شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصيام - باب ما يفسد الصوم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

[باب: ما يفسد الصوم].

ويدخل في هذا الباب ما يفسد، وعادة يذكرون معه ما لا يفسد الصوم، من باب الاستطراد؛ لأنهم إذا ذكروا ما يفسد ذكروا ما يظن أنه يفسد الصوم وليس كذلك.

وقوله: (باب ما يفسد الصوم) يشمل ما يوجب الكفارة وما لا يوجبها، فهو أعم مما يوجب الكفارة، وقد ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب تقريباً أربع مسائل:

المفسد الأول: الأكل

المسألة الأولى: مفسدات الصوم، وذكر منها عدداً:

الأول: الأكل، قال: (من أكل)، والأكل مفطر بالكتاب والسنة والإجماع.

فأما الكتاب ففي قوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187].

وأما السنة فما لا يحصى من الأحاديث التي تدل على أن أصل الصوم هو الامتناع عن الأكل والشرب والجماع ونحوه، هذه أصول المفطرات، مثل ماذا الأحاديث؟ مثل: ( من نسي فأكل أو شرب وهو صائم فليتم صومه )، وسيأتي الحديث وهو متفق عليه.

أيضاً: الحديث القدسي وهو أيضاً في البخاري : ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )، هذا في الصائم، أيضاً: ( من لم يدع قول الزور -متفق عليه- والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )، وهلم جراً.

فالأحاديث كثيرة جداً في بيان أن الأكل من المفطرات، وكذلك أجمع العلماء عليه إجماعاً قطعياً من حيث الجملة، وإنما أقول: من حيث الجملة؛ لأنه قد ينقل عن بعض السلف الشك في أشياء محددة أنها ليست أكلاً أو ليست شرباً، فهذا باب آخر، لكن كل ما اتفق على أنه أكل أو شرب فهو من المفطرات.

المفسد الثاني: الشرب

الشيء الثاني قال: [أو شرب].

والشرب أيضاً مفطر بالكتاب كما ذكرنا: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، والسنة كما في الأحاديث السالفة وغيرها، وإجماع العلماء القطعي على أن الشرب من المفطرات.

وفي الأكل والشرب إذا تعمدهما في نهار رمضان الكفارة مع القضاء، والفقهاء الذين يقولون: إن عليه إن أكل أو شرب متعمداً الكفارة.

المالكية والحنفية.

المفسد الثالث: ما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف

ثم قال: [أو استعطى]، هذه الثالثة من المفطرات التي ذكرها، ومعنى قوله: [استعطى] أي: وضع السعوط، بفتح السين السعوط، أين يوضع السعوط؟ في الأنف.

إذاً: السعوط هو اسم للدواء الذي يوضع في الأنف، أو يستنشق مع الأنف، وقوله: (أو استعطى) لا يعني قصره على الدواء فقط، بل المقصود: أن كل ما دخل إلى جوفه عن طريق الأنف فهو مفطر، والدليل على ذلك: حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )، والحديث رواه الخمسة، رواه أهل السنن والإمام أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والنووي وابن حجر وغيرهم وهو حديث صحيح، وأيضاً الترمذي قال: حديث حسن صحيح.

وجه الدلالة من الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال له: ( بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )، دل على أن وصول الماء إلى الجوف عن طريق الاستنشاق يؤثر على الصيام، وإلا لما استثنى المبالغة حال الصيام، وهذا القول هو مذهب جماهير أهل العلم، وقد نقل عن بعضهم: أنه لا يفطر بالاستنشاق عن طريق الفم، وقد نسب بعضهم هذا القول إلى الشيخ ابن تيمية رحمه الله ولم أجده في شيء من كتبه، بل نصوصه في الفتاوى وفي رسالة حقيقة الصيام وفي الاختيارات وفي غيرها تدل على أنه يقول بقول الجمهور في أن وصول الماء أو السعوط أو الدواء إلى الجوف عن طريق الأنف أنه من المفطرات.

لكن جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي : أنه لم ير بالسعوط بأساً، وكذلك ابن حزم في المحلى رد على الجمهور القائلين بالتفطير بالاستنشاق والسعوط، إذا وصل الماء إلى جوفه أو السعوط، رد عليهم بأن هذا ليس له أصل، وهذا أيضاً هو قول داود الظاهري، وهو مذهب الظاهرية وحكاه ابن المنذر عن بعض العلماء ولم يسمهم.

إذاً: الجمهور من الأئمة الأربعة وهو اختيار ابن تيمية : أن السعوط ونحوه مما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف فهو مفطر، وهذا هو الصحيح؛ لحديث لقيط بن صبرة .

المفسد الرابع: وصول شيء إلى الجوف

قال المصنف: [أو أوصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان] وهذه عبارة عامة، فهو أولاً يقول: (أوصل إلى جوفه)، ما هو المقصود بالجوف؟

المقصود بالجوف: المعدة [أو أوصل إلى جوفه] أي: المعدة وما يتصل بها؛ لأنهم قد يطلقون ذلك ويقصدون به مثلاً حتى الدماغ؛ لأنهم يقولون: إن له منفذاً متصلاً بالمعدة.

