سلسلة التتار المماليك


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فهذه هي المحاضرة السابعة من محاضرات: قصة التتار من البداية إلى عين جالوت.

في المحاضرتين السابقتين رأينا سقوط الدولة العباسية في العراق، وسقوط بغداد، ثم اجتياح الشام بكامله، وسقوط حلب وحمص وحماه ودمشق، وكل لبنان، ثم احتلال فلسطين، ولم يبق غير خمسة وثلاثين كيلو متر فقط أمام التتار، ليدخلوا الحدود المصرية ويضموا بذلك مصر إلى أملاك الدولة التترية الرهيبة.

وذكرنا أن مصر في ذلك الوقت كانت تحت حكم المماليك.

لقد فضلت أن أجعل هذه المحاضرة محاضرة مختصرة لشرح تاريخ المماليك، والموضوع يحتاج إلى تفصيل في مجموعات أخرى، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا فيها.

تعتبر فترة حكم المماليك من الفترات التاريخية المجهولة عند كثير من المسلمين، بل عند كثير من مثقفي المسلمين، وهذا له أسباب كثيرة منها: أن الأمة الإسلامية في وقت ظهور دولة المماليك وما بعدها كانت قد تفرقت تفرقاً كبيراً، وكثرت فيها جداً الإمارات والدويلات، وبالتالي فدراسة هذه الفترة تحتاج إلى مجهود ضخم جداً، لمتابعة الأحوال في العديد من الأقطار الإسلامية، فالمماليك في أعظم حكمهم لم يسيطروا إلا على خمسة أو ستة أقطار من الأقطار المعروفة في ذلك الوقت، وتزامن ظهورهم مع ظهور أكثر من دويلة وإمارة في أكثر من مكان في العالم الإسلامي، فلدراسة تاريخ المماليك لا بد أن يدرس تاريخ كل هذه المناطق في تلك الحقبة من التاريخ سوياً، وهذا شيء صعب.

أيضاً من العوامل والأسباب التي أدت إلى جهل المسلمين بفترة المماليك:كثرة الولاة والسلاطين في دولة المماليك، فكلما ظهر وال أو سلطان في فترة، وبدأت هذه الفترة تفهم، تغير السلطان وأتى آخر ثم ثالث .. وهكذا.

هذه هي حال دولة المماليك الأولى؛ فدولة المماليك مرت بأكثر من مرحلة، ففي المرحلة الأولى كان اسمها دولة المماليك البحرية، وقد ظلت هذه المرحلة (144) سنة، تعاقب على الحكم فيها (29) سلطاناً، يعني: أن متوسط حكم السلطان لم يكن يتعدى الخمس السنوات فقط، وليس كل السلاطين كانت مدة حكمهم خمس سنوات، فهناك سلاطين حكموا سنين طويلة، ولكن هناك سلاطين آخرين حكموا سنة أو سنتين أو أقل من السنة، فكثرة السلاطين والولاة أدت إلى عدم دراية ومعرفة كبيرة بتاريخ المماليك، فكان من الصعب دراسة تاريخ المماليك.

وأهم الأسباب التي جعلت الكثير من المسلمين لا يدركون أو لا يفقهون تاريخ المماليك، هو: تزوير التاريخ الإسلامي، وهذا تولى كبره المستشرقون وأتباعهم من المسلمين المفتونين بهم، فقد شوهوا تاريخ المماليك تشويهاً كبيراً؛ مع ما كان للماليك من الإنجازات المشرقة والهامة جداً في تاريخ الأرض، والتي أضافت الكثير إلى أمة الإسلام، فمن أهم هذه الإنجازات: أن دولة المماليك وقفت سداً منيعاً لصد قوتين عاتيتين من قوى الشر، حاولتا هدم صرح الإسلام، وهما: التتار، والصليبيون، فقد كان للمماليك جهاد مستمر طويل ضد هاتين القوتين، وعلى مراحل مختلفة، وقد ظلت دولة المماليك تحمل راية الإسلام في الأرض (270) سنة تماماً، إلى أن تسلمت الخلافة العثمانية القوية راية المسلمين.

ونحن لن ندخل في تفصيلات دولة المماليك في هذه المحاضرة، وسنفرد لها بإذن الله مجموعتين كاملتين من المحاضرات، سنتكلم في المجموعة الأولى: على الحروب الصليبية، وفي المجموعة الثانية على دولة المماليك من البداية إلى النهاية.

