سلسلة التتار قطز وبناء الأمة


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فهذه المحاضرة الثامنة من محاضرات: قصة التتار من البداية إلى عين جالوت.

في المحاضرة السابقة تحدثنا عن المماليك ونشأتهم وتربيتهم، وعن عدم استقرار الحكم في مصر في أوائل الفترة التي تسلم فيها المماليك حكم البلاد، وتحدثنا أيضاً عن موت الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، ثم ولاية ابنه توران شاه ، ثم قتله، ثم ولاية شجرة الدر ، ثم تنازلها، ثم ولاية الملك المعز عز الدين أيبك لمدة سبع سنوات كاملة، انتهت بقتله على يد شجرة الدر ، ثم ولاية ابن الملك المعز عز الدين أيبك وهو لم يتجاوز بعد الخامسة عشرة من عمره.

وذكرنا أن الذي تولى الوصاية عليه هو أقوى الرجال في مصر في ذلك الوقت، وهو قائد الجيش المصري سيف الدين قطز رحمه الله.

سيف الدين قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين، واسمه الأصلي محمود بن ممدود ، وهو من بيت مسلم ملكي أصلي، وسبحان الله! كم هي صغيرة هذه الدنيا! فـقطز رحمه الله هو ابن أخت جلال الدين بن محمد بن خوارزم وجلال الدين الذي هزم التتار مرتين، ثم هزم وفر إلى الهند، ثم عاد إلى أرض فارس وقتل الكثير من المسلمين إلى أن قتل على يد فلاح كردي.

فالتتار لما أمسكوا بعضاً من أهل جلال الدين بن خوارزم بعد فراره إلى الهند، كان قطز أحد هؤلاء الذين أمسكهم التتار، فقتلوا بعضهم وأبقوا بعضهم؛ ليباعوا في سوق الرقيق، وكان ممن بقي محمود بن ممدود أو قطز .

والتتار هم الذين أطلقوا على قطز اسم قطز، وهذه الكلمة بالتترية تعني: الكلب الشرس، فقد كان واضحاً على قطز علامات القوة والبأس من صغره، فلذلك أطلق عليه التتار هذه الكلمة، ثم باعوه بعد ذلك في أسواق الرقيق في دمشق، واشتراه أحد الأيوبيين وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عز الدين أيبك ؛ ليصبح أكبر قواده كما رأينا.

ولعلنا نلحظ بوضوح في قصة قطز التدبير العجيب لرب العالمين سبحانه وتعالى! فالتتار مكروا بالمسلمين، واسترقوا أحد أطفالهم، وباعوه بأنفسهم في دمشق، ثم بيع بعد ذلك من واحد إلى آخر، ووصل إلى بلد لم يرها قبل ذلك، ولعله لم يكن يسمع بها أصلاً في هذه السن الصغيرة، ليصبح في النهاية ملكاً على هذا البلد، وتكون نهاية التتار -الذين قاموا بنقله من أقاصي بلاد المسلمين إلى مصر- على يد هذا المملوك الذي كان يباع ويشترى، وسبحان الذي يدبر بلطف، ويمكر بحكمة، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء, وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50].

و قطز رحمه الله كبقية المماليك نشأ على التربية الدينية القوية، وتشبع بالحمية الإسلامية القوية، وتدرب منذ صغره على فنون الفروسية وأساليب القتال، وعلى أنواع الإدارة وطرق القيادة، فنشأ رحمه الله شاباً فتياً أبياً محباً للدين معظماً له، وكان رحمه الله قوياً صبوراً جلداً، بالإضافة إلى أنه ولد في بيت ملكي، فكانت طفولته طفولة الأمراء، وهذا أعطاه ثقة كبيرة في نفسه، فهو لم يكن غريباً على أمور القيادة والإدارة والحكم، وفوق كل هذا فإن أسرته قد هلكت تحت أقدام التتار، وقد رأى بعينه أفعال التتار في بلاده يوم أن كان صغيراً، وهذا ولا شك جعله يفقه جيداً مأساة التتار، وليس من رأى كمن سمع.

كل هذه العوامل مجتمعة صنعت من قطز رحمه الله رجلاً ذا طراز خاص جداً، يستهين بالشدائد تماماً، ولا يرهب أعداءه، مهما كثرت أعدادهم، أو تفوقت قواتهم.