والمقصود بقوله: (أو أوصل إلى جوفه شيئاً)، يعني: أي شيءٍ كان، سواءً كان شيئاً مغذياً كالأكل أو الشرب أو العلاج أو غيرها، أو كان شيئاً غير مغذٍ مثل: الحصى، أو التراب، أو الأنبوب، أو الحبل، أو الأشياء التي لا تستخدم كغذاء، هذا ظاهر كلام المصنف.

وهذا الذي ذكره المصنف كقاعدة عامة: أن ما يصل إلى الجوف -أي: إلى المعدة- فهو مفطر، هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ونص عليه الإمام مالك ؛ لأن هذا عندهم في معنى الأكل والشرب المنصوص عليه، فإن قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، نص في الأكل والشرب، ويدخل فيهما ما في معناهما مما يصل إلى الجوف، وقد شغب على هذا المعنى الإمام ابن حزم رحمه الله، فقال في المحلى منكراً على الجمهور هذا القول قال: وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل، يعني: يدخل من الدبر مثلاً أو من الإحليل وهو الذكر، أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن، أو جرح في الرأس، وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله، يعني: المحرمات كمحرمات الصيام وغيره هذا شأنها آخر، وهذا الكلام الذي اختاره ابن حزم كأن الإمام ابن تيمية أيضاً مال إليه في كتابه: حقيقة الصيام، وهي رسالة مطبوعة مع الفتاوى، وطبعت مستقلة باسم حقيقة الصيام، وذكر ابن تيمية رحمه الله وجوهاً لهذه المسألة نحو ستة وجوه، من أبرزها:

أنه قال: إن الصوم من دين المسلمين العام الذي يلزم به كل مسلم إذا توفرت فيه الشروط كما سبق، وهذا يعني: أن الدواعي تتوفر على معرفة أحكام الصيام وعلى بيانها للناس، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم لهم كل ما يتعلق بالصيام، ومن هذا بيان المفطرات، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين أن هذه الأشياء من المفطرات فلا نقول بتفطيرها.

أما الاستنشاق كما في حديث لقيط فإن ابن تيمية رحمه الله يقول: إن الاستنشاق لو لم يرد فيه نص لكان يجب أن يكون مفطراً؛ لأنه أكل أو شرب، وهو منفذ طبيعي لمادة مغذية مقوية يستفاد منها، فقد ورد النص أيضاً على وفق القياس، فهذا من الوجوب.

أيضاً ابن تيمية رحمه الله يقول: إن قياسهم هذه الأشياء على الأكل والشرب قياس غير صحيح ويفتقر إلى تحديد مناط الحكم، فهل مناط الحكم في المفطرات كونها تصل إلى الجوف؟ هذا لم يرد فيه دليل، هل مناط الحكم يعني أن تصل إلى الجوف فقط؟ ليس فيه دليل، هل مناط الحكم كونها تصل من منفذ طبيعي فقط؟ هذا أيضاً ليس عليه دليل وإنما الشيخ رحمه الله يرى أن الأمر يدور على وصول الغذاء المقوي للبدن. ذكر طبعاً وجوهاً كثيرة لكن هذه أهمها.

إذاً: ما ذكره ابن تيمية رحمه الله في هذا القول وذهب إليه من قبل ابن حزم هو أيضاً قول جيد وقوي؛ لأن إلحاق هذه الأشياء بالأكل والشرب فيه نظر كبير من حيث القياس.

ما هي الأشياء التي تدخل تحت هذه الكلمة، وهي كلمة: (أوصل إلى جوفه شيئاً)؟ منها مثلاً: ما يسمونه بالحقنة، وكلمة الحقنة الآن قد يظن البعض أو تنصرف في أذهانهم إلى الإبرة التي يحقن بها الإنسان، بينما الحقنة عند المتقدمين تطلق على دواء يوضع في دبر الإنسان، يوضع في وعاءٍ يسمى المحقنة، ثم يوضع في دبر الإنسان، فهذه الحقنة عند الجمهور مفطرة؛ لأنهم يعتبرون أن الدبر منفذ طبيعي متصل بالجوف، بينما يرى ابن تيمية رحمه الله وابن حزم ومن وافقهم أنها ليست مفطرة، وليس كل من قال بوصول الشيء إلى الجوف يقول بالتفطير بالحقنة، وإنما كقاعدة عامة، وإلا فـأبو حنيفة والشافعي لا يرون التفطير بالحقنة، أما مالك رحمه الله والحنابلة فيرون أنها تفطر.

كذلك مما يدخل تحت هذه الكلمة العامة: الكحل، والكحل قد يصل إلى الجوف وقد يجد طعمه في حلقه وهو غير مفطر عند الشافعية والحنفية، ومن باب أولى عند ابن حزم واختيار الشيخ ابن تيمية رحمهم الله جميعاً، بل الشافعي في الأم قال: لا أعلم أحداً كره الكحل، ونص في مصنف ابن أبي شيبة عن جماعة من السلف كـعطاء وكـإبراهيم النخعي والحسن والزهري وأنس بن مالك وغيرهم أنهم كانوا لا يرون بأساً بالكحل للصائم، ولكن أيضاً نقل ابن أبي شيبة عن قوم أنهم كرهوا الكحل، نقل هذا عن حماد بن سلمة وأبي هلال وقتادة .