ومن أجل أن نفهم قصة المماليك سنرجع إلى الوراء قليلاً إلى ما قبل قيام دولة المماليك، وإلى الدولة التي سبقت دولة المماليك، وهي دولة الأيوبيين.

أسس الدولة الأيوبية البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في سنة (569) من الهجرة، وهذه الأرقام في غاية الأهمية، فهي أرقام محورية في تاريخ المسلمين وأتمنى أن نحفظها، وظل صلاح الدين الأيوبي يحكم هذه الدولة (20) سنة، حتى مات سنة (589هـ)، ووحد في هذه الفترة مصر والشام، وتزعم الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار كبير جداً، وحقق انتصارات هائلة، ومن أشهر انتصاراته حطين، وكانت في ربيع الثاني سنة (583) هجرية، وهذا التاريخ من المفروض ألا ينساه أحد من المسلمين أبداً، ثم فتح بيت المقدس بعد حطين بثلاثة أشهر فقط، في رجب من نفس السنة.

ترك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله دولة قوية عظيمة، تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز واليمن وأعالي العراق، وأجزاء من تركيا، وأجزاء من ليبيا والنوبة، وكون دولة في منتهى القوة, وحاصر الصليبيين في ساحل ضيق جداً على البحر الأبيض المتوسط في الشام، فـصلاح الدين الأيوبي رحمه الله لم يستطع فتح كل الإمارات الصليبية الموجودة في الشام، ولكنه حرر جزءاً كبيراً جداً من الشام ومن فلسطين بقدر ما يستطيع.

ثم بوفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تقلص دور الجهاد جداً ضد الصليبيين، فقد فتن أبناء صلاح الدين الأيوبي بالدولة الكبيرة، فقد كثرت الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جراء هذه العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، حتى إنها تفككت تماماً بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

وليس لدينا الوقت الكافي، كي نتكلم عن هذه الصراعات والخلافات التي نشأت بعد صلاح الدين الأيوبي ، وإن شاء الله سنتكلم عنها بالتفصيل في مجموعة الحروب الصليبية. وهذا الصراع ظل (59) سنة متصلة، منذ وفاة صلاح الدين الأيوبي في سنة (589) من الهجرة إلى سنة (648) من الهجرة، ولم يكن هذا الصراع صراع كلام وسباب وشقاق فقط، بل كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف وإراقة الدماء المسلمة، وهذا أدى إلى فرقة شديدة في العالم الإسلامي، وكل هذا كان أمراً متوقعاً وليس غريباً، فليس غريب أن يترك صلاح الدين الأيوبي دولة قوية، ثم تتفكك بسبب الدنيا، فالدنيا مرض قاتل، أدى إلى انهيار الكثير والكثير من الدول الإسلامية في كل مراحل التاريخ، واسمع إلى هذا الحديث، روى ابن ماجه والطبراني وابن حبان بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة).

فلما جعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفاً واحداً، وهو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا فعلاً وهي راغمة، وأما معظم السلاطين الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم، فتفرق عليهم الأمر تماماً، حتى أصبحوا لا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فهم تارة مع المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله عز وجل فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلاً، ومنهم من مات فقيراً، ومنهم من مات طريداً، ومنهم من مات حبيساً، وكان هذا هو واقع المسلمين في تلك الفترة التي تلت حكم البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

لا أستطيع أن أشرح الآن بالتفصيل كل ما حدث في خلال هذه الستين سنة، وسأقفز بكم الآن الخمسين السنة الأولى من الصراع، وأصل بكم إلى السنوات العشر الأخيرة من الدولة الأيوبية، بالتحديد إلى سنة (637) من الهجرة. ففي هذه السنة تولى عرش مصر السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب ، الملقب بـالملك الصالح ، وهذا الرجل كان أفضل السلاطين الأيوبيين بعد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وللأسف فإن كثيراً جداً من المسلمين، حتى الذين في مصر التي عاش فيها الملك الصالح لا يعرفون تفصيلات حكم الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، فهذا الرجل كان على خلاف معظم الأمراء الأيوبيين الذين جاءوا في فترته وقبله وبعده، فقد كان رجلاً صالحاً، وكان يعتبر في المنزلة بعد صلاح الدين الأيوبي مباشرة.

