تفسير: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون)
مدة
قراءة المادة :
17 دقائق
.
تفسير قوله تعالى﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 99، 100]
الآية: هي العلامة الظاهرة.
قال الراغب الأصفهاني في المفردات: وحقيقته لكل شيء ظاهر ملازم لشيء باطن يعرف به ويدرك بإدراكه، حسياً كان كأعلام الطرق؛ ومنار السفن، أو عقلياً كالدلائل المؤلفة من مقدمات و نتيجة؛ قال: والصحيح أنها مشقة من "التأبي" الذي هو التثبت و الإقامة على الشيء.
اهـ.
أو أصله من قصد آية الشيء أي شخصه.
وأطلقت الآية على كل جملة من الكلمات التي تتألف منها السورة من سور القرآن العظيم وتفصلها عن غيرها من الجمل الأخرى قبلها وبعدها فاصلة، يقف القارئ عندها في تلاوته؛ ويميزها كاتب المصحف بعلامة كبياض أو نقطة أو دائرة أو نجمة أو عددها - عما قبلها وما بعدها - قال أستاذنا السيد رشيد رضا رحمة الله عليه ورضوانه: والعمدة في معرفة الآيات بفواصلها: التوقيف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان أكثرها يدرك من النظم.
والآيات تطلق في القرآن الكريم على هذه - يعني الآيات المنزلة من عند الله، المتلوة للذكر والتعبد في الصلاة وغيرها، لأنها دلائل لفظية على الدين وشرائعه من العقائد والأحكام والآداب التي شرعها الله لعباده؛ كما أن هذه الجمل اللفظية التي تسمى آيات - تدل في جملتها على كونها من عند الله، لاشتمالها على أنواع من وجوه إعجاز القرآن للبشر أن يأتوا بمثله.
وتطلق الآيات في القرآن الكريم أيضاً على كل ما أقامه الله في السموات والأرض وفي نفس الإنسان من الأدلة الكونية على قدرة الله سبحانه وفضله ورحمته وإحسانه وعدله، وأنه الذي يستحق جميع أنواع العبادة وحده دون سواه.
قال الله تعالى ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105].
ومن هذا النوع الأخير: العذاب الذي ينزله الله بالكافرين والفاسقين: آية على أنه لا يخلف الميعاد، وأنه العزيز الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، الذي لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه.
قال الله تعالى في سورة يونس: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96-97]، فالله سبحانه قد أنزل على عبده صلى الله عليه وسلم آيات ناطقة بأنه رسول الله صلى حقا، وأيده بالمتلون منها في صحف الكتاب؛ والمشاهد في سنن الوجود في السماء والأرض والأنفس.
وقوله "بينات" أي واضحات الدلالة؛ المقصود منها ظاهر بين ليس به خفاء، بحيث يمكن لكل أحد أن يهتدي بها إلى الطريق السوي.
وقد وصف الله تعالى آيات الذكر الحكيم بأنها بينات في كثير من الآي، فقال في سورة البقرة ﴿ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، وفي سورة العنكبوت ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 48-49]، وفي سورة الحج ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ﴾ [الحج: 16]، وفي سورة الحديد ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [الحديد: 9]، وفي سورة المجادلة ﴿ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [المجادلة: 5].
وقد وصفها الله أيضاً بأنها "نور" فقال في سورة المائدة ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]، وفي سورة النساء ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ﴾ [النساء: 174]، وفي سورة الشورى ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [الشورى: 52]، وفي سورة التغابن ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [التغابن: 8]، فهي آيات بينة في نفسها واضحة، ومرشدة وهادية لكل من أراد الاهتداء بها و الاسترشاد إلى صراط الله المستقيم؛ ولذلك سماها الله تعالى "نورا" لأن النور بين بنفسه لا يحتاج إلى من يدل عليه، بل هو الدال والهادي إلى معالم الطريق.