إذاً: هناك من السلف من كره الكحل للصائم.

وقد جاء في الكحل حديثان متعارضان كلاهما ضعيف فجاء في سنن أبي داود : عن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم ).

الإثمد معروف، فهو نوع من الكحل، من أجود أنواع الكحل، والمروح هو المخلوط بشيء من الطيب بالرائحة الطيبة، يعني: الذي يخلط بالطيب هذا معنى المروح، وقال: ( ليتقه الصائم )، لكن هذا الحديث ضعيف، قال أبو داود : حديث منكر، وفي سنده مجاهيل.

ويعارض هذا الحديث أيضاً ما رواه الترمذي بسند ضعيف أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ( اشتكيت عيني فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت له: أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: نعم )، قال الترمذي : هذا الحديث ليس بالقوي ولا يصح في الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وفيه أبو عاتكة، وهو منكر الحديث كما قال البخاري .

إذاً: لا يصح في الكحل للصائم شيء، لا في كونه مفطراً ولا في كونه غير مفطر، وإنما ذكرنا ما هو أصل القاعدة وهو أنه لا يفطر بالكحل، حتى لو وجد طعمه في حلقه فإن الأصل عدم التفطير به.

ما يقطر في الإحليل وهو الذكر هل يدخل في هذا أو لا يدخل؟

بعضهم قد يذكره استطراداً والأكثرون حتى من الحنابلة يرون أن ما يقطر في الذكر ليس داخلاً أصلاً فيما يصل إلى الجوف، لأن الذي يقطر في الذكر يذهب إلى المثانة، والمثانة غير متصلة عندهم بالجوف، ولهذا يقولون: إنه لا يفطر.

كذلك مما ذكروا أنه يصل إلى الجوف مداواة الجائفة والمأمومة، والجائفة: هي الجرح الذي يصل إلى الجوف، يعني: لو جرح إنسان إنساناً جرحاً وصل إلى جوفه، وصل إلى معدته .. إلى بطنه، ثم وضع الدواء في هذا الجرح فإن الطبيعي أن الدواء يصل إلى الجوف.

كذلك قالوا: مداواة المأمومة، والمأمومة: هي أيضاً جرح يكون في الرأس ويصل إلى الدماغ، يخترق العظم ويصل إلى الدماغ، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس، فقالوا: إنه إذا داوى المأمومة فإن هذا الدواء يصل إلى الدماغ فيكون بذلك مفطراً، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.

الإمام مالك يقول: لا يفطر دواء الجائفة والمأمومة، وهو قول الظاهرية كما أسلفنا واختيار ابن تيمية .

هناك أشياء عديدة تدخل تحت قول المصنف: (أو أوصل إلى جوفه شيئاً)، ربما جمعها ابن قدامة في هذا النص، يقول: (سواءً وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور واللدود)، ما هو الوجور بفتح الواو؟

الوجور: هو ما يوضع في الفم، وقد يوضع غالباً من غير اختيار الإنسان مثلاً: يحقن أو يوضع في حلقه دواء أو شيء من هذا القبيل، هذا يسمى وجوراً.

قال: (كالوجور اللدود) واللدود أيضاً يوضع في الفم لكنه يوضع عن طريق شق الفم، فهذا الذي يوضع في طرف الفم يسمى اللدود، وإذا وضع في وسط الفم فهو الوجور.

قال: (أو من الأنف كالسعوط، أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ، أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه، أو من مداواة المأمومة إلى دماغه، فهذا كله يفطر؛ لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل).

هذا كلام ابن قدامة وقد ذكرنا ما على هذا الكلام من الاعتراض، ونقلنا مذهب الإمام ابن حزم وتعقيب ابن تيمية رحمهم الله على ذلك.

قال المصنف: (أو استقاء)، يعني: استدعى القيء، والقيء: هو إخراج ما في جوفه، سواء استدعاه بإصبعه أو بتعمده بأي طريقة كانت؛ لأن هناك أكثر من طريقة للاستقاءة، بعضهم قد يستقي بشم شيء معين أو ما أشبه ذلك.

والكلام في الأذن مثل الكلام في الكحل، والمختار أنها لا تفطر.

المفسد الخامس: القيء عمداً

فالحنابلة يرون أن القيء إذا استقاء بقصدٍ وعمد أنه يفطر، وهذا أيضاً قول مالك والشافعي، بل قال الخطابي : لا أعلم خلافاً بين أهل العلم أن من استقاء عامداً أن عليه القضاء، وقال ابن المنذر أيضاً: أجمع أهل العلم على أن من تعمد القيء فعليه القضاء.

وحجة هذا القول: ما رواه أهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ذرعه القيء فلا شيء عليه، ومن استقاء عامداً فليقض )، (ذرعه القيء) يعني: أصابه من غير قصده جاءه من غير اختياره، فهذا ليس عليه شيء، وأما من تعمد القيء فعليه القضاء، وهذا الحديث كما قلت: رواه أهل السنن وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ولكن أعله كثير من أئمة الحديث، فأعله الإمام البخاري والإمام أحمد والبيهقي وذكروا أنه قد وهم فيه بعض رواته، وهو الأقرب أن الحديث معلول ليس بقوي.

