خطب ومحاضرات
سلسلة التتار المتساقطون
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه هي المحاضرة الثالثة من محاضرات قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت.
تحدثنا في الدرس السابق عن الاجتياح التتري الرهيب الذي عانى منه المسلمون في سنة (617هـ)، ورأينا المجازر الشنيعة في سمرقند، ومرو، ونيسابور.. وغيرها، ثم تحدثنا عن الانتصار المرحلي الذي حققه جلال الدين بن محمد بن خوارزم على التتار في غزنة؛ وذلك بعد أن وحد بعض جيوش الدولة الخوارزمية، ووقفنا على الانتصار الثاني لـجلال الدين على التتار في كابل، والذي كان من نتيجته أن حرر المسلمون عشرات الآلاف من أسرى المسلمين وقتلوا عدداً كبيراً من التتار.
ثم تمكن المسلمون من شيء يعتبره كثير من الناس نعمة، ولكنه كثيراً ما يكون نقمة، هذا الشيء هو غنائم الدنيا، وكم أهلكت الدنيا من مسلمين!
روى البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
وقد كانت قلوب المسلمين في هذه الحقبة من الزمان مريضة بمرض الدنيا العضال، إلا من رحم الله عز وجل، وكانت حروبهم حروباً مادية قومية، وحروب مصالح وأهواء، ولم تكن حروباً في سبيل الله عز وجل، بل كانت لحب البقاء، والرغبة في الملك، والخوف من الأسر والقتل، وكان لهم انتصاران على التتار، ولكن ظهرت خبايا نفوسهم عند كثرة الأموال والغنائم، ووقع المسلمون في الفتنة، واختلفوا على تقسيم الغنيمة، فقام سيف الدين بغراق أمير الترك وملك خان أمير مدينة هراة يطلبان نصيبهما من الغنائم، وحدث الاختلاف وارتفعت الأصوات، ثم ارتفعت السيوف؛ ليتقاتل المسلمون على تقسيم الغنيمة، وجيوش التتار مازالت تملأ معظم مدن المسلمين، وسقط من المسلمين قتلى على أيدي المسلمين، وكان ممن سقط أخ لـسيف الدين بغراق ، فغضب غضباً شديداً، وانسحب من جيش جلال الدين ومعه (30000) مقاتل، فحدث ارتباك كبير جداً في جيش المسلمين، وحاول جلال الدين حل المشكلة، فأسرع إلى سيف الدين بغراق محاولاً إقناعه بالعودة إلى صف المسلمين، فالمسلمون في حاجة إلى كل جندي، وإلى كل طاقة، وفوق هذا فإن الانسحاب سيؤثر على معنويات بقية الجيش؛ لأن الفرقة التركية التي انسحبت هي أقوى فرقة في الجيش، ولكن سيف الدين بغراق أصر على الانسحاب وانسحب بالفعل، فانكسر جيش المسلمين انكساراً هائلاً مادياً ومعنوياً، ولم يفلح المسلمون -ولا حول ولا قوة إلا بالله- في استثمار النصر الغالي الذي حققوه في غزنة وفي كابل.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)، فلم يدرك المسلمون في هذه الآونة حقيقة الدنيا، وأنها دار استخلاف واختبار وامتحان، وليست دار قرار وبقاء وخلود.
نسي المسلمون امتحان ربهم ولم يستعدوا له، وبينما هم كذلك جاء جنكيز خان بنفسه على رأس جيوشه؛ ليرى ذلك المسلم الذي انتصر عليه مرتين في غزنة وفي كابل، وكان المسلمون منذ قليل في انتصار، وأما الآن فقد دب الرعب والهلع في جيشهم، وقلّت أعدادهم، وتحطمت معنوياتهم. فلما رأى جلال الدين أن جيشه أصبح ضعيفاً جداً، أخذه وبدأ يتجه جنوباً للهروب من جيش جنكيز خان ، أو ليتجنب الحرب في هذه الظروف، ولكن جنكيز خان كان مصراً على الحرب، وفعل جلال الدين مثل ما فعل أبوه من قبل، فبدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة، ومن بلد إلى بلد، حتى وصل إلى حدود باكستان، فاخترقها واخترق كل باكستان حتى وصل إلى نهر السند الذي يفصل بين باكستان وبين الهند، وهناك قرر عبور نهر السند ودخول الهند مع أن علاقته بأهلها كانت سيئة جداً، ولكنهم كانوا عنده أرحم من لقاء جنكيز خان ، فلم يجد سفناً فانتظر، ثم فوجئ بجيش جنكيز خان من خلفه، فلم يكن هناك بد من القتال، فنهر السند من خلفه والسفن على مسافة بعيدة، ولن تأتي إلا بعد أيام، فدارت موقعة رهيبة بين الطرفين، وكل من شاهدها قال: إن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال، واستمر اللقاء الدامي ثلاثة أيام متصلة، واستحر القتل في الفريقين، وكان ممن قتل في صفوف المسلمين الأمير ملك خان الذي كان في المعركة السابقة يخاصم على الغنيمة مع سيف الدين بغراق ، فقتل ولم ينل من الدنيا شيئاً، ولم يتجاوز لحظة موته بدقيقة واحدة، ولكن شتان بين من يموت مناصراً للمسلمين بكل قوته، وبين من يموت وقد تسبب مصرعه في فتنة أدت إلى هزيمة مرة.
