خطب ومحاضرات
سلسلة التتار سقوط بغداد
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه المحاضرة الخامسة من محاضرات قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت. في المحاضرة السابقة تحدثنا باستفاضة عن الإعداد المبهر لـهولاكو لغزو الخلافة العباسية وإسقاط بغداد، وتحدثنا عن إعداده لمسرح العمليات، وعن تحالفاته ومعاهداته، وعن حربه النفسية ضد المسلمين، وعن جهوده في إضعاف جيش الخلافة العباسية ذاته، وذكرنا أنه على قدر براعة هذا الإعداد فإن رد فعل المسلمين كان هزيلاً جداً، بل وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة غير معقولة من العمالة أو الخيانة.
بعد خمس سنوات كاملة من الإعداد وفي سنة (654هـ) شعر هولاكو أن الظروف أصبحت ملائمة للهجوم المباشر على الخلافة العباسية، فبدأ في عملية حشد هائلة للجنود التتار، فجمع أكبر جيوش التتار على الإطلاق منذ قامت دولة جنكيز جان، وكان الذين كلفهم بحصار بغداد فقط أكثر من مائتي ألف جندي، هذا بخلاف الأعداد الهائلة من الجنود المنتشرة في شمال العراق وشرقه وجنوبه، وغير القوات المكلفة بحماية الطرق وتأمين عمليات الإمداد والتموين، وغير الفرق المساعدة للجيوش، سواء فرق الإمداد والتموين، أو فرق الاستطلاع والمراقبة.
ونتبين تركيبة الجيش التتري في عشر نقاط:
النقطة الأولى: الجيش التتري الأصلي كان متمركزاً منذ سنوات طويلة في منطقة فارس وأذربيجان في شرق العراق.
النقطة الثانية: استدعى هولاكو فرقة كبيرة من جيش التتار الذي فتح روسيا، والتي كانت متمركزة في حوض نهر الفولجا الروسي، وكان على رأس هذا الجيش ثلاثة من أبناء أخي باتو ، القائد الشهير الذي فتح أجزاء من أوروبا.
النقطة الثالثة: أرسل هولاكو أيضاً في طلب فرقة من جيش التتار الذي فتح أوروبا، والذي كان متمركزاً في ذلك الوقت على أطراف الأناضول في شمال تركيا، فجاءت الفرقة الكبيرة وعلى رأسها القائد المغولي الكبير جداً بيجو الذي تكلمنا عنه من قبل.
النقطة الرابعة: أرسل هولاكو إلى صديقه ملك أرمينيا يطلب المساعدة، فجاءه هيثوم ملك أرمينيا بنفسه على رأس فرقة من الجيش الأرميني.
النقطة الخامسة: طلب هولاكو أيضاً من ملك الكرج أن يرسل فرقة للمساعدة في حصار العراق فاستجاب فوراً.
النقطة السادسة: استدعى هولاكو ألفاً من الرماة الصينيين المهرة، الذين اشتهروا بتسديد السهام المحملة بالنيران.
النقطة السابعة: وضع هولاكو على رأس الجيوش أفضل قواد التتار في ذلك الوقت واسمه كتبغانوين ، وفوق إمكانيات هذا القائد القيادية والمهارية، فإنه كان نصرانياً، وكان هذا اختياراً مناسباً من هولاكو ؛ لأن كتبغانوين النصراني سيستطيع التعامل مع الأعداد الكبيرة النصرانية المشاركة في الجيش من أرمينيا والكرج وأنطاكيا.
وقد ضم الجيش التتري بين صفوفه ثلاثة من أمهر القادة العسكريين في تاريخ التتار قاطبة، وهم هولاكو وكتبغانوين وبيجو .
النقطة الثامنة: راسل هولاكو أمير أنطاكيا بوهمند ، فتعذر عليه أن يخترق الشام كله، إلا أنه كان على استعداد تام للحرب، ومجهزاً كل جيوشه، وعلى استعداد -حال سقوط العراق- للمشاركة في إسقاط الشام.
النقطة التاسعة: كان هناك فرقة إسلامية في داخل الجيش التتري، على رأسها ولي عهد دمشق العزيز بن الناصر يوسف الأيوبي حفيد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، تشارك في جيش التتار لإسقاط العراق.
النقطة العاشرة: كانت هناك فرقة إسلامية أخرى أرسلها بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل؛ لتساعد أيضاً جيش التتار في إسقاط العراق. وهاتان الفرقتان الأخيرتان كانتا هزيلتين، وليس لهما أي قيمة، ولكنهما كانتا تحملان معان كثيرة، فهناك مسلمون في جيش التتار يشتركون مع التتار في حرب المسلمين، بل اشترك في عملية إخلاء العراق من الخلافة العباسية عراقيون متحالفون مع التتار، باعوا كل شيء في مقابل شيء حقير أو إمارة تافهة أو دراهم معدودة، أو مجرد حياة أي حياة.
بهذا الإعداد العالي المستوى للتتار اكتمل جيش التتار، وبدأ في الزحف من فارس في اتجاه الغرب إلى العراق، وبدأ هولاكو يضع خطة المعركة، وبدراسة مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في غرب فارس وشرق العراق، يعني: بين الجيش التتري وبين الخلافة العباسية، سوف تمثل خطورة كبيرة على الجيش التتري، فهي مشهورة بقوة القتال والحصون المنيعة، وهي طائفة لا عهد لها ولا أمان، ومع أن التتار يعلمون أن الإسماعيلية على خلاف شديد مع الخلافة العباسية، وأنها من المنافقين الذين يتزلفون إلى الأقوياء، إلا أن التتار لم يطمئنوا لهم أبداً، فآثروا ألا يتركوا شيئاً للمفاجآت، وقرروا عدم دخول بغداد إلا بعد استئصال شأفة الإسماعيلية تماماً، ومع أن هذا سيأخذ منهم وقتاً إلا أنه لابد أن يعمل لكل شيء حسابه.