ومما يدل أيضاً على أن تعمد القيء يفطر ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد عن ثوبان : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، فسئل عن ذلك، فقال: صدق أنا صببت له وضوءه )، والحديث صححه الإمام أحمد وغيره وفيه أيضاً مقال يسير.

المقصود: أن من تعمد القيء فعليه القضاء، وقد نقل الخطابي وابن المنذر الاتفاق على هذا، وأما من ذرعه القيء وأصابه بغير إرادته فليس عليه قضاء وسوف نعرض لهذه النقطة أيضاً بعد قليل.

المفسد السادس: الاستمناء

قال: [أو استمنى]، والاستمناء: هو أن يستدعي خروج المني بأي شيء كان، كأن يتقلب في فراشه أو بيده أو بيد زوجته أو بيد أمته أو بغير ذلك في نهار رمضان أو في الصيام، فهذا عليه القضاء عند جمهور العلماء وهو مذهب الأئمة الأربعة، وخالف في ذلك ابن حزم فرأى أنه لا يفسد الصوم، وليس عليه قضاء، والشوكاني أيضاً والصنعاني والألباني كما في تعليقه على كتاب تمام المنة في التعليق على فقه السنة.

والراجح قول الجمهور: أن من تعمد الاستمناء في نهار رمضان فسد صومه وعليه القضاء، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، بل قول الله عز وجل فيما رواه النبي عليه الصلاة والسلام: ( يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي )، ولا شك أن الذي تعمد الاستمناء لم يدع شهوته من أجل الله تبارك وتعالى ففسد بذلك صومه.

المفسد السابع: خروج المذي بالتقبيل أو اللمس

يبدو أنه يوجد هنا خطأ -والله أعلم- في النص، والذي يظهر لي أن صواب النص: [أو قبّل أو لمس فأمذى]؛ لأننا إذا قلنا: إن القبلة بمجردها من غير أن يمذي أو اللمس بمجرده من غير أن يمذي، ابن قدامة رحمه الله نقل في المغني الإجماع على أنه لا يفطر بذلك، كما أني راجعت النص الثاني في النسخة التي طبعت بشرح الشيخ الإمام ابن تيمية -رحمه الله- فوجدت فيها النص هكذا: (أو قبّل أو لمس فأمذى أو أمنى)، يعني: فسد صومه.

وهذا هو الصحيح من المذهب الحنبلي: أنه إذا قبل امرأته فأمذى، أو لمس امرأته فأمذى أن عليه القضاء، وهذا أيضاً مذهب الإمام مالك، وفي رواية أخرى في المذهب: أنه لا يفطر بالمذي، يعني: لو قبل امرأته فأمذى أو لمسها فأمذى أنه لا يفطر بذلك، وهذه الرواية اختارها جماعة من أكابر الحنابلة كـالآجري وابن مفلح صاحب الفروع وابن تيمية وجمع من المحققين وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وروي عن جماعة من السلف كـالحسن والشعبي والأوزاعي .

قالوا: لأن المذي خارج لا يوجب الغسل فهو أشبه بالبول، وليس عليه غسل، وليس عليه قضاء، بل صومه صحيح.

ولا شك أن هذا هو الراجح والدليل على ذلك: ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، قالت: وكان أملككم لإربه )، والمقصود بالإرب: الحاجة، وقيل: العضو، والمعنيان متقاربان.

فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ولا شك أن الإنسان إذا فعل هذا فهو مظنة أن يقع منه المذي، وترك الاستفصال -كما يقول الأصوليون- في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وإن كان ليس هناك مقال، ولكنه فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فنقول: إن القبلة جائزة للصائم وكذلك المباشرة، والمقصود بالمباشرة: أن تمس بشرته بشرتها، هذا معنى المباشرة، فهذا جائز للصائم، ولو ترتب عليه خروج المذي فصومه صحيح، لكن إن كان يخشى من أن يتمادى به الأمر إلى الجماع أو يخشى من خروج المني فيتقيه، ولو أمنى بسبب القبلة أو المباشرة لوجب عليه القضاء.

ويقول ابن قدامة : [بغير خلاف نعلمه] يعني: في مسألة من خرج منه المني.

المفسد الثامن: الحجامة

قال المصنف: [أو حجم أو احتجم]، أما المحتجم: فهو الذي يخرج منه الدم، الذي يكثر عليه الدم أو يشتكي صداعاً أو غيره فيعمل الحجامة فهذا محتجم.

أما الحاجم: فهو صاحب المحجمة والذي يقوم بهذا العمل.

المحتجم يفطر؛ لأنه خرج منه الدم وهذا قد يسبب له ضعفاً وعجزاً فهو أشبه ما يكون بمن قاء أو استقاء عامداً ونحو ذلك.

وأما الحاجم؛ فلأنه يمص هذه المحاجم، وهذا مظنة أن يصل من الدم شيء إلى حلقه.

وهو يفطر عند الإمام أحمد وعامة أصحابه بالنسبة للمحتجم، أما الحاجم فهو أيضاً يفطر في رواية عند أحمد، وهذا القول بفطر الحاجم والمحجوم هو قول غالب فقهاء أهل الحديث كـإسحاق بن راهويه وابن المنذر وعطاء والحسن وغيرهم، ونقل عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يحتجمون ليلاً ويتجنبون الحجامة بالنهار، نقل هذا عن ابن عمر وابن عباس وأنس وغيرهم، ومن أقوى الأدلة في هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، وهذا الحديث جاء عن نحو خمسة عشر صحابياً، وهو حديث صحيح.