تولى الملك الصالح أيوب حكم مصر سنة (637) من الهجرة، وكانت هذه الفترة فترة حكم أوكيتاي التتري، في وقت اجتياح العالم الإسلامي وأوروبا.

استعد الأمراء الأيوبيون في الشام للتقاتل مع الملك الصالح أيوب على مصر، وحدثت بينهم مناوشات وحروب، ووصل الأمر إلى مداه في سنة (641) من الهجرة، يعني: بعد أربع سنوات من تولي الملك الصالح حكم مصر توحدت قوى الأيوبيين المتناثرة في الشام، وتحالفت مع الصليبيين من أجل حرب الملك الصالح أيوب في مصر.

فلما علم الملك الصالح بإعداد هذا الجيش الكبير من النصارى ومن الأيوبيين، بدأ يعد جيشاً لملاقاة هذه القوى المتحدة، ووضع على رأس جيشه ركن الدين بيبرس رحمه الله أكفأ قادته، واستعد للمواجهة، ولكن الجيش المصري كان قليلاً وضعيفاً جداً مقارنة بالأعداد الكبيرة لجيوش الشام والصليبيين، فاضطر الملك الصالح للاستعانة بالجنود الخوارزمية، وهم جنود محمد بن خوارزم شاه وجلال الدين بن محمد بن خوارزم .. وغيرهما من الملوك الخوارزمية، الذين تحدثنا عنهم في بداية هذه السلسلة، وهم كانوا قد فروا من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها، وكانوا جنوداً مرتزقة يتعاونون مع من يدفع أكثر، فكانوا يعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح مقابل أجرة، ودارت موقعة كبيرة في غزة في فلسطين بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وكانت هذه الموقعة في سنة (642) من الهجرة، وانتصر فيها الملك الصالح انتصاراً باهراً، وقتل من الصليبيين أعداداً كبيرة، وصلت إلى ثلاثين ألف مقاتل، وأسر مجموعة كبيرة جداً من أمراء وملوك الصليبيين والأيوبيين، واستغل الصالح أيوب الفرصة واتجه إلى بيت المقدس، بعد أن كان الأيوبيون قد تنازلوا عنه للصليبيين، وأعطوهم إياه هدية، فاقتحم الملك الصالح بيت المقدس وحصون الصليبيين، وحرر مدينة القدس المباركة نهائياً بجيشه المدعم بالخوارزمية سنة (643) من الهجرة، بعد سنة من موقعة غزة، ولم يستطع الجيش النصراني أن يدخله أبداً لمدة سبعة قرون كاملة، إلى أن دخلته الجيوش البريطانية في الحرب العالمية الأولى في يوم (16) نوفمبر سنة (1917) من الميلاد، بعد الخيانة المعروفة من مصطفى كمال أتاتورك . ونسأل الله عز وجل أن يعيد بيت المقدس إلى المسلمين.

ثم أكمل الملك الصالح أيوب الطريق بعد ذلك إلى الشمال، ودخل دمشق ووحد من جديد مصر والشام، ثم اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر طبرية وعسقلان .. وغيرهما.

حدث تطور خطير جداً في جيش الملك الصالح أيوب رحمه الله، فقد انشق عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة، فبعد أن حرر بيت المقدس وضم الشام إلى مصر، حدث هذا الانشقاق، بعد أن استمال أحد الأمراء الأيوبيين بالشام هذه الفرقة الخوارزمية، مقابل دفع أكثر للمال، ونحن نعرف أن هذه الفرقة تعمل بالمال فقط، ولم تكتف بالخروج عن الملك الصالح ، بل إنها حاربت الملك الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذا اللقاء إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه القائد المحنك ركن الدين بيبرس رحمه الله.

وبسبب هذا الحدث ضاعت مكاسب كثيرة جداً كان قد حققها الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، فخرج من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لا بد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله، ويقاتل معه من أجل قضية لا من أجل أموال، فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية، وهذه الطائفة هي المماليك.

المماليك في اللغة العربية: هم العبيد أو الرقيق، ولفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عاماً على معظم الرقيق، ولكن لفظ المماليك اتخذ مفهوماً اصطلاحياً في التاريخ الإسلامي، فعندما نقول: المماليك فلا نقصد بها كل الرقيق، لا، وإنما نقصد بها طائفة معينة من الرقيق.