وفي اليوم الرابع انفصل الجيشان لكثرة القتل، وبدأ كل طرف يعيد حساباته، وبينما هما في هذه الهدنة المؤقتة جاءت السفن إلى نهر السند، فاتخذ جلال الدين قراره السريع بالهروب كما اتخذه أبوه من قبل، فركب السفينة مع خاصته ومقربيه وعبروا نهر السند إلى بلاد الهند، وتركوا التتار على الناحية الغربية لنهر السند مع بلاد المسلمين ومدنهم وقراهم، ومع المدنيين دون حماية عسكرية، وجيوش التتار لا تفرق بين مدني وعسكري، هذا بالإضافة إلى الحقد الشديد في قلب جنكيز خان نتيجة الهزيمتين السابقتين.
انقلب جنكيز خان على بلاد المسلمين يصب عليها جام غضبه، ويفعل بها ما اعتاد التتار أن يفعلوه وأكثر، وكانت أشد المدن معاناة مدينة غزنة عاصمة جلال الدين بن خوارزم ، المدينة التي هزم عندها قبل ذلك جنكيز خان، فقتل كل رجالها، وسبى كل نسائها، وأحرق كل ديارها بلا استثناء، وتركها كما يقول ابن الأثير : خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.
والذي يجدر ذكره أن من جملة من أمسك بهم جنكيز خان من أهل المدن أطفال جلال الدين بن خوارزم ، فأمر جنكيز خان بذبحهم جميعاً، وهكذا ذاق جلال الدين من نفس المرارة التي ذاقها الملايين من شعبه.
روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كن كما شئت، كما تدين تدان). والحديث مرسل.
وحقق جنكيز خان بذلك حلماً غالياً جداً، لم يكن يتوقع أن يحققه بهذه السهولة، وهذا الحلم هو احتلال أفغانستان، فاحتلال أفغانستان كان حلماً لـجنكيز خان ولغيره من الغزاة، فاحتلالها خطوة مؤثرة جداً في طريق سقوط الأمة الإسلامية، وسقوطها نذير خطر شديد للأمة بأسرها، لعدة أسباب، منها:
أولاً: طبيعتها الجبلية التي تجعل غزوها شبه مستحيل، وهي بذلك تمثل حاجزاً طبيعياً قوياً في وجه الغزاة، وتخفف الوطء على البلاد المجاورة لها، فإن سقطت كان سقوط البلاد المجاورة لها مثل: باكستان وإيران ثم العراق سهلاً جداً.
ثانياً: موقعها الإستراتيجي الهام، فهي تقع في موقع متوسط في آسيا، والذي يسيطر عليها يستطيع النظر من زاوية درجتها (360) درجة على المنطقة بأسرها، فيستطيع مراقبة باكستان وإيران وروسيا والهند، ويكون قريباً نسبياً من الصين، فالسيطرة على كامل آسيا بعد احتلال أفغانستان أمر ممكن.
ثالثاً: الطبيعة الجبلية لأفغانستان أكسبت شعبها صلابة وقوة لا تتوافر في غيرها من البلاد، فإن سقطوا فسيكون سقوط غيرهم سهلاً بلا شك.
رابعاً: يتمتع سكانها بنزعة إسلامية عالية جداً، وبروح جهادية بارزة مميزة، وليس من السهل أن يقبلوا الاحتلال، وقد ظهر ذلك واضحاً في انتصارين متتالين على التتار، فكل الجيوش الإسلامية قبل ذلك فشلت في حربها مع التتار، وأول مرة غلب التتار فيها كانت في أفغانستان، فقد غلبوا مرتين، فلو سقط الأفغان فسيعد ذلك نجاحاً هائلاً للقوى المعادية للمسلمين.
خامساً: أن الأثر المعنوي السلبي على الأمة الإسلامية سيكون رهيباً، والأثر المعنوي الإيجابي على التتار سيكون كبيراً جداً كذلك، والأثر السلبي على المسلمين والإيجابي على التتار سيكون مؤثراً جداً في الأحداث.
وأنى لأمة محبطة أن تفكر في القيام؟! وأنى لجيش كجيش التتار حقق نصراً صعباً أن يفرط في الانتصارات السهلة؟! هذا عادة لا يكون، فأفغانستان كانت محطة خطيرة جداً، ومؤثرة تأثيراً سلبياً كبيراً جداً على أمة الإسلام بصفة عامة، وليس على أهل أفغانستان فقط.
وبذلك يكون التتار الذين وصلوا من الصين قد دخلوا كازاخستان، ثم أوزباكستان، ثم تركمانستان، ثم أفغانستان، ثم إيران، ثم أذربيجان، ثم أرمينيا، ثم جورجيا، في سنة (617هـ)، وهذا الكلام مثبت في كل كتب التاريخ، ففي سنة واحدة اجتاحوا هذا الجانب الشرقي الضخم المهول من العالم الإسلامي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لما دخلت سنة (618هـ)، في أول هذه السنة دخل التتار مدينة مراغة المسلمة، وهي في إقليم أذربيجان، ومن عجيب الأمور أن رأس المدينة كان امرأة مسلمة، ولا أدري لماذا أعطى المسلمون زمامهم لامرأة في هذا الوقت الحساس؟ فهل البلاد قد عدمت من الرجال الذين يصلحون للقيادة؟!