ومن أصح ما ورد فيه: حديث شداد بن أوس وثوبان ورافع بن خديج وجاء عن آخرين من الصحابة كما ذكرت كـبلال وعائشة وأبي هريرة وأسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى وعبد الله بن عمر وابن عباس وصفية وغيرهم، فطرقه كثيرة جداً، هذا القول الأول.

القوال الثاني: أنه لا يفطر لا الحاجم ولا المحجوم وهذا -تقريباً- مذهب الجمهور، هو مذهب مالك من المتبوعين والثوري وأبي حنيفة والشافعي، وهو أيضاً مذهب ثابت عن جماعة من الصحابة كـأبي سعيد الخدري رضي الله عنه وعائشة وابن مسعود وأم سلمة، وبعض التابعين كـعروة وسعيد بن جبير وغيرهم.

وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم )، ولكن هذا اللفظ -وإن كان في البخاري - إلا أن الإمام أحمد قد أنكر هذا، وجماعة من الأئمة أعلوا هذا، وقالوا: الصواب أنه احتجم وهو محرم، أما زيادة وهو صائم فلا تثبت، وآخرون أثبتوها.

ومن الأدلة أيضاً على جواز الحجامة للصائم: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( أرخص النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة للصائم )، والحديث رواه النسائي وابن خزيمة وسنده صحيح، لكن اختلف في وصله وإرساله كما يقول الحافظ ابن حجر، وقوله: "أرخص" دليل على أنه كان ممنوعاً ثم أرخص فيه، فهذا حجة لمن قالوا: بأن آخر الأمرين هو الرخصة بالحجامة للصائم.

وأيضاً لحديث أنس المتفق عليه أنه سئل: (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف)، يعني: لم يكونوا يكرهون الحجامة؛ لأنها تفطر ولكن كانوا يكرهونها خشية أن يضعف الصائم فيفطر.

ومما روي أيضاً في هذا الباب ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وعن المواصلة -يعني: الوصال في رمضان- ولم يحرمهما؛ إبقاءً على أصحابه )، يعني: إرعاءً عليهم أو رفقاً بهم، وقوله: (إبقاءً على أصحابه) متعلق بقوله (نهى) يعني: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة؛ رفقاً بأصحابه؛ لأن الإنسان إذا احتجم يضعف عن الصيام، وهكذا الوصال في رمضان أو في الصيام، إذا واصل فإن الإنسان قد يضعف فيكون النهي ليس نهي تحريم، وإنما هو نهي كراهة. وهذا الحديث حديث أبي داود قال ابن حجر : إسناده صحيح، وجهالة الصحابي لا تضر.

وأما حديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، فقد أجاب الجمهور عنه بأجوبة كثيرة، منها:

قول بعضهم: بأن الرسول عليه الصلاة والسلام مر على رجلين وهما يغتابان: حاجم ومحجوم، فقال: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، يعني: بسبب الغيبة وهذا ضعيف، ضعيف سنداً أولاً، وضعيف لأن الرسول عليه الصلاة والسلام علق الفطر بالحجامة، وضعيف لأن الغيبة لا تفطر ربما باتفاق العلماء أو ما يشبه الاتفاق.

بعضهم أجاب: بأن المعنى أفطر، يعني: قارب الفطر وكاد أن يفطر؛ لأن الغالب أنه إذا احتجم فإنه يضعف عن مواصلة الصيام، وقد يحتاج إلى الأكل أو الشرب، وهذا أيضاً ليس بقوي؛ لأنه إن صح في حال المحجوم فليس بواضح في حال الحاجم؛ لأنه لم يستخرج منه شيء.

وقيل: إنه منسوخ، وهذا ممكن وإن كان ابن حزم رحمه الله وغيره ممن كتبوا في الناسخ والمنسوخ ذكروا فصولاً طويلة في هذا، وبعضهم قال بنسخ هذه بتلك، وهذا الذي اختاره ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه ممن يقول بالتفطير بالحجامة، وبعضهم قال بأن الإذن بالحجامة للصائم هو الناسخ.

و الذي أميل إليه والله تعالى أعلم: أن الحجامة لا تفطر، وأن الحديث لابد من حمله على أحد وجوه التأويل، وقد يكون من ذلك: القول بالنسخ؛ لما ذكرناه من مذهب الجمهور والنقل عن جماعة من الصحابة؛ ولما أسلفناه ونقلناه عن ابن تيمية رحمه الله من أن مسائل الصيام من القضايا العامة التي تحتاجها الأمة، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم، بل أمهات المؤمنين كـعائشة وأم سلمة يحتجم عندهم ناس في الصيام ولا ينكرن عليهم، ونص النبي صلى الله عليه وسلم على عدم النهي عن ذلك إلا من باب الإرعاء والرفق بأصحابه، وحديث أبي سعيد أيضاً، ولأنه ما يتعلق بالحاجم لا يظهر أيضاً وجه أن يكون مفطراً، واحتمال أن يكون وصل إلى حلقه شيء هذا مجرد احتمال وليس أمراً مؤكداً، ولو وصل إلى حلقه بغير الحجامة شيء لأفطر به، فلا بد من حمل الحديث على أحد وجوه التأويل أو النسخ.