ووصفها أيضاً بأنها "آيات مبينات" في سورة النور مرتين ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [النور: 34]، ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النور: 46]، وهذا المعنى في القرآن كثير، يؤكد الله سبحانه أن القرآن ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ﴾ [فصلت: 3]، ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [لأعراف: 52]، ليبطل بذلك دعوى أحبارهم وأشباههم في كل زمن: أن الدين محتكر حق تلك الجماعة التي اتخذته صناعة وحرفة ومأكلة، وأن بقية طبقات الأمة من صناع وزراع وتجار ونحوهم محجور عليهم أن ينظروا في كتاب الله ليفهموا منه دينهم وليعرفوا منه ربهم وما يحبه فيعملوه وما يسخطه فيتقوه، وأنه لا ينبغي لتلك الطبقات وأشباههم إلا أن يقلدوا الأحبار المتحرين للدين تقليداً أعمى، ويجروا وراءهم صماً وبكماً وعيماناً، ولا يسألون لم ولا كيف، وكما يدور الحمار في رحاه سواء بسواء!
وقد كان لهذه الدعوى الأثيمة شر الآثار في تجريد الإنسانية من أخص مزاياها التي أنعم الله عليها بها ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، ولا يكون شكره هذه النعم إلا بأن تستعمل مجردة عن التقليد الأعمى للشيوخ والآباء، فإذا حجبت بهذا التقليد عطلت سر التعطيل فكان ذلك من أشنع الكفر بهذه النعم.
وهل أشنع من أن يقول الحبر أو الراهب لتابعه: إذا قال لك شيخك: هذه الورقة البيضاء الناصعة البيضاء: إنها سوداء، فيجب أن تكذب بصرك وتعتقد أنها سوداء، وإلا طردت من رحمة الله؟.
أو أن يقول الحبر أو الراهب لمريده: لا تسأل شيخك عن أي عمل ولا أي أمر من الدين، ولا ت طلب منه الدليل، فإنك إن طلبته كان معنى ذلك اتهامه بالكذب والخيانة، ومتى اتهم شيخه كان من المطرودين من رحمة الله وغلقت دونه أبواب السماء.
وأمثال هذه القواعد التي أوحاها إليهم شيطان الكبرياء والتأله ليتخذوا الناس عبيداً لهم من دون الله.
وتمادى بهم ذلك إلى عبادتهم أحياء وأمواتا بل والله إلى عبادة الأحجار التي تقام على قبورهم، والأشجار والآثار التي تنسب إليهم كل ذلك وغيره من الخرافات والفسوق والعصيان بسبب هذه الدعوى الأثيمة من الطائفة التي ادعت أن الدين محجور على غيرها، وأن محاولة فهمه والتفقه فيه منكر، وأنها القوامة والحفيظة عليه، لأنها قد اتخذته لها حرفة وصناعة مأكله ومعاشاً في هذه الحياة الدنيا.
ولما كانت هذه الدعوى على ما ترى من الاثم والفجور ومشاقة الله ورسله وكان لها من الأثر في الناس أن قطعت العبادة عن ربهم وحالت بينهم وبين سيدهم، وحازتهم إلى أعدائهم وأعداء الله وأعداء رسله؛ يرمون بهم في كل موبقة ويقذفون بهم إلى كل مهلكة.
لما كان أمر هذه الدعوى الأثيمة كذلك حذر الله منها في القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأشد التحذير، ودعا الناس إلى تدبر آيات الكتاب المبين والاهتداء بهداها والاستضاءة بنورها الذي مهما حاول الكافرون بنعمة السمع والبصر والفؤاد أن يطفئوه أبى الله إلا أن يتمه ويزيده إشعاعاً وظهورا ولو كره الكافرون، وأقام على كل خطوة من الطريق إليه سراجاً منيراً من هذه الآيات جلّى نوره وأعلى مناره لينقذ عباده من براثن أولئك الأحبار والرهبان الذين ضلوا كثيراً باتباع الهوى وعبادة الدنيا وجاهها وعرضها وزينتها، وأضلوا بمظاهرهم ودعاويهم كثيراً من الدهماء والعامة عن سواء السبيل، وزاغوا بهم عن صراط الله المستقيم، مرة باسم احترام الآباء وتعظيم الأجداد ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ [المائدة: 104]، ومرة باسم طاعة الشيوخ طاعة عمياء وتقليدهم لأنهم أعلم بالدين وأفقه في الكتاب وقول الرسول، وأنهم لا يخطئون، وأن الواجب تقليد حبر من أولئك الأحبار الذين يدعى لهم – كذباً وزوراً وبهتانا - أنهم يقومون على الصراط يوم القيامة، فكلما حاول الملائكة إلقاء واحد في النار لاستحقاقه لها بمخالفته وعصيانه قام واحد من أولئك الأحبار ودافع عنه بأن مخالفته وعصيانه ليست مخالفة على مذهبه وطريقته وإن كانت مخالفة على مذهب الآخر وطريقته، والله سبحانه وتعالى يقول لهم ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ﴾ [الأحزاب: 66-67].