ولقد كان للتربية الإسلامية العسكرية، والتربية أولاً على الثقة بالله أثر كبير جداً في حياة قطز رحمه الله.

تحدثنا في الدرس السابق عن قتل الملك المعز عز الدين أيبك وقتل زوجته شجرة الدر بعده ضرباً بالقباقيب، ثم تولى الحكم السلطان الطفل المنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك الملك المعز ، وتولى سيف الدين قطز رحمه الله الوصاية على السلطان الصغير؛ لأن سيف الدين قطز كان قائد الجيش، وأكبر رءوس الجيش في زمن الملك المعز .

وكما أحدث صعود شجرة الدر إلى كرسي الحكم قبل ذلك اضطرابات كثيرة جداً في مصر وفي العالم الإسلامي، كذلك أحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسي الحكم نفس الاضطرابات، وكانت أكثر الاضطرابات تأتي من قبل بعض المماليك البحرية الذين مكثوا في مصر ولم يهربوا إلى الشام مع من هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك ، وتزعم الثورة في مصر سنجر الحلبي أحد هؤلاء المماليك البحرية، وقاد حملة لتغيير نظام الحكم وإعادة المماليك البحرية في الصورة، وكان يرغب في الحكم لنفسه بعد مقتل عز الدين أيبك ، فاضطر قطز رحمه الله إلى القبض عليه وإلى حبسه، وكذلك قبض على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام؛ ليلحقوا بزعمائهم الذين فروا قبل ذلك أيام المعز ، ولما وصل المماليك البحرية إلى الشام، شجعوا الأمراء الأيوبيين على غزو مصر، فاستجاب لهم بالفعل بعض هؤلاء الأمراء، ومنهم مغيث الدين عمر أمير الكرك، والكرك الآن في الأردن.

كان مغيث الدين عمر رجلاً ضعيفاً جداً، ومع ذلك كان صاحب أطماع أكبر من حجمه، فتقدم بجيشه ناحية مصر، ووصل إليها في ذي القعدة سنة (655) من الهجرة، وحاول غزوها، فخرج له قطز رحمه الله وهزمه هزيمة منكرة، فرجع مغيث الدين والأحلام تراوده بغزو مصر من جديد، فعاد مرة أخرى في ربيع الآخر سنة (656) من الهجرة، يعني: بعد عدة أشهر من الهزيمة الأولى فهزم مرة ثانية.

وهنا أمر خطير جداً، فالغزوة الثانية التي حاول فيها المغيث عمر الأيوبي أن يغزو مصر كانت في ربيع الآخر سنة (656) من الهجرة، بعد سقوط بغداد بشهرين فقط، فبدلاً من توجيه كل الطاقة إلى قضية التتار، إذا به يتوجه لحرب المسلمين! وهذا هو مرض الحول السياسي الذي أشرنا إليه من قبل، فـمغيث الدين هذا كان مسكيناً مصاباً بهذا المرض الخطير.

سقطت بغداد في صفر سنة (656) من الهجرة، وبدأ هولاكو في الإعداد لغزو الشام، وحاصر ابنه أشموط ميافارقين بداية رجب سنة (656) من الهجرة، وبدأ هولاكو في التحرك من فارس إلى الشام مروراً بشمال العراق في سنة (657) هجرية، واحتل نصيبين والرها والبيرة، وكل هذه المدن في جنوب تركيا كما ذكرنا قبل ذلك، واقترب من حلب، وأصبح واضحاً أن هولاكو لن يهدأ حتى يسقط الشام بكامله، وبعد الشام لابد أن تكون الخطوة التالية هي مصر.

قطز رحمه الله وإن كان يدير الأمور فعلياً في مصر، إلا أن الذي يجلس على الكرسي سلطان طفل، ولا شك أن هذا كان يضعف من هيبة الحكم في مصر، ويزعزع من ثقة الناس بملكهم، ويقوي كذلك من عزيمة الأعداء عندما يرون الحاكم طفلاً.

في ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشاكل الداخلية الطاحنة، والاضطرابات وثورات المماليك البحرية، وأطماع الأمراء الأيوبيين الشاميين لم يجد قطز رحمه الله أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل نور الدين علي على كرسي أهم دولة في المنطقة وهي مصر، والتي لم يعد هناك أي أمل في صد التتار إلا فيها، وهنا أخذ قطز رحمه الله القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي ، وصعود قطز بنفسه على عرش مصر، ولم يكن هذا القرار غريباً، فـقطز كان هو الحاكم الفعلي للبلاد، والجميع بما فيهم السلطان الطفل نفسه نور الدين علي يدركون ذلك تمام الإدراك، ولكن قطز لم يكن يتحرك إلا من خلف هذه الصورة الهزلية المضحكة، وهي صورة السلطان الطفل، فما كان من قطز إلا أن أخذ هذا القرار الجاد في (24) ذي القعدة سنة (657) من الهجرة؛ ليظهر من ورائها الأسد الهصور قطز رحمه الله الذي على يديه ستتغير معالم الأرض وجغرافية العالم، وتتغير كثير من صفحات التاريخ.

وقبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام، ومنذ أن صعد قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم، بدأ يعد العدة للقاء التتار، وحدثت أحداث جسام على أرض مصر، فقد انتهج نهجاً جديداً على ذلك الزمن، ورفع رايات جديدة ما رفعت منذ أمد، وجهز جيوشاً ما جهزت منذ أزمان بعيدة، وفي عهده كان اليوم الذي لا يشبهه من أيام الزمان إلا قليل، وأما كيف حدث كل ذلك، فتعالوا نرى وننظر إلى قطز رحمه الله كيف عمل؟ وكيف استلم البلاد؟ وكيف وصل بها إلى ما وصل إليه رحمه الله؟!

عندما بدأ التتار في اجتياح الشام والاقتراب من الديار المصرية كان الوضع في مصر متأزماً جداً، وقطز رحمه الله لم يستلم دولة مستقرة سليمة، بل كانت مضطربة تماماً.

الحالة السياسية الداخلية

كان المسرح السياسي الداخلي في مصر يموج بالاضطرابات العاصفة والأزمات الشديدة، وكانت الفتن الناتجة عن التصارع على الحكم، وبالذات في العشر السنوات الأخيرة عنيفة جداً ومتكررة، وكانت هذه الأوضاع قد استقرت نسيباً عندما تولى الملك المعز عز الدين أيبك الحكم سبع سنوات متصلة، ولكنها عادت من جديد للاشتعال بمقتله ثم مقتل شجرة الدر ، ثم ولاية الطفل نور الدين علي ، ثم خلعه بواسطة قطز رحمه الله وتوليه بدله، فالأمور كانت مضطربة جداً. وقطز وإن كان الآن قد استقر على كرسي الحكم، إلا أن هناك الكثير من الطامعين في الكرسي، ولا شك أيضاً أن هناك الكثير من الحاقدين على قطز شخصياً، ومن المؤكد أن هؤلاء الطامعين والحاقدين سوف يتحركون، أو على الأقل سيحاولون التحرك لإقصاء قطز عن العرش، أو حتى قتله كما اعتاد الكثير من المماليك أن يفعلوا.

وكانت الفتنة مازالت دائرة بين المماليك البحرية الصالحية، الذين كانوا يؤيدون شجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يؤيدون الآن سيف الدين قطز رحمه الله، وكذلك لا ننسى أن كثيراً جداً من المماليك البحرية فروا إلى مختلف الإمارات الإسلامية في الشام، ومن بقي منهم في مصر بقي على وجل وترقب، وهذا الانقسام ولا شك أضعف القوة العسكرية المصرية؛ لأن المماليك البحرية كانوا هم أساس الجيش المصري تقريباً.

العلاقات الخارجية

إذا كان الوضع السياسي والعسكري داخل البلاد على هذه الصورة الخطيرة فالمسرح السياسي الخارجي كذلك، كان يحمل مشكلات في غاية الأهمية.

فالعلاقات بين مصر وبين الدول التي حولها كانت ممزقة تماماً، والعلاقات الدبلوماسية مع كل إمارات الشام كانت مقطوعة تماماً، ولم تكن مقطوعة فقط، بل كانت روح العداء الشديد هي السائدة بين الفريقين، وكذلك لم يكن لمصر أي سند من الشمال الإفريقي أو ليبيا أو السودان، فقد كانت مصر تعيش في عزلة مقيتة ستسهل جداً على الوحش التتري مهمة ابتلاع مصر، كما فعل بأشياعها من قبل.