بغض النظر عن القول الراجح في موضوع الحجامة ما يتعلق بإخراج الدم من الإنسان بالطرق الحديثة، سواءً كان إخراجه للتحليل أو لغيره هل يلتحق بالحجامة أو لا يلتحق؟

بعضهم ألحقوه بالحجامة؛ لأنه استخراج للدم من العروق على وجه يضر بالإنسان ويضعفه.

وآخرون رأوا أنه لا يلتحق به؛ لأنه قد يكون في الحجامة معنىً لا يوجد في هذه الأشياء، وهذا عندي أقرب.

ولذلك نقول يقيناً: إنه فيما يتعلق بالحاجم لا نقول: إن من يستخرج الدم مثلاً عن طريق الإبرة أنه يفطر بهذا؛ لأنه لا تعلق له بشيء من ذلك، ولا يصل إلى جوفه يقيناً أو حلقه من ذلك شيء، فنقول: حتى على القول بأن الحجامة تفطر فينبغي قصر الأمر على الحجامة وما يماثلها.

أما استخراج الدم للتحليل أو غيره بطريقة مختلفة، وقد يكون كمية قليلة فإن الأقرب أنه لا يفطر؛ حتى على قول القائلين بالتفطير، ولذلك ينص بعضهم على الجرح اليسير ولو خرج منه قطرات يسيرة، وأن هذا لا يضر ولا يلحق بالحجامة.

كذلك إخراج الدم للتبرع.

انتهى المؤلف من المفطرات،

المسألة الأولى: مفسدات الصوم، وذكر منها عدداً:

الأول: الأكل، قال: (من أكل)، والأكل مفطر بالكتاب والسنة والإجماع.

فأما الكتاب ففي قوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187].

وأما السنة فما لا يحصى من الأحاديث التي تدل على أن أصل الصوم هو الامتناع عن الأكل والشرب والجماع ونحوه، هذه أصول المفطرات، مثل ماذا الأحاديث؟ مثل: ( من نسي فأكل أو شرب وهو صائم فليتم صومه )، وسيأتي الحديث وهو متفق عليه.

أيضاً: الحديث القدسي وهو أيضاً في البخاري : ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )، هذا في الصائم، أيضاً: ( من لم يدع قول الزور -متفق عليه- والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )، وهلم جراً.

فالأحاديث كثيرة جداً في بيان أن الأكل من المفطرات، وكذلك أجمع العلماء عليه إجماعاً قطعياً من حيث الجملة، وإنما أقول: من حيث الجملة؛ لأنه قد ينقل عن بعض السلف الشك في أشياء محددة أنها ليست أكلاً أو ليست شرباً، فهذا باب آخر، لكن كل ما اتفق على أنه أكل أو شرب فهو من المفطرات.

الشيء الثاني قال: [أو شرب].

والشرب أيضاً مفطر بالكتاب كما ذكرنا: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، والسنة كما في الأحاديث السالفة وغيرها، وإجماع العلماء القطعي على أن الشرب من المفطرات.

وفي الأكل والشرب إذا تعمدهما في نهار رمضان الكفارة مع القضاء، والفقهاء الذين يقولون: إن عليه إن أكل أو شرب متعمداً الكفارة.

المالكية والحنفية.

ثم قال: [أو استعطى]، هذه الثالثة من المفطرات التي ذكرها، ومعنى قوله: [استعطى] أي: وضع السعوط، بفتح السين السعوط، أين يوضع السعوط؟ في الأنف.

إذاً: السعوط هو اسم للدواء الذي يوضع في الأنف، أو يستنشق مع الأنف، وقوله: (أو استعطى) لا يعني قصره على الدواء فقط، بل المقصود: أن كل ما دخل إلى جوفه عن طريق الأنف فهو مفطر، والدليل على ذلك: حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )، والحديث رواه الخمسة، رواه أهل السنن والإمام أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والنووي وابن حجر وغيرهم وهو حديث صحيح، وأيضاً الترمذي قال: حديث حسن صحيح.

وجه الدلالة من الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال له: ( بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )، دل على أن وصول الماء إلى الجوف عن طريق الاستنشاق يؤثر على الصيام، وإلا لما استثنى المبالغة حال الصيام، وهذا القول هو مذهب جماهير أهل العلم، وقد نقل عن بعضهم: أنه لا يفطر بالاستنشاق عن طريق الفم، وقد نسب بعضهم هذا القول إلى الشيخ ابن تيمية رحمه الله ولم أجده في شيء من كتبه، بل نصوصه في الفتاوى وفي رسالة حقيقة الصيام وفي الاختيارات وفي غيرها تدل على أنه يقول بقول الجمهور في أن وصول الماء أو السعوط أو الدواء إلى الجوف عن طريق الأنف أنه من المفطرات.

لكن جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي : أنه لم ير بالسعوط بأساً، وكذلك ابن حزم في المحلى رد على الجمهور القائلين بالتفطير بالاستنشاق والسعوط، إذا وصل الماء إلى جوفه أو السعوط، رد عليهم بأن هذا ليس له أصل، وهذا أيضاً هو قول داود الظاهري، وهو مذهب الظاهرية وحكاه ابن المنذر عن بعض العلماء ولم يسمهم.

