح الذي لا ريب فيه أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف بلا ريب، ومن قال: إن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان فإنما توهم ذلك من أن الإيمان ورد مقيداً في مواضع عديدة من كتاب الله عز وجل وذكر بعده العمل، والجواب: أن الإيمان إذا ورد مقيداً وذكر بعده العمل فإنه يكون -كما تقدم تقريره- المراد به: عمل القلب، ويكون العمل عمل الجوارح فمثلاً قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] الإيمان هنا المراد به: عمل القلب، وقوله: عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ المراد به: عمل الجوارح، وهذا لا ينفي أن يكون العمل من الإيمان، لكن إذا ورد الإيمان مطلقاً فإنه لا شك في دخول الأعمال في مسماه؛ ولذلك لما ورد وفد عبد قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (آمركم بالإيمان ثم قال: أتدرون ما الإيمان؟ -ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان- فقال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتعطوا الخمس من المغنم)، ففسره بتفسير يتضمن العمل بأنواع العمل القلبي وقول اللسان وعمل اللسان وعمل الجوارح، ومن أظهر الأدلة على أن الإيمان يندرج تحته العمل ويدخل في مسماه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).

قال رحمه الله تعالى: [ ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ].

هذا الأصل -وهو ما يتعلق بصحابة رسول صلى الله عليه وسلم- تقدم الإشارة إليه في قول المؤلف رحمه الله: [ وفي صحابة رسول الله بين الرافضة الخوارج ] لما ذكر وسطية أهل السنة والجماعة، فهم وسط فيما يتعلق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ضلالتين، بين فرقتين مبتدعتين قصرت في صحابة رسول الله أو غلت فيهم وهم الرافضة والخوارج.

قال رحمه الله: [ ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم ].

السلامة: هي البراءة من النقص والعيب، هذا في الألسن؛ والغل، والحقد، والبغي، هذا في القلوب، فأهل السنة والجماعة قلوبهم سليمة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي سليمة لهم ليس فيها غل ولا حقد ولا حسد، ولا كراهية، ولا بغض، بل على عكس ذلك، فقلوبهم مليئة بمحبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالهم وتقديرهم ومعرفة سبقهم وفضلهم.

قال: [ وألسنتهم ] أي: وسلامة ألسنتهم، فأهل السنة والجماعة سلمت ألسنتهم من عيب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نسبتهم إلى فسق، أو كفر، أو خيانة، أو ردة، أو غير ذلك كما هي حال الفرق الضالة سواءً الرافضة أو الخوارج، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير القرون كما سيأتي في كلام المؤلف.

والصحابة ثبت لهم فضل الصحبة، والصحبة فضل يثبت لكل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، هذا هو ضابط الصحبة، وبه نعرف أن الصحبة اسم جنس يصدق على قليل الصحبة وكثيرها، فليس هناك حد زمني أو تقدير زمني حتى يقال: إن من حصله فقد حصلت له فضيلة الصحبة، بل فضيلة الصحبة ثابتة لكل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، قل زمن صحبته أو كثر، والفارق بين قليل الصحبة وكثير الصحبة أنه كلما طالت الصحبة تأكد الفضل وازداد الحق؛ لأن الصحبة وصف، فكل ما قوي هذا الوصف قويت الحقوق المرتبة على هذا الوصف، فمن صحب النبي صلى الله عليه وسلم عمره في دعوته كـأبي بكر رضي الله عنه ليس حقه كحق ذاك الذي لم يشهده إلا مرة واحدة، مع أن الجميع يشتركان في الصحبة، ولكن يختلفان فيما يثبت لهما من الحقوق بسبب هذه الصحبة، فمن كان نصيبه من الصحبة أكبر كان نصيبه وحظه من حقوقها أوفر.

فسلامة القلب وسلامة اللسان لمن طالت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليست كسلامة القلب واللسان لمن قلت صحبته، ولا يعني هذا أن من قلت صحبته يطوله ضرر قلبي أو لساني من أهل السنة والجماعة، فكف الشر عنهم واحد، ولكن إثبات الفضل والمحبة والثناء والفضيلة يختلف باختلاف صحبتهم وباختلاف منزلتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجميع يشترك في حق الصحبة، وأقل حقوق الصحبة، وأول عتبة في حقوق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يشترك فيه طويل الصحبة وقصيرها؛ هو سلامة القلوب والألسنة لهم، ثم بعد ذلك يتفاوتون.

إذاً: قوله رحمه الله: (سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله) هذا أدنى حقوقهم.