وهكذا تجد القرآن الكريم ذكر كل أعذارهم فأبطلها وبسط حججهم الواهية فدحضها، وأخبر عن عاقبة أمرهم في الآخرة وما سيولون إليه من العذاب المهين، وأنهم إنما ينالهم من ذلك العذاب بما جنوا على أنفسهم من أعراضهم عن تدبر آيات الله وإقفال قلوبهم بمغاليق التقليد الأعمى الذي أضمهم وأعمى أبصارهم وردهم إلى أسفل سافلين، وحكموا على أنفسهم بأنهم ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ﴾ [لأنفال: 22]، ووبخهم الله أشد التوبيخ بقوله ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، ووصمهم بوصمة الخزي في الدنيا والآخرة فقال سبحانه وقوله الحق ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾ [الاسراء: 45-46]، إي وربك، إنهم إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، واربدت وجوههم وعلتها غبرة ترهقها قترة، وإذا ذكر الذين من دونه من أندادهم ومشرعيهم الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله، أو أوليائهم الذين اتخذوهم آلهة يدعون من دون الله ويصاح بهم في إجابة الرغبات وتفريج الكربات – مالوا طرباً وانبسطت أسارير وجوههم فرحا، وأخذهم من السرور والوجد لذلك ما يرضي الشيطان وليهم شر الولي وبئس الخاذل ويغضب الله مولانا نعم المولى ونعم النصير.
وما تجد هذه الأوصاف تتحقق على شر صورتها إلا في الذين خذلهم الله وأزاغ قلوبهم حين زاغوا عن إخلاص الطاعة لله ولكتابه ولرسوله وردوا في مهاوي التقليد الأعمى وطاعة الأحبار والرهبان على غير بينه ولا هدى ولا نور فقد ضرب الله لهم مثلاً هو الحق لقوم يعقلون ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171]، أي كمثل الأنعام التي ينعق بها صاحبها وراعيها وهي تجري وراءه، وتتبع صوته لا تدري أيقودها إلى المرعى والماء أم إلى المجزرة والسكين.
كذلك والله المقلدون، ومن أصدق من الله قيلا؟ وإنهم لحريون بذلك، لأنهم كفروا بنعمة الله واتخذوا كتابه ودينه هزواً وسخرية، إذ زعموا أن كتابه مبهمات أغلقت دونها الحجب وسدت عليها الأبواب وضاعت مفاتيحها مع الغابرين، وأن رسوله لم يكن بالعربي المبين الذي أخذ الله عليه أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، بل كلامه هو كذلك معميات، وأن كلام الأشياخ أوضح وأبين في الجلالة على الدين، فلا ينبغي لكلامه ولا كلام الله إلا أن يتخذا للبركة والتمائم ولعبادة صحفهما وجلدهما بالأقسام بهما واتخاذهما يميناً من دون الله استهزاءً وسخرية وطعناً في صورة مزخرفة، ويزيد كلام الله أن يقرأ في المقابر لتسلية الملعونات من زوارات القبور وسخريتهن به وبمن أنزله وبمن نزل عليه.
فإن حاول أحد أ، يستفتح مغاليفها بما أعانه الله به من أسباب وآلات صاحوا عليه: هذا مارق من الدين خارج على مذاهب الأئمة المتبوعين، مضلل لجمهور العلماء والمتعلمين، هادم للدين خامسي المذهب، وبذلوا كل ما يملكون من أقوال لهذا التشنيع والتنفير وإلباس الحق بالباطل وهم يعلمون.