إذاً: الجمهور من الأئمة الأربعة وهو اختيار ابن تيمية : أن السعوط ونحوه مما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف فهو مفطر، وهذا هو الصحيح؛ لحديث لقيط بن صبرة .

قال المصنف: [أو أوصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان] وهذه عبارة عامة، فهو أولاً يقول: (أوصل إلى جوفه)، ما هو المقصود بالجوف؟

المقصود بالجوف: المعدة [أو أوصل إلى جوفه] أي: المعدة وما يتصل بها؛ لأنهم قد يطلقون ذلك ويقصدون به مثلاً حتى الدماغ؛ لأنهم يقولون: إن له منفذاً متصلاً بالمعدة.

والمقصود بقوله: (أو أوصل إلى جوفه شيئاً)، يعني: أي شيءٍ كان، سواءً كان شيئاً مغذياً كالأكل أو الشرب أو العلاج أو غيرها، أو كان شيئاً غير مغذٍ مثل: الحصى، أو التراب، أو الأنبوب، أو الحبل، أو الأشياء التي لا تستخدم كغذاء، هذا ظاهر كلام المصنف.

وهذا الذي ذكره المصنف كقاعدة عامة: أن ما يصل إلى الجوف -أي: إلى المعدة- فهو مفطر، هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ونص عليه الإمام مالك ؛ لأن هذا عندهم في معنى الأكل والشرب المنصوص عليه، فإن قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، نص في الأكل والشرب، ويدخل فيهما ما في معناهما مما يصل إلى الجوف، وقد شغب على هذا المعنى الإمام ابن حزم رحمه الله، فقال في المحلى منكراً على الجمهور هذا القول قال: وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل، يعني: يدخل من الدبر مثلاً أو من الإحليل وهو الذكر، أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن، أو جرح في الرأس، وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله، يعني: المحرمات كمحرمات الصيام وغيره هذا شأنها آخر، وهذا الكلام الذي اختاره ابن حزم كأن الإمام ابن تيمية أيضاً مال إليه في كتابه: حقيقة الصيام، وهي رسالة مطبوعة مع الفتاوى، وطبعت مستقلة باسم حقيقة الصيام، وذكر ابن تيمية رحمه الله وجوهاً لهذه المسألة نحو ستة وجوه، من أبرزها:

أنه قال: إن الصوم من دين المسلمين العام الذي يلزم به كل مسلم إذا توفرت فيه الشروط كما سبق، وهذا يعني: أن الدواعي تتوفر على معرفة أحكام الصيام وعلى بيانها للناس، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم لهم كل ما يتعلق بالصيام، ومن هذا بيان المفطرات، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين أن هذه الأشياء من المفطرات فلا نقول بتفطيرها.

أما الاستنشاق كما في حديث لقيط فإن ابن تيمية رحمه الله يقول: إن الاستنشاق لو لم يرد فيه نص لكان يجب أن يكون مفطراً؛ لأنه أكل أو شرب، وهو منفذ طبيعي لمادة مغذية مقوية يستفاد منها، فقد ورد النص أيضاً على وفق القياس، فهذا من الوجوب.

أيضاً ابن تيمية رحمه الله يقول: إن قياسهم هذه الأشياء على الأكل والشرب قياس غير صحيح ويفتقر إلى تحديد مناط الحكم، فهل مناط الحكم في المفطرات كونها تصل إلى الجوف؟ هذا لم يرد فيه دليل، هل مناط الحكم يعني أن تصل إلى الجوف فقط؟ ليس فيه دليل، هل مناط الحكم كونها تصل من منفذ طبيعي فقط؟ هذا أيضاً ليس عليه دليل وإنما الشيخ رحمه الله يرى أن الأمر يدور على وصول الغذاء المقوي للبدن. ذكر طبعاً وجوهاً كثيرة لكن هذه أهمها.

إذاً: ما ذكره ابن تيمية رحمه الله في هذا القول وذهب إليه من قبل ابن حزم هو أيضاً قول جيد وقوي؛ لأن إلحاق هذه الأشياء بالأكل والشرب فيه نظر كبير من حيث القياس.

ما هي الأشياء التي تدخل تحت هذه الكلمة، وهي كلمة: (أوصل إلى جوفه شيئاً)؟ منها مثلاً: ما يسمونه بالحقنة، وكلمة الحقنة الآن قد يظن البعض أو تنصرف في أذهانهم إلى الإبرة التي يحقن بها الإنسان، بينما الحقنة عند المتقدمين تطلق على دواء يوضع في دبر الإنسان، يوضع في وعاءٍ يسمى المحقنة، ثم يوضع في دبر الإنسان، فهذه الحقنة عند الجمهور مفطرة؛ لأنهم يعتبرون أن الدبر منفذ طبيعي متصل بالجوف، بينما يرى ابن تيمية رحمه الله وابن حزم ومن وافقهم أنها ليست مفطرة، وليس كل من قال بوصول الشيء إلى الجوف يقول بالتفطير بالحقنة، وإنما كقاعدة عامة، وإلا فـأبو حنيفة والشافعي لا يرون التفطير بالحقنة، أما مالك رحمه الله والحنابلة فيرون أنها تفطر.