وأول حقوقهم -وهو من باب التخلية قبل التحلية- أن يخلي قلبه من كل غل، وحقد، وحسد، وبغض، وكره لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الألسنة فتكون خالية من كل نقص وعيب، وهمز، ولمز، ووقيعة فيهم رضي الله عنهم، وهذا خلاف ما عليه غير أهل السنة والجماعة من الفرق الضالة في هذا الباب.

وبدأ بسلامة القلب قبل سلامة اللسان؛ لأن سلامة القلب هي الأصل، فمن سلم قلبه سلم لسانه، وبه تعلم أن كل من همز صحابة رسول الله، أو لمزمهم، أو عابهم، أو انتقصهم بلسانه؛ فهذا يدل على أن في قلبه فساداً، وأنه إما بلي بغل، أو حقد، أو حسد، أو كره لصحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

والعجيب! أن أقواماً اتهموا هؤلاء الصفوة بأنواع من التهم، وألحقوا بهم أنواعاً من السباب، وألحقوا جمهورهم بالكفر كما سيأتي، ولم يبق إلا نفر قليل زعموا أنهم هم الذين تتنزل عليهم نصوص فضل الصحابة، ويستحقون ما للصحبة من حقوق، وأما جمهورهم فهم بين مرتد، أو كافر، أو خائن، نعوذ بالله! ولو قيل لعاقل: هل يسوغ هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: لا، كيف يصطفي الله عز وجل لخير خلقه وصفوتهم وخاتم رسله هؤلاء الأصحاب الذين هم بين منافق وكافر وخائن؟!

فالرد على هؤلاء بالعقل أبلغ من الرد بالنص؛ لأنهم لا يسلمون بالنصوص بل ما يسوقونه من النصوص في لمز الصحابة من الذي نقلها؟ ومن أين أتتنا هذه النصوص؟

من الصحابة، فهم يستدلون بالأحاديث التي رواها الصحابة على ذمهم، فمثلاً يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الحوض: (يذاد عن حوضي فأقول: أصحابي أصحابي فيقول: ما تدري ما أحدثوا بعدك)، من الذي نقل لك هذا الحديث؟

الصحابة، فكيف تقبل نقلهم في ذم فئة منهم، وهم المرتدون، وتجعل هذا في حق جميعهم؟!

سبحان الله العظيم! هذه البدعة التي هي بدعة الرفض وبدعة الخوارج أهلها من أفسد الناس عقلاً، ومن أفسدهم نقلاً، لا سيما بدعة الرافضة.

يقول رحمه الله: [ كما وصفهم الله ].

هذا بيان لحال هؤلاء الذين استحقوا سلامة القلوب وسلامة الألسنة: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ هذا عطف على ما تقدم، والذي تقدم هو ذكر المهاجرين والأنصار في سورة الحشر في الآيات التي قبل هذه الآية ذكر الله عز وجل أولاً المهاجرين، ثم ثنى بذكر الأنصار، ثم قال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: من بعد المهاجرين والأنصار: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا فهم يسألون المغفرة لهم: وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ، وأول وأحق من يدخل في قوله: الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يدخل في هذا كل مؤمن قد سبقك وتقدم عليك، فكل مؤمن سبقك وتقدم عليك ولو بزمن يسير فإنه يدخل في قوله: وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ، لكن أول من يدخل في هؤلاء وأحق من يدخل في هذه الآية هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار.

وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] سأل هؤلاء الله عز وجل المغفرة لهم ولإخوانهم، ثم قالوا: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا عموماً من السابقين والاحقين، لكن أول من يجب تسليم القلب من الغل في حقهم: الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ، وأحق أولئك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، وهذه الآية تشير إلى أن من طرق تسليم القلب من الغل والحقد على أحد من أهل الإيمان أن تدعو له بالمغفرة.

إذا كان على أحد في قلبك غل؛ بسبب معاملة أو سوء تصرف، فأكثر من الدعاء له بالمغفرة؛ حتى يسلم الله عز وجل قلبك مما فيه من غل في حق أخيك المسلم.

ثم قال أيضاً في هذا الفصل، وفي هذا الأصل: [ وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ] يعني: أهل السنة والجماعة سلمت قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرين:

الأمر الأول: الدليل من القرآن وهو يفيد سلامة القلب: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ ، بل وسلامة اللسان وذلك في قوله: اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ فالآية دالة على سلامة القلب وفضل اللسان، سلامة القلب في قوله: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ ، وفضل اللسان بالدعاء لهم، وهو أمر زائد عن السلامة؛ لأن السلامة هو الامتناع من النقص والذم والعيب، فكيف إذا كان حقهم ونصيبهم من اللسان هو الدعاء لهم وطلب المغفرة!