وإذا أردنا أن نعرف قصة المماليك فلنعد إلى الوراء قليلاً، إلى أيام الخليفة العباسي المشهور المأمون الذي حكم من سنة (198) من الهجرة إلى سنة (218) من الهجرة، يعني: (20) سنة، وإلى أيام أخيه المعتصم الذي جاء بعده، وحكم من سنة (218هـ) إلى سنة (227هـ)، يعني: تسع سنوات، ففي فترة حكم هذين الخليفتين اجتلبا أعداداً ضخمة من الرقيق، عن طريق الشراء من أسواق النخاسة، واستخدموا هؤلاء المماليك كفرق عسكرية؛ بهدف الاعتماد عليهم في تدعيهم النفوذ، ومع مرور الوقت أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية، وأحياناً الوحيدة في كثير من البلاد الإسلامية، وأمراء الدولة الأيوبية بالذات كانوا يعتمدون على المماليك في ترسيخ الحكم وتدعيمه في البلاد التي يحكمونها، وكانت أعداد المماليك محدودة إلى حد ما في كل فترات الدولة الأيوبية، إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وحدثت فتنة خروج الخوارزمية من جيشه، فاضطر رحمه الله إلى الإكثار من المماليك؛ حتى يقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك جداً، وبالذات في مصر التي هي مقر حكم الملك الصالح أيوب رحمه الله.

وكان المصدر الرئيسي للمماليك هو إما بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة، وكان المسلمون يشترون المماليك من أسواق النخاسة المنتشرة في بلاد ما وراء النهر -نهر جيحون-، وهو نهر يجري شمال تركمانستان وأفغانستان، ويفصل بينهما وبين أوزباكستان وطاجاكستان، والأعراق التي تعيش خلف هذا النهر في الغالب أعراق تركية، وكانت هذه المنطقة مسرحاً دائماً للقتال وعدم الاستقرار، ولذلك كثر الأسرى القادمون من هذه المناطق، وكثرت أسواق الرقيق هناك، وكان من أشهر مدن الرقيق في ذلك الوقت مدينة سمرقند، وفرغانة، وخوارزم .. وغيرها من المدن الإسلامية، وهناك مماليك من أصول أرمينية ومغولية وأوروبية، فكان على مدار عشرات ومئات السنين يؤتى بالمماليك من هذه البلاد.

العلاقة بين الملك نجم الدين أيوب والمماليك وكيفية تربيتهم

الذي استحدثه الملك الصالح أيوب وتبعه عليه سلاطين دولة المماليك، زيادة على أنه كان يأتي بالمماليك بصورة كبيرة، أنه كان يأتي بالمماليك في مرحلة الطفولة المبكرة جداً، وكان غالب هؤلاء من بلاد غير مسلمة، وفي الغالب يكون هذا المملوك غير مسلم وغير ناطق بالعربية أساساً، فكان يحضرهم ويبتدئ تربيتهم في مصر.

وهنا نقطة مهمة جداً فالملك الصالح أيوب ومن تبعه بعد ذلك من الأمراء ما كانوا يتعاملون أبداً مع المماليك كرقيق، بل كانوا يقربونهم جداً منهم، إلى درجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم، ولم تكن الرابطة بينهم رابطة المالك والمملوك، ولا رابطة السيد والعبد، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأتباعه، وهذه الرابطة تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة، حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب الأستاذ، وليس لقب السيد.

وقد شرح المقريزي كيفية تربية المملوك الصغير، الذي يشترى وهو ما زال في مرحلة الطفولة المبكرة، ونريد أن نركز على هذا جداً؛ لأنه صار مفتاح التغيير في مصر، وبواسطته تكوّن الجيش الذي استطاع أن يقف أمام التتار بعد ذلك.