فحاصر التتار مراغة ونصبوا حولها المجانيق، وبدأ التتار القتال بواسطة الأسرى المسلمين، فالأسرى المسلمون الذين مع التتار، هم الذين بدءوا يفتحون مراغة، ويقتلون إخوانهم المسلمين فيها طمعاً في قليل من الحياة، أي حياة كانت، ولو انقلب هؤلاء الأسرى على التتار حمية لإخوانهم في مراغة، لكان هناك فرصة لنجاة بعض المسلمين على الأقل، ولكن ضاعت المفاهيم، وعميت الأبصار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
دخل التتار مدينة مراغة المسلمة في (4) صفر (618هـ) ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم كما يقول ابن الأثير ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما صلح لهم واستطاعوا حمله، والذي لم يستطيعوا حمله جمعوه وأحرقوه، وكانوا يأتون بالحرير الثمين كأمثال التلال فيحرقونه بالنار.
يقول ابن الأثير رحمه الله: إن المرأة من التتار كانت تدخل الدار فتقتل جماعة من أهلها رجالاً ونساء وأطفالاً، ما يتحرك لها أحد.
وذكر أيضاً: أنه سمع بنفسه من بعض أهل مراغة أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه (100) رجل مسلم، فما زال يقتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم جميعاً، ولم يمد إليه رجل واحد يده بسوء، فقد وضعت الذلة على الناس، فكانوا لا يدفعون عن أنفسهم قليلاً ولا كثيراً، ونعوذ بالله من الخذلان.
بدأ التتار بعد ذلك يفكرون في غزو مدينة أربيل في شمال العراق، وهي مجاورة للموصل في شمال العراق، فدب الرعب في قلوب أهلها، وكذلك دب الرعب في قلوب أهل مدينة الموصل الواقعة غرب أربيل، وفكر بعض أهل أربيل والموصل في الهروب من طريق التتار، وخشي الخليفة العباسي الناصر لدين الله أن يعدل التتار عن مدينة أربيل ويتجهوا إلى بغداد، فبدأ يفيق من سباته العميق، واستنفر الناس لملاقاة التتار في أربيل، وأعلن حالة الاستنفار العام في كل المدن العراقية الواقعة تحت سيطرته، وبدأ جيش الخلافة العباسية في التجهز، وجمع الخليفة العباسي الناصر لدين الله (800) رجل فقط ضد مئات الآلاف من التتار! فلم يكن الناصر لدين الله خليفة، وإنما كان صورة خليفة، ولم يستطع قائد الجيش العباسي واسمه مظفر الدين أن يحارب التتار بهذا العدد الهزيل، فعندما رأى أمامه مئات الآلاف انسحب.
ثم حصل شيء غريب جداً، فقد شعر التتار أن هذا الانسحاب خدعة، وأن هذه الفرقة ما هي إلا مقدمة للجيش الإسلامي الكبير؛ لأنه من غير المعقول أن جيش الخلافة العباسية المرهوبة لا يزيد عن (800) جندي فقط، ولذلك قرر التتار تجنب المعركة، وانسحبوا بجيوشهم.
فالرعب كان يملأ قلوب التتار من إمكانيات الخلافة العباسية، فالخلافة العباسية كانت ملء سمع وبصر الدنيا، وكانت تزهو على غيرها من الأمم بتاريخ طويل جداً وأمجاد عظيمة، ولا شك أن دولة لقيطة مثل: دولة التتار، ليس لها على وجه الأرض إلا بضع سنوات، ستحسب ألف حساب لدولة هائلة يمتد تاريخها إلى أكثر من (500) سنة.
لذلك كان التتار يقدرون إمكانيات العراق بأكثر من حقيقتها، ومن ثم آثروا ألا يدخلوا مع الخلافة في صدام مباشر، واستبدلوا ذلك بما يعرف بحرب الاستنزاف، وقرروا عمل ضربات خاطفة موجعة للعراق، وحصار طويل مستمر ليضعفوه، وأحلاف واتفاقيات مع الدول والإمارات المجاورة؛ لتسهيل الحرب ضده في الوقت المناسب، ومن أجل ذلك انسحب التتار ليطول بذلك عمر العراق عدة سنوات أخرى.
انسحب التتار إلى مدينة تبريز الإيرانية، وقد عزموا على نقض العهد الذي عقدوه قبل ذلك مع أزبك بن البهلوان ، ولكنهم فوجئوا بتغيير الحكم في تبريز، فقد تولى قيادة البلاد شمس الدين الطغرائي رحمه الله، وقد كان رجلاً مجاهداً يفقه دينه ودنياه، فقام رحمه الله يحمس الناس على الجهاد وعلى إعداد القوة، وقوى قلوبهم على الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل والتواني، وعلمهم ما عرفوه نظريًا قبل ذلك ولم يطبقوه أبداً بصورة عملية في حياتهم، فعلمهم أن الإنسان لا يموت قبل ميعاده أبداً، وأن رزقه وأجله قد كتب له قبل أن يولد، وأنهم مهما فعلوا للتتار ومهما ركعوا أمامهم، فلن يتركوهم، إلا إذا احتمى المسلمون وراء سيوفهم ودروعهم، وأما بغير قوة فلن يحمى حق على وجه الأرض.