وكلما حاول ناصح لنفسه وللأمة أن يؤدي الأمانة التي أخذ الله العهد على الذين أوتوا الكتاب لبينها للناس، وحاول أن يرفع من مشكاة الكتاب المبين الذي يسره الله للذكر؛ ودعا الناس إلى الادّكار به، ومن أقوال الرسول المغصوم الذي لا ينطبق عن الهوى والذي آتاه الله جوامع الكلم وسدده فأحسن تسديده وعلمه فأحسن تعليمه.
إذا حاول ناصح أن يرفع من مشكاة الكتاب والسنة قبساً يستضيء الناس به ويهتدون في حياتهم التي جد فيها من المشاكل ومحدثات الفنون والصنائع ما كيّف عقولهم معاشهم وبيئتهم بما لم يكن عند السابقين الذين يأبون إلا أن يقلد الناس أفهامهم ويلزموهم بعقولهم التي لم تكن قد رأت ولا تكيفت بما جد وحدث للعصريين: حذروا الناس من ذلك الداعي ووضعوا العقبات في سبيله، وزعموا للناس أن هذا بعيد المنال وأن القرآن والسنة لم يبق لهما إلا ما أنتم عليه من الحجب والتمائم والتبرك بالموتى، وأنهما قد عزلا عن منزلتهما من الحكم والقضاء والفقه والذكر والعقائد والأخلاق وعن كل شئون الناس التي ما بعث الرسول ولا أنزل القرآن إلا لإصلاحها وهدايتهم فيها إلى التي هي أقوم.
وهذا الصد من المخذولين المرتكسين في حمأة التقليد الأعمى هو لمحاولة إطفاء نور هذه الآيات وستر صبحها بليل جهلهم وتقليدهم وخرافاتهم؛ ولذلك سماه الله كفراً وسماهم بذلك كافرين، ووصمهم بأنهم خارجون بتلك المحاولات الأثيمة عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السمع والبصر والفؤاد، فقال ﴿ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا ﴾ أي بتلك الآيات البينات المبينات الهاديات ﴿ إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ والفسق هو الخروج عن حد ما أمر الله بسننه الكونية أو عن حد ما أمر الله بآياته التشريعية.
فأما الذين آمنوا بالله وكتابه ورسوله وآمنوا بنعمة الله عليهم في السمع والبصر والفؤاد وآمنوا بان في عنقهم أمانة للعلم والدين وللأمة سيحاسبون عليها أشد الحساب، وآمنوا بأن القرآن ميسر للفهم والفقه في كل زمن بتيسير وتسهيل الله للأسباب وهداية القلوب، وآمنوا بأن القرآن لكل زمان ومكان، وأن الرسول داع إلى الهدى جميع الناس إلى أن تقوم الساعة، وآمنوا بأن واجب المسلم يقضي عليه أن يرقى مع المرتقين وأن لا يجمد مع الجامدين، وأن دينه كفيل بإصلاح شئون هذا الرقي الدنيوي.
الذين آمنوا بكل ذلك ورسخت قلوبهم بهذا الإيمان فهم على نور من ربهم، وأولئك هم المهتدون، يتلون الكتاب حق تلاوته ويعظموه حق تعظيمه علماً وفقهاً وتدبراً وعملاً واستقامة على آدابه وأخلاقه ظاهراً وباطناً، فلأولئك الوعد الصادق من منزل الكتاب أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا مهما حاول أعداء العلم والدين، ولا في الآخرة بفضل الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
نسأل الله العافية لنا ولإخواننا، وأن يجعل القلوب بصيرة بنور آيات القرآن مهتدية بما يصلها عن طريق البصر والسمع السليمين من آفات التقليد من الآيات الكونية والآيات العلمية والسنة المطهرة النبوية، سالكة بذلك الصراط السوي مؤتمة بالإمام الأعظم سيد المرسلين وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم.
مجلة الهدي النبوي: المجلد الخامس، العدد 16-17، رمضان 1360هـ