أول المراحل التربوية في حياة المملوك: هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة؛ لأنهم جاءوا من بلاد غير ناطقة باللغة العربية، ثم بعد ذلك يدفع إلى من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ بعد ذلك في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي وآداب الشريعة الإسلامية، وهذا كان عاماً على كل المماليك، ولهذه التربية المتميزة الأثر على أطفال المماليك، فقد نشئوا وهم يعظمون جداً أمر الدين الإسلامي، وأصبحت لديهم خلفية واسعة جداً عن الفقه الإسلامي، فظلت مكانة العلم والعلماء عالية جداً عند المماليك في كل مراحل حياتهم، وهذه المعلومة من أهم المعلومات عن دولة المماليك، وهو يفسر النهضة العلمية الراقية التي حدثت في عهد المماليك، فقد ظهر في عهد دولة المماليك الكثير من علماء المسلمين الأفذاذ، مثل: العز بن عبد السلام والنووي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن حجر العسقلاني وابن كثير والمقريزي وابن جماعة وابن قدامة المقدسي رحمهم الله، وأسماء لا حصر لها.

وكان إذا وصل المماليك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال، فيعلمونهم فنون الحرب والقتال، وركوب الخيل، والرمي بالسهام، والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جداً من المهارة القتالية والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب.

ثم بعد ذلك يتدربون على أمور القيادة والإدارة، ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك متفوقاً تماماً في المجال العسكري والإداري، بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة، وهذا كله ولا شك كان يثبت أقدام المماليك تماماً في أرض القتال،وهذا كله يؤكد أهمية التربية.

وكان السيد الذي اشتراهم يتابع هذه الخطوات والمراحل من التربية بدقة شديدة، بل وأحياناً كان السلطان الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيراً ما يجلس للأكل معهم، وينبسط إليهم، وهو سلطان مصر كلها.

وكان المماليك يحبون أساتذتهم حباً حقيقاً فعلاً، ويدينون لهم بالولاء التام، وهكذا إذا كان القائد يخالط شعبه ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم ولا شك يحبونه ويعظمونه ويثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعاً، وإذا طلب منهم أمراً تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه، وأما إذا كان القائد في حالة انفصام مع شعبه، ويعيش حياته المترفة بعيداً عنهم، ويتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون أبداً بأي انتماء ناحيته، بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم التي يعيشون فيها، ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضرباً من المستحيل.

ترقية المملوك على قدر نبوغه

كان المملوك إذا أظهر نبوغاً عسكرياً ودينياً يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، وبدلاً من أن يكون مملوكاً عادياً يصبح قائداً لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أعطي أكثر وأكثر، حتى يعطى ويملك بعض الإقطاعات في الدولة التي تدر عليه أرباحاً وفيرة، وقد يعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، يعني: مثل: محافظ في هذا الزمان، أو أمير فرقة في الجيش، مثل: لواء أو عميد أو عقيد.. وهكذا، وكان هذا يعطي للمماليك رغبة كبيرة جداً في العمل والإنتاج.

انتساب المماليك إلى سيدهم

كان المماليك في العادة ينتسبون إلى اسم السيد الذي اشتراهم، فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالمماليك الصالحية، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالمماليك الكاملية.. وهكذا.

وقد زاد عدد المماليك الصالحية جداً الذين اشتراهم الملك الصالح أيوب ، حتى بنى لنفسه قصراً على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تماماً، فكان يعيش معهم باستمرار، وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة الموجودة الآن في القاهرة، وكان النيل في الماضي يعرف باسم البحر، ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية بالمماليك البحرية؛ لأنهم كانوا يسكنون بجوار البحر.

وهكذا وطد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك، ووصل المماليك إلى أرقى المناصب في دولته، فقد كان معظم المحافظين وقادة الجيش من المماليك، وقد تولى قيادة الجيش في عهد الملك الصالح فارس الدين أقطاي أحد المماليك البارزين، وكان الذي وراءه مباشرة ركن الدين بيبرس .

الذي استحدثه الملك الصالح أيوب وتبعه عليه سلاطين دولة المماليك، زيادة على أنه كان يأتي بالمماليك بصورة كبيرة، أنه كان يأتي بالمماليك في مرحلة الطفولة المبكرة جداً، وكان غالب هؤلاء من بلاد غير مسلمة، وفي الغالب يكون هذا المملوك غير مسلم وغير ناطق بالعربية أساساً، فكان يحضرهم ويبتدئ تربيتهم في مصر.

وهنا نقطة مهمة جداً فالملك الصالح أيوب ومن تبعه بعد ذلك من الأمراء ما كانوا يتعاملون أبداً مع المماليك كرقيق، بل كانوا يقربونهم جداً منهم، إلى درجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم، ولم تكن الرابطة بينهم رابطة المالك والمملوك، ولا رابطة السيد والعبد، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأتباعه، وهذه الرابطة تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة، حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب الأستاذ، وليس لقب السيد.