فتحركت الحمية في قلوب أهل تبريز نتيجة تحميس شمس الدين لهم، فقاموا مع قائدهم البار يحصنون بلدهم، ويصلحون الأسوار، ويوسعون في الخنادق، ويجهزون السلاح، ويضعون المتاريس، ويرتبون الصفوف، وتجهز القوم للجهاد في سبيل الله، فلما سمع التتار بأمر المدينة وحالة العصيان المدني فيها والنفير العام، والتجهز للقتال في سبيل الله، أخذوا قراراً عجيباً، وهو عدم دخول تبريز، وعدم قتال قوم رفعوا راية الجهاد في سبيل الله، فقد ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب التتار على كثرتهم من أهل تبريز على قلتهم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب مسيرة شهر، وكذلك ينصر بالرعب كل من سار على طريقه صلى الله عليه وسلم، فالجهاد فعل فعله المتوقع، وعلى الرغم من أن القوم لم يجاهدوا ولم يصلوا إلى مرحلة الجهاد، إلا أنهم لما عقدوا النية الصادقة، وأعدوا الإعداد المستطاع، تحقق الوعد الرباني الذي لا يخلف، وهو وقوع الرهبة في قلوب الأعداء عند إعداد المسلمين، وهذا درس لا ينسى، واسمعوا إلى قول الله عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60]، أي: على قدر الاستطاعة، وكم هي تبريز مقارنة إلى جيوش التتار، أو مقارنة بالمدن والدول الإسلامية التي سقطت؟ قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
فكانت هذه صورة مشرقة في وسط هذا الركام المظلم، ورحم الله شمس الدين الطغرائي الذي جدد الدين في هذه المدينة المسلمة تبريز.
ونفس هذا الحدث تكرر مع مدينة كنجة، فقد أعلنت الجهاد في سبيل الله وأعدت العدة، فلم يدخل تتري واحد إلى مدينة كنجة، وهذا الكلام ليس من قبيل المصادفة، فالبلاد التي رفعت راية الجهاد وأعدت له العدة لم يجرؤ التتار على غزوها. وهذه سنة من سنن الله عز وجل.
ولو أن كل مدن المسلمين فعلت ذلك لما استطاع التتار ولا غيرهم أن يطئوا بأقدامهم النجسة أرض المسلمين.
فحافظ المسلمون على هذه البلاد سنوات وسنوات، لا بكثرة الأعداد والاتفاقيات والمعاهدات والسلام وغيرها، ولكن بجهاد صادق، ودماء زكية، وقلوب طاهرة مخلصة. أما الذين يخالفون من العباد، فالله عز وجل لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
ترك التتار تبريز وكنجة، واتجهوا إلى داغستان والشيشان الواقعتين شمال أذربيجان على ساحل بحر قزوين، فقاموا كعادتهم بتدمير كل شيء في هذه البلاد، وقتلوا معظم من وجدوه في طريقهم، وكانت أشد المدن معاناة من التتار هي مدينة شماخي المسلمة، وهي الآن في داغستان محتلة من روسيا.
ثم ترك التتار هذه المنطقة وجاوزوها إلى روسيا، فدخلوها، وكان يعيش فيها النصارى في ذلك الوقت، ثم استمر التتار في صعودهم حتى وصلوا إلى حوض نهر الفولجا في روسيا، فقاتلوا أهل هذه البلاد من النصارى وأثخنوا فيهم القتل، وارتكبوا معهم من الجرائم ما ارتكبوه مع المسلمين، وظلوا بقية سنة (618هـ) داخل الأراضي الروسية، وهي أرض واسعة جداً، وسيطروا في هذه السنة على الجنوب الغربي من روسيا.
وفي سنة (619هـ) حافظ التتار على أملاكهم، ووطدوا ملكهم في هذه المناطق، والدول التي سقطت تحت سيطرة التتار هي: كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجاكستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وباكستان، باستثناء المناطق الجنوبية منها المعروفة باسم إقليم كرمان لم يصل إليه التتار، وأفغانستان بكاملها، ومعظم إيران ما عدا الجزء الغربي منها الذي كان تحت سيطرة طائفة الإسماعيلية، وأذربيجان، وأرمينيا النصرانية، وجورجيا النصرانية، والجنوب الغربي لروسيا النصرانية.
والتتار خلال سنتين وبضعة أشهر احتلوا هذه المساحة من العالم.
وفي سنة (620هـ) بسط جنكيز خان سطوته على الدولة الخوارزمية وما حولها، واستمرت الحملات التترية على روسيا، وانشغل التتار في حرب روسيا في هذه السنة.
