أنواع الرفق بالنظر إلى باعثه
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
أنواع الرِّفق بالنَّظر إلى باعثهأنواع الرِّفق:
من خلال دراستي للأحاديث الواردة في الباب ظهر أنَّ الرِّفق على أنواع، وهذه الأنواع ترجع إلى اعتبارين:
• فبالنظر إلى باعثه يتنوّع الرِّفق إلى: فطري ومكتسب.
• وبالنَّظر إلى محلِّه يتنوّع إلى: ذاتيّ ومتعدّ، وهاك البيان:
الرِّفق بالنَّظر إلى باعثه:
يتنوّع الرِّفق بالنَّظر إلى باعثه إلى: رفق فطري، ورفق مكتسب.
فأما ما يتعلَّق بالنوع الأول - وهو الرِّفق الفطري - : فإن الرِّفق غريزة بشرية، وأمر جِبِلِّيٌّ في نوع الإنسان، وهو موجود في داخل كل أحد.
ومهما بدا على أقوال وأفعال الإنسان من سلوكٍ يتنافى مع الرِّفق، إلا أن أصل الرِّفق كامن في إنسانيته، لذلك تكون العودة إليه ممكنة غالباً، إلا ممّن نزع الله الرحمة من قلبه، فهو لا يُتوقَّع منه رفق ولا لطف ولا لين.
وأما النوع الثاني - وهو الرِّفق المكتسب - فمعلوم أن الناس متفاوتون في أخلاقهم، فمنهم من يغلب اللُّطف واللِّين على أحواله وتصرفاته، ومنهم من تغلب عليه الشدة والغلظة، وهذا الأخير مأمور بمجاهدة نفسه وحملها على الرِّفق، والسَّير على خطى المترفِّقين، فإنه إن فعل ذلك كان رفقه مكتسباً.
ومما يدُلُّ على وجود هذين النوعين - الرِّفق الغريزيّ، والرِّفق المكتسب - : قولُه صلى الله عليه وسلم لأشجِّ عبد القيس: (( إنَّ فيكَ خَلَّتَيْن يُحِبُّهما الله: الحِلْمُ وَالأَنَاةُ )).
قال: يا رسول الله أنا أتخَلَّقُ بهما، أمِ اللهُ جبلني عليهما؟
قال: (( بل اللهُ جَبَلَك عليهما )).
قال: الحمدُ لله الذي جبلني على خَلَّتَيْن يُحِبُّهما اللهُ ورسولُه.
رواه أبو داود [1].
فطَرْحُ الأشجِّ لهذا السؤال، وإقرارُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عليه، يشعر بأن الأناة والرِّفق واللُّطْف، وكذا الحلم وسائر الأخلاق الكريمة، منها ما هو جِبِلِّيٌّ غريزي، ومنها ما هو مكتسب، والله أعلم.
ومن صور الرِّفق الجِبِلِّيّ الغريزي: رِفْق الأم بولدها، وهذا ظاهر حتى في غير نوع الإنسان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( جعل الله الرَّحمةَ في مئة جزء، فأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق، حتى ترفعَ الفرسُ حافرَها عن ولدها؛ خشية أن تُصيبَه )) رواه البخاري ومسلم [2].
وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ الله خلق يومَ خلقَ السماواتِ والأرضَ مئةَ رحمةٍ، كلُّ رحمةٍ طِباقُ ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمةً، فبها تَعْطِفُ الوالدةُ على ولدها، والوحشُ والطيرُ بعضُها على بعضٍ، فإذا كان يوم القيامة أكملَها بهذه الرَّحمة )) رواه مسلم [3].
وهذا النوع من الرِّفق دوافعه - كما ترى - غريزية نفسية، يستوي فيه الإنسان وغيره من المخلوقات، لكن إذا استعمله الإنسان على وفق الشرع احتاج منه إلى اكتساب وعلم ونية، فيكون بهذا الاعتبار شرعياً.
وإذا ضعف الرِّفق الجِبِلِّيُّ عند الإنسان لاعتبارات متعدِّدة، احتاج إلى من يذكّره به، يدل على ذلك:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صوتَ خصومٍ بالباب عاليةًٍ أصواتُهما، وإذا أحدُهما يَسْتَوْضِعُ الآخرَ، ويَسْتَرْفِقُه في شيء، وهو يقول: والله لا أَفْعَلُ.
فخرج عليهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( أين المُتَأَلِّي على الله لا يفعلُ المعروفَ؟ )).
فقال: أنا يا رسول الله، وله أَيُّ ذلك أَحَبَّ.
أخرجه البخاري ومسلم [4].
ومعنى قولها: (( إذا أحدُهما يَسْتَوْضِعُ الآخرَ ويَسْتَرْفِقُه )) أي: يطلب منه أن يَضَعَ عنه بعضَ الدَّيْن ويَرْفُقَ به في الاستيفاء والمطالبة [5].
وقوله (( فله أيُّ ذلك أحبَّ )) أي: من الوَضْعِ أو الرِّفْق [6].
قال ابن حجر: (( في هذا الحديث: الحضُّ على الرِّفْق بالغَرِيم والإحسان إليه بالوَضْع عنه...
)) [7].
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن زوج بَرِيرةَ كان عبداً يقال له: مُغِيثٌ، كأني أنظر إليه يطوفُ خلفَها يبكي، ودموعُه تَسيلُ على لحيته، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبَّاس: (( يا عَبَّاس، ألا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرةَ مغيثاً )).
فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( لو راجَعْتِهِ )).
قالت: يا رسول الله تَأْمُرُني؟
قال: (( إنما أنا أشفع )).
قالت: لا حاجةَ لي فيه.
رواه البخاري [8].
قال ابن حجر: (( وفيه.....
استحبابُ شفاعةِ الحاكم في الرِّفق بالخَصْم، حيث لا ضررَ، ولا إلزامَ، ولا لومَ على من خالفَ، ولا غَضَبَ، ولو عَظُمَ قَدْرُ الشّافع )) [9].
والاستدلال بهذين الحديثين ونحوهما ظاهر على التذكير بالرِّفق لمَن غفل عنه، وغلبت عليه الشدَّة والقسوة، ويكون الرِّفق بالنسبة إلى هؤلاء وأمثالهم إذا هم أجابوا: رفقاً مكتسباً.
[1] أبو داود: كتاب الأدب - باب في قُبْلة الرِّجْل (5225) عن الزارع وكان في وفد عبد القيس، وحسَّن المنذريُّ هذا الحديث، وأصله عند مسلم.
[2] البخاري: كتاب الأدب - باب جعل الرحمة في مئة جزء (6000)، ومسلم: كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى...
4: 2108 حديث 17 (2752).
[3] مسلم: كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى...
4: 2109 حديث 21 (2753).
[4] البخاري: كتاب الصلح - باب هل يشير الإمام بالصلح (2705)، ومسلم: كتاب المساقاة - باب استحباب الوضع من الدَّين 3: 1192 حديث 20 (1558).
[5] (( شرح صحيح مسلم )) للنووي 10: 220.
[6] (( فتح الباري )) 5: 363.
[7] المرجع السابق.
[8] البخاري: كتاب الطلاق - باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة (5283).
[9] (( فتح الباري )) 9: 324 عند شرح حديث (5284).