وقد شرح المقريزي كيفية تربية المملوك الصغير، الذي يشترى وهو ما زال في مرحلة الطفولة المبكرة، ونريد أن نركز على هذا جداً؛ لأنه صار مفتاح التغيير في مصر، وبواسطته تكوّن الجيش الذي استطاع أن يقف أمام التتار بعد ذلك.

أول المراحل التربوية في حياة المملوك: هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة؛ لأنهم جاءوا من بلاد غير ناطقة باللغة العربية، ثم بعد ذلك يدفع إلى من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ بعد ذلك في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي وآداب الشريعة الإسلامية، وهذا كان عاماً على كل المماليك، ولهذه التربية المتميزة الأثر على أطفال المماليك، فقد نشئوا وهم يعظمون جداً أمر الدين الإسلامي، وأصبحت لديهم خلفية واسعة جداً عن الفقه الإسلامي، فظلت مكانة العلم والعلماء عالية جداً عند المماليك في كل مراحل حياتهم، وهذه المعلومة من أهم المعلومات عن دولة المماليك، وهو يفسر النهضة العلمية الراقية التي حدثت في عهد المماليك، فقد ظهر في عهد دولة المماليك الكثير من علماء المسلمين الأفذاذ، مثل: العز بن عبد السلام والنووي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن حجر العسقلاني وابن كثير والمقريزي وابن جماعة وابن قدامة المقدسي رحمهم الله، وأسماء لا حصر لها.

وكان إذا وصل المماليك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال، فيعلمونهم فنون الحرب والقتال، وركوب الخيل، والرمي بالسهام، والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جداً من المهارة القتالية والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب.

ثم بعد ذلك يتدربون على أمور القيادة والإدارة، ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك متفوقاً تماماً في المجال العسكري والإداري، بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة، وهذا كله ولا شك كان يثبت أقدام المماليك تماماً في أرض القتال،وهذا كله يؤكد أهمية التربية.

وكان السيد الذي اشتراهم يتابع هذه الخطوات والمراحل من التربية بدقة شديدة، بل وأحياناً كان السلطان الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيراً ما يجلس للأكل معهم، وينبسط إليهم، وهو سلطان مصر كلها.

وكان المماليك يحبون أساتذتهم حباً حقيقاً فعلاً، ويدينون لهم بالولاء التام، وهكذا إذا كان القائد يخالط شعبه ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم ولا شك يحبونه ويعظمونه ويثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعاً، وإذا طلب منهم أمراً تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه، وأما إذا كان القائد في حالة انفصام مع شعبه، ويعيش حياته المترفة بعيداً عنهم، ويتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون أبداً بأي انتماء ناحيته، بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم التي يعيشون فيها، ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضرباً من المستحيل.

كان المملوك إذا أظهر نبوغاً عسكرياً ودينياً يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، وبدلاً من أن يكون مملوكاً عادياً يصبح قائداً لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أعطي أكثر وأكثر، حتى يعطى ويملك بعض الإقطاعات في الدولة التي تدر عليه أرباحاً وفيرة، وقد يعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، يعني: مثل: محافظ في هذا الزمان، أو أمير فرقة في الجيش، مثل: لواء أو عميد أو عقيد.. وهكذا، وكان هذا يعطي للمماليك رغبة كبيرة جداً في العمل والإنتاج.

كان المماليك في العادة ينتسبون إلى اسم السيد الذي اشتراهم، فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالمماليك الصالحية، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالمماليك الكاملية.. وهكذا.

وقد زاد عدد المماليك الصالحية جداً الذين اشتراهم الملك الصالح أيوب ، حتى بنى لنفسه قصراً على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تماماً، فكان يعيش معهم باستمرار، وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة الموجودة الآن في القاهرة، وكان النيل في الماضي يعرف باسم البحر، ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية بالمماليك البحرية؛ لأنهم كانوا يسكنون بجوار البحر.

وهكذا وطد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك، ووصل المماليك إلى أرقى المناصب في دولته، فقد كان معظم المحافظين وقادة الجيش من المماليك، وقد تولى قيادة الجيش في عهد الملك الصالح فارس الدين أقطاي أحد المماليك البارزين، وكان الذي وراءه مباشرة ركن الدين بيبرس .