هزيمة التتار في روسيا أمام البلغار وموقف المسلمين من ذلك
الحدث الأول: توغل التتار في بلاد روسيا، وحققوا انتصارات عديدة جداً، وفي نهاية المطاف وقفوا أمام طائفة البلغار، وهي بلغاريا، وكانت في روسيا في ذلك الوقت، وحدثت بينهم موقعة عظيمة هزم فيها التتار هزيمة منكرة مرة، وقتل منهم خلق كثير، حتى إنهم فقدوا السيطرة على معظم المناطق الغربية التي كانوا محتلين لها، ففقدوا السيطرة على روسيا وجورجيا وأرمينيا والشيشان وداغستان وأذربيجان وشمال إيران، وكان كل هذا الأمر نتيجة هزيمة واحدة في روسيا.
وكانت فرصة من السماء للمسلمين لكي يعيدوا ترتيب أوراقهم وصفوفهم، ويعدوا العدة ليقابلوا التتار بعد أن أصابهم الارتباك بعد هذه الهزيمة الكبيرة، في هذا الوقت جمع أحد أمراء المسلمين في هذه المنطقة عدته وهجم على قبائل الكرج النصرانية في جورجيا.
وهذا حدث عجيب يحتاج إلى الوقفة، صحيح أن بين الكرج والمسلمين حروباً مستمرة، إلا أنهم الآن في شبه هدنة غير رسمية، وليس من الحكمة أبداً فتح جبهات جديدة على المسلمين في وجود عدوهم الأكبر التتار، وبالذات أن الكرج أيضاً يكرهون التتار، ويعانون منهم كما يعاني المسلمون، وقد أصيبوا كما أصيب المسلمون، فكان على المسلمين أن يتحلوا بحكمة سياسية وفقه سياسي ويتحالفوا بحذر مع الكرج ضد التتار، أو على الأقل أن يحيدوا صفهم، ولا يدخلوا في حرب معهم يستنزفون فيها قوة المسلمين وقوة الكرج، في وجود القوة التترية الضخمة المهولة إلى جوارهم، فما فعلوه كان حولاً سياسياً ومرضاً مضحكاً، فقد افتقد المسلمون في هذه الآونة الرؤية الصحيحة والحكمة العسكرية والهدف الواحد، فلم يكونوا متحدي الصفوف، وأعمالهم ليست متوازنة أو منضبطة، وكل أمورهم غير مدروسة.
فدارت الحرب بين المسلمين والكرج، وقتل من الفريقين أعدد كبيرة، وفقدوا الثقة في إمكانية التحالف ضد التتار، ولم يستغل المسلمون موازين القوى في هذا الوقت لصالحهم، وكان هذا من أهم أسباب ضعفهم، ثم هدأت الحرب، وأقيم صلح جديد بين الكرج والمسلمين، بعد أن قتل عدد كبير من الفريقين.
سيطرة غياث الدين بن خوارزم على إيران وما جاورها وسعي الخليفة العباسي إلى إضعاف حكمه وتفكيك دولته
في ذلك التوقيت حدث شيء عجيب، فقد كان المتوقع من الناصر لدين الله الخليفة العباسي -وقد كان خليفة وهمياً، وليس له قيمة في ذلك الوقت- أن يساعد غياث الدين بن محمد بن خوارزم؛ لأنه الحائل بينه وبين التتار، وكان الأجدر به مساعدته إن لم يكن بدافع الدين والأخوة والنصرة للمسلمين، فعلى الأقل بسبب الأبعاد الإستراتيجية الهامة، حيث كان غياث الدين حائط صد بالنسبة للخلافة العباسية أمام التتار، لكن الخليفة العباسي لم يدرك هذه الأبعاد، فقد كان يعاني من مرض الحول السياسي، وكان كما وصفه المؤرخون رجلاً ظالماً مستبداً، فرض المكوس والضرائب على كل شعبه، وفي كل أزمة اقتصادية تحدث يفرض ضريبة جديدة على قوت الشعب، وكان مهتماً جداً بالحفلات والملذات والصيد واللعب، وعم الفساد في زمانه، وارتفعت الأسعار، وقلّت المؤن والمواد، وكان يفتقر إلى النظرة العميقة والفهم الثاقب للأحداث، فلم يكن على مستوى الأحداث الضخمة التي تحدث على أرض الواقع في ذلك الوقت.
فلم ينس الخلافات القديمة مع الدولة الخوارزمية، فأراد تفكيك الدولة التي بدأت تنمو من جديد إلى جواره بقيادة غياث الدين بن خوارزم .
فراسل إيغان طائسي -وكان خال غياث الدين ، وكان رجلاً كبيراً صاحب رأي في الحرب وأميراً في جيش غياث الدين - ووعده بأن يساعده إذا انقلب على غياث الدين وعظم له الاستيلاء على الملك، وأمده بالجنود وبالسلاح وبالأفكار، ولم يهم الخليفة مطلقاً الفتنة التي ستدور في أرض إيران إلى جواره تماماً، فأعجبت الفكرة إيغان طائسي فجمع الناس، وبدأ يقوم بالعصيان ضد ابن أخته غياث الدين بن خوارزم، وحدث ما لم يتوقع، والتقى إيغان طائسي مع ابن أخته غياث الدين في موقعة فاصلة للسيطرة على إيران، وفي ظل هذه الظروف دارت موقعة كبيرة جداً، والتقى الفريقان المسلمان، ودارت المجزرة بينهما، وسقطت أعداد غفيرة من المسلمين قتلى بسيوف المسلمين، ثم انهزم إيغان طائسي وهرب هو ومن معه بعد أن قتل عدد كبير من جيشه.