كذلك مما يدخل تحت هذه الكلمة العامة: الكحل، والكحل قد يصل إلى الجوف وقد يجد طعمه في حلقه وهو غير مفطر عند الشافعية والحنفية، ومن باب أولى عند ابن حزم واختيار الشيخ ابن تيمية رحمهم الله جميعاً، بل الشافعي في الأم قال: لا أعلم أحداً كره الكحل، ونص في مصنف ابن أبي شيبة عن جماعة من السلف كـعطاء وكـإبراهيم النخعي والحسن والزهري وأنس بن مالك وغيرهم أنهم كانوا لا يرون بأساً بالكحل للصائم، ولكن أيضاً نقل ابن أبي شيبة عن قوم أنهم كرهوا الكحل، نقل هذا عن حماد بن سلمة وأبي هلال وقتادة .

إذاً: هناك من السلف من كره الكحل للصائم.

وقد جاء في الكحل حديثان متعارضان كلاهما ضعيف فجاء في سنن أبي داود : عن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم ).

الإثمد معروف، فهو نوع من الكحل، من أجود أنواع الكحل، والمروح هو المخلوط بشيء من الطيب بالرائحة الطيبة، يعني: الذي يخلط بالطيب هذا معنى المروح، وقال: ( ليتقه الصائم )، لكن هذا الحديث ضعيف، قال أبو داود : حديث منكر، وفي سنده مجاهيل.

ويعارض هذا الحديث أيضاً ما رواه الترمذي بسند ضعيف أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ( اشتكيت عيني فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت له: أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: نعم )، قال الترمذي : هذا الحديث ليس بالقوي ولا يصح في الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وفيه أبو عاتكة، وهو منكر الحديث كما قال البخاري .

إذاً: لا يصح في الكحل للصائم شيء، لا في كونه مفطراً ولا في كونه غير مفطر، وإنما ذكرنا ما هو أصل القاعدة وهو أنه لا يفطر بالكحل، حتى لو وجد طعمه في حلقه فإن الأصل عدم التفطير به.

ما يقطر في الإحليل وهو الذكر هل يدخل في هذا أو لا يدخل؟

بعضهم قد يذكره استطراداً والأكثرون حتى من الحنابلة يرون أن ما يقطر في الذكر ليس داخلاً أصلاً فيما يصل إلى الجوف، لأن الذي يقطر في الذكر يذهب إلى المثانة، والمثانة غير متصلة عندهم بالجوف، ولهذا يقولون: إنه لا يفطر.

كذلك مما ذكروا أنه يصل إلى الجوف مداواة الجائفة والمأمومة، والجائفة: هي الجرح الذي يصل إلى الجوف، يعني: لو جرح إنسان إنساناً جرحاً وصل إلى جوفه، وصل إلى معدته .. إلى بطنه، ثم وضع الدواء في هذا الجرح فإن الطبيعي أن الدواء يصل إلى الجوف.

كذلك قالوا: مداواة المأمومة، والمأمومة: هي أيضاً جرح يكون في الرأس ويصل إلى الدماغ، يخترق العظم ويصل إلى الدماغ، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس، فقالوا: إنه إذا داوى المأمومة فإن هذا الدواء يصل إلى الدماغ فيكون بذلك مفطراً، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.

الإمام مالك يقول: لا يفطر دواء الجائفة والمأمومة، وهو قول الظاهرية كما أسلفنا واختيار ابن تيمية .

هناك أشياء عديدة تدخل تحت قول المصنف: (أو أوصل إلى جوفه شيئاً)، ربما جمعها ابن قدامة في هذا النص، يقول: (سواءً وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور واللدود)، ما هو الوجور بفتح الواو؟

الوجور: هو ما يوضع في الفم، وقد يوضع غالباً من غير اختيار الإنسان مثلاً: يحقن أو يوضع في حلقه دواء أو شيء من هذا القبيل، هذا يسمى وجوراً.

قال: (كالوجور اللدود) واللدود أيضاً يوضع في الفم لكنه يوضع عن طريق شق الفم، فهذا الذي يوضع في طرف الفم يسمى اللدود، وإذا وضع في وسط الفم فهو الوجور.

قال: (أو من الأنف كالسعوط، أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ، أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه، أو من مداواة المأمومة إلى دماغه، فهذا كله يفطر؛ لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل).

هذا كلام ابن قدامة وقد ذكرنا ما على هذا الكلام من الاعتراض، ونقلنا مذهب الإمام ابن حزم وتعقيب ابن تيمية رحمهم الله على ذلك.

قال المصنف: (أو استقاء)، يعني: استدعى القيء، والقيء: هو إخراج ما في جوفه، سواء استدعاه بإصبعه أو بتعمده بأي طريقة كانت؛ لأن هناك أكثر من طريقة للاستقاءة، بعضهم قد يستقي بشم شيء معين أو ما أشبه ذلك.

والكلام في الأذن مثل الكلام في الكحل، والمختار أنها لا تفطر.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3973 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3917 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3846 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3838 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3661 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3617 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3606 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3541 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3504 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3425 استماع