قال: [ وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ]، لا تسبوا هذا نهي، والسب يصدق في أي قول مذموم في حقهم، في أي قول فيه ذم لهم، فعيبهم سب لهم، تنقصهم سب لهم، احتقارهم سب لهم، لعن الصحابة من سبهم بل هو من أعظم السب لهم رضي الله عنهم، وسبب هذا الحديث خلاف وقع بين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وبين خالد بن الوليد ، فنال خالد رضي الله عنه من عبد الرحمن بن عوف ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي) إلى آخر الحديث، فالحديث له سبب وهو نيل خالد بن الوليد -وهو ممن تأخر إسلامه- من عبد الرحمن بن عوف -وهو ممن تقدم إسلامه- فهل هذا يعني أن خالداً ليس صاحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل يعني أنه ليس من الصحابة؟ لا يعني أنه ليس من الصحابة، لكن هذا يشير إلى ما ذكرناه قبل قليل في الصحبة، وأن حق الصحبة يتأكد بقدر ما مع الإنسان منها، فنصيب عبد الرحمن بن عوف من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم هل هو نظير نصيب خالد بن الوليد؟

الجواب: لا، عبد الرحمن من السابقين الأولين، وخالد من مسلمة الفتح أو قبل ذلك بقليل، المهم أنه ممن تأخر إسلامه، فليس نصيب خالد بن الوليد من الصحبة كنصيب عبد الرحمن بن عوف ، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه نيل خالد من عبد الرحمن : (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده!) بعد أن نهى عن السب أقسم فقال: (فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً) أحد جبل بالمدينة معروف، (لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) المد: هو ملء اليدين، يعني: لو أن أحدهم تقدم بصدقة بقدر مد يديه يعني: ما يملأ بقدر المد وهو ملء اليدين، وآخر تصدق بمثل جبل أحد ذهباً؛ أيهما أعظم عند الله عز وجل؟ الذي قدم المد لا بالنظر إلى ما أنفق، إنما بالنظر إلى المنفق العامل؛ وذلك أن الأعمال تتفاضل بتفاضل أصحابها، وتفاضل أصحابها يرجع إلى تفاضل ما في قلوبهم من الإيمان والتقوى والتصديق والإحسان، فإذا كان هذا الواقع في تفضيل الصحابة على غيرهم، بل في تفضيل الصحابة بعضهم على بعض؛ فكيف بتفضيل الصحابة على من بعدهم؟ فالأمر أكبر، فنسبة من لم تتحقق له الصحبة لمن صحب النبي صلى الله عليه وسلم كنسبة خالد لـعبد الرحمن بن عوف ؛ ولذلك اتفق أهل السنة والجماعة على أن هذا الحديث ينتظم جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(لا تسبوا أصحابي) هذا يشمل من طالت صحبته ومن قصرت صحبته بالنسبة لنا، وبالنسبة لهم رضي الله عنهم يشمل سابق الصحبة بالنسبة لمتأخر الصحبة (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم - يعني: ما ينفقه أحدهم من المد - ولا نصيفه - يعني: نصيف المد)، الضمير في قوله: نصيفه يعني: ولا نصيف مد أحدهم، يعني: ولا نصف مد أحدهم، وهذا لفضلهم وسابق مكانتهم رضي الله عنهم.

قال رحمه الله: [ ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من فضائلهم ومراتبهم، ويفضلون من أنفق من قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- وقاتل على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر-: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة ].

قال المؤلف رحمه الله: [ ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم ].

يعني: من فضائل الصحابة ومراتبهم، واعلم أن أحاديث فضائل الصحابة رضي الله عنهم كثيرة مستفيضة قد بلغت حد التواتر، والثناء على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء في مواضع عديدة من كتاب الله عز وجل، وجاء في السنة من طرق متواترة مستفيضة، وجاء من طرق الإجماع، فإن الأمة أجمعت على أن الصحابة أفضل الأمة، وأنهم خير القرون رضي الله عنهم، ففضائلهم منشورة، كما أنه يدل على فضلهم العقل، فإنهم صفوة الخلق بعد الأنبياء حيث اصطفاهم الله عز وجل لصحبة خير الخلق وخاتم الرسل وسيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففضائلهم ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالإجماع وبالعقل.