وإنه لحري بنا أن نقف ونفكر في أفعال الناصر لدين الله ، ونتساءل: أخلق الله عز وجل بشراً بهذه الصورة؟
ونقول: نعم، فقد وجد الكثير بهذه الصورة، ولا يزالون موجودين، وسيظلون إلى يوم القيامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن كنا نعجب من هذه الصراعات الداخلية في ذلك الزمن الذي يشهد أزمة حقيقية تمر بها الأمة الإسلامية، فإننا الآن نشاهد نفس الصراعات والخلافات بين المسلمين، مع كل الأزمات الطاحنة التي تمر بها أمتنا الآن، ومع ذلك فالقليل جداً من المسلمين من يهتم بهذه الصراعات ويلحظها، وإلا فكم من المسلمين يتابعون الخلافات بين مصر والسودان على حلايب، أو بين ليبيا وتشاد على إقليم أوزا، أو بين المغرب والجزائر على الصحراء الغربية، أو بين السنغال وموريتانيا على نهر السنغال، أو بين السعودية واليمن على إقليم عسير، أو بين الإمارات وإيران على جزيرة أبي موسى، أو بين سوريا وتركيا على لواء الإسكندرونة.. وغيرها من الاختلافات هنا وهناك؟
وكلنا رأينا مدى خسارة المسلمين نتيجة حرب العراق وإيران، ثم حرب العراق والكويت، وكل هذه الخلافات تحدث والأمة منكوبة بأزمات طاحنة في معظم مناطقها تقريباً!
وافتح أي جريدة بصورة عشوائية في أي يوم لتقرأ عن الكوارث في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان والجزائر ونيجريا والصومال.. وغيرها.
وكما يقرأ منا الكثير هذه الأخبار بدم بارد وبلا اكتراث أو ألم، كذلك كان المسلمون أيام التتار يتلقون أخبار الصراعات الداخلية بدم بارد وبلا اكتراث أو ألم، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد، وهذه كارثة مروعة، فإذا كان المسلم لا يعيش إلا لنفسه فقط، ولا يهتم إلا بحياته وحياة أسرته القريبة فقط، ولا يتألم لحال مسلم سفك دمه، أو هدمت داره، أو جرفت أرضه، أو اغتصبت زوجته، فهذه كارثة بكل المقاييس: مقاييس الإسلام، والأخوة، والإنسانية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تنصر ابن حاكم الأناضول طمعاً في حكم مملكة الكرج
وهي فعلاً غريبة ومأساوية إلى أقصى درجة ممكنة، فمملكة الكرج النصرانية بعد أن أتمت صلحها مع المسلمين بعد المعركة التي ذكرناها سابقاً، وصل إلى قمة الحكم فيها امرأة، ولم تكن متزوجة، فطلب منها الوزراء والأمراء أن تتزوج رجلاً يدير عنها البلاد، فوافقت، وأرادت أن تتزوج من بيت ملك وشرف، فلم تلق بيتاً في الكرج بهذه الصفة، فسمع بذلك أحد ملوك المسلمين واسمه مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان ، وكان من ملوك السلاجقة، ويحكم منطقة الأناضول -تركيا الآن-، وكان له ابن كبير، فأرسل إلى ملكة الكرج يخطبها لابنه، فرفضت الملكة وقالت: إنها لن تتزوج من رجل مسلم، ولن يملك الكرج رجل مسلم، فقال الملك مغيث الدين بن قلج أرسلان : إن ابنه سيتنصر ويتزوجها، فوافقت على ذلك، وتنصر الولد بالفعل، وتزوج من ملكة الكرج، وانتقل إلى مملكتهم ليكون حاكماً عليهم، وبقي على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة من التردي يستحيل معها النصر، إذ كيف تأتي فكرة التنصر في ذهن الملك وابنه أصلاً ولو كان سيحكم الأرض كلها بعد هذا التنصر؟! وكيف يأتي ذلك من ملك عظيم يحكم الأناضول؟! ولو أتى ذلك الكلام من ضعيف مستعبد، لقلنا: لعله استكره على ذلك، أما أن يأتي ذلك العرض من الملوك ويطلبونه هم، فهذا مما لا يتخيله العقل، ولا أدري من الذي أطلق على هذا الملك لقب مغيث الدين ! فأي دين هذا الذي يغيثه؟! أيغيث الدين النصراني أو الدين الإسلامي؟ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
ثم إن هذا الولد الذي تزوج ملكة الكرج مات على نصرانيته محبوساً في مملكة الكرج، فقد عاش عدة أشهر في الملك، ثم إن الكرج غضبوا عليه وحبسوه، وبقي نصرانياً ومات على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
خروج الجراد على أكثر أقاليم المسلمين
وهذا ليس من قبيل المصادفة، فقد قال الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]. فهذه حقائق ثابتة في كتاب الله عز وجل، بل إن الله عز وجل ذكر الجراد بالذات كوسيلة من وسائل إثبات قدرته على من لم يتبع نهجه سبحانه وتعالى، فقال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ [الأعراف:133]. وهذا يذكرنا بطوفان خوارزم، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ [الأعراف:133] وهو جند من جنود الله عز وجل، وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف:133].