في سنة (647) من الهجرة مرض الملك الصالح أيوب رحمه الله مرضاً شديداً بمرض السل، وكان قد كبر سنه جداً، مما جعله طريح الفراش في القاهرة، وفي هذه الأثناء وقبلها أراد ملك فرنسا لويس التاسع أن يستغل فرصة الاجتياح التتري لشرق العالم الإسلامي، فيقوم هو باجتياح العالم الإسلامي من ناحية مصر والشام.

وذكرنا من قبل أنه حاول الاستعانة بخاقان التتار آنذاك كيوك بن أوكيتاي ، ولكن فشلت هذه المحاولة، ومع ذلك أصر لويس التاسع على المضي في حملته.

ووقع اختياره على مدينة دمياط المصرية، من أجل أن يبدأ منها الحملة التي يغزو منها مصر والشام، وكانت في ذلك الوقت أهم ميناء في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وهذه الحملة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا تعرف في التاريخ باسم الحملة الصليبية السابعة.

وهناك تفصيلات كثيرة جداً مهمة في هذه الحملة، وسنعرض لها إن شاء الله بالتفصيل عند الحديث عن الحروب الصليبية في سلسلة أخرى.

سقوط دمياط في يد الصليبيين

نزل لويس التاسع بجيشه إلى دمياط في يوم (20) صفر سنة (647) من الهجرة، وظنت الحامية التي تدافع عن مدينة دمياط أن السلطان المريض الملك الصالح أيوب قد مات، فانسحبوا انسحاباً غير مبرر، ووقعت دمياط بسهولة شديدة جداً في أيدي الصليبيين، وهي المدينة التي دوخت قبل ذلك الحملة الصليبية الخامسة.

موقعة المنصورة

لما علم الملك الصالح رحمه الله بسقوط دمياط، اشتد الحزن والمرض عليه، وبدأ يفكر بطريقة عملية، وتوقع أن النصارى الصليبيين سيتجهون إلى القاهرة عبر النيل لغزو العاصمة المصرية نفسها، وبذلك يسقطون الدولة بكاملها، لذلك قرر بحكمة أن يرتب اللقاء في الطريق بين القاهرة ودمياط، فبدأ ينظر إلى خط النيل الذي يمر من دمياط إلى القاهرة، فوجد أن مدينة المنصورة تقع على النيل، وحتماً سيصل إليها الصليبيون، فلذلك قرر أن يتجمع بجيشه في المنصورة، وحمل الملك الصالح بنفسه مع مرضه الشديد إلى المنصورة، وبدأ الجيش المصري ومعظمه من المماليك يستعد هناك لحرب الصليبيين، وعلى رأس الجيش المصري كما ذكرنا قبل ذلك فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس .

خرج النصارى من دمياط في (12) شعبان سنة (647) هجرية، متجهين جنوباً إلى القاهرة عبر النيل، كما توقع الملك الصالح أيوب ، وقبل أن يصلوا إلى مدينة المنصورة وفي ليلة النصف من شعبان سنة (647) من الهجرة توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله في المنصورة، وهو يعد الخطة مع جيوشه لتحصين المنصورة، نسأل الله عز وجل له المغفرة والرحمة وأجر الشهداء.

يقول ابن تغري بردي رحمه الله صاحب كتاب (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) عن نجم الدين أيوب رحمه الله: ولو لم يكن من محاسن السلطان الصالح نجم الدين أيوب إلا تجلده عند مقابلة العدو بالمنصورة، وهو بتلك الأمراض المزمنة، وموته على الجهاد والذب عن المسلمين لكفاه ذلك، ثم يقول: ما أصبره وأغزر مروءته!