فتحركت الجيوش الهائلة صوب معاقل الإسماعيلية وحاصرتها حصاراً محكماً، ودارت حروب شرسة بين التتار والإسماعيلية انتهت بسحق كامل للإسماعيلية وخلو المنطقة تماماً منهم، وأصبح الطريق مفتوحاً إلى بغداد. وقد استغرقت هذه الحروب سنة (655) للهجرة بكاملها.
وهذا الإسهاب النسبي في شرح إعداد هولاكو للحرب مع الخلافة لم نقصد منه إظهار الانبهار بـهولاكو أو الاحتقار للمسلمين، وإنما هو محاولة للبحث عن مبرر واضح للنتائج الرهيبة التي حدثت عند سقوط بغداد، فالناظر للأحداث دون تعمق، أو الدارس للأمر بسطحية قد يتساءل: لماذا يسمح الله عز وجل للتتار وهم أخس أهل الأرض بسفك دماء المسلمين، واستباحة الحرمات بهذه الصورة، مع أن المسلمين مهما وقع منهم من قصور إلا أنهم موحدون، ومقيمون للصلاة، وقارئون لكتاب الله عز وجل؟ أقول: أحببت أن أتابع معكم هذا الإعداد الطويل المرتب، الذي لم يقابل بأقل درجات الاهتمام من جانب المسلمين، لتحدث بذلك المأساة الكبرى والبلية العظمى، والذي يعتمد فقط على كونه من الموحدين المسلمين، ولا يعد العدة للقتال، ولا يأخذ بالأسباب، فهو واهم في إمكانية تحقيق النصر.
وكثيراً ما رأينا في التاريخ وفي الواقع اليهود أو النصارى أو البوذيين أو الهندوس أو الشيوعيين الملاحدة ينتصرون على المسلمين، بل ويكثرون من إهانتهم، عندما يأخذ هؤلاء الأقوام بالأسباب المادية ويتركها المسلمون، وسنة الله عز وجل لا تبديل لها ولا تغيير.
ثم اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يعد من أهم مجالس الحرب في تاريخ التتار، فالقرار فيه هو غزو العاصمة بغداد وإسقاط الخلافة الإسلامية، وعقد مجلس الحرب هذا في مدينة همذان الفارسية، وأخذ القرار فعلاً بالحرب، واهتم هولاكو بوضع مراقبة لصيقة على الفرق الإسلامية، فقد كان خائفاً من الخيانة، ولكن هذا الخوف لم يكن حقيقياً، فالأمراء المسلمون الذين انضموا إلى هولاكو لم يكن في نيتهم أبداً الغدر بـهولاكو ، وإنما كانت نيتهم وعزمهم أن يغدروا ببغداد، ثم انطلقت الجيوش من همذان في اتجاه العراق، وبينهما (450) كيلو متر.
قسم هولاكو جيشه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: القلب، وهو القسم الرئيسي من الجيش، وقاده هولاكو بنفسه، ثم لحقت به أكثر من فرقة من الفرق الهامة في الجيش التتري، فلحقت به الفرقة التي أتت من روسيا، والفرق المساعدة من مملكتي أرمينيا والكرج، واخترق الجبال الواقعة في غرب فارس صوب بغداد، ومر بمدينة كرمان شاه، بعد أن نقيت هذه المنطقة تماماً من الإسماعيلية، ليحاصر بغداد من الجهة الشرقية.
القسم الثاني: الجناح الأيسر لجيش التتار، وقاده كتبغانوين أفضل قواد هولاكو ، وقد تحرك هذا الجيش بمفرده في اتجاه بغداد إلى الجنوب من الجيش الأول. وتم فصل الجيشين حتى لا تستطيع المخابرات الإسلامية -إن كان هناك مخابرات- أن تقدر العدد الصحيح للجيش التتري، بالإضافة إلى أن الطرق لا تستوعب هذه الأعداد الهائلة من الجنود، فضلاً أنه كان على جيش كتبغانوين اختراق سهول العراق والتوجه لحصار بغداد من جنوبها.
ومع أن المسافة من همذان إلى بغداد (450) كيلو متر إلا أن هولاكو كان يتميز بالحذر، الذي استطاع معه أن يخفي هذا الجيش بكامله عن عيون العباسيين، ولم يكتشف العباسيون جيش التتار إلا وهو على بعد أقل من (50) كيلو متر من بغداد.
القسم الثالث: الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول شمال تركيا الآن، وهو الذي فتح أوروبا، وكان على رأسه الزعيم التتري الكبير بيجو ، وقد جاء هذا الجيش من المناطق الشمالية في اتجاه الجنوب، حتى وصل إلى بغداد؛ ليحاصرها من الشمال، ثم التف أيضاً ليحاصرها من الغرب، وبذلك حوصرت بغداد بين هولاكو شرقاً وكتبغانوين من الجنوب وبيجو من الغرب والشمال.