الحالة الاقتصادية

لم يكن الوضع الاقتصادي في مصر أحسن حالاً من الوضع السياسي أو الاجتماعي، فلقد كانت البلاد تمر بأزمة اقتصادية طاحنة؛ بسبب الحروب الصليبية المتكررة، والحروب التي دارت بينها وبين جيرانها من أهل الشام، والفتن والصراعات على المستوى الداخلي، وكل هذه الأمور أدت إلى أزمة اقتصادية طاحنة، كما أن الناس انشغلوا بأنفسهم وبالفتن الداخلية والخارجية، فتردى الاقتصاد إلى أبعد درجات التردي، وباتت البلاد فعلاً على حافة هاوية سحيقة شبه مؤكدة.

كل هذا وأعداء الأمة قد اجتمعوا عليها وبضراوة شديدة، فهناك الغرب الصليبي الحاقد جداً، وكان قد مني بهزائم ساحقة في مصر منذ عشر سنوات في المنصورة وفارسكور، ولا شك أن الصليبيين يريدون الثأر والانتقام، فالاضطرابات الأخيرة في مصر والانقلابات، وحوادث القتل المتكررة، فرصة لرد الاعتبار وللثأر وللانتقام، وهناك الإمارات الصليبية المزروعة في فلسطين منذ عشرات السنين، وهذه قريبة جداً من مصر، وممكن أن تفكر هذه الإمارات في غزو مصر في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، وفوق كل ذلك هناك الهم الكبير القادم من الشرق وهو التتار.

كان المسرح السياسي الداخلي في مصر يموج بالاضطرابات العاصفة والأزمات الشديدة، وكانت الفتن الناتجة عن التصارع على الحكم، وبالذات في العشر السنوات الأخيرة عنيفة جداً ومتكررة، وكانت هذه الأوضاع قد استقرت نسيباً عندما تولى الملك المعز عز الدين أيبك الحكم سبع سنوات متصلة، ولكنها عادت من جديد للاشتعال بمقتله ثم مقتل شجرة الدر ، ثم ولاية الطفل نور الدين علي ، ثم خلعه بواسطة قطز رحمه الله وتوليه بدله، فالأمور كانت مضطربة جداً. وقطز وإن كان الآن قد استقر على كرسي الحكم، إلا أن هناك الكثير من الطامعين في الكرسي، ولا شك أيضاً أن هناك الكثير من الحاقدين على قطز شخصياً، ومن المؤكد أن هؤلاء الطامعين والحاقدين سوف يتحركون، أو على الأقل سيحاولون التحرك لإقصاء قطز عن العرش، أو حتى قتله كما اعتاد الكثير من المماليك أن يفعلوا.

وكانت الفتنة مازالت دائرة بين المماليك البحرية الصالحية، الذين كانوا يؤيدون شجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يؤيدون الآن سيف الدين قطز رحمه الله، وكذلك لا ننسى أن كثيراً جداً من المماليك البحرية فروا إلى مختلف الإمارات الإسلامية في الشام، ومن بقي منهم في مصر بقي على وجل وترقب، وهذا الانقسام ولا شك أضعف القوة العسكرية المصرية؛ لأن المماليك البحرية كانوا هم أساس الجيش المصري تقريباً.

إذا كان الوضع السياسي والعسكري داخل البلاد على هذه الصورة الخطيرة فالمسرح السياسي الخارجي كذلك، كان يحمل مشكلات في غاية الأهمية.

فالعلاقات بين مصر وبين الدول التي حولها كانت ممزقة تماماً، والعلاقات الدبلوماسية مع كل إمارات الشام كانت مقطوعة تماماً، ولم تكن مقطوعة فقط، بل كانت روح العداء الشديد هي السائدة بين الفريقين، وكذلك لم يكن لمصر أي سند من الشمال الإفريقي أو ليبيا أو السودان، فقد كانت مصر تعيش في عزلة مقيتة ستسهل جداً على الوحش التتري مهمة ابتلاع مصر، كما فعل بأشياعها من قبل.




استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة التتار عين جالوت في الميزان 3173 استماع
سلسلة التتار عين جالوت 2703 استماع
سلسلة التتار بداية القصة 2430 استماع
سلسلة التتار سقوط بغداد 2404 استماع
سلسلة التتار سقوط سوريا 2357 استماع
سلسلة التتار قرار الجهاد 2277 استماع
سلسلة التتار الاجتياح 2257 استماع
سلسلة التتار بغداد بين سقوطين 2148 استماع
سلسلة التتار خطة غزو العراق 1945 استماع
سلسلة التتار المتساقطون 1779 استماع