وكانت هذه المصيبة خطيرة على المسلمين، لا لفقد الزعيم الصالح فقط، ولكن لفقدان البديل، فلم يكن يوجد خليفة للملك الصالح في ذلك الوقت، والبلاد في أزمة شديدة، فميناء دمياط محتل، وجنود الصليبيين في الطريق، وهنا تصرفت زوجة السلطان نجم الدين أيوب شجرة الدر بحكمة بالغة، -وهي جارية من أصل أرميني أو تركي، اشتراها الصالح أيوب ثم أعتقها وتزوجها، فهي في الأصل أقرب إلى المماليك، -فكتمت خبر وفاة الملك الصالح ، وقالت: إن الأطباء منعوا الزيارة له، وأرسلت رسالة سريعة جداً إلى ابن الملك الصالح أيوب توران شاه وكان يحكم مدينة تعرف بحصن كيفا، وهي الآن في تركيا، وأبلغته بخبر وفاة أبيه وأن عليه أن يأتي بسرعة لاستلام مقاليد الحكم في مصر والشام، ثم اتفقت مع كبير وزراء الملك الصالح فخر الدين يوسف على إدارة الأمور إلى أن يأتي توران شاه ويتولى أمور البلاد، ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد للمعركة الفاصلة في المنصورة، وإعداد الخطة المناسبة لحرب الصليبيين، فمشت الأمور بصورة طيبة ومرضية، ولم يحصل اضطراب بعد وفاة الملك الصالح ، فوضع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس خطة في منتهى البراعة لمقابلة الجيش الفرنسي في المنصورة، وعرضوا الخطة على شجرة الدر ، ووافقت شجرة الدر على الخطة وبدأ التنفيذ بالفعل.

وكانت شجرة الدر في ذلك الوقت تمثل الحاكم الفعلي للبلاد حتى يأتي توران شاه بن الصالح أيوب ، وفي يوم (4) ذي القعدة في سنة (647) هجرية -وهذا التاريخ من أعظم تواريخ الإسلام- دارت موقعة المنصورة العظيمة، وانتصر المسلمون فيها انتصاراً باهراً، وفيها تفصيلات في منتهى الروعة، وليس هناك مجال لذكرها الآن.

ثم حدث هجوم آخر على جيش الملك لويس التاسع خارج المنصورة في يوم (7) ذي القعدة سنة (647)، وتمكن الملك لويس التاسع من صد ذلك الهجوم بعد كفاح مرير.

معركة فار سكور وأسر لويس التاسع وسقوط جيشه وهزيمتهم

وصل توران شاه بن الصالح أيوب إلى المنصورة بعد هذا الهجوم الأخير بعشرة أيام في يوم (17) ذي القعدة سنة (647) من الهجرة، وتسلم السلطان الشاب مقاليد الحكم، وأعلن رسمياً وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب ، وولاية توران شاه لحكم مصر والشام، ثم بدأ توران شاه في التخطيط لهجوم جديد على الصليبيين، وكانت حالة الجيش الصليبي قد ساءت جداً بعد انتصار المنصورة الرهيب، وتراجع ناحية دمياط، فتبعه الجيش المسلم بسرعة، وبدأ يخطط لحرب جديدة، وبالفعل التقى الجيش المصري مرة أخرى مع الجيش الصليبي عند مدينة فارسكور بالقرب من دمياط، وكان هذا اللقاء في أوائل محرم سنة (648) من الهجرة بعد أقل من شهرين من موقعة المنصورة الكبيرة، وقاد هذه الموقعة توران شاه الملك الجديد، وكان الذي يتحكم في كل مجريات الأمور في الحرب هم فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس قادة الجيش المصري في ذلك الوقت.

وفي موقعة فارسكور أُسر الملك لويس التاسع ملك فرنسا، ووقع جيشه بالكامل ما بين قتيل وأسير، وموقعة فارسكور من أعظم مواقع الإسلام، وحمل الملك لويس التاسع مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة، وحبس في دار فخر الدين إبراهيم بن لقمان المشهور، ووضعت عليه شروط قاسية جداً ليفتدي نفسه من الأسر، وكان من ضمنها أن يفتدي نفسه بثمانمائة ألف دينار من الذهب، يدفع نصفها حالاً والباقي مستقبلاً، على أن يحتفظ توران شاه بالأسرى الصليبيين إلى أن يتم دفع بقية الفدية، بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين وتسليم دمياط للمسلمين، وهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات. فقد كانت هذه الموقعة انتصاراً باهراً بكل المقاييس، وجمع النصارى في فرنسا وفي غيرها نصف الفدية بصعوبة، وأطلقوا سراح الملك لويس التاسع إلى عكا، وكانت إمارة صليبية في ذلك الوقت، نسأل الله عز وجل أن يحررها من دنس اليهود الآن.