حول (موازنة أدبية)
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
الموازنة - إذا أريد لها أن تقوم على أساس عادل سليم - ينبغي أن تكون بين شيئين متكافئين - تقريباً - إلا من فروق دقيقة لا يميزها إلا ناقد فاحص أوتي من حدة الذكاء، صواب النظرة، وإرهاف الذوق، حظاً موفوراً. وليست الحال كذلك في الموازنة التي أجراها حضرة الأستاذ الفاضل (محمد عبد المنعم خفاجي) بين قصيدتين (من عيون الشعر الجاهلي) أولاهما معلقة عمرو بن كلثوم، الأخرى مجمهرة أمية بن أبي الصلت.
إذ أنهما غير متكافئين كما أنهما ليستا من طبقة واحدة.
والفروق بينهما واضحة، لا تحتاج إلى أعمال فكر، أو إجهاد ذهن، وليس هذا من عندياتنا ولكن ما يقرره حضرة الكاتب الفاضل أثناء كتابته، فهو يعترف بأن هناك فروقاً فنية كبرى (لا دقيقة) لاحظها النقاد بين القصيدتين، وقد ترتب على هذه الفروق التفرقة بينهما فوضعت الأولى (معلقة عمرو) في صف المعلقات، ووضعت الثانية في صف المجهرات. ويعترفأيضاًبأن معلقة عمرو وتمتاز بأنها الأصل الذي نسج على منواله أمية) فأمية إذن لم يأت بجديد خالص وإنما قال متأثراً عمراً في معلقته، حتى أن بعض أبيات قصيدته جاءت مشابهة لابيات من قصيدة عمرو مشابهة تامة حيناً وتكاد تكون تامة حيناً آخر كما يقر بعدم التكافؤ بين القصيدتين حين يقول (إن شاعرية عمرو في معلقته أقوى وأبين من شاعرية أمية في مجمهرته سواء في الأسلوب أو المعاني أو الأغراض أو مدى الجودة الفنية ومواهب الشعر) فهو يفضل المعلقة تفضيلاً مطلقاً، ويحلق بها في آفاق السمو الفني، بينما يهوى بالأخرى هوياً عميقاً، ويلقي بها في قرارات سحيقة من الضعف الأدبي، وقصيدتان هذا شأنهما حوج إلى (ميزان طبلية) منهما إلى (ميزان حساس) يرى بدقة فروقهما. بل هناك أكثر من هذا، فهو يرى أن أمية نظم مجمهرته في شبابه (قبل أن تكتمل شخصية أمية الفنية)، ورغم كل ما تقدم مما يدل علة عدم ارتكاز الموازنة على أسس سليمة، وبالرغم من هذا الفارق الكبير بين شاعرية عملاق من عمالقة الشعر الجاهلي وشاعرية - أمية - التي لم تكتمل - حين نظمت القصيدة - أسباب القوة والخصوبة، تجري الموازنة.
! ولا شك أنا مجحفة غير عادلة. والتطويل ظاهر في الأسلوب، ومن ظواهره الاستطراد والتكرار، فيكفي أن يذكر الأستاذ أن قصيدة أمية هي إحدى المجمهرات حتى يستطرد فيعددها ويوازن بينها، ويذكر مطالع بعضها، بينما يعرض عن ذكر مطالع البعض الآخر.! ويكفي أن يذكر أن قصيدة عمرو هي إحدى المعلقات حتى يعرف المعلقات - وكأنها شيء غريب لم يسمع به أو كأنها جديدة على قراء (الرسالة).
! ويذكر سبب اختيارها، ولكنه لا يمضي فيذكر سبب تسميتها لتتم بذلك معرفة القراء.
! وأما التكرار فكثير، لفظاً ومعنى، فهو يكرر كلمة (الفنية) أيضاً.