وكلنا رأينا الجراد الذي هجم على العالم الإسلامي منذ أيام أو أسابيع، وهذا ليس صدفة أبداً، ولكنه لفت نظر للمسلمين، وتذكير لهم بالتاريخ، ودعوة لهم للعودة إلى الله عز وجل، وإلا فرحلة الجراد القادمة لن تكون رحلة عابرة، بل ستكون إقامة واستيطاناً، فنعوذ بالله من غضبه، ونسأله عز وجل أن يبصرنا بسننه، وأن يرزقنا التقوى والإخلاص والعمل.
أود هنا أن أعلق على أربعة أحداث فقط، لها معان في غاية الأهمية، وهي توضح لنا بعض الأمراض التي تسببت في سقوط الأمة الإسلامية بهذه الصورة المزرية أمام التتار؛ حتى نتعلم من التاريخ.
الحدث الأول: توغل التتار في بلاد روسيا، وحققوا انتصارات عديدة جداً، وفي نهاية المطاف وقفوا أمام طائفة البلغار، وهي بلغاريا، وكانت في روسيا في ذلك الوقت، وحدثت بينهم موقعة عظيمة هزم فيها التتار هزيمة منكرة مرة، وقتل منهم خلق كثير، حتى إنهم فقدوا السيطرة على معظم المناطق الغربية التي كانوا محتلين لها، ففقدوا السيطرة على روسيا وجورجيا وأرمينيا والشيشان وداغستان وأذربيجان وشمال إيران، وكان كل هذا الأمر نتيجة هزيمة واحدة في روسيا.
وكانت فرصة من السماء للمسلمين لكي يعيدوا ترتيب أوراقهم وصفوفهم، ويعدوا العدة ليقابلوا التتار بعد أن أصابهم الارتباك بعد هذه الهزيمة الكبيرة، في هذا الوقت جمع أحد أمراء المسلمين في هذه المنطقة عدته وهجم على قبائل الكرج النصرانية في جورجيا.
وهذا حدث عجيب يحتاج إلى الوقفة، صحيح أن بين الكرج والمسلمين حروباً مستمرة، إلا أنهم الآن في شبه هدنة غير رسمية، وليس من الحكمة أبداً فتح جبهات جديدة على المسلمين في وجود عدوهم الأكبر التتار، وبالذات أن الكرج أيضاً يكرهون التتار، ويعانون منهم كما يعاني المسلمون، وقد أصيبوا كما أصيب المسلمون، فكان على المسلمين أن يتحلوا بحكمة سياسية وفقه سياسي ويتحالفوا بحذر مع الكرج ضد التتار، أو على الأقل أن يحيدوا صفهم، ولا يدخلوا في حرب معهم يستنزفون فيها قوة المسلمين وقوة الكرج، في وجود القوة التترية الضخمة المهولة إلى جوارهم، فما فعلوه كان حولاً سياسياً ومرضاً مضحكاً، فقد افتقد المسلمون في هذه الآونة الرؤية الصحيحة والحكمة العسكرية والهدف الواحد، فلم يكونوا متحدي الصفوف، وأعمالهم ليست متوازنة أو منضبطة، وكل أمورهم غير مدروسة.
فدارت الحرب بين المسلمين والكرج، وقتل من الفريقين أعدد كبيرة، وفقدوا الثقة في إمكانية التحالف ضد التتار، ولم يستغل المسلمون موازين القوى في هذا الوقت لصالحهم، وكان هذا من أهم أسباب ضعفهم، ثم هدأت الحرب، وأقيم صلح جديد بين الكرج والمسلمين، بعد أن قتل عدد كبير من الفريقين.
الحدث الثاني: نتيجة انهزام التتار في هذه المنطقة ظهر أحد أولاد محمد بن خوارزم واسمه غياث الدين أخو جلال الدين بن محمد بن خوارزم -الذي كان في هذا الوقت هارباً في الهند، فقام بجمع الرجال واستغل الفراغ النسبي الذي خلفه التتار، وتملك المنطقة، وسيطر على معظم إيران، فملك مدن الري وأصبهان.. وغيرهما، ووصلت سيطرته إلى إقليم كرمان في باكستان، وهو الإقليم الذي لم يصل إليه التتار، وبسط سيطرته على شمال وغرب وجنوب إيران، وأما المنطقة الشرقية المتمثلة في إقليم خراسان -الذي هو في شرق إيران وشمال غرب أفغانستان- فكانت لا تزال بأيدي التتار، أي: أن التتار كانوا بجوار غياث الدين بن محمد بن خوارزم .