وعلى قدر هذا الأداء المبهر لهذا الجيش الثالث، الذي اخترق كل هذه المسافات، ليصل في وقت متزامن مع هولاكو وكتبغا، كانت على قدر الفضيحة الكبرى التي لحقت بالمسلمين، نتيجة وصول هذا الجيش الثالث بسلامة إلى بغداد، وهذه الفضيحة كانت مركبة؛ لأن هذا الجيش الثالث كان عليه لكي يصل إلى بغداد أن يخترق مسافة (500) كيلو متر داخل الأراضي التركية، وهي أراض إسلامية، ثم (500) كيلو متر أخرى داخل الأراضي العراقية، وهي أيضاً أراضٍ إسلامية، فقد كان يجب عليه أن يسير مسافة (1000) كيلو متر في أعماق العالم الإسلامي حتى يصل إلى بغداد، ومع ذلك فقد قطع بيجو بجيشه (95%) من الطريق، يعني: حوالي (950) كيلو متر، دون أن تدري الخلافة العباسية عنه شيئاً مطلقاً، وباغتها على بعد (50) كيلو متر في شمال غرب بغداد، كما فعل هولاكو.
واختراق بيجو للأراضي الإسلامية ساعد عليه مصيبتان عظيمتان: المصيبة الأولى: غياب المخابرات الإسلامية عن الساحة تماماً، وقد كان الجيش العباسي لا علم له ولا دراية بإدارة الحروب وفنونها.
المصيبة الثانية وهي الأعظم: فقد كان هناك خيانة واضحة من أمراء الأناضول والموصل المسلمين وشعوبهم، وقد فتحت هذه الخيانة الأبواب لجيش التتار، ولم يحدث أي نوع من المقاومة بالمرة، فقد ارتكب أمير الأناضول كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع الخيانة العظمى، وارتكب بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل خيانة أعظم منهما، فهو لم يكتف بتسهيل مهمة التتار وفتح القنوات، وإقامة الجسور فوق نهر دجلة لتسهيل مرور التتار إلى بغداد، ولكنه أيضاً شارك بفرقة إسلامية تعين التتار على عملية إخلاء العراق من حكم الخلافة العباسية، مع العلم أن بدر الدين لؤلؤ عراقي أيضاً، وقد كان يبلغ من العمر (80) سنة على أقل تقدير، وبعض الروايات تقول: (100) سنة، ومن الجدير بالذكر أيضاً أن بدر الدين لؤلؤ هذا مات بعد هذه الخيانة وبعد سقوط بغداد بشهور قليلة على هذه الخيانة، ونسأل الله عز وجل حسن الخاتمة.
كانت بغداد في ذلك الوقت من أشد مدن الأرض حصانة، وكانت أسوارها من أقوى الأسوار، فهي عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، فقد أنفق على تحصينها أموال طائلة وجهود هائلة، وكانت هذه الجهود جهود سنين وقرون، ولكن وا أسفاه على المدينة الحصينة، فالحصون تحتاج إلى رجال يحمونها، ويبدو أن الرجال قد ندروا في ذلك الزمان.
حال الخليفة المستعصم
ثم يقول كلمة غريبة جداً يقول: وكان سنياً على مذهب السلف. ولا أعرف ماذا يقصد بكلمة (على مذهب السلف)، أفلم يكن في مذهب السلف جهاد وإعداد للقتال، ودراسة لأحوال الأرض وموازين القوى العالمية، وحمية ونخوة لدماء المسلمين التي سالت على مقربة من العراق في فارس وأذربيجان وأفغانستان وباكستان.. وغيرها؟! ألم يكن في مذهب السلف وحدة وألفة وترابط؟ فالخليفة المستعصم كان جيداً في ذاته، ولكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم، فقد افتقر إلى القدرة على إدارة الأمور والأزمات، وإلى كفاءة القيادة، وإلى علو الهمة والأمل في سيادة الأرض والنصر على الأعداء، ونشر دين الله عز وجل في الأرض، وإلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في الوقت المناسب، فلم يكن عنده القدرة على تجميع الصفوف وتوحيد القلوب، ونبذ الفرقة، ورفع راية الوحدة الإسلامية الواحدة، ولم يكن قادراً حتى على اختيار أعوانه، ففشت في بلاده بطانة السوء، فالوزراء يسرقون، وأفراد الشرطة يظلمون، وقواد الجيش يتخاذلون، والفساد عم وطغى في كل مكان، وكثرت الاختلاسات من أموال الدولة، وعمت الرشاوى، وطغت الوساطة، وانتشرت أماكن اللهو والفساد والإباحية والمجون في كل مكان، بل وأعلن عنها صراحة، ودعي إليها على رءوس الأشهاد، والراقصات والخليعات كن يعلن عن أنفسهن صراحة في هذا البلد المسلم، والخليفة كان يصلي ويصوم ويزكي، وكان لسانه نظيفاً ومحباً للفقراء والعلماء، وكل ذلك جميل في مسئوليته أمام نفسه، ولكن أين مسئوليته أمام مجتمعه وأمته؟ فقد ضعف تماماً عن حمل مسئولية الشعب.
وكان باستطاعة الخليفة أن يجهز من داخل العراق في ذلك الوقت مائة وعشرين ألف فارس، فضلاً عن المشاة والمتطوعين، فالجيش التتري الذي حاصر بغداد كان مائتي ألف، فكان هناك أملاً كبيراً جداً في رد الغزاة، ولكن الخليفة كان مهزوماً من داخله، وفاقداً للروح التي تمكنه من المقاومة، كما أنه لم يربِ شعبه أبداً على الجهاد، ولم يعلمهم فنون القتال، فلم يوجد معسكرات للتدريب تعد شباب الأمة ليوم كيوم التتار، ولم يهتم بالسباحة والرماية وركوب الخيل، ولم يجهز الأمة معنوياً لتعيش حياة الجد والنضال.