.! وكأنه بالتزامها يضفي على الموازنة شيئاً من سمات البحث العميق وهو يكرر حين يتكلم عن المعلقة، فهو يصفها بأنها (ملحمة تاريخية تصور المجد القديم لتغلب قبيلة الشاعر) وبعد قليل (فهي جديرة حقاً أن تسمى ملحمة فهي تاريخ مفصل لقبيلة عمرو ومفاخرها) وبعد قليل (عدتها تغلب كل مجدها وفخارها) ثم (ملحمة تاريخية نادرة) وأحياناً يقرر، وعندما يكرر ينتابه بعض الشك فيما يقرر.
مثال ذلك قوله (وتمتاز (معلقة عمرو) بأنها الأصل الذي نسج على منواله أمية) ثم يكرر وكأنه يستنتج (وتستطيع أن نقول إن أمية قلد في مجمهرته عمرو بن كلثوم تقليداً فنياً واضحاً) ويستطرد في التكرار (وصاغ قصيدته على موسيقى وقافية عمرو) ونرى في الموازنة بين المجمهرات تناقضاً واضطراباً فهو يقول (وهذه القصائد السبع (يعني المجمهرات) لم توضع في مرتبة واحدة لاتفاق موضوعاتها (ويقول بعد ذلك مباشرة (إذ أن موضوعاتها مختلفة).
! ثم يقول (فهي إذن إنما وضعت في منزلة أدبية واحدة.
)! ثم يدلل على اتفاق موضوعاتها بقوله (إذا يشبه بعضها بعضا في النواحي الفنية والفطرة الأدبية وفي خصائص الشعر والشاعرية.
). ويخالف حضرة الكاتب الدكتور طه في رأيه القائل بوضع القصيدة ويرد على سهولتها بقوله أنه (أي عمرو) ارتجل بعضها.
وقد يبدو هذا مقبولاً ولكن كيف نعلل سهولة غير المرتجل منها؟ هنا يتغنى الأستاذ به (نشأة عمرو في الطائف ذات الخصب والزروع والثمار والهواء المعتدل والجو الجميل.
).
.! ناسياً أن هذا ليس كل شيء، بل إن هناك شعراء عاشوا في مثل البيئة التي نشأ وعاش فيها عمرو، بل في بيئات أفضل وأغنى وأخضب ومع ذلك لم يجئ شعرهم في سهولة المعلقة بل كان يكتنفه أحياناً تعقيد وغموض وخشونة، ودليل ذلك عند المتنبي، وعند (البارودي) فبالرغم من أن الأخير عاش في العصر الحديث فإن شعره لم يكن يفرقه عن شعر الجاهليين فارق كبير. ولقد حدد الأستاذ التاريخ الأدبي لقصيدة أمية بترجيحه أنها قيلت (في مفاخرة من هذه المفاخرات التي تحدث كثيراً بين القبائل العربية خاصة في العصر الجاهلي) وليت شعري فيم كان يمكن أن تقال هذه القصيدة إن لم تكن قيلت في مفاخرة من المفاخرات التي عناها الكاتب الفاضل.؟ ولكن الأستاذ لم يبين ذلك الذي كان يفاخره أمية؟. ويريد الأستاذ أن يحدد السبب الذي حدا بأمية إلى نظم قصيدته على غرار معلقة عمرو، ولكنه لم يحدد بل استوعب كل الأسباب التي يمكن أن تدفع الشاعر إلى تقليد عمرو من إعجابه به أو روايته لشعره أو المفاق الغرض الذي قالا فيه، ولم يستطع أن يختص سبباً من هذه الأسباب يعد تمحيص الأسباب التي أوردها.
وأغلب ظني أنه اعتقد - بذكره لعدة أسباب - أنه قد حدد واختار ومحص.! ونستطيع أن نلخص من ذلك كله إلى: 1 - عدم عدالة الموازنة. 2 - الاضطراب في التعبير وعدم الدقة فيه. 3 - عدم الوصول إلى آراء قيمة، فكل ما وصل إليه واضح يكاد يبلغ درجة البداهة، وإني أقدم تحيتي إلى الأستاذ الكاتب، وأرجو أن يمتعنا قريباً ببعض بحوثه القيمة. أحمد قاسم أحمد كلية الآداب بجامعة فؤاد