في ذلك التوقيت حدث شيء عجيب، فقد كان المتوقع من الناصر لدين الله الخليفة العباسي -وقد كان خليفة وهمياً، وليس له قيمة في ذلك الوقت- أن يساعد غياث الدين بن محمد بن خوارزم؛ لأنه الحائل بينه وبين التتار، وكان الأجدر به مساعدته إن لم يكن بدافع الدين والأخوة والنصرة للمسلمين، فعلى الأقل بسبب الأبعاد الإستراتيجية الهامة، حيث كان غياث الدين حائط صد بالنسبة للخلافة العباسية أمام التتار، لكن الخليفة العباسي لم يدرك هذه الأبعاد، فقد كان يعاني من مرض الحول السياسي، وكان كما وصفه المؤرخون رجلاً ظالماً مستبداً، فرض المكوس والضرائب على كل شعبه، وفي كل أزمة اقتصادية تحدث يفرض ضريبة جديدة على قوت الشعب، وكان مهتماً جداً بالحفلات والملذات والصيد واللعب، وعم الفساد في زمانه، وارتفعت الأسعار، وقلّت المؤن والمواد، وكان يفتقر إلى النظرة العميقة والفهم الثاقب للأحداث، فلم يكن على مستوى الأحداث الضخمة التي تحدث على أرض الواقع في ذلك الوقت.
فلم ينس الخلافات القديمة مع الدولة الخوارزمية، فأراد تفكيك الدولة التي بدأت تنمو من جديد إلى جواره بقيادة غياث الدين بن خوارزم .
فراسل إيغان طائسي -وكان خال غياث الدين ، وكان رجلاً كبيراً صاحب رأي في الحرب وأميراً في جيش غياث الدين - ووعده بأن يساعده إذا انقلب على غياث الدين وعظم له الاستيلاء على الملك، وأمده بالجنود وبالسلاح وبالأفكار، ولم يهم الخليفة مطلقاً الفتنة التي ستدور في أرض إيران إلى جواره تماماً، فأعجبت الفكرة إيغان طائسي فجمع الناس، وبدأ يقوم بالعصيان ضد ابن أخته غياث الدين بن خوارزم، وحدث ما لم يتوقع، والتقى إيغان طائسي مع ابن أخته غياث الدين في موقعة فاصلة للسيطرة على إيران، وفي ظل هذه الظروف دارت موقعة كبيرة جداً، والتقى الفريقان المسلمان، ودارت المجزرة بينهما، وسقطت أعداد غفيرة من المسلمين قتلى بسيوف المسلمين، ثم انهزم إيغان طائسي وهرب هو ومن معه بعد أن قتل عدد كبير من جيشه.
وإنه لحري بنا أن نقف ونفكر في أفعال الناصر لدين الله ، ونتساءل: أخلق الله عز وجل بشراً بهذه الصورة؟
ونقول: نعم، فقد وجد الكثير بهذه الصورة، ولا يزالون موجودين، وسيظلون إلى يوم القيامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن كنا نعجب من هذه الصراعات الداخلية في ذلك الزمن الذي يشهد أزمة حقيقية تمر بها الأمة الإسلامية، فإننا الآن نشاهد نفس الصراعات والخلافات بين المسلمين، مع كل الأزمات الطاحنة التي تمر بها أمتنا الآن، ومع ذلك فالقليل جداً من المسلمين من يهتم بهذه الصراعات ويلحظها، وإلا فكم من المسلمين يتابعون الخلافات بين مصر والسودان على حلايب، أو بين ليبيا وتشاد على إقليم أوزا، أو بين المغرب والجزائر على الصحراء الغربية، أو بين السنغال وموريتانيا على نهر السنغال، أو بين السعودية واليمن على إقليم عسير، أو بين الإمارات وإيران على جزيرة أبي موسى، أو بين سوريا وتركيا على لواء الإسكندرونة.. وغيرها من الاختلافات هنا وهناك؟
وكلنا رأينا مدى خسارة المسلمين نتيجة حرب العراق وإيران، ثم حرب العراق والكويت، وكل هذه الخلافات تحدث والأمة منكوبة بأزمات طاحنة في معظم مناطقها تقريباً!
وافتح أي جريدة بصورة عشوائية في أي يوم لتقرأ عن الكوارث في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان والجزائر ونيجريا والصومال.. وغيرها.
وكما يقرأ منا الكثير هذه الأخبار بدم بارد وبلا اكتراث أو ألم، كذلك كان المسلمون أيام التتار يتلقون أخبار الصراعات الداخلية بدم بارد وبلا اكتراث أو ألم، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد، وهذه كارثة مروعة، فإذا كان المسلم لا يعيش إلا لنفسه فقط، ولا يهتم إلا بحياته وحياة أسرته القريبة فقط، ولا يتألم لحال مسلم سفك دمه، أو هدمت داره، أو جرفت أرضه، أو اغتصبت زوجته، فهذه كارثة بكل المقاييس: مقاييس الإسلام، والأخوة، والإنسانية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة التتار عين جالوت في الميزان | 3178 استماع |
سلسلة التتار عين جالوت | 2706 استماع |
سلسلة التتار بداية القصة | 2434 استماع |
سلسلة التتار سقوط بغداد | 2410 استماع |
سلسلة التتار سقوط سوريا | 2363 استماع |
سلسلة التتار قطز وبناء الأمة | 2337 استماع |
سلسلة التتار قرار الجهاد | 2284 استماع |
سلسلة التتار الاجتياح | 2262 استماع |
سلسلة التتار بغداد بين سقوطين | 2150 استماع |
سلسلة التتار خطة غزو العراق | 1950 استماع |