وأنا لست متحاملاً على الخليفة أبداً، فقد حكم البلاد (16) سنة، وأعطي الفرصة الكاملة لإدارة البلاد، فكان عليه أن يعد العدة، ويقوي من شأن البلاد، ويرفع من هيبتها، ويعلي من شأنها، ويجهز جيشها، ويعزز رأيها إن كان كفؤاً، وإن لم يكن كفؤاً وكان صادقاً فعليه أن يتنحى عن الحكم ويترك الأمر لمن يستطيع، فهذه ليست مسئولية أسرة أو قبيلة، وإنما مسئولية أمة عظيمة كبيرة جليلة، أمة هي خير أمة أخرجت للناس، ولكن الخليفة لم يعمل هذا ولا ذاك، فلا قام بالإعداد ولا بالتنحي، فكان لا بد أن يدفع الثمن، ولا بد لشعبه الذي رضي به أن يدفع الثمن معه.
والبلاد لم يكن ينقصها المال اللازم لشراء السلاح أو تصنيعه، فقد كانت خزائن الدولة ملأى بالأموال والسلاح، ولكنه إما سلاح قديم بال عفا عليه الزمن، وأكل عليه الدهر وشرب، أو سلاح جديد عظيم جداً، ولكنه ما تدرب عليه أحد.
فهذا هو جيش الخلافة العباسية الذي سيواجه التتار.
حال الحكومة في بغداد
وكانت هذه الوزارة سيفاً مسلطاً على رقاب وأموال المسلمين، ولم تكن علاقتها بالمسلمين الذين يحكمونهم علاقة الأخ بأخيه، وإنما كانت علاقة سيد بعبد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حال الشعب في بغداد
ثم أين العلماء؟ وأين الرجال؟ وأين الشباب؟ وأين المجاهدون؟ وأين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟ وأين الحركات الإصلاحية في هذا المجتمع الفاسد؟ وأين الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة ولأصول الدين؟ أفليس في بغداد رجل رشيد؟ كان هذا هو الوضع في بغداد، وأما خارج بغداد، فكما تعلمون أن جيوش التتار كانت تتحرق شوقاً لتعذيب المسلمين، والمسلمون في استكانة ينتظرون التعذيب.
كان رأس الدولة في الخلافة العباسية الخليفة السابع والثلاثين والأخير من خلفاء بني العباس في بغداد المستعصم بالله واسمه كبير جداً المستعصم بالله ، ووظيفته كبيرة جداً خليفة المسلمين، ولكن أين مقومات الخلافة في المستعصم بالله ؟ وعندما تقرأ عن سيرة المستعصم بالله الذاتية في كتب السير مثل تاريخ الخلفاء للسيوطي أو البداية والنهاية لـابن كثير.. أو غيرهما من الكتب تجد أمراً عجباً، فتجدهم يصفونه بأنه كان رجلاً فاضلاً في حياته الشخصية وفي معاملاته مع الناس، بخلاف ما ذكرنا عن محمد بن خوارزم من أنه قطع العلاقات بينه وبين من حوله، لكن تعالوا نرى ما هي مشكلة المستعصم بالله ، يقول ابن كثير واصفاً المستعصم بالله: إنه إنسان فاضل في نفسه، كان حسن الصورة، جيد السريرة، صحيح العقيدة، مقتدياً بأبيه المستنصر بالله في العدل وكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد.
ثم يقول كلمة غريبة جداً يقول: وكان سنياً على مذهب السلف. ولا أعرف ماذا يقصد بكلمة (على مذهب السلف)، أفلم يكن في مذهب السلف جهاد وإعداد للقتال، ودراسة لأحوال الأرض وموازين القوى العالمية، وحمية ونخوة لدماء المسلمين التي سالت على مقربة من العراق في فارس وأذربيجان وأفغانستان وباكستان.. وغيرها؟! ألم يكن في مذهب السلف وحدة وألفة وترابط؟ فالخليفة المستعصم كان جيداً في ذاته، ولكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم، فقد افتقر إلى القدرة على إدارة الأمور والأزمات، وإلى كفاءة القيادة، وإلى علو الهمة والأمل في سيادة الأرض والنصر على الأعداء، ونشر دين الله عز وجل في الأرض، وإلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في الوقت المناسب، فلم يكن عنده القدرة على تجميع الصفوف وتوحيد القلوب، ونبذ الفرقة، ورفع راية الوحدة الإسلامية الواحدة، ولم يكن قادراً حتى على اختيار أعوانه، ففشت في بلاده بطانة السوء، فالوزراء يسرقون، وأفراد الشرطة يظلمون، وقواد الجيش يتخاذلون، والفساد عم وطغى في كل مكان، وكثرت الاختلاسات من أموال الدولة، وعمت الرشاوى، وطغت الوساطة، وانتشرت أماكن اللهو والفساد والإباحية والمجون في كل مكان، بل وأعلن عنها صراحة، ودعي إليها على رءوس الأشهاد، والراقصات والخليعات كن يعلن عن أنفسهن صراحة في هذا البلد المسلم، والخليفة كان يصلي ويصوم ويزكي، وكان لسانه نظيفاً ومحباً للفقراء والعلماء، وكل ذلك جميل في مسئوليته أمام نفسه، ولكن أين مسئوليته أمام مجتمعه وأمته؟ فقد ضعف تماماً عن حمل مسئولية الشعب.