فضائل الصحابة العامة

الفضائل الواردة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما هو عام -وهذا القسم الأول- كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] هذا فضل عام، وكقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، وهذا أيضاً من الفضل العام الذي يعم جميع الصحابة.

فضائل الصحابة الخاصة

ومن الفضائل التي وردت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضائل خاصة، وهذه الفضائل الخاصة تنقسم إلى قسمين:

فضائل عامة يعني: هي خاصة لكن ليست خاصة بمعين بل يشركه فيها غيره، مثل قول الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] هذه الفضيلة هل هي عامة لجميع الصحابة؟ لا، لجماعة منهم، لكن هل هي في واحد منهم أو في المجموع؟

في المجموع، فهذه فضيلة خاصة لكنها ليست خاصة بمعين، بشخص معين، بشخص واحد لا يشركه فيها غيره، بل هي خاصة في جماعة، فهي من حيث عدم عمومها لجميعهم خاصة، ولكنها لا ينفرد بها واحد منهم، وغالب ما ورد في فضائل الصحابة من هذا النوع، فالفضائل الخاصة غالب ما ورد فيها من فضائل لا على وجه الانفراد.

القسم الثاني من الفضائل الخاصة هي التي اختص بها بعضهم، وانفرد بها عن غيره من الصحابة، وهذا أكثره في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإن فضائلهما تميزت بأنهما قد انفردا فيها عن غيرهما من الصحابة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم : (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) هذه خاصة بهما، لم يشركهما فيها غيرهما، وأكثر الفضائل الخاصة وردت في أبي بكر ، فإن له من الفضائل الخاصة التي انفرد بها عن سائر الصحابة ما ليس لغيره حتى ولا عمر ، لكن عمر شاركه في الاختصاص في فضائل، لكن نصيب أبي بكر رضي الله عنه منها أوفر، فاضبط هذا التقسيم للفضائل.

ثم اعلم أن مراتبهم رضي الله عنهم تنقسم إلى قسمين:

مراتب على وجه العموم، ومراتب على وجه الأفراد.

أما على وجه العموم فهو ما ذكره رحمه من تفضيل من أنفق من قبل الفتح وقاتل على غيره من الصحابة، وهذا تفضيل مرتبي على وجه العموم، فيفضل أهل السنة والجماعة من أنفق من قبل الفتح وقاتل -والفتح هو صلح الحديبية- على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، وهذا تفضيل جملة، وليس تفضيل أفراد.

قال رحمه الله: ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهذه فضيلة خاصة حتى في المهاجرين، فهي للمهاجرين والأنصار الذين حضروا بدراً، فهذا تخصيص بعد تخصيص، فالتفضيل العام الأول: من أنفق من قبل الفتح وقاتل، والثاني: تفضيل المهاجرين والأنصار، والثالث: تفضيل أهل بدر على غيرهم؛ وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وهذا عدد كبير أثبت الله لهم الفضل بالرضا.

وبهذا نعلم ضلال الرافضة والخوارج حيث كفروا غالب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فسقوهم وضللوهم، وقالوا: إن هذه الفضائل هي لمن بقي على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا لهم: كم الذين بقوا على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خمسة عشر، وإن تجاوزا أبلغوهم إلى عشرين، فهم لا يتجاوزون بضعة عشر رجلاً عندهم، وهؤلاء هم الذين نزلت فيهم هذه الفضائل!!

فالجواب عليهم أن يقال: كيف يمدح الله مدحاً عاماً ويثبت رضاً عاماً لقوم يعلم أن خاتمتهم الكفر؛ ولذلك مضمون قول هؤلاء القدح في الكتاب والسنة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وباطن مذهب هؤلاء الطعن في الرسالة؛ ولذلك المسألة خطيرة فيما يتعلق بصحابة رسول الله، فهي تتعلق بإبطال نقلة الكتاب والسنة، فإذا كان القرآن لم يثبت إلا عن طريق كفرة، فكيف تعمل الأمة به وهو الكتاب المحفوظ؟ وأهل السنة والجماعة يقولون: إنه محفوظ منقولة حروفه بالتواتر، حتى حروفه يعني: ليس فقط جملة الكتاب، بل الحروف منقولة بالتواتر.

الفضائل الواردة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما هو عام -وهذا القسم الأول- كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] هذا فضل عام، وكقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، وهذا أيضاً من الفضل العام الذي يعم جميع الصحابة.