وكان باستطاعة الخليفة أن يجهز من داخل العراق في ذلك الوقت مائة وعشرين ألف فارس، فضلاً عن المشاة والمتطوعين، فالجيش التتري الذي حاصر بغداد كان مائتي ألف، فكان هناك أملاً كبيراً جداً في رد الغزاة، ولكن الخليفة كان مهزوماً من داخله، وفاقداً للروح التي تمكنه من المقاومة، كما أنه لم يربِ شعبه أبداً على الجهاد، ولم يعلمهم فنون القتال، فلم يوجد معسكرات للتدريب تعد شباب الأمة ليوم كيوم التتار، ولم يهتم بالسباحة والرماية وركوب الخيل، ولم يجهز الأمة معنوياً لتعيش حياة الجد والنضال.
وأنا لست متحاملاً على الخليفة أبداً، فقد حكم البلاد (16) سنة، وأعطي الفرصة الكاملة لإدارة البلاد، فكان عليه أن يعد العدة، ويقوي من شأن البلاد، ويرفع من هيبتها، ويعلي من شأنها، ويجهز جيشها، ويعزز رأيها إن كان كفؤاً، وإن لم يكن كفؤاً وكان صادقاً فعليه أن يتنحى عن الحكم ويترك الأمر لمن يستطيع، فهذه ليست مسئولية أسرة أو قبيلة، وإنما مسئولية أمة عظيمة كبيرة جليلة، أمة هي خير أمة أخرجت للناس، ولكن الخليفة لم يعمل هذا ولا ذاك، فلا قام بالإعداد ولا بالتنحي، فكان لا بد أن يدفع الثمن، ولا بد لشعبه الذي رضي به أن يدفع الثمن معه.
والبلاد لم يكن ينقصها المال اللازم لشراء السلاح أو تصنيعه، فقد كانت خزائن الدولة ملأى بالأموال والسلاح، ولكنه إما سلاح قديم بال عفا عليه الزمن، وأكل عليه الدهر وشرب، أو سلاح جديد عظيم جداً، ولكنه ما تدرب عليه أحد.
فهذا هو جيش الخلافة العباسية الذي سيواجه التتار.
أما الحكومة التي هي بطانة الحاكم فقد كانت مثله وهو مثلها، فالحكومة كانت مثل الجيش هزيلة وضعيفة ومريضة، وكانت مكونة من أشباح، فالوزراء ليس همهم إلا جمع المال والثروات وتوسيع نطاق السلطة، واستعباد رقاب العباد، والتنافس غير الشريف بين بعضهم البعض، والتصارع المرير من أجل دار أو منصب أو حتى جارية، وكان على رأس هذه الوزارة الساقطة رئيس وزراء خائن، باع البلاد والعباد، ووالى أعداء الأمة وعادى أبناءها.
وكانت هذه الوزارة سيفاً مسلطاً على رقاب وأموال المسلمين، ولم تكن علاقتها بالمسلمين الذين يحكمونهم علاقة الأخ بأخيه، وإنما كانت علاقة سيد بعبد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما الشعب في بغداد فلم يكن مظلوماً بهذا الخليفة الضعيف الهزيل، فالحكام إفراز طبيعي جداً للشعوب، وكما تكونوا يولى عليكم، فالشعب في بغداد آنذاك كان شعباً كبيراً ضخماً، عدده ثلاثة ملايين نسمة على الأقل، فقد كانت بغداد أكبر مدينة على وجه الأرض، وسكانها كانوا أكبر عدد من السكان في مدينة واحدة، وهذا غير السكان الذين في المدن والقرى المحيطة ببغداد، فلم تكن تنقصهم الطاقة البشرية أبداً ولا الأموال، فقد كانوا شعباً مترفاً حقاً، ألفوا حياة الدعة والهدوء والراحة، والملتزم فيهم قد اكتفى بتحصيل العلم النظري، وحضور الصلوات في المساجد، وقراءة القرآن، وقد نسي الفريضة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام، فريضة الجهاد، وأما غير الملتزمين بالدين فقد كانوا كثيرين جداً، عاشوا لشهواتهم وملذاتهم، وتنافسوا في ألوان الطعام والثياب، وفي أعداد الجواري والغلمان، وأنواع الديار والحدائق والبساتين والدواب، ومنهم من التهى بسماع الأغاني والألحان عن سماع القرآن والحديث، ومنهم من شرب الخمر، ومنهم من سرق المال، ومنهم من ظلم العباد، وفوق ذلك فقد ظلوا قرابة أربعين سنة يسمعون عن المذابح البشعة، التي لحقت بإخوانهم المسلمين في أفغانستان، وأوزباكستان، وتركمانستان،وفارس، وأذربيجان، والشيشان.. وغيرها ولم يتحركوا، وسمعوا عن سبي النساء المسلمات، وخطف أطفال المسلمين، واغتصاب بناتهم، ولم يتحركوا، وسمعوا عن سرقة الأموال، وتدمير الديار، وحرق المساجد، ولم يتحركوا، بل سمعوا أن خليفتهم الناصر لدين الله جد المستعصم بالله كان يساعد التتار ضد المسلمين الخوارزمية، ولم يتحركوا، فلابد أن يكون الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، وسيأتي يوم يفعل فيه بهذا الشعب كما فعل في الشعوب المسلمة الأخرى، ولن يتحرك لهم أحد من المسلمين، بل سيساعدون التتار عليهم، كما أنهم ساعدوا التتار قبل ذلك على إخوانهم الخوارزمية، فقد ساعد أهل سوريا وتركيا في ذلك الوقت التتار على فتح العراق للتتار، وهكذا تدور الدوائر، ولا يقولن قائل: إن الشعب مغلوب على أمره، فالشعوب التي تقبل بكل هذا الانحراف عن نهج الشريعة لا تستحق الحياة، والشعوب التي لا تثور إلا من أجل لقمة عيشها ليس لها أن ترفع رأسها أبداً.
ثم أين العلماء؟ وأين الرجال؟ وأين الشباب؟ وأين المجاهدون؟ وأين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟ وأين الحركات الإصلاحية في هذا المجتمع الفاسد؟ وأين الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة ولأصول الدين؟ أفليس في بغداد رجل رشيد؟ كان هذا هو الوضع في بغداد، وأما خارج بغداد، فكما تعلمون أن جيوش التتار كانت تتحرق شوقاً لتعذيب المسلمين، والمسلمون في استكانة ينتظرون التعذيب.
في يوم (12) محرم سنة (656هـ) ظهر جيش هولاكو فجأة أمام الأسوار الشرقية للمدينة العظيمة بغداد، وبدأ ينصب معدات الحصار الثقيلة جداً حول المدينة، وجاء كذلك كتبغا بالجناح الأيسر من الجيش ليحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية.
ارتاع خليفة المسلمين، وعمل اجتماعاً عاجلاً طارئاً جمع فيه كبار المستشارين، وكان على رأسهم الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي، فكان رأي مؤيد الدين العلقمي مهادنة التتار وإقامة مباحثات سلام، ولا مانع عنده من كثير من التنازلات، وكان يقول: ليس هناك أمل، والحل الوحيد هو السلام غير المشروط، ولكن الخير لا يعدم في هذه الأمة، فقام رجلان من الوزراء، وهما مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه يشيران على الخليفة بحتمية الجهاد، وهذه الكلمة كانت جديدة تماماً على هذا الجيل من الدولة العباسية، وجاءت الإشارة إليها متأخرة جداً، فقد انتهى زمن الإعداد ووقت الاختبار، ولكن لعله يحرك جيشاً، وكان الخليفة محتاراً، فهواه مع كلام مؤيد الدين العلقمي ، فهو ليس قادراً على الحرب، وعقله مع كلام مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه ؛ لأن تاريخ التتار كله لا يبشر بأي فرصة للسلام، كما أنه كان يسمع من أجداد أجداده أن الحقوق لا توهب إنما تؤخذ، فكان الخليفة محتاراً متردداً هيناً ليناً ضعيفاً، والجهاد لا ينفع أبداً مع هذه الصفات، فالجهاد ليس قراراً عشوائياً، ولا يوجد مجاهد بالصدفة أبداً، فالجهاد إعداد وتربية وتضحية مع الإيمان، فهو ارتقاء إلى الأعلى، حتى الوصول إلى ذروة سنام الإسلام، فهو ليس على سبيل التجربة نجرب لنجاهد، ما ينفع هذا الكلام.
فسمح الخليفة للمرة الأولى تقريباً في حياته باستخدام الجيش، فكانت هذه هي المرة الأولى التي يحارب فيها هذا الجيل من الجنود، وأول مرة ينتقل إلى الأعمال العسكرية، فقد انتقل من الأعمال المدنية في الزراعة والصناعة وزراعة الخيار والطماطم إلى الأعمال العسكرية، فخرجت فرقة هزيلة من الجيش العباسي على رأسها مجاهد الدين أيبك لتلاقي جيش هولاكو المهول، فخرجوا من أسوار بغداد في اتجاه الشرق لمقابلة جيش هولاكو ، ثم سمعوا بقدوم جيش بيجو من الشمال، وحتى لا تحاصر بغداد أيضاً من الشمال والغرب فتصبح مطوقة تماماً، عدل مجاهد الدين أيبك إلى محاربة جيش بيجو بدلاً من محاربة جيش هولاكو ؛ لكي لا تحاصر بغداد من كل الجهات، فانتقل بجيشه الضعيف الهزيل لملاقاة جيش بيجو في الشمال، والتقى معه في منطقة الأنبار، التي شهدت انتصاراً خالداً قبل أكثر من (600) سنة على يد البطل الخالد خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وأما في هذه المرة للأسف لم يوجد خالد ولا جيشه، فاستدرج الجيش المسلم في أرض الأنبار وسحق فيها، واستطاع مجاهد الدين أيبك بأعجوبة أن يهرب بفرقة ضعيفة جداً من الجيش الضعيف أصلاً ويعود إلى داخل بغداد، وهلك الجيش العباسي أو معظمه.
وكانت هذه الموقعة الأليمة غير المتكافئة في (19) محرم، يعني: بعد أسبوع من ظهور هولاكو أمام الأسوار الشرقية لبغداد.
لم يضيع بيجو الوقت، فانتقل بجيشه من الأنبار مباشرةً إلى شمال بغداد وحاصرها، فطوقت بغداد بين هولاكو وبيجو وكتبغا . فاستغل مؤيد الدين العلقمي الفرصة وقال للخليفة: لابد أن نجلس مع التتار على طاولة المفاوضات، وكان الخليفة عارفاً أنه إذا جلس قوي شديد القوة مع ضعيف شديد الضعف، فإن هذا لا يعني أبداً مفاوضات، وإنما يعني استسلاماً، وفي الاستسلام عادة ما يقبل المهزوم بشروط المنتصر دون تعديل أو اعتراض، ومع ذلك وافق الخليفة المسكين على الاستسلام، أي: على المفاوضات، فبعث وفداً رسمياً للمفاوضات مكوناً من مؤيد الدين العلقمي الشيعي الذي يكن في قلبه كل الحقد والغل والغيظ على الخلافة العباسية، وأرسل معه البطريرك النصراني ماكيكا ، فكان الوفد الرسمي الممثل للخلافة الإسلامية العباسية العريقة في المفاوضات مع التتار لا يضم إلا رجلين فقط: أحدهما: شيعي، والآخر: نصراني.
فدارت المفاوضات السرية جداً بين هولاكو وبين ممثلي الخلافة العباسية الإسلامية، وأعطيت الوعود الفخمة من هولاكو لكليهما إن ساعداه على إسقاط بغداد، وكان أهم هذه الوعود أن يكونا عضوين في مجلس الحكم الجديد الذي سيحكم العراق بعد احتلالها من التتار، فعاد المبعوثان الساميان من عند هولاكو إلى الخليفة بالشروط التترية، وهذه العروض والوعود كانت:
أولاً: إنهاء حالة الحرب بين الدولتين، وإقامة علاقة سلام دائم.
ثانياً: زواج ابنة هولاكو الزعيم التتري، الذي سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين بابن الخليفة المسلم المستعصم بالله ، وكان هذا شيئاً كبيراً على المستعصم بالله .
ثالثاً: بقاء المستعصم بالله على كرسي الحكم، وكان هذا شيئاً مهماً جداً بالنسبة له.
رابعاً: إعطاء الأمان لأهل بغداد جميعاً لو فتحت أسوارها.
وأما الشروط فأولها وأهمها: قمع حركة الجهاد التي أعلنت في بغداد؛ لأن الدعوة إلى الجهاد ستنسف كل مباحثات السلام، وعلى خليفة المسلمين أن يسلم إلى هولاكو رءوس الحركة الإسلامية ببغداد مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه .
ثانياً: تدمير الحصون العراقية، وردم الخنادق، وتسليم الأسلحة.
ثالثاً: الموافقة على أن يكون حكم بغداد تحت رعاية أو مراقبة تترية.
وختم هولاكو المباحثات مع المبعوثين الساميين بأنه جاء إلى هذه البلاد لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان، وبمجرد أن تستقر الأمور وفق الرؤية التترية، فإنه سيعود إلى بلاده، ويترك العراقيين يضعون دستورهم، ويديرون شئون بلادهم بأنفسهم.
فقال: مؤيد الدين العلقمي الشيعي للخليفة: إن هذه المفاوضات مرضية جداً، وشروطها بسيطة سهلة، والتتار عندهم وعود وعهود، وهولاكو رجل طيب، فكان الخليفة مضطراً إلى الموافقة مع شك كبير جداً، فالشروط في قلبه قاسية جداً، فهو متردد وليس قادراً على الموافقة عليها، مع أن الموقف خطير، والوزراء يحاولون إقناعه بأنه لا أمل له في الحياة إلا إذا أطاع هولاكو ، فهو يرى أنه سيعيش ذليلاً وضيعاً، وسيبيع كل شيء بثمن بخس، فهو متردد، والشعب الضخم الذي كان يعيش في بغداد كان أيضاً متردداً، ونداء الجهاد لم يعد ينبعث إلا من بعض الأفواه القليلة جداً، فعامة الناس انخلعت قلوبهم لحصار التتار، فقد عظمت الدنيا جداً في عيون أهل بغداد في ذلك الزمن، واستحال عليهم أن يضحوا بالدنيا، فقد كثر الخبث فعلاً في بغداد، وإذا كثر الخبث فالهلكة قريبة جداً.
كان الخليفة يريد القليل من الوقت ليفكر، وهولاكو ليس عنده وقت.
كان هولاكو محاصراً لبغداد بجيوش تترية ضخمة تكلفه آلاف الدنانير كل يوم، وكان هذا الحصار في شهر محرم سنة (656) هجرية الموافق لشهر يناير سنة (1258) ميلادية في جو شديد البرودة، وفوق كل هذه الصعوبات كان هولاكو ينظر إلى بغداد ويرى الحلم الجميل الذي راود أجداده من قبل، حلم اجتياح بغداد وإسقاط الخلافة العباسية الإسلامية، فهو لن ينتظر وقتاً طويلاً، فبدأ يقصف بغداد بالقذائف الحجرية والنارية، ومع أول قذيفة سقط قلب الخليفة في قدمه، واستمر القصف على بغداد أربعة أيام متتالية.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية موقفاً بسيطاً ولم يعلق على الموقف، ولكنه حمل معاني كثيرة، يقول ابن كثير : وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل مكان، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى عرفة ، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة.
فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرة الستائر على دار الخلافة.
هذا الحدث ذكره ابن كثير ولم يعلق عليه، وهو وإن كان في ظاهره أمر بسيطاً عابراً، إلا أنه يحمل معاني هائلة عندي، فقد تمكنت الدنيا تماماً من قلوب الناس في بغداد، وأولهم الخليفة، فالخليفة الموكل إليه حماية هذه الأمة في هذا الموقف الخطير يسهر هذه السهرة اللاهية.
وقد تكون الجارية ملك يمينه حلالاً له، ولكن أتحاصر عاصمة الخلافة الإسلامية، والموت على بعد خطوات منها، والمدفعية المغولية تقصف بمنتهى العنف، والسهام النارية تحرق، والناس في ضنك شديد، والخليفة يستمتع برقص الجواري! أين العقل والحكمة؟ فقد أصبح رقص الجواري في الدماء، وصار كالطعام والشراب لابد منه حتى في وقت الحروب، ولا أدري والله كيف كانت نفسه تقبل أن تنشغل بمثل هذه الأمور، والبلاد والشعب وهو شخصياً في مثل هذه الضائقة، وما أبلغ العبارة التي كتبها التتار على السهم الذي أطلق على دار الخلافة، فقد اختيرت بعناية، فقد كتب عليه: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم. يعني: أن الله عز وجل قضى على بغداد بالهلكة في ذلك الوقت، وأذهب عقل الخليفة وعقل أعوانه وشعبه.
ولاشك أن هذه العبارات المنتقاة كانت نوعاً من الحرب النفسية المدروسة، التي يمارسها التتار بمنتهى المهارة على أهل بغداد، ويكفي دليلاً على قلة عقل الخليفة، أنه بعد قتل الجارية الراقصة لم يأمر الشعب بالتجهز للقتال، وإنما فقط أمر بزيادة الاحتراز! ولذلك كثرت الستائر حول دار الخلافة لحجب الرؤية، ولزيادة الوقاية، ولستر الراقصات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واستمر القصف على بغداد من يوم (1) صفر إلى (4) من صفر في سنة (656) من الهجرة، وفي (4) من صفر سقطت الأسوار الشرقية لبغداد وانهارت.
مع انهيار الأسوار الشرقية انهار الخليفة تماماً، فلم يبق من عمره إلا لحظات قليلة، فأشار عليه الوزير مؤيد الدين العلقمي أن يخرج بنفسه لمقابلة هولاكو ؛ فلعله يقتنع هولاكو في مباحثات السلام، فذهبت الرسل من عند الخليفة إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة ومعه كبار رجال الدولة من الوزراء والفقهاء والعلماء وأمراء الناس وأعيانهم؛ حتى يحضروا جميعاً المفاوضات، وتصبح المفاوضات ملزمة للجميع، فلم يكن عند الخليفة اختيار، فجمع كبار قومه، وخرج في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو ومعه (700) من قادة المسلمين وعلمائهم في بغداد، وخرج وقد تحجرت الدموع في عينيه، وتجمدت الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، فهذه أول مرة يخرج فيها بهذه الذلة والمهانة، فقد كان من عادته أن يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، والآن يخرج بهذه الصورة، وكان ماشياً بجواره وزيره مؤيد الدين العلقمي الشيعي، فلما اقترب الوفد من خيمة هولاكو اعترضه فرقة من الحرس الملكي التتري قبل الدخول على هولاكو ، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو ، وقالوا: سيدخل الخليفة ومعه (17) رجلاً فقط، وأما الباقي فعليهم الخضوع للتفتيش الدقيق، فدخل الخليفة ومعه (17) من رجاله، وحجب عنه بقية الوفد، ولكنهم لم يخضعوا للتفتيش، بل أخذوا جميعاً للقتل، فقتل الوفد بكامله إلا الخليفة ومن كان معه في داخل الخيمة، فقتل كبراء القوم ووزراء الخلافة وأعيان البلد وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية، ولم يقتل الخليفة؛ لأن هولاكو كان يريد استخدامه في أشياء أخرى، وبدأ هولاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر، واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله، واكتشف ما كان واضحاً لكل الخلق ولم يره هو إلا الآن، اكتشف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10]. واكتشف أيضاً أن الحق لابد له من قوة تحميه، وإن تركت حقك دون حماية فلا تلومن إلا نفسك،
ولكن هذا الاكتشاف جاء متأخراً للأسف، وبدأ السفاح هولاكو يصدر الأوامر الصارمة:
الأول: على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة، وكان هذا أمراً سهلاً؛ لأنه لا يوجد شخص في المدينة رافعاً للسلاح.
الأمر الثاني: تقييد الخليفة المسلم وسوقه إلى المدينة يرسف في أغلاله؛ لكي يدل التتار على كنوز العباسيين.
الأمر الثالث: قتل ولدي الخليفة أمام عينه: أحمد وعبد الرحمن، ما كان اسمهما: عدي وقصي، وإنما أحمد وعبد الرحمن.
الأمر الرابع: أسر أخوات الخليفة الثلاث: فاطمة، وخديجة، ومريم .
الأمر الخامس: أن يكتب ابن العلقمي أسماء علماء السنة وحملة القرآن وخطباء المساجد داخل بغداد، ثم أمر بإخراجهم مع أولادهم ونسائهم إلى مكان خارج بغداد بجوار المقابر، فكان ينام العالم على الأرض ويذبح كما تذبح الشياة، ثم تؤخذ نساؤه وأولاده سبايا أو للقتل، فكانت مأساة بكل المقاييس، وقد ذبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن العالم الإسلامي المشهور ابن الجوزي رحمه الله، وذبح أولاده الثلاثة معه: عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وذبح المجاهد مجاهد الدين أيبك وزميله سليمان شاه ، وذبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه صدر الدين علي بن النيار ، ثم ذبح بعد ذلك خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن، والخليفة حي يشاهد هذا، فيا ترى كم من الألم والندم والخزي والرعب الذي كان يشعر به الخليفة؟!
ولو تخيل الخليفة ولو للحظات أن العاقبة ستكون بهذه الصورة، فلا شك أن إدارته للبلاد ستختلف اختلافاً جذرياً، والأيام لا تعود، وهذه سنة الأيام، فألقى أهل المدينة السلاح وقتلت الصفوة.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة التتار عين جالوت في الميزان | 3180 استماع |
سلسلة التتار عين جالوت | 2707 استماع |
سلسلة التتار بداية القصة | 2436 استماع |
سلسلة التتار سقوط سوريا | 2364 استماع |
سلسلة التتار قطز وبناء الأمة | 2338 استماع |
سلسلة التتار قرار الجهاد | 2285 استماع |
سلسلة التتار الاجتياح | 2263 استماع |
سلسلة التتار بغداد بين سقوطين | 2151 استماع |
سلسلة التتار خطة غزو العراق | 1951 استماع |
سلسلة التتار المتساقطون | 